الأخلاق في القرآن - ج ١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأخلاق في القرآن - ج ١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : الأخلاق
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8139-05-9
ISBN الدورة:
964-8139-27-X

الصفحات: ٣٥٢

من إفرازات الإدمان على تلك المواد المخدّرة ، وسيعيش النّدم الشّديد في تلك الحال ، ويتأسف على ما إقترفته يداه ، ولكن أنىّ للتأسّف أن يحلّ المشكلة ، وقد اغلق عليه سبيل العودة ، إلى الحريّة والكرامة كما هو الغالب.

فالوصايا الأخلاقية ، للحثّ على العفّة والأمانة والصّدق والرجولة ، كلّها من هذا القبيل ، والمجتمع الذي تتفشى فيه الخطيئة والخيانة ، كيف يعيش أفراده حالة اللّذّة المعنويّة والسّعادة ، في حركة الحياة والواقع الإجتماعي؟

فالناس الّذين ملأ البخل وجودهم ، ويطلبون كلّ شيءٍ لنفعهم ولذّتهم الشّخصية ، لا تكون لديهم حصانةٌ أمام المشكلات ، وسيكونون عرضةً للتّمزق والتشرذم ، لأدنى أزمةٍ على مستوى الحياة الدنيويّة ، لأنّ الفرد في ذلك المجتمع يكون وحيداً فريداً ، والصّمود أمام المشكلات ، لمن يعيش الوحدة والإنفراد ، أمرٌ في غاية الصّعوبة ، ولكن إذا تفشّت روح التّعاون والسّخاء والرجولة في المجتمع ، فسينطلق الناس من موقع مساعدة بعضهم البعض ، وعند ما يقع أحد الناس في مأزقٍ ، فسيعينه الآخرون ، فلا يشعر الفرد بالوحدة هناك ، بل سيجد في نفسه عنصر المقاومة والصّمود أمام المشكلات والأزمات.

وهذا ما أشرنا إليه سابقاً بالتّفصيل ، وبالإعتماد على الآيات القرآنيّة الكريمة ، بأنّ الاصول الأخلاقيّة عند تطبيقها ، لها بُعدان وفائدتان : معنويّة وماديّة ، ومع غضّ النّظر عن البُعد المعنوي ، فالبُعد المادي فيها له شموليّةٌ واسعةٌ ، ويستحق معها التمسّك بكلّ الاصول الأخلاقيّة ، كي نعمّر دنيانا ونجعل منها جنّةً مليئةً باللّذة ، ونتجنّب النّار المحرقة ، المتولدة من الوقوع في وَحِل المفاسد الأخلاقيّة.

والآن نبحث في المذهب القائل : بأنّ الأخلاق الدينيّة على مستوى الممارسة والتّطبيق ، والّتي تنشأ في الحقيقة من طاعة الله تعالى خوفاً أو طمعاً. وهذه الامور تُعتبر مضادّةً للأخلاق؟ (١).

__________________

١ ـ يرجى الرجوع لكتاب : (تجديد حيات معنوي جامعة) ، ص ١٦٩.

٨١

ويمكن أن يُنتقد هذا الكلام من جهتين :

١ ـ التّعبير بالخوف والطّمع ، تعبيرٌ غير صحيح ، والصّحيح أن يُقال ، بأنّ بعض أتباع الأديان ، ولأجل نَيل السّعادة الاخرويّة ، والنّجاة من العقوبات الناشئة من العدل الإلهي ، يتخلّقون بالأخلاق الحسنة ، لكنّه ليس أمراً يخالف الأخلاق ، لأنّه يُبدّل لذّة الحياة الفانية بلذّة الآخرة الباقية ، ويُفدي المصادر الصغيرة بالمواهب الكبيرة.

٢ ـ هل يرتكب الشخص أمراً مخالفاً للأخلاق ، لأنّه لا يكذب ولا يخون ، بدافع من خشيته من فضيحة الكذب والخيانة؟ ، أو ذاك الذي يمتنع من الشّراب ، ويتجنب المادة المخدّرة ، ليحافظ على صحته وسلامته ، هل يكون عمله هذا منافياً للقيم الأخلاقية؟

وكذلك الشّخص الذي يُداري النّاس ويتواضع لهمُ ويعاملهم بأدبٍ وإحترام ، لئلّا يفقدهم ولا يبقى وحيداً فريداً في هذه الدنيا ، فهل يرتكب بذلك عملاً مُخالفاً للأخلاق؟.

والخلاصة : إنّ كلّ عملٍ أخلاقي ، له آثار ومنافع ماديّة في حركة الإنسان والحياة ، ولا يمكن تسميّة تلك الآثار بالطّمع ، وكذلك الحال في الإمتناع ، عن بعض السّلوكيات المشينة والأفعال القبيحة ، لا يمكن أن يعبّر عنه ، بالخوف والجُبن في دائرة الصّفات الأخلاقيّة.

٨٢

٦

اصول المسائل الأخلاقيّة في القرآن الكريم

قبل الخَوض في هذا البحث ، يتحتم علينا إلقاء نظرة على اصول المسائل الأخلاقيّة في المذاهب الاخرى :

١ ـ جَمعٌ من الفلاسفة القدماء ، الذين يُعتبرون من المؤسّسين لعلم الأخلاق ، جعلوا للأخلاق أربعة اسس ، أو بالأحرى لخّصوا الفضائل الأخلاقيّة في أربعة اصول ، هي :

١ ـ الحكمة.

٢ ـ العفّة.

٣ ـ الشجاعة.

٤ ـ العدالة.

وأحياناً يضمّون إليها العبوديّة لله تعالى ، ويجعلونها خمسة اصول.

ويعتبر المؤسّس لهذا المذهب هو «سقراط» ، فكان يعتقد أنّ : (الأخلاق تعتمد على معرفة الحسن والقبيح من الأفعال ، والفضيلة بصورةٍ مطلقةٍ ليست هي إلّا العلم والحكمة ؛ أمّا العلم في مورد الخوف أو الإقدام ، يعني العلم والاطّلاع على الشّيء الذي يتوجب على الإنسان الخوف منه ، أو عدم الخوف من شيءٍ ما يعتبر من «الشّجاعة» ، وإذا كان في صدد المُنى النفسية ، فيدّعي ب : «العفّة» ، وإذا كان العلم بالقواعد الحاكمة على ملاقات الناس وروابطهم مع بعضهم

٨٣

البعض ، فالمقصود منه هو «العدالة» ، وإذا كان العلم في دائرة وظائف الإنسان مع خالقه هو «التدين والعبودية» ، فهذه الفضائل الخمسة ، يعني : الحكمة ، والشجاعة ، والعفّة ، والعدالة ، والعبودية ، هي الاصول الاولى للأخلاق السُّقراطيّة) (١).

وكثير من علماء الإسلام الذين كتبوا وبحثوا في علم الأخلاق ، قبلوا هذه الاصول الأربعة أو الخمسة ، ودقّقوا فيها أكثر ، وبنوا لها اصولاً أقوى وأفضل من سابقتها ، وجعلوها أساساً لرؤاهم الأخلاقيّة في كلّ المجالات.

يقولون في نظرتهم الجديدة لهذه الاصول :

إنّ نفس وروح الإنسان فيها ثلاثة قوى هي :

١ ـ قوّة «الإدراك» وتشخيص الحقائق.

٢ ـ قوّة جلب المنفعة أو بتعبير آخر «الشّهوة» ، (بمعناها الوسيع ، لا الجنسيّة فقط وتشمل كلّ طلبٍ وإرادةٍ).

٣ ـ القوّة الدّافعة أو بتعبير آخر «الغضب».

وبعدها إعتبروا الإعتدال في كلّ قوّةٍ ، هو إحدى الفضائل الأخلاقيّة ، وأطلقوا على الفضائل المنبعثة من هذه القوى ب : «الحكمة» و «العفّة» و «الشّجاعة» ، بالترتيب.

وأضافوا أيضاً : كلّما أصبحت قوّة الشّهوة والغضب خاضعة لسلطة القوّة المدركة ، وتمييز الحقّ من الباطل ، فسوف ينتج عندنا الأصل الرّابع وهو «العدالة».

وبعبارةٍ اخرى : إنّ تحقيق الإعتدال في كلّ من القوى الثّلاثة ، يعتبر فضيلةً ، وهذا الإعتدال يسمّى ب : «الحكمة» أو «العفّة» أو «الشّجاعة» ، وتركيبها مع بعضها البعض ، يعني تبعيّة الشّهوة والغضب للقوّة المدركة ، يعتبر فضيلةً اخرَى تسمّى «العدالة» ، وكثيراً ما نرى أنّ الإنسان لديه الشّجاعة وفي حدّ إعتدال قوّة الغضب ، لكنّه لا يوجّهها التّوجيه الصّحيح ، ولا يستعملها الإستعمال الصحيح ، «كما لو إستعملها في الحروب غير الهادفة» ، فهنا قد تكون لديه شجاعة ولكنّها لا تعني العدالة ، أمّا لو إستعمل صفة (الشّجاعة) في نطاق الأهداف السّامية

__________________

١ ـ سير حكمت در اروپا ، ج ١ ، ص ١٨ ، مع شيء من التلخيص.

٨٤

العقلائيّة ، أي مزجها مع الحكمة ، فسيحقّق عندها حالة «العدالة».

وعليه ، فإنّ هذه الفئة من علماء الإسلام ، جعلوا كلّ الفضائل والصّفات الإنسانيّة البارزة ، تحت أحد هذه الاصول ، وبإعتقادهم أنّه لا توجد فضيلة ، إلّا وتندرج تحت أحد هذه العناوين الأربعة ، وبالعكس فإنّ الرذائل دائماً ، تأخذ طريق الإفراط والتّفريط لهذه الفضائل الأربعة.

ومن أراد التّفصيل والاطّلاع على هذا المذهب الأخلاقي ؛ فليراجع كتاب : «إحياء العلوم» وكتاب «المحجّة البيضاء» (١).

نقد وتحليل :

إنّ التّقسيم الرّباعي المذكور ، ليس وكما يبدو أنّه شيء مُبتكر من قبل حكماء الإسلام ، بل هو نتيجة تحليلات علماء إلاسلام لكلمات حكماء اليونان ، وإسترفادهم من نظرياتهم وآرائهم بعد تنقيحها ، رغم وجود إشارات لها في مصادرنا الروائيّة ، كما جاء في الرواية المرسلة المنسوبة للإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، حيث قال :

«الفَضائِلُ الأربَعَة أَجناسٍ : أحَدُهُما : الحِكْمَةُ وَقِوامُها فِي الفِكرَةِ ، والثَّانِي : العِفَّةُ وَقِوامُها في الشَّهوَةِ ، وَالثَّالِثُ : القُوَّةُ وَقِوامُها فِي الغَضَبِ ، وَالرّابِعُ : العَدلُ وَقِوامُهُ في إِعتِدالِ قُوى النَّفسِ» (٢).

فكما ترون ، أنّ هذا الحديث لا يوافق بصورةٍ كاملةٍ ، تلك التّقسيمات الأربعة التي ذكرها علماء الأخلاق ، بل هو قريبٌ منها ، وكما أشرنا سابقاً أنّ الحديث مُرسلٌ وسندُه لا يخلو من إشكال.

وعلى كلّ حال فإنّ هذه الاطروحة ، الّتي ذكرها علماء الأخلاق ، أو حُكماء الإغريق

__________________

١ ـ المحجّة البيضاء ، ج ٥ ، ص ٩٦ و ٩٧.

٢ ـ بحار الأنوار ، ج ٧٥ ، ص ٨١ ، ح ٨٦.

٨٥

واليونان ، ترد عليها هذه المآخذ :

١ ـ بعض الملكات الأخلاقية ، «والّتي هي جزءٌ من الفضائل الأخلاقيّة قطعاً» ، نلاقي صُعوبةً في إدخالها تحت أحد هذه الاصول الأربعة ، فمثلاً (حُسن الظّن) ، يُعتبر من الفضائل ، ويقابله (سُوء الظن) ، فإذا أردنا إدخاله تحت أحد هذه الاصول ، فيجب أن ينضوي في دائرة الحكمة ، والحال أنّنا لا يمكننا أن نجعله من فروع الحكمة ، لأنّ حُسن الظّن شيءٌ آخر غير التّشخيص الصّحيح للواقعيات ، ورُبّما ينفصل عنه بوضوح ، بمعنى أنّ القرائن الظنيّة تشير إلى صدور الذّنب والخطأ من شخصٍ ما ، لكن وبحسن الظنّ يتجاوز عنها.

وكذلك الصّبر على النوائب ، والشكر على النّعمة ، فهو بلا شك يعتبر من الفضائل ، لكنّنا لا نستطيع أن نجعله في دائرة قوّة التّشخيص والإدراك ، ولا في مسألة جلب المنافع ولا دفع المضار ، خُصوصاً إذا كان الشّخص الصّابر والشّاكر ، لا يرتجي منها نفعاً مستقبلياً ، وتمسّكه بها إنّما كان لقيمتها الذاتيّة ، (أي : الصّبر والشّكر).

وقد يوجد غير قليل من أمثال هذه الفضائل ، التي لا يمكن أن نجعلها وندرجها تحت أحد هذه العناويين.

٢ ـ «الحكمة» تعتبر من اصول الفضائل الأخلاقيّة ، والإفراط والتّفريط فيها تُعتبر من الرّذائل الأخلاقيّة ، والحال أنّ الحكمة ترجع إلى تشخيص الحقائق والوقائع ، وتعود الأخلاق للعواطف والغرائز والملكات النفسيّة ، ولا تعود لإدراكات العقل ، وعليه لا يُقال إنّ الُمتفتح الذّهن هو حسن الأخلاق ، فالأخلاق يمكن أن تكون وسيلةً وأداةً للعقل ، ولا تُعتبر قوّة العقل والإدراك من الأخلاق ، أو بعبارةٍ اخرى : أنّ العقل وقوّة الإدراك هي الموجّهة لعواطف وغرائز الإنسان ، في حركة الحياة والسّلوك ، وتعطيها شكلها الأَوفق ، والأخلاق هي كيفيّةٌ تعرض على الغرائز والميول الإنسانيّة.

٣ ـ الإصرارُ على أنّ الفضائل الأخلاقيّة دائماً ، هو الحدّ الأوسط بين الإفراط والتّفريط : لا يبدو سليماً ، وإن كان في الأغلب هو كذلك ، لأنّنا نجد موارد لا يتحقّق فيها الإفراط ، فمثلاً القُوّة العقليّة ، كلّما كانت أقوى كانت أفضل ، ولا يُتصوّر فيها إفراط ، فليس من الصحيح جعل

٨٦

«الدّهاء والمكر» ، هو الإفراط في القوّة العقلية ، لأنّ «الدّهاء والمكر» لا ينشأ من الذّكاء والفهم ، بل هو نوعٌ من الإنحراف والإشتباه في المسائل ، للعجلة في الحكم على الامور وما يُشابهها.

فالرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وصل إلى درجةٍ في العقل والفكر ، بحيث اطلق عليه العَقلُ الكلّ ، فهل هذا مخالفٌ للفضيلة؟!

وصحيحٌ أنّ العقل والذّكاء المُفرط ، يسبّب آلاماً ومصاعب لا يلاقيها الغافلون ، غير المطّلعين ، ولكنّه مع ذلك يعتبر من الفضائل والكمالات.

وكذلك «العدالة» ، حسبوها من الفضائل الأخلاقيّة ، والإفراط والتّفريط فيها هو «الظّلم» و «الإنظِلام» ، أي (قبول الظّلم) ، والحال أنّ قبول الظّلم والانصياع له لا يمكن أن يُعتبر من التّفريط في العدالة أبداً ، بل هو مقولةٌ اخرى.

وبناءً على ذلك ، فمسألة الإعتدال في صِفات الفضيلة ، في مقابل الإفراط والتّفريط للصّفات الرّذيلة ، يمكن أن يكون مقبولاً في أغلب الموارد ، ولكن لا يمكن أن يُعتبر حُكماً عامّاً ، وأصلاً أساسياً في البحوث الأخلاقيّة.

النتيجة : أنّ الاصول الأربعة التي أعدّها القدماء للأخلاق ، هي في الواقع إكمالٌ لما جاء به فلاسفةُ اليونان القُدماء ، لكنّها لا يمكن أن تكون نموذجاً ومقسماً جامعاً للصّفات الأخلاقيّة ، وإن كانت تصدق على كثيرٍ من المسائل الأخلاقيّة.

العودة للُاصول الأخلاقيّة في القرآن الكريم :

نعود لتحليل الاصول الأخلاقيّة التي نستوحيها من القرآن الكريم ، فنحن نعلم أنّ القرآن الكريم لم يُنظّم ككتابٍ تقليدي ، في أبوابٍ وفصولٍ ، كما هو المتعارف اليوم ، بل هو مجموعةٌ من القاءات الوحي السّماوي ، نزل بالتّدريج على حسب الحاجة والضّرورة ، ولكن وبالإستفادة من طريقة التّفسير الموضوعي ، يمكن وضعه في مثل هذه القوالب.

ومن التّقسيمات الّتي يمكن إستيحاؤها وإستفادتها من مجموع الآيات القرآنية ، هو تقسيم

٨٧

اصول الأخلاق إلى أربعة أقسامٍ :

١ ـ المسائل الأخلاقيّة المتعلّقة بالخالق.

٢ ـ المسائل الأخلاقيّة المتعلّقة بالخَلق.

٣ ـ المسائل الأخلاقيّة المتعلّقة بالنّفس.

٤ ـ المسائل الأخلاقيّة المتعلّقة بالكون والطّبيعة.

فمسألة شكر المُنعم والخضوع أمام الباري تعالى ، والرّضا والتسّليم لأوامره ، وما شابهها ، يُعتبر من المجموعة الاولى.

والتواضع ، والإيثار ، والمحبّة ، وحُسن الخلق ، والمُواساة ، تدخل في دائرة المجموعة الثّانية.

تزكية النّفس وتطهير القلب من الأدران ، وتفعيل عناصر الخير ، لمقاومة الضّغط والتّحديات التي يُواجهها الإنسان في حركة الواقع والحياة ، تدخل في نطاق المجموعة الثّالثة.

وأمّا عدم الإسراف والتّبذير ، وإتلاف المواهب الإلهيّة ؛ فإنّه يُعتبر من القسم الرّابع.

كلّ هذه الاصول الأربعة ، لها جذور واصول في القرآن الكريم ، وسنشير إلى كلّ واحدٍ منها في المباحث الموضوعيّة الآتية.

وبالطبع فإنّ هذه الشّعب الأربعة ، تختلف عمّا جاء في كتاب «الأسفار» للفيلسوف المعروف : «ملّا صدرا الشّيرازي» ، وأتباع مذهبه ، فهؤلاء وطِبقاً لطريقة العُرفاء ، شبّهوا الإنسان وحركته التكامليّة : ب : (المسافر) ، وعبّروا عن مسائل بناءِ الذّات وصياغة الشّخصية بالسّير والسّلوك ، وجعلوا للإنسان أربعةَ أسفارٍ ، هي مَطمع السّالكين والعُرفاء ، وأولياء الله :

١ ـ السّفر من الخلق إلى الحقّ.

٢ ـ السّفر بالحقّ في الحقّ.

٣ ـ السّفر من الحقّ إلى الخلق بالحقّ.

٤ ـ السفر بالحقّ في الخلق.

ومن المعلوم أنّ هذه الأسفار أو المراحل الأربعة لبناء الذات ، والسّير والسّلوك إلى الله تعالى ، تتحرك بإتجاهٍ آخر غير ما نحن بصددِه ، وإن كانت تتشابه في بعض أقسام الفروع

٨٨

الأربعة ، للأخلاق الآنفة الذّكر.

وتوجد في القرآن الكريم آيات ، نعتقد أنّها رَسمت الاصول الكليّة للأخلاق ، ومن هذه الآيات ، الآيات الوادرة في (سورة لُقمان) والّتي تبدأ من هذه الآية :

(وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ)(١).

إنّ أوّل ما يشرع فيه الإنسان في مضمار العقائد والمعارف ، هو شُكر المُنعم ، وأوّل خطوةٍ في طريق معرفة الله تعالى ، هي مسألة شكر المُنعم ، أو بعبارةٍ اخرى ، كما صرّح علماء العقائد والكلام : إنّ الدّافع للحركة إلى الله تعالى هو شكر النّعمة ، لأنّ الإنسان عند ما يفتح عينه ، يرى نفسه غارقاً في بحر النّعم ، فيدعوه الضّمير مُباشرةً إلى معرفة المُنعم ، وهذا هو بداية الطّريق لمعرفة الله تعالى.

وبعدها تتطرّق الآية لمسألة التّوحيد وتقول : (لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).

وفي المرحلة الاخرى ، يتناول القرآن الكريم مسألة المعاد ، وهي الأساس الثّاني والمهم للمعارف الدّينية ويقول : (يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ)(٢).

ثم يتطرق للُاصول الأساسيّة للأخلاق والحكمة العمليّة ، ويشير للُامور التاليّة :

١ ـ مسألة إحترام الوالدين وشكرهم بعد شكر الخالق : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ) ... (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ»)(٣).

٢ ـ إعطاء الأهميّة للصلاة ، وعلاقته بالله والدعاء والخضوع له : (أَقِمِ الصَّلاةَ)(٤).

٣ ـ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر : (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ)(٥)

٤ ـ الصّبر على نوائب الدّهر : (وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ)(٦).

__________________

١ ـ سورة لقمان ، الآية ١٢.

٢ ـ سورة لقمان ، الآية ١٦.

٣ ـ سورة لقمان ، الآية ١٤.

٤ ـ سورة لقمان ، الآية ١٧.

٥ ـ سورة لقمان ، الآية ١٧.

٦ ـ سورة لقمان ، الآية ١٧.

٨٩

٥ ـ حُسن الخُلق مع النّاس : (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ)(١).

٦ ـ التواضع وترك الكِبر مع النّاس والخلق : (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ)(٢).

٧ ـ الإعتدال في المشي وفي كلّ شيء : (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ)(٣).

وعلى هذا التّرتيب ، نرى أنّ القسم الأكبر من الفضائل الأخلاقيّة ، جاءت في الآيات القرآنيّة تحت عنوان : «حكمةٌ لقمان» ، التي تشمل الشّكر والصبر وحُسن الخلق والتوّاضع والإعتدال والدّعوة للإحسان ، ومقاومة النّوازع والأهواء النّفسانيّة ، كلّ ذلك في ضِمن سبعِ آياتٍ ، من الآية (١٣ إلى ١٩).

وجاء في الآيات الثلاث من سورة الأنعام ، التي تبدأ بالآية (١٥١) وتنتهي بالآية (١٥٣) ، عشرة أوامر مهمّة ، تناولت مبادىء مهمّة من الاصول الأخلاقيّة ، ومن جملتها : ترك الظّلم للأولاد ، ورعاية الأيتام ، ومُراعاة العدالة مع الجميع ، وترك العصبيّة للأقارب والأصدقاء والقبيلة ، في دائرة نقض اصول العدالة ، وكذلك الإجتناب من القبائح والرّذائل الظّاهرية والباطنيّة ، وإحترام حقوق الوالدين ، والإجتناب عن كلّ ما يُسبّب التّفرقة وإلأبتعاد عن كلّ شرك (٤).

اصول الأخلاق الإسلاميّة في الرّوايات :

إستعرضت الأحاديث والرّوايات الإسلاميّة ، الاصول الأخلاقيّة الحسنة والسيئة ، بطريقتها الخاصّة ، لا كما جاء في كتب حُكماء اليونان ومن جملتها :

١ ـ في الحديث المعروف الذي جاء في كتاب : (اصول الكافي) ، عن الإمام الصادق عليه‌السلام : أنّ

__________________

١ ـ سورة لقمان ، الآية ١٨.

٢ ـ سورة لقمان ، الآية ١٨.

٣ ـ سورة لقمان ، الآية ١٩.

٤ ـ لمزيد من التوضيح لهذه الأوامر العشرة ، يمكن الرجوع لتفسير الأمثل : ج ٦ ، ذيل تفسير هذه الآيات الثلاث.

٩٠

أحد أصحاب الإمام عليه‌السلام وإسمه «سماعة بن مهران» ، قال : كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام وجماعة من مواليه ، فجرى ذكر العقل والجهل ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «إعرفوا العقل وجنده ، والجهل وجنده تهتدوا» ، فقلت : جُعلت فِداك لا نعرف إلّا ما عرّفتنا ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام :

«إنّ الله عزوجل ، خلق العقل ، وهو أوّل خلقٍ من الرّوحانيين عن يمين العرش ، من نوره فقال له : أدبِر فأدبر ؛ ثمّ قال له : أقبِل فأقبل ؛ فقال الله تبارك وتعالى : خلقتك خَلقاً عظيماً وكرّمتك على جميع خلقي ، قال : ثمّ خلق الجهل ، من البحر الاجاج ظلمانياً ، فقال له : أدبر فأدبر ؛ ثم قال له : أقبل فلم يُقبِل فقال له : إستكبرت ، فلعنه. ثمّ جعل للعقل خمسة وسبعين جنداً ، فلمّا رأى الجهل ما أكرم الله به العقل ، وما أعطاه أضمرَ له العداوة ، فقال الجهل : يا ربّ هذا خلق مثلي ، خلقته وكرّمته وقوّيته ، وأنا ضِدّه ولا قوّة لي به ، فأعطني من الجند مثل ما أعطيته ، فقال الله تعالى : نعم ، فإن عَصيت بعد ذلك أخرجتك وجندك من رحمتي. قال : قد رضيت. فأعطاه خمسة وسبعين جنداً. فكان ممّا أعطى العقل من الخمسة والسّبعين الجند :

الخير هو وزير العقل ، وجعل ضدّه الشرّ وهو وزير الجهل ؛

والإيمان وضدّه الكفر ؛

والتصديق وضدّه الحُجود ؛

والرّجاء وضدّه القُنوط ؛

والعدل وضدّه الجور ؛

والرّضا وضدّه السخط ؛

والشّكر وضدّه الكُفران ؛

والطّمع وضدّه اليأس ؛

والتوكّل وضدّه الحِرص ؛

والرّأفة وضدّه القسوة ؛

والرّحمة وضدّها الغضب ؛

والعلم وضدّه الجهل ؛

٩١

والفهم والحمق ؛

والعفّة وضدّها التهتك ؛

والزّهد وضدّه الرّغبة ؛

والرّفق وضدّه الخرق ؛

والرّهبة وضدّها الجرأة ؛

والتّواضع وضدّه الكِبر ؛

والتؤدة وضدّها التّسرع ؛

والحلم وضدّه السّفه ؛

والصّمت وضدّه الهذر ؛

والاستسلام وضدّه الإستكبار ؛

والتّسليم وضدّه الشّك ؛

والصّبر وضدّه الجزَع ؛

والصّفح وضدّه الإنتقام ؛

والغنى وضدّه الفقر ؛

والتّذكّر وضدّه السّهو ؛

والحفظ وضدّه النسيان ؛

والتعطّف وضدّه القطيعة ؛

والقنوع وضدّه الحرص ؛

والمؤاساة وضدّها المنع ؛

والمودّة وضدّها العداوة ؛

والوفاء وضدّه الغدر ؛

والطّاعة وضدّها المعصية ؛

والخُضوع وضدّه التّطاول ؛

٩٢

والسّلامة وضدّها البلاء ؛

والحبّ وضدّه البغض ؛

والصّدق وضدّه الكذب ؛

والحقّ وضدّه الباطل ؛

والأمانة وضدّها الخيانة ؛

والإخلاص وضدّه الشّوب ؛

والشّهامة وضدّها البلادة ؛

والفهم وضدّه الغباوة ؛

والمعرفة وضدّها الإنكار ؛

والمداراة وضدّها المكاشفة ؛

وسلامة الغيب وضدّه المماكرة ؛

والكتمان وضدّه الإفشاء ؛

والصلاة وضدّها الإضاعة ؛

والصّوم وضدّه الإفطار ؛

والجهاد وضدّه النُكول ؛

والحجّ وضدّه نبذ الميثاق ؛

وصَون الحديث وضدّه الّنميمة ؛

وبرّ الوالدين وضدّه العُقوق ؛

والحقيقة وضدّها الرّياء ؛

والمعروف وضدّه المُنكر ؛

والسّتر وضدّه التّبرج ؛

والتقيّة وضدّها الإذاعة ؛

والإنصاف وضدّه الحميّة ؛

٩٣

والتهيئة وضدّها البغي ؛

والنّظافة وضدّها القذر ؛

والحياء وضِدّه الجلع ؛

والقصد وضدّه العدوان ؛

والرّاحة وضدّها التّعب ؛

والسّهولة وضدّها الصّعوبة ؛

والبركة وضدّها المحق ؛

والعافية وضدّها البلاء ؛

والقوام وضدّه المكاثرة ؛

والحكمة وضدّها الهواء ؛

والوقار وضدّه الخفّة ؛

والسّعادة وضدّها الشّقاوة ؛

والتّوبة وضدّها الإصرار ؛

والاستغفار وضدّه الإغترار ؛

والمحافظة وضدّها التّهاون ؛

والدّعاء وضدّه الإستنكاف ؛

والنّشاط وضدّه الكسل ؛

والفرح وضدّه الحُزن ؛

والالفة وضدّها الفُرقة ؛

والسخاء وضدّه البخل ؛

فلا تجتمع هذه الخصال كلّها من أجناد العقل ، إلّا في نبيّ أو وصيّ نبي ، أو مؤمن قد إمتحن الله قلبه للإيمان ، وأمّا سائر ذلك من موالينا فإنّ أحدهم لا يخلو من أن يكون فيه بعض هذه الجنود حتّى يستكمل ، وينفي من جنود الجهل. فعند ذلك يكون في الدرجة

٩٤

العليا مع الأنبياء والأوصياء ؛ وإنّما يُدرك ذلك بمعرفة العقل وجنوده ، وبمجانبة الجهل وجنوده. وفّقنا الله وإيّاكم لطاعته ومرضاته» (١).

فالحديث أعلاه ، حديث جامع لُاصول وفروع الأخلاق الإسلامية ، وبحثها بعض المؤلّفين والكتّاب في كتبٍ مستقلةٍ.

٢ ـ نقرأ في الكلمات القصار للإمام علي عليه‌السلام ، في نهج البلاغة ، عند ما سُئل الإمام عليه‌السلام عن الإيمان ، (يتبيّن من ذيل الحديث ، أنّ المقصود من الإيمان هو الإيمان العلمي والعملي ، الذي يشمل الاصول الأخلاقيّة).

أجاب الإمام عليه‌السلام :

«الإيمانُ عَلَى أَربَعِ دَعائِمَ ، عَلَى الصَّبْرِ واليَقِينِ وَالعَدلِ وَالجِهادِ».

ثم أضاف قائلاً : «والصَّبرُ مِنْها عَلَى أَربَعِ شُعَبٍ ، عَلَى الشَّوقِ وَالشَّفَقِ وَالزُّهدِ وَالتَّرَقُبِ».

(الإشتياق للجنّة والمنح الإلهيّة ، والخوف من العقاب والنّار ، دافعٌ للأعمال الصّالحة ورادع عن السيئات). والزّهد بالدنيا وزبرجها يهوّن المصائب ، وإنتظار الموت ونهاية الحياة ، تحثّ الإنسان لِفعل الأعمال الصّالحة.

وبعدها يضيف عليه‌السلام :

«واليَقِينُ مِنها عَلَى أَربَعِ شُعَبٍ ، عَلى تَبصِرَةِ الفِطْنَةِ وَتَأَوُّلِ الحِكْمَةِ وَمَوعِظَةِ العِبرَةِ وَسُنَّةِ الأَوَّلِينَ».

ثمّ أضاف عليه‌السلام :

«وَالعَدْلُ مِنها عَلَى أَربَعِ شُعَبٍ ، عَلَى غَائِصِ الفَهمِ ، وَغَورِ العِلمِ ، وَزُهْرَةِ الحُكْمِ ، وَرَساخَةِ الحِلْمِ».

وقال عليه‌السلام خِتاماً :

__________________

١ ـ أصول الكافي ، ج ١ ، ص ٢٠ إلى ٢٣ ، ح ١٤.

٩٥

«وَالجِهادُ مِنها عَلَى أَربَعِ شُعَبٍ ، عَلَى الأمرِ بِالمَعرُوفِ والنَّهِي عَنِ المُنكَرِ ، والصِّدقِ فِي المَواطِنِ ، وَشَنآنِ الفَاسِقِينَ».

وبعدها يبيّن شعب الكفر ، ويشرحها واحداً تَلْو الآخر (١).

فكما تلاحظون أنّ الإمام علي عليه‌السلام ، رسم الاصول الإسلامية للإيمان والكفر ، بدقّةٍ متناهيةٍ ، وآثارها في المحتوى الداخلي للإنسان وعلى سلوكه الخارجي ، والتي تشمل الأخلاق العمليّة ، فذكر لكلّ فرعٍ ، فرعاً آخر ، وتحليل هذه الجزئيات يتطلب كتابة مقالة اخرى.

٣ ـ نقرأ في حديثٍ آخر عن الإمام علي عليه‌السلام :

«أَربَعٌ مَنْ اعطِيهُنَّ فَقَدْ اوتِيَ خَيرَ الدُّنيا والآخِرَةِ ، صِدقُ حَدِيثٍ وَأَداءُ أَمانةٍ ، وَعِفَّةُ بَطنٍ وَحسنُ خُلُقٍ» (٢).

٤ ـ ـ وجاء في حديثٍ آخر عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، في نفس هذا المعنى ، بتلخيصٍ أكثر ، حيث جاء إليه أحد الأشخاص ، وطلب منه أن يُعلّمه أمراً يكون فيه خير الدنيا والآخرة ، وبشكلٍ موجز ، فقال الإمام عليه‌السلام في معرض جوابه : «لا تِكْذِب تَكِذْبَ» (٣).

والحقيقة هي كذلك ، لأنّ جذور كلّ الفضائل تمتد إلى حديث الصّدق ، فالإنسان لا يكذب على الناس ولا على نفسه ولا على الله تعالى ، وعند ما يقول في صلاته : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ، ينبغي أن لا يكون فيها كاذباً أبداً ، بل يبتعد عن كلّ ما هو شيطاني ، وهوى النفس ، وتكون حركته في دائرة خضوعه وتسليمه لله فقط ، ولا يعتمد على المال والجاه والقدرة والمقام ، ويترك ما سوى الله تعالى ويكون إعتماده الأوّل والأخير على لطف الله تعالى ومعونته ، فإذا أصبح الإنسان كذلك ، فسوف يعيش الحياة المعنويّة في جميع فروع واصول الأخلاق.

__________________

١ ـ الكلمات القصار ، نهج البلاغة ، الكلمة ٣١ (مع التلخيص) وكذلك في اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٣٩١ ، باب دعائم الكفر وشعبه.

٢ ـ غرر الحكم.

٣ ـ تحف العقول ، ص ٢٦٤.

٩٦

٥ ـ ونقرأ في الرّوايات الإسلاميّة تعابير مثل : «أفضل الأخلاق» ، أو «أكرم الأخلاق» ، أو «أحسن الأخلاق» ، أو «أجمل الأخلاق» ، وفي هذه إشارةٌ اخرى لأقسامٍ مهمّةٍ من الاصول الأخلاقيّة ، منها :

سئل الباقر عليه‌السلام عن أفضل الأخلاق ، فقال : «الصَّبرُ والسّماحَةُ» (١).

وفي حديثٍ آخر عن الإمام علي عليه‌السلام ، قال :

«أَكْرمُ الأَخلاقِ السَّخَاءُ وَأَعمُّها نَفعاً العَدْلُ» (٢).

وفي حديث آخر عن الإمام علي عليه‌السلام أيضاً ، قال :

«أَشْرَفُ الخِلائِقِ التَّواضُعُ والحِلمُ وَلِينُ الجانِبِ» (٣).

وفي حديثٍ آخر عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، حيث سئل :

«أَيُّ الخِصالِ بِالمَرءِ أَجْمَلُ فَقالَ : وِقارٌ بلا مَهانَةٍ ، وَسَماحُ بِلا طَلَبِ مُكافَاةٍ ، وَتَشاغُلٌ بِغَيرِ مَتاعِ الدُّنيا» (٤).

٦ ـ أيضاً في حديثٍ عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، بيّن فيه اصول الأخلاق السّيئة ، وعبّر عنها باصول الكفر ، فقال :

«اصُولُ الكُفرِ ثَلاثَةٌ : الحِرصُ ، والاستِكبارُ وَالحَسَدُ».

وأردف قائلاً في بيان وتوضيح الاصول الثلاثة :

«فَأَمّا الحِرصُ فإِنَّ آدَمَ حَينَ نُهِيَ عَنِ الشَّجَرَةِ حَمَلَهُ الحِرصِ أَنْ أَكَلَ مِنها ، وَأَمَّا الإِستِكبَارُ فَإبِلِيسُ حِينَ امِرَ بِسُّجُودِ لآدَمَ إِستَكبَرَ ، وَأَمّا الحَسَدُ فَإبنا آدَمَ حَيثُ قَتَلَ أَحَدَهُما صاحِبَهُ» (٥)

__________________

١ ـ بحار الأنوار ، ج ٣٦ ، ص ٣٥٨.

٢ ـ غرر الحكم.

٣ ـ المصدر السابق.

٤ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٢٤٠.

٥ ـ اصول الكافى ، ج ٢ ، ص ٢٨٩.

٩٧

وعلى هذا الأساس فإنّ مصدر جميع المصائب الكبرى ، التي حدثت في عالم الإنسانية ، منذ صدر الخليقة ، هي هذه الصّفات الثّلاثة ، فالحِرص : طرد آدم من الجنّة ، والاستكبار : طرد إبليس عن ساحة القدس إلى الأبد ، والحسد : هو أساس كلّ قتلٍ وجنايةٍ حدثت في العالم

٧ ـ ونختم كلامنا هذا بحديثٍ عن الرّسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله قال ، الإمام الصادق عليه‌السلام ، أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله قال :

«إِنَّ أَوَّلَ مَنْ عُصِيَ اللهُ عزَّ وجَلَّ بِهِ سِتٌّ : حُبُّ الدُّنيا ، وَحُبُّ الرِّياسَةِ ، وَحُبُّ الطَّعامِ ، وَحُبُّ النَّومِ ، وَحُبُّ الرَّاحَةِ ، وَحُبُّ النِّساءِ» (١).

لقد تبيّن من مجموع ما ذكر آنفاً ، اصول الفضائل والرّذائل الأخلاقيّة ، ولكن وكما يُستفاد من مجموع الرّوايات ، أنّه لا يوجد عدد خاص ومعيّن ، لهذه القيم والمبادىء الأخلاقية ، لأنّ الأخلاق الحسنة والقبيحة ، لها دوافع ومقاصد متعدّدة ومتنوعة ومختلفة ، أو بعبارة اخرى : كما أنّ الصّفات الجسميّة للإنسان ، لا عدد ولا حصر لها ، فكذلك الصّفات الروحانيّة ، والملكات الأخلاقيّة الصّالحة والطّالحة ، لا عدد ولا حصر لها.

__________________

١ ـ بحار الأنوار ، ج ٦٩ ، ص ١٠٥ ، ح ٣.

٩٨

٧

إرتباط المسائل الأخلاقيّة مع بعضها

تنويه :

غالباً ما تكون الفضائل الأخلاقيّة ، مترابطةٌ في ما بينها برابطةٍ وثيقةٍ ، كما هو الحال في الرّذائل وعلاقتها الوثيقة مع بعضها ، وعلى هذا يصعب التّفكيك والفصل بينها في الغالب.

وهذا التّرابط قد يكون بسبب الجُذور المشتركة بينها ، وربّما يكون بسبب الّثمرات المترتبة عليها ونتائجها في حركة الإنسان والحياة.

وفي القسم الأول ، وهو البحث في الجذور المشتركة بين القيم في المنظومة الأخلاقية ، لدينا أمثلةٌ واضحةٌ ، ففي كثير من الموارد ، تكون الغيبة وليدة الحسد ، ويسعى الحسود دائما لفضح وتعرية محسوده ، والإستهانة بشخصيته من موقع التّهمة والافتراء والتّكبر ، والتّحرك على مستوى تحقير وتهميش الآخرين ، فكلّ هذه الرّذائل يمكن أن تكون من إفرازات الحسد أيضاً.

وبالعكس ، فمن كان يعيش علوّ الهمّة ، وسمّو الطبع ، فسوف لا يقف في مقابل الشهوات الرخيصة والطمع فيها فحسب ، بل تكون لديه حصانةٌ ضدّ : الحسد والكِبر والغرور والتملّق ، أيضاً.

وبالنسبة للنتائج والثمرات ، نرى هذا الإرتباط بصورةٍ أوضح ، فالكذب يمكن أن يكون مصدراً لأكاذيب اخرى ، وربّما ولتوجيه أخطائه وذنوبه ، يرتكب الشخص أخطاءً اخرى ، و

٩٩

يتحرك لُممارسة جرائم عديدة في عمليّة التّغطية على جُرمه الأول ، وبالعكس ، فإنّ العمل الأخلاقي مثل الأمانة ، من شأنه أن يولّد المحبّة والصّداقة والتعاون والارتباط الوثيق بين أفراد المجتمع.

ويوجد لدينا في الرّوايات إشارات إلى هذا المعنى ، فنقرأ في حديثٍ عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، أنّه قال :

«إذا كَانَ في الرَّجُلِ خَلَّةٌ رائِعةٌ فانتَظِر أَخَواتِها» (١).

وفي حديثٍ آخر عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، أنّه قال :

«إنَّ خِصالَ المَكارِمِ بَعضُها مُقَيَّدٌ بِبَعضِها».

وأشار في ذيل هذا الحديث :

«صِدْقُ الحَدِيثِ وَصِدْقُ البَأسِ وإِعطاءُ السَّائِلِ وَالمُكافَاتُ بِالصَّنَائعِ وأَداءُ الأَمانَةِ وَصِلَةُ الرَّحِمِ وَالتَّوَدُّدَ إِلى الجارِ والصَّاحِبِ وقِرى الضَّيفِ وَرَأسُهُنَّ الحَياءُ» (٢)

وفي الواقع فإنّ الحياء ، وهو روح النّفور من الذّنب والقّبائح ، يمكن أن يكون مصدراً لجميع الأفعال الأخلاقية المذكورة أعلاه ، كما أنّ الصّدق يُقرّب الإنسان للأمانة ، ويعمّق فيه روح التّصدي للقبائح ، ويثير في أعماق وجدانه ، عناصر الخير والمحبّة مع الأقارب والأصدقاء والجيران.

ونقرأ في حديثِ ثالثٍ عن الإمام الباقر عليه‌السلام ، أنّه قال :

«إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ للشِّرِّ أَقفَالاً وَجَعَلَ مَفاتِيحَ تِلكَ الأَقفَالِ الشَّراب ، وَالكِذْبُ شَرٌّ مِنَ الشَّرابِ» (٣).

وفيه إشارةٌ إلى أنّ الكذب ، يمكن أن يكون مصدراً لأنواعٍ كثيرةٍ من الآثام والذّنوب.

وجاء ما يشبه هذا المعنى ، في حديثٍ عن الإمام العسكري عليه‌السلام ، فقال :

__________________

١ ـ بحار الأنوار ، ج ٦٦ ، ص ٤١١ ، ح ١٢٩.

٢ ـ المصدر السابق ، ص ٣٧٥.

٣ ـ المصدر السابق ، ج ٦٩ ، ص ٢٣٦ ، ح ٣.

١٠٠