الأخلاق في القرآن - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأخلاق في القرآن - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : الأخلاق
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8139-26-1
ISBN الدورة:
964-8139-27-X

الصفحات: ٤٤٨

منه في سبيل الله وليكون من الصالحين ففي البداية لم يستجب النبي لطلبه لما يعرف من مزاجه وروحيته ولكن بعد إصراره دعا له النبي بذلك وكانت النتيجة معروفة ، فهذه الآية توضح على أنّ الامكانات المادية يمكنها أن تكون وسيلة للصعود بالإنسان في مدارج الكمال المعنوي ونيل السعادة الحقيقية والوصول إلى مرتبة الصالحين والمقربين.

ومن مجموع العناوين السبعة الواردة بالآيات أعلاه يتضح جيداً أنّ النعم المادية والمواهب الدنيوية ليست مذمومة وقبيحة بالذات بل هي تابعة لكيفية استخدامها واستعمالها والطريقة الّتي يسلك بها الإنسان في الاستفادة منها ، فلو انه استفاد منها بصورة صحيحة لأضحت مطلوبة وجميلة ونقيّة وطاهرة ، وفي غير هذه الصورة فهي ذميمة وسلبية ومضرّة.

والشاهد على هذا الكلام ما ورد في الروايات الكثيرة في كتاب وسائل الشيعة في باب (اسْتِحْبَابُ الاسِتعَانَةِ بِالدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ) (١).

وقد أورد المرحوم الشيخ الحر العاملي في هذا الباب إحدى عشر رواية كلّها شاهدة على انه يمكن الاستفادة من المواهب المادية والدنيوية في سبيل تحقيق السعادة الأُخروية ومن جملة ما أورده العاملي حديثاً عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «نِعْمَ الْعَوْنُ عَلَى تَقْوَى اللهِ الْغِنَى» (٢).

وفي حديث آخر في هذا الباب عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «غِناً يَحْجُزُكَ عَنِ الظُّلْمِ خَيْرٌ مِنْ فَقْرٍ يَحْمِلُكَ عَلَى الْاثْمِ»

وورد في حديث آخر عن أحد أصحاب الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال للإمام : والله إنا لنطلب الدنيا ونحب أن نؤتاها ، فقال عليه‌السلام : «تحبّ أن تصنع بها ما ذا؟» قال : أعود بها على نفسي وعيالي ، وأصل بها وأتصدق بها وأحجّ وأعتمر ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «ليس هذا طلب

__________________

١ ـ وسائل الشيعة ، ج ١٢ ، ص ١٦ ـ ١٨.

٢ ـ وسائل الشيعة ، ج ١٢ ، ص ١٦.

١٠١

الدنيا ، هذا طلب الآخرة» (١).

ونختم هذا البحث بكلام لأمير المؤمنين في الخطبة ٢٠٩ من نهج البلاغة حيث يقول عند ما دخل مع جماعة لعيادة «العلاء بن زياد الحارثي» وهو من الشخصيات المعروفة في البصره ومن أصحاب الإمام حيث كان قد اشترى داراً وسيعة فقال له الإمام «مَا كُنْتَ تَصْنَعُ بِسِعَةِ هَذِهِ الدَّارِ فِي الدُّنْيَا وَانْتَ الَيْهَا فِي الْآخِرَةِ كُنْتَ احْوَجُ».

ثمّ إنّ الإمام أكمل كلامه بهذه العبارة «وَبَلَى انْ شِئْتَ بَلَغْتَ بِهَا الْآخِرَةَ تُقْرِىَ فِيهَا الضَّيْفَ ، وَتَصِلُ فِيهَا الرَّحِمَ ، وَتُطْلِعُ مِنْهَا الْحُقُوقَ مَطَالِعَهَا ، فَإذَا أَنْتَ قَدْ بَلَغْتَ بِهَا الْآخِرَةَ» (٢)

النتيجة : هي أنّ المواهب المادية والدنيوية متى ما أصبحت وسيلة للوصول إلى الكمال المعنوي وبناء الآخرة ومساعدة الضعفاء وحماية المحرومين وترويج وتقوية دعائم الحقّ والعدالة فليس هناك أفضل منها ، وإذا سلك بها الإنسان في مسير الذنوب والحرص والتكاثر بدون ملاحظة الحلال والحرام فليس هناك شيء أسوء منها ، أجل فمثل هؤلاء الناس من أتباع الدنيا الّذين يتحركون في استخدام هذه النعم والمواهب في طريق اشباع الغرائز المادية فإنّهم يجمعون في واقعهم النفساني مجموعة من الصفات الرذيلة والرغبات القبيحة والدنيئة.

ويروي أحد أصحاب الإمام علي بن موسى الرضا ويُدعى محمّد بن إسماعيل بن بزيغ حيث يقول : سمعت من الإمام الرضا أنّه قال : «لَا يَجْتَمِعُ الْمَالُ الّا بِخِصَالٍ خَمْسٍ بِبُخْلٍ شَدِيدٍ وَامَلٍ طَوِيلٍ وَحِرْصٍ غالبٍ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَايثَارِ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ» (٣).

__________________

١ ـ وسائل الشيعة ، ج ١٢ ، ص ١٩ ، باب استحباب جمع المال من الحلال ... ، ح ٣.

٢ ـ نهج البلاغة ، الخطبة ٢٠٩.

٣ ـ وسائل الشيعة ، ج ١٢ ، ص ١٩ ، ح ٤.

١٠٢

٦

الحسد

تنويه :

إن أحد الرذائل الأخلاقية الاخرى الّتي اقترنت مع نتائج سلبية كبيرة في حياة الفرد والمجتمع هي صفة (الحسد) ويعني كما ذكر علماء الأخلاق (الحزن على رؤية النعمة لدى الآخرين وتمني زوالها بل السعي في طريق رفعها عن الطرف الآخر).

إن الحسد يملأ أجواء الروح الإنسانية بالظلمة ويشوّه معالم النفس ويثير في المجتمع البشري عدم الأمن والقلق والتوتر الناشيء من حالات الصراع النفسي بسبب دوافع الحسد.

إنّ الحسود ليس له راحة في الدنيا ولا يتنعم في الآخرة ، وبما أنّ سعيه في حركة الحياة هو إزالة آثار النعمة عن الطرف المحسود فسوف يتلوث بأنواع الجرائم النفسية والعملية ومن بين ذلك : الكذب ، الغيبة ، ارتكاب أنواع الظلم والعدوان بل قد يؤدي به الأمر في حالات الحسد الشديدة إلى القتل وسفك الدماء أيضاً.

وفي الحقيقة يمكن القول إن الحسد هو أحد الجذور الأصلية لجميع أنواع الفساد والسيّئات ومن أشنع فخاخ الشيطان وأخطر شراكه وهو المصيدة الّتي وقع فيها الإنسان الأوّل المتمثل بابن آدم (قابيل) حيث تلوثت يده بدم أخيه (هابيل) بدافع من الحسد ، ولهذا

١٠٣

السبب نجد في الروايات الإسلامية والمفاهيم الدينية أنّ الحسد يُعد أحد الاصول الثلاثة للكفر أي (التكبر ، الحرص ، الحسد).

إنّ الشخص الحسود في الواقع يعترض على حكمة الله تعالى ، ولهذا السبب فالحسد نوع من الكفر والشرك الخفي.

والنقطة المقابلة للحسد هو (حب الخير) للآخرين ، أي أن يحب الإنسان أن يرى نعمة الله تصيب الآخرين من أفراد المجتمع ويلتذ بذلك ويسعى لحفظها ويرى أنّ سعادته مقرونة بسعادة الآخرين ومصالحه في خط واحد مع مصالح الآخرين ومنافعهم.

وبهذه الإشارة نعود إلى آيات القرآن الكريم لنقرأ في أجوائها معطيات هذه المسألة :

١ ـ (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ* لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ* إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ* فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ)(١).

٢ ـ (إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ* قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ). (٢)

٣ ـ (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً)(٣).

٤ ـ (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٤).

__________________

١ ـ سورة المائدة ، الآيات ٢٧ و ٢٨ و ٣٠.

٢ ـ سورة يوسف ، الآية ٤ و ٥.

٣ ـ سورة النساء ، الآية ٥٤.

٤ ـ سورة البقرة ، الآية ١٠٩.

١٠٤

٥ ـ (وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ)(١)

٦ ـ (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ)(٢)

٧ ـ (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ)(٣).

تفسير واستنتاج :

نار الحسد المحرقة

«الطائفة الاولى» من الآيات محل البحث تتحدّث عن قصة ابني آدم وأنّ أحدهما قد ملكه الحسد على الآخر بحيث أدّى به إلى أن يقتل أخاه ، وبذلك وقعت أوّل جريمة قتل على الأرض وكانت في الحقيقة بداية للجرائم البشرية الاخرى.

تقول الآية الكريمة (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)(٤).

أي انني لم أقصد أن اسيء إليك لتصمّم على قتلي فإنّ مشكلتك هي من باطنك لأنّ عملك غير خالص ولم يقترب بالتقوى ، ولذلك لم يتقبل الله منك لأن الله تعالى لا يتقبل إلّا ما كان طاهراً نقياً.

ثمّ تقول الآية (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ)(٥).

ثمّ إن قابيل وبسبب نار الحقد والحسد المتأججة في قلبه صمّم على قتل أخيه هابيل وتمزيق أواصر الاخوّة بينهما بحيث إنّ الحقد والحسد حجبا عن عينه كلّ القيم الأخلاقية

__________________

١ ـ سورة الفلق ، الآية ٥.

٢ ـ سورة الحشر ، الآية ١٠.

٣ ـ سورة الحجر ، الآية ٤٧.

٤ ـ سورة المائدة ، الآية ٢٧.

٥ ـ سورة المائدة ، الآية ٢٨.

١٠٥

والمثل الإنسانية وارتكب تلك الجناية الشنيعة كما تقول الآية (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ)(١).

أجل لقد أصبح من الخاسرين في الدنيا والآخرة ، فقد خسر اخوه وخسر نعمة الأمن والاستقرار النفسي والهدوء الروحي ، لأن القاتل لو بقيت له ذرة من الوجدان فسوف يعيش عذاب الوجدان باستمرار ولا يجد طعم الهدوء والراحة في الدنيا ، وكذلك حاله في الآخرة حيث يستقر في جهنم وبئس المصير.

وقد ورد في الروايات انه قتل أخاه وهو نائم (٢) ، وتُعد هذه جناية مضاعفة تدلّ على أنّ الحسد إذا ما استعر في قلب الإنسان فسوف يحول كلّ نعيم إلى رماد تذروه الرياح.

ولكنّ قابيل ندم بسرعة على فعلته الشنيعة وملكهُ الحزن العميق ، وكلّما نظر إلى جسد أخيه الدامي سرت في نفسه قشعريرة وتملكه الخوف والقلق ، فما كان منه إلّا أن حمل جسد أخيه ولم يعلم ما يصنع به واين يذهب به بحيث يغطي على آثار جنايته؟ مضافاً إلى أنّ هذا المنظر الموحش يقلقه ويزعجه فلم يكن يدري ما يصنع في هذه اللحظة ، وعلى رغم جنايته العظيمة وذنبه الكبير فإنّ لطف الله قد شمله كما تقول الآية (فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ)(٣).

وقد جاء في بعض الروايات أنّ قابيل رأى أمام عينه غرابين يتقاتلان فقتل أحدهما الآخر ثمّ حفر له حفرة في الأرض ودفن فيها جسد الغراب المقتول.

وقال بعض إن غراباً جاء بجسد غراب ميت ودفنه ، وقيل أيضاً أنّ قابيل رأى غراباً يدفن بعض المواد الغذائية ليحفظها كما هو ديدن الغربان فتعلم من ذلك دفن الموتى (٤).

__________________

١ ـ سورة المائدة ، الآية ٣٠.

٢ ـ تفسير القرطبي ، ج ٣ ، ص ٢١٣٣.

٣ ـ سورة المائدة ، الآية ٣١.

٤ ـ نور الثقلين ، ج ١ ، ص ٦١٦.

١٠٦

وعلى أيّة حال فقد ندم قابيل بشدة ولكن ندمه لم يكن مستقراً ومن موقع التوبة والانابة إلى الله تعالى حتّى يكون من شأنه تطهيره من الذنوب.

وهنا يطرح سؤالان ، الأوّل : ما المقصود من «القربان» في قوله تعالى «إذ قرّبا قرباناً»؟ والآخر : هو انه من اين عَلِما أنّ الله تعالى تقبل قربان هابيل ولم يتقبل قربان قابيل؟

ولم يرد في القرآن الكريم ما يشير إلى جواب عن هذين السؤالين ، واما الروايات فهي مختلفة على مستوى السند أو المتن والدلالة ، ولكن ما يتطابق مع المنطق والعقل ويتلائم مع القرائن الموجودة هو ما ورد في الرواية عن سليمان بن خالد قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام جعلت فداك إن الناس يزعمون أنّ آدم زوج ابنته من ابنه؟ فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «قد قال الناس في ذلك ولكن يا سليمان أما علمت أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : لو علمت أنّ آدم زوج ابنته من ابنه لزوجت زينب من القاسم ، وما كنت لارغب عن دين آدم. فقلت جعلت فداك إنهم يزعمون أنّ قابيل إنما قتل هابيل لأنهما تغايرا على اختهما ، فقال له : يا سليمان تقول هذا! أما تستحيي أنّ تروي هذا على نبي الله آدم؟ فقلت : جعلت فداك فبم قتل قابيل هابيل؟ فقال : في الوصية ثم قال لي : يا سليمان أنّ الله تبارك وتعالى أوحى إلى آدم أن يدفع الوصية واسم الله الأعظم إلى هابيل ، وكان قابيل أكبر منه ، فبلغ ذلك قابيل ، فغضب فقال : أنا أولى بالكرامة والوصية. فأمرهما أن يقربا قرباناً بوحي من الله إليه ، ففعلا فقبل الله قربان هابيل فحسده قابيل فقتله» (١).

وعلى أيّة حال فإنّ قابيل وجد نفسه في مفترق طريقين لإنهاء حالة القلق والاضطراب الّتي يعيش فيها : أحدهما التوبة إلى الله تعالى والسعي لجبران ما صدر منه من الاثم بالعمل الصالح والخالص والتحرك في خط التقوى والاستقامة والانفتاح على الله (وهو العمل الّذي يسمّيه علماء الأخلاق ب «الغبطة» وهي حالة ممدوحة وبناءة) ولكن قابيل اختار الطريق الآخر ، أي السعي لإزالة النعمة من أخيه ، وبذلك أوقع نفسه في أسوء طريق وانتخب أشنع وسيلة بذلك وتلوثت يده بدم أخيه البريء ليطفىء نار الحسد في قلبه.

__________________

١ ـ نور الثقلين ، ج ١ ص ٦١٠ ، ح ١٢٥.

١٠٧

إذا تسبب «تكبر» إبليس لأن يقع طريد رحمة الله إلى الأبد ، وتسبب «الحرص» في أن يحرم آدم من الجنّة ، فإنّ «الحسد» قد جعل قابيل ملعوناً ومطروداً من رحمة الله إلى الأبد بسبب قتله لأخيه ، وكلّ قتل يقع في الدنيا فإنّ قابيل له سهم من تلك الجناية باعتباره المؤسس لها.

فالتاريخ البشري مليء بالجنايات والفجائع المختلفة الّتي تنطلق بدافع من (الحسد).

«الطائفة الثانية» من الآيات الكريمة التي تحدثت عن جانب آخر من هذه الصفة الذميمة في حالات الإنسان وهي «الحسد» وآثارها المدمرة في حياة الفرد والمجتمع ، وتستعرض في ذلك قصة النبي يوسف واخوته.

«النبي يوسف» لم يكن صاحب الجمال في وجهه وملامحه البدنية فحسب بل كان يتمتع بمنتهى الجمال في أخلاقه وسيرته الحميدة ، وهذا الأمر هو الّذي اخبر عن مستقبله العظيم كما توقع له أبوه يعقوب وأحبه ذلك الحبّ الشديد ، وكان هو السبب في غرس عامل (الحسد) في قلوب أخوته الّذين كانوا أكبر منه سناً.

وهذا الموضوع تجلّى بوضوح عند ما حكى يوسف لأبيه حلماً كان قد رآه حيث تقول الآية : (إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ)(١).

وكان النبي يعقوب يعلم أنّ مثل هذه الرؤيا ليست رؤيا عادية ومن افرازات الخيال للأطفال بل هي علامة على مستقبل مشرق ينتظر ابنه يوسف فقال له كما تتحدث الآية : (قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ)(٢).

ولكن هل أنّ اخوة يوسف علموا بمضمون رؤيا يوسف العجيبة الّتي تتحدّث عن

__________________

١ ـ سورة يوسف ، الآية ٤.

٢ ـ المصدر السابق.

١٠٨

مستقبله الزاهر أم لا؟

لا نعلم بذلك على وجه الدقة ، ولو أنّهم كانوا قد علموا بذلك لكانت هذه بمثابة البذرة الثانية لحالة (الحسد) الّتي اعتمرت قلوبهم ، ولكن على أيّة حال فإنّ الأب كان يعلم انه إذا علم الاخوة بمضمون هذه الرؤيا العجيبة فانهم سوف يتحركون ضد أخيهم يوسف من موقع العداوة والخصومة ، ولهذا أصرّ عليه بكتمان هذا الخبر عنهم.

وجاء في بعض الروايات أنّ يعقوب ومن فرط فرحه وسروره بهذه الرؤيا قد أخبر زوجته بذلك على أساس انها تكتم الخبر ، ولكن بما أنّ السر إذا تجاوز الاثنين فشا ، فإنّ هذه الحكاية انتشرت وعلم بها اخوة يوسف ، وجاء في رواية اخرى أنّ يوسف لم يستطع كتمان خبر هذه الرؤيا ، (فتصوّر أن نهي أبيه هو نهي ارشادي لا نهي تحريمي) فعند ما علم اخوته بخبر الرؤيا قالوا أنّ يوسف يطمح أن يكون ملكاً (١).

ولكن إذا لم يعلم الاخوة بخبر الرؤيا فانهم على الأقل كانوا يرون تعامل أبيهم مع يوسف وسلوكه الّذي ينبىء عن عظيم حبّه له وخاصة انه كان بقية امّه راحيل الّتي ماتت وهو في طفولته.

القرآن الكريم يقول في هذا الصدد (إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(٢).

وبهذه الصورة اصدروا حكمهم بضلالة أبيهم ، وبعد ذلك صمّموا على رفع هذا المانع الكبير ، أي يوسف ، من طريقهم ليبقى لهم حبّ أبيهم ومودّته ، وضمن البحث في (جلسة شيطانية) قرروا ما يلي (اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ)(٣).

وكما نعلم انه لم يتم لهم قتل أخيهم يوسف بل قد توسّط أحد الاخوة في ذلك وتم القرار

__________________

١ ـ تفسير البرهان ، ج ٢ ، ص ٢٤٣٣ ، تفسير أبو الفتوح الرازي ، ج ٦ ، ص ٣٤١.

٢ ـ سورة يوسف ، الآية ٨.

٣ ـ سورة يوسف ، الآية ٩.

١٠٩

بإبعاده إلى أرض بعيدة ومنطقة نائية ، وبالرغم من أنّ هذا النفي والتبعيد ليوسف قد سبّب الحزن الشديد لأبيه يعقوب بحيث ابيضّت عيناه من الحزن وصار بصيراً من كثرة البكاء ، ولكن هذا العمل وعلى خلاف توقع الاخوة اصبح مقدمة لينال يوسف مقام القدرة والسلطنة على بلاد مصر الّتي كانت تعتبر من أعظم البلدان في ذلك الزمان وكذلك لم يحظوا بحبّ أبيهم أيضاً.

أجل فإنّ الامواج الخطيرة للحسد قوية وعظيمة إلى درجة أنّها دفعت الاخوة إلى قتل أخيهم وتسبّبت في أن يحملوا أوزاراً كبيرة اخرى منها الكذب وكتمان الجريمة ونسبت أبيهم إلى الضلالة واهانة نبي من الأنبياء وأمثال ذلك.

«الآية الثالثة» تشير إلى قصة اليهود وتتحدث عن سلوكياتهم الذميمة ، ونعلم أنّ طائفة عظيمة من بني إسرائيل قد قرأوا علامات النبي في آخر الزمان ومنطقة ظهوره ، فرحلوا من (الشامات) إلى (المدينة) ليحظوا بصحبة ذلك النبي ويؤمنوا به ، ولذلك كانوا ينتظرونه دائماً.

ولكن بعد ظهور هذا النبي فإنّ الكثير منهم لم يبقوا على تعهدهم والتزامهم المسبق بحمايته ونصرته والإيمان به ، بل أصبحوا في صف المخالفين له والمحاربين لدعوته ، والسبب الأهم في ذلك هو عنصر «الحسد» والآخر هو ما توهموا من وقوع منافعهم ومصالحهم في الخطر.

القرآن الكريم يتحدّث لنا عن هذه الحالة لليهود فيقول (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً)(١).

أجل فإنّ المشيئة الإلهية قد تعلقت في أن يملك آل إبراهيم والّذين كان اليهود من ذريتهم وأن تكون لهم النبوة والعلم ، ولكن المشيئة الإلهية قررت في زمان لاحق أن تتعلق النبوة والعلم بمحمّد وآله الكرام وكلّ ذلك وفقاً للمصالح الّتي تتعلق بها المشيئة الإلهية ، فهل أنّ اليهود كانوا يقبلون أن يحسدهم الناس على ما آتاهم الله من فضله في الزمان السالف؟

__________________

١ ـ سورة النساء ، الآية ٥٤.

١١٠

إذن فلما ذا استعرت في قلوبهم نيران الحسد عند ما يرون أنّ نعمة الله قد صارت من نصيب آخرين وبذلك تحركوا في خط الباطل.

«الآية الرابعة» تتحدّث عن طائفة من أهل الكتاب الّذين يتعاملون مع المسلمين من موقع الحسد ، والظاهر انها ناظرة إلى اليهود وتقول (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(١).

إن الحسد قد يصل بالإنسان إلى درجة أن لا ينحصر تأثيره في الامور المادية مورد التنازع بين الناس عادة فحسب بل قد يتجاوز ذلك إلى الامور المعنوية الّتي لا تتزاحم بطبعها في تواجدها بين أفراد البشر كافة بخلاف حال الامور المادية الّتي تتزاحم بالذات بين الأفراد ، وهؤلاء يحسدون المؤمنين من موقع العناد والاصرار ويسحقون على سعادتهم ويديرون ظهورهم للحقّ بسبب امور موهومة ، ونفس هذا الحسد يتسبّب أن يضعف في الآخرين أيضاً الدافع لسلوك طريق السعادة والتحرّك في خط الإيمان والتقوى ، وهذا من عجائب الحسد.

وقد ذكر الكثير من المفسّرين أنّ جملة «حَسَداً مِنْ عِنْدِ انْفُسِهِمْ» إشارة إلى أنّ العامل لهذه الحالة في نفوسهم هو عنصر الحسد المتجذر في باطنهم والّذي يتفرع من جهلهم وعدم اطلاعهم على حقائق الامور بل حتّى بعد اطلاعهم على الحقيقة يسلكون هذا المسلك المنحرف كما تقول الآية بعد ذلك (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ).

ولكنّ القرآن الكريم يخاطب المسلمين من موقع الأمر إلى أن يتركوا هؤلاء الحسّاد لحالهم (لأن نار الحسد المستعرة في قلوبهم هي أفضل جزاء لهم) ولكن لا يتصوروا أنّ هذا العفو والصفح من قِبل المسلمين يستمر إلى ما لا نهاية وأنّهم أحرار في سلوك أيّ عدوان واضرار بالآخرين ، كلّا.

__________________

١ ـ سورة البقرة ، الآية ١٠٩.

١١١

إنّ الزمان سوف يُثبت على انّ العذاب الإلهي سوف يُحيط بهؤلاء المنحرفين والظالمين إما في الدنيا بواسطة جيش الحقّ فيعذبهم الله ويريهم جزاء مؤامراتهم الخبيثة وممارساتهم المنحرفة تجاه أصحاب الحقّ ، أو يذيقهم العذاب في الآخرة.

وعلى أيّة حال فهذه الآية تشير إلى أنّ المسلمين الّذين اعتنقوا الإسلام حديثاً عليهم أن لا يستسلموا لوساوس اليهود وغيرهم من المنحرفين وقوى الضلال لأنهم ينطلقون في تعاملهم مع المسلمين من موقع الحسد ولا يريدون سعادتهم بل يتألمون لما يروا من سعادة المسلمين في ظلّ التقوى والإيمان.

«الآية الخامسة» وهي الآية الخامسة من سورة الفلق تشير إلى شرّ الحاسدين وتخاطب النبي بأن يتعوذ بالله تعالى من شرّ كلّ حاسد وتقول (وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ)(١).

وفي بداية هذه السورة تخاطب النبي بالقول (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ* مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ).

ثمّ تقسم المخلوقات الشريرة إلى ثلاثة أقسام وتقرر أنّ أساس الشرّ والعامل الأصلي له في العالم هي هذه الامور الثلاثة :

الأوّل : المخلوقات الشريرة الّتي تستغل ظلمة الليل وتهجم على الإنسان في حال نومه ويقظته ، والتعبير بكلمة (غاسق) (ويعني الموجود الشرير الّذي يهجم في الليل) وذلك لأن الحيوانات الوحشية والحشرات المؤذية تخرج ليلاً من آجامها وجحورها بل إنّ الأشخاص من أهل الشرّ والخبث والدناءة يستغلّون ظلمة الليل غالباً للوصول إلى مقاصدهم الشريرة.

ولكن الظلام هنا يمكن أن يكون له معنىً واسع بحيث يشمل كلّ أنواع الجهل والغفلة والمؤامرات الخبيثة وأمثال ذلك لأن قطّاع طريق الحقّ يستغلون جهل الناس عادة ويهجمون على المؤمنين واصفياء القلوب من موقع التآمر عليهم.

__________________

١ ـ سورة الفلق ، الآية ٥.

١١٢

ثمّ تشير السورة إلى الأشرار الّذين ينفخون في العقد ، وهو تعبير يشير إلى النساء اللواتي يسلكن طريق الإنحراف كما هو حال الساحرات الّذين يقرأن بعض الأوراد والتماتم في حال عملية السحر ثمّ ينفخن في العُقد ويقرأن على البسطاء والسذّج من الناس مطالب وكلمات غير مفهومة ، وبهذه الوساوس يسعين إلى ايجاد عنصر الخذلان في إرادتهم ويجرّونهم إلى حال الترديد والتشكيك ، فعند ما تضعف الإرادة في الإنسان يتسنّى حينئذٍ لجيش الشيطان أن يهجم ويتسلط عليه.

ثمّ تشير الآيات إلى الطائفة الثالثة والأخيرة من طوائف الشرّ وتقول (وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ).

وهنا يتضح أنّ أحد عوامل التخريب والفساد في العالم هو عامل الحسد والتخريب الّذي ينشأ من فعل الحسّاد ، وعليه فالآية في حديثها عن المنابع الثلاثة للشرّ والفساد (وهي : المهاجمون في ظلمة الليل ، والموسوسون الّذين يتحركون من خلال الإعلام لهدف تضعيف عقائد الناس وايمانهم وايجاد الخلل في العلاقات الاجتماعية ، والحاسدون الّذين يتحركون بين الناس من موقع التخريب) فهذه الآيات شاهد ناطق على المراد أي الأضرار الوخيمة للحسد.

أمّا ما ورد في الآية من هذه السورة من الصفة الإلهية (بِرَبِّ الْفَلَقِ) يمكن أن يكون إشارة إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّ هذه الطوائف الشريرة الثلاثة تستغل دائماً الظلمة والجهل والاختلاف والكفر ، فلو أنّ هذه الظلمات تبدّلت إلى نور العلم والاتحاد والايمان فإنّ قوى الانحراف هذه سوف لا تستطيع أن تعمل شيئاً.

«الآية السادسة» من الآيات مورد البحث بعد أن مدحت الأنصار مدحاً بليغاً (وهم الّذين دعوا نبي الإسلام إلى يثرب ونصروه واستقبلوه أحسن استقبال وجعلوا جميع ما لديهم من امكانات تحت اختياره) تحدّثت عن (التابعين) وهم الّذين جاءوا بعد المهاجرين والأنصار والتزموا خطّ الايمان واعتنقوا الإسلام واستمروا في خط الايمان ، تقول الآية («وَالَّذِينَ

١١٣

جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ)(١).

وعلى هذا الأساس يقول هؤلاء بعد طلبهم المغفرة لهم ولمن تقدّمهم في الإيمان (المهاجرين والأنصار) حيث يطلبون من الله تعالى أن يُزيل أي شكل من أشكال (الغِل والحقد والحسد) في قلوبهم بالنسبة إلى المؤمنين ، لأنهم يعلمون انّه ما دامت هذه الامور تعيش في قلب الإنسان فإنّ روابط المحبّة والاخوّة والاتحاد لا يمكن أن تؤثر أثراً وبالتالي لا ينال الفرد التوفيق في حركته الدينية والاجتماعية.

كلمة (غِل) المأخوذة من مادّة (غلل) وكما يقول الراغب في كتابه (المفردات) هي في الأصل بمعنى الشيء الخفي الّذي ينفذ تدريجياً وبخفاء ، ولهذا يُقال للماء الجاري (غلل) لأنّه ينفذ إلى الأشجار تدريجياً.

ثمّ استُعمل الغلول في (الخيانة) لأنها تنفذ بخفاء وتدرّج ، وكذلك استُعملت في (الحقد والحسد) حيث ينفذان إلى القلب بشكل خفي وتدريجي.

وجاء في (لسان العرب) أنّ الحسد نوع من (الغلّ) كما أنّ من مصاديقه هو الحقد والعداوة أيضاً.

والكثير من المفسّرين يرون في تفسير الغِل بمعنى الحسد كالفخر الرازي في (التفسير الكبير) والمراغي في تفسيره والقرطبي في (الجامع لأحكام القرآن) في ذيل هذه الآية محل البحث.

«الآية السابعة» والأخيرة من الآيات مورد البحث تتحدّث عن صفات أهل الجنّة وتقول بعد تصريحها باستقبال الملائكة لهم في القيامة ودعائهم لهم بالسلامة والأمن (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ)(٢).

__________________

١ ـ سورة الحشر ، الآية ١٠.

٢ ـ سورة الحجر ، الآية ٤٧.

١١٤

أجل فإنّ أهل الجنّة طاهرون من كلّ أشكال الحسد والحقد والعداوة الّتي يتصف بها أهل النار ، وإذا رأينا أنّهم يعيشون حالة الأخوة والسلامة والأمن في الجنّة فإنما هو بسبب زوال هذه الامور السلبيّة من وجودهم وقلوبهم (وذلك بلطف الله وببركة أعمالهم الصالحة في الدنيا).

ولا شكّ أنّ الناس في الدنيا لو عاشوا بحياة خالية من الحقد والعداوة والحسد في تفاعلهم الاجتماعي فيما بينهم لأضحت حياتهم الدنيوية كحياة أهل الجنّة حيث يعيشون الأمن والأمان والاخوة والصفاء أيضاً.

النتيجة :

ومن مجموع ما تقدّم من الآيات المذكورة آنفاً تتضح الآثار السلبيّة الوخيمة لحالة الحسد في حركة الحياة الفردية والاجتماعية ، ويتضح كذلك موقف القرآن السلبي والشديد من هذه الصفة الأخلاقية الذميمة ، فالحسد هو الّذي تسبب في أن يقتل الإنسان أخاه وأن يُغمض عينه عن رؤية الحقّ ويُسدل على عقله حجاباً كثيفاً يمنعه عن رؤية الحقيقة ويُثير في أجواء المجتمع الظلمة ، ويقطع أواصر المحبّة والود بين الأفراد ، ويحوّل المجتمع البشري إلى جهنم محرقة تحرق المتلوثين بهذه الصفة الذميمة.

الحسد في الروايات الإسلامية :

ونقرأ في الروايات الإسلامية الذمّ الشديد لحالة الحسد بحيث قلّما نجد صفة من الصفات الرذيلة قد ورد ذمّها بهذه الشدّة في النصوص الدينية ، وعلى سبيل المثال وكنماذج وعيّنات من ذلك نكتفي بإستعراض عدّة روايات تتحدّث حول هذا الموضوع :

١١٥

١ ـ ورد في الحديث الشريف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب (١).

والتعبير أعلاه يشير إشارة واضحة إلى انّ نار الحسد يمكنها أن تأتي على جميع عناصر السعادة لدى الإنسان وتحرق حسناته وأتعابه طيله عمره وتهدر ثمرات اتعابه بحيث يخرج من الدنيا صفر اليدين.

٢ ـ وهذا المعنى ورد بصورة أشد في الحديث الشريف عن الإمام الباقر والصادق عليهما‌السلام حيث قالا : ان الحسد يأكل الايمان كما تأكل النار الحطب (٢).

أجل فإنّ الصفة الرذيلة للحسد لا تحرق الحسنات فقط بل تحرق الإيمان أيضاً وتبدّله إلى رماد ، وسيأتي تفصيل الكلام في شرح هذا الحديث الشريف.

٣ ـ وفي حديث آخر عن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : «الْحَسَدُ شَرُّ الْامْرَاضِ» (٣).

وطبقاً لهذا الحديث فإنه ليس هناك من الأمراض الأخلاقية أسوء وأشر من الحسد.

٤ ـ وقد ورد عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أيضاً قوله : «رَأْسُ الرَّذَائِلِ الْحَسَدُ» (٤).

٥ ـ وكذلك ورد عن هذا الإمام في تعبيره الكنائي عن الحسد «للهِ دَرُّ الْحَسَدِ مَا اعْدَلَهُ بَدَءَ بِصَاحِبِهِ فَقَتَلَهُ» (٥).

٦ ـ وأيضاً ورد عن هذا الإمام قوله : «ثَمَرَةُ الْحَسَدِ شَقَاءُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَة» (٦).

٧ ـ وفي حديث آخر عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «آفَةُ الدِّينِ الْحَسَدُ وَالْعُجْبُ وَالْفَخْرُ» (٧).

__________________

١ ـ المحجّة البيضاء ، ج ٥ ، ص ٣٢٥.

٢ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٣٠٦ ، ح ١ و ٢.

٣ ـ غرر الحكم الشرح الفارسي ، ج ١ ، ص ٩١.

٤ ـ المصدر السابق.

٥ ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ، ج ١ ، ص ٣١٦ ، بحار الأنوار ، ج ٧٠ ، ص ٢٤١.

٦ ـ غرر الحكم ، ح ٦٨٥٧.

٧ ـ المحجّة البيضاء ، ج ٥ ، ص ٣٢٧.

١١٦

٨ ـ وعن الإمام الصادق عليه‌السلام أيضاً أنّه قال : عند ما كان موسى بن عمران يناجي الله عزوجل إذ نظر إلى رجل في ظلّ العرش ، فقال : يا رب من هذا الذي قد اظله عرشك (١)

فقال : يا موسى هذا ممن لم يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله».

٩ ـ وفي حديث آخر عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «سِتَّةٌ يَدْخُلُونَ النَّارَ قَبْلَ الْحِسَابِ بِسِتَّةٍ».

«قِيلَ يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ هُمْ؟»

«قَالَ : الْامَرَاءُ بِالْجَوْرِ ، وَالْعَرَبُ بِالْعَصَبِيَّةِ ، وَالدَّهَاقِينُ بِالتَّكَبُّرِ ، وَالتُّجَّارُ بِالْخِيَانَةِ ، وَأَهْلُ الرُّسْتَاقِ بِالْجَهَالَةِ ، وَالْعُلَمَاءُ بِالْحَسَدِ» (٢).

وعليه فإنّ الحسد يمثل بلاء العلماء بالدرجة الاولى.

١٠ ـ ونختم هذا البحث بحديث آخر عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله (رغم وجود أحاديث كثيرة في هذا الباب) أنّه قال : «انَّهُ سَيُصِيبُ امَّتِي دَاءُ الْامَمِ! قَالُوا : وَمَا ذَا دَاءُ الْامَمِ؟! قَالَ : الْاشَرُ وَالْبَطَرُ وَالتَّكَاثُرُ وَالتَّنَافُسُ فِي الدُّنْيَا ، والتَّبَاعُدُ والتَّحَاسُدُ حَتَّى يَكُونَ الْبَغْيُ ، ثُمَّ يَكُونُ الْهَرْجُ!» (٣).

امور مهمة :

بعد أن اتضح موقف القرآن الكريم والروايات الإسلامية من هذه الرذيلة الأخلاقية (الحسد) وعمق الفاجعة المترتبة عليه في حياة الإنسان والمجتمع البشري بقيت عدّة نقاط مهمّة في هذا البحث لا بدّ من استعراضها لتتضح الأبعاد المختلفة لموضوع الحسد وهي عبارة عن :

١ ـ معنى ومفهوم الحسد.

__________________

١ ـ بحار الأنوار ، ج ٧٠ ، ص ٢٧٥.

٢ ـ المحجّة البيضاء ، ج ٥ ، ص ٣٢٧.

٣ ـ غرر الحكم الشرح الفارسي ، ج ١ ، ص ٣٢٦.

١١٧

٢ ـ دوافع الحسد.

٣ ـ علامات وآثار الحسد.

٤ ـ المعطيات الفردية والاجتماعية للحسد.

٥ ـ طرق الوقاية من الحسد وعلاجه.

١ ـ مفهوم الحسد والغبطة

ذكر علماء الأخلاق في تعريف الحسد انه : تمني زوال النعمة عن الآخرين سواءاً وصلت هذه النعمة إلى الحاسد أم لا.

وعليه فإنّ عمل الحسود هو التخريب أو تمنّي التخريب وزوال آثار النعم والمواهب الإلهية عن الآخرين سواءاً انتقلت إليه تلك النعمة أم لا.

وعلى هذا الأساس فإنّ أشد أنواع الحسد هو أن يتمنّى الإنسان زوال النعمة عن الآخر ويتحرّك في هذا المسير أيضاً سواءً عن طريق ايجاد سوء الظن بالنسبة إلى المحسود ، أو عن طريق ايجاد الموانع لعمله في حركة الحياة والمعيشة ، وهذا النوع من الحسد يحكي عن خبث الباطن الشديد للحسود.

والمرتبة الأدنى منها هي أن يكون هدف الحاسد هو تحصيل تلك النعمة عن طريق سلبها من الآخرين ، وبالرغم من انّ هذه الحالة هي من الرذائل الأخلاقية ولكنها ليست في الشدّة كما رأينا في المرتبة الاولى منها.

وهناك مرتبة أدنى من ذلك أيضاً حيث يتمنّى فيها الحاسد زوال النعمة عن الآخر بدون أن يتحرّك في هذا السبيل على مستوى الكلام أو الخطوات العملية الاخرى.

وهذه الحالة الذميمة إذا حصلت للإنسان بدون اختيار منه كما قد يحصل لدى الكثير ، فلا يترتب عليها إثم ، ولكن إذا كانت بمحض ارادته بحيث حصلت له بسبب بعض المقدمات الاختيارية وبإمكانه إزالة هذه المقدّمات ، فبلاشك تُعتبر هذه من الرذائل الأخلاقية أيضاً ولكن هل يترتب على ذلك إثم أم لا؟

١١٨

وهنا تأمّل في هذا الموضوع ناشيء من هذه الحقيقة ، وهي هل أنّ الصفات الباطنية حتّى لو كانت اختيارية هي محرمة حتّى لو لم تظهر في عمل الإنسان وفعله ، أو تُعتبر صفة أخلاقية تكشف عن انحطاط أخلاقي لذلك الشخص بدون أن تستتبعها حرمة في البين؟

وعلى أيّة حال فإنّ النقطة المقابلة للحسد هي (الغِبطة) وهي أن يتمنّى الإنسان أن تكون له نعمة مثلما للآخرين أو أكثر منها بدون أن يتمنّى زوال تلك النعمة عن الآخر.

ولكن البعض يرى انّ (الغبطة) نوع من الحسد أيضاً ويستشهد لذلك بحديث شريف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً (١).

ولكن من الواضح أنّ هذا المعنى ينسجم مع تفسيرنا للحسد بمفهومه الواسع بحيث يشمل كلّ مقارنة لما لدى الفرد من النعم مع ما لدى الآخرين منها ، وهو في الواقع نزاع لفظي ، والمعروف هو ما تقدّم آنفاً من تعريف الحسد.

وعلى أيّة حال فالحسد صفة ذميمة وقبيحة في دائرة الأخلاق ، في حين انّ (الغِبطة) ليس فقط غير مذمومة ، بل محمودة ومطلوبة أيضاً ، وتعتبر سبباً لترقي المجتمع والصعود به في مدارج الكمال كما ذكر ذلك الطريحي في (مجمع البحرين) في مادّة (حَسَدَ).

ونقرأ في حديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام قوله «انَّ الْمُؤْمِنَ يَغْبُطُ وَلَا يَحْسُدُ ، وَالْمُنَافِقُ يَحْسُدُ وَلَا يَغْبُطُ» (٢).

٢ ـ دوافع الحسد

من المعلوم أنّ الكثير من الصفات الرذيلة تتناغم مع بعضها وبينها تأثير متقابل ، والحسد أيضاً من هذه الصفات حيث ينشأ من صفات قبيحة اخرى ، وهو بنفسه يُعد منبعاً ومصدراً لرذائل كثيرة أيضاً.

ويذكر علماء الأخلاق للحسد منابع كثيرة منها : العداوة والحقد بالنسبة إلى الآخرين

__________________

١ ـ راجع لسان العرب والتحقيق في كلمات القرآن الحكيم.

٢ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٣٠٧ ، ح ٧.

١١٩

حيث يتسبّب في أن يتمنّى الإنسان زوال النعمة عن الطرف الآخر الّذي يحمل له العداء ويبطن له الحقد.

والآخر هو الكِبر والغرور ، ولهذا إذا رأى المتكبر غيره يتمتّع بنعم أكثر منه فإنه يتمنّى زوالها بل يسعى في إزالتها أيضاً لكي يُحرز تفوّقه على الآخرين.

الثالث : حبّ الرئاسة حيث يتسبّب في أن يتمنّى الإنسان زوال نعمة الآخرين لكي يستطيع بذلك من تحكيم سيطرته وحكومته عليهم ، لأنّه إذا لم تكن قدرته وثروته وامكاناته الاخرى أكثر من الآخرين فإنه قد لا يستطيع أن يثبّت أركان حكومته عليهم.

الرابع من أسباب الحسد : الخوف من عدم الوصول إلى المقاصد الدنيوية ، لأن الإنسان يتصور أحياناً أنّ النعم الإلهية محدودة فلو أنّ الآخرين حصلوا عليها فيمكن أن يُحرم منها أو لا يصل إليه منها إلّا القليل.

الخامس : الاحساس بالحقارة والدونية ، فالأشخاص الّذين لا يجدون في أنفسهم اللياقة للوصول إلى المقامات العليا وحيازة المراتب السامية فإنّ ذلك يتسبب في ابتلائهم بعقدة الحقارة الّتي تدفعهم إلى تمني زوال النعمة من الآخرين وأن لا ينال الآخرون مكانة اجتماعية مهمة ليكونوا معهم سواء.

السادس : من أسباب الحسد هو البخل وخبث الباطن لأن البخيل ليس فقط غير مستعد لأن يبذل ما في يده إلى الآخرين ، بل يتألم عند ما يرى نِعم الله تعالى تصل إلى غيره ، أجل فإنّ ضيق الافق ودناءة الطبع وخساسة النفس تقود الإنسان إلى أن يعيش الحسد في واقع النفس ، وأحياناً تتوفر جميع هذه الأسباب والدوافع الستة للحسد لدى الفرد ، وأحياناً اخرى اثنان أو ثلاثة منها ، فتشتد خطورة الحسد بنفس النسبة.

ولكن الأهم من ذلك فإنّ الحسد يمكن أن يمتد بجذوره إلى عنصر العقيدة ومكامن الدين ، فمن كان يؤمن بالله تعالى وقدرته ولطفه ورحمته وعدالته وحكمته ، كيف يمكنه أن يجد في نفسه حالة الحسد للآخرين؟

إن الشخص الحسود يكاد يعترض على الله تعالى بلسان حاله وأنّه لماذا رزقت فلاناً

١٢٠