الأخلاق في القرآن - ج ١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأخلاق في القرآن - ج ١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : الأخلاق
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8139-05-9
ISBN الدورة:
964-8139-27-X

الصفحات: ٣٥٢

وتناولت «الآية الخامسة» ، إفرازات ونتائج ، الإعراض عن ذكر الله تعالى في حركة الإنسان ، قال تعالى : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى).

فعذابهم بالدّنيا أنّهم يعيشون ضنك العيش ، وفي الآخرة العمى ، وفَقد البَصر!.

فضنك العيش ، ربّما يكون بتضييق الرّزق على من يعيش الغفلة عن ذكر الله تعالى ، أو ربّما بإلقاء الحرص على قلب الغني ، فيتحرك في تعامله مع الآخرين ، من مَوقع الطّمع والبُخل ، فلا يكاد يُنفق درهماً في سبيل الله ، ولا يعين فقيراً ولو بشقّ تَمرةٍ ، فيكون مِصداق حديث أمير المؤمنين عليه‌السلام ، حيث يقول : «يَعِيشُ فِي الدُّنيا عَيْشَ الفُقَراءَ وَيُحاسَبُ فِي الآخِرَةِ حِسابَ الأَغِنياء» (١).

ففي الحقيقة أنّ أغلب الأغنياء وبسبب حرصهم الشّديد على النّفع المادي ، يعيشون في حالة قلقٍ دائمةٍ ، ولا ينتفعون من أموالهم بالقدر الكافي ، وتكون عليهم حسرات في الدّنيا والآخرة.

ولكن لماذا يُحشر أعمى؟

وَلَربّما لِتشابُه الأحداث هناك ، مع الأحداث في الدنيا ، فالغافل عن ذكر الله تعالى في الدنيا ، ولإعراضه عن الحقيقة وآيات الله تعالى ، وتَجاهله لدواعي الحقّ والخير في باطنه ، فإنّه لا يرى الحقّ بعين البصيرة ، في حركة الحياة والواقع ، ولذلك سوف يُحشر أعمى في عَرصات القِيامة.

كيف يكون ذِكر الله؟

فسّرت الكثير من الرّوايات الإسلاميّة ، ذِكر الباري تعالى : «بالحج» ، وَوَرد في البعض الآخر ، أنّ الذّكر هنا : بمعنى الولاية لأمير المؤمنين عليه‌السلام.

والحق أنّ الإثنين هما مِصداقان من مَصاديق ذكر الله تعالى ، فالحجّ هو مجموعةٌ من

__________________

١ ـ بحار الأنوار ، ج ٦٩ ، ص ١١٩.

٣٠١

الأعمال والسّلوكيات ، تذكّر بالله تعالى ، وكذلك علي عليه‌السلام ، فذِكره والنّظر إليه عبادةٌ ، تُعمّق في الإنسان روح الإيمان ، وتُذكّره بالله تعالى.

«الآية السّادسة» : خاطبت الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، من موقع النّهي عن طاعة الأشخاص الذين يعيشون في غفلةٍ ، وحثّته على معاشرة الّذين يذكرون ربّهم ، صباحاً وبِالغَداة والعَشِي ، ولا يريدون إلّا الله تعالى ، فقال تعالى :

(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً).

ومن المعلوم أنّ الله سبحانه وتعالى ، ما كان ليعذّب أحداً بالغفلة عن ذكره ، بل لأنّ مثل هؤلاء الأشخاص ، ينطلقون في تعاملهم مع الحقّ ، من موقع العناد والّتمرد والتّكَبّر والتعصّب لِلباطل.

وبناءاً عليه ، فإنّ القصد من الإغفال هو سلب نعمة الذّكر منه ، لِيلاقي جزاءه في الدّنيا قبل الآخرة ، ولهذا ، فإنّ ذلك لا يستلزم الجَبر.

ولا نرى أحداً من هذه الجماعة ، إلّا مُتّبعاً لِهواه ، مُتّخذاً سبيل الإفراط والتَّفريط في كلّ فعاله ، لذلك تعقّب الآية قائلةً : (وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً).

ويُستفاد من هذه الآية ، أنّ الغفلة عن ذِكر الله تعالى ، تؤثّر سلباً في أخلاق وروح الإنسان ، وتُؤدّي به إلى وادي الأهواء ، وتجرّه إلى منحدرِ الأنانية.

نعم ، فإنّ روح وقلبَ الإنسان ، لا يسع إثنان ، فإمّا «الله تعالى» ، وإمّا «هوى النّفس» ، ولا يمكن الجمع بينهما.

فالهَوى هو مصدر الغَفلة عن الله تعالى ، وخلقه ، وسَحق جميع القِيم والاصول الأخلاقية ، وبالتّالي فإنّ هَوى النّفس ، يغرق الإنسان في عُتمة ذاته الضّيقة ، ويُعمي بصره عن كلِّ شيءٍ يدور حوله في واقع الحياة ، والإنسان الذي يتحرّك من موقع الهَوى ، لا يرى إلّا إشباع شَهواته ،

٣٠٢

ولا مفهوم عنده لمفاهيم أخلاقيّة ، مِثلَ : صلة الرحم وَالمُروّة والإيثار.

«الآية السابعة» : خاطبت الرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً ، من موقع التّحذير ، عن مُخالطة المُعْرِض عن ذِكر الله تعالى ، فقالت : (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا).

في تفسير «ذِكر الله» ، قال البعض : أنّ المراد منها في هذه الآية ، هو القرآن الكريم ، وإعتبرها البعض الآخر ، إشارةً لِلأدلّة العقليّة والمنطقيّة ، وقال آخرون ، أنّها الإيمان ، والظّاهر أنّ ذكر الله تعالى ، له مفهومٌ واسعٌ يشمل كلّ ما ذُكر آنفاً.

وذَكر آخرون ، أنّ هذه الآية تدعو لترك جهاد هؤلاء ، ولهذا السّبب ، نُسخت بآيات الجهاد التي نزلت بعدها ، والحقّ أنّه لا نَسخ في البَيّن ، وكلّ ما في الأمرِ ، أنّها تمنع من مُجالسة الغافلين عن ذِكر الله تعالى ، ولا مُنافاة بينها وبين مسألة الجهاد بشرائطها الخاصة.

وأخيراً تبيّن هذه الآية ، العلاقة والرّابطة الوثيقة بين : «حبّ الدنيا» و «الغفلة عن ذِكر الله» ، فكَما أنّ ذِكر الله تعالى له خصائصه ، ومعطياته الإيجابية على الإنسان ، على مستوى تَقوية عناصر الفضيلة وترشيد القيم الأخلاقيّة ، فكذلك الغفلة لها آثارها ، ونتائجها السلبيّة على روح الإنسان ، على مستوى تقوية عناصر الشّر والرذيلة فيها.

«الآية الثّامنة» : خاطبت جميع المؤمنين ، ودعتهم إلى ذِكر الله تعالى ، والخروج من دائرة الظّلمات إلى دائرة النّور ، فتقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً* وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً* هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً)».

والجدير بالذّكر في هذا الأمر ، أنّ الآية الكريمة ، بعد الأمر بالذّكر الكثير ، والتّسبيح له بكرةً وأصيلاً ، تخبرنا عن أنّ الله تعالى ، سيصلّي هو وملائكته علينا ، ويخرجنا من الظّلمات إلى النّور ، ألَيسَ ذلك هو هدفنا في حركة الحياة ، أَلَيس ذلك هو مُبتغانا من الإلتزام في خطّ الرّسالة ، وكلّ ما نريده هو ، أنّ الذّكر وصلاة الربّ والملائكة علينا ، سيزرع فينا روح التّوفيق

٣٠٣

لِلطاعة والسّير في طريق الخَير ، ويقلع من واقعنا بذور الشرّ ، وجذور الفساد ، ولتحل محلّها عناصر الفَضيلة والنّسك والأخلاق الحميدة؟!.

وقد وَرد في تفسير الميزان ، أنّ ذيل الآية الكريمة ، هو بِمنزلة التبيّن لعلّة الأمر ، ب : «الذّكر الكثير» ، وهو يؤيّد ما أشرنا إليه آنفاً (١).

وقد وَردت تفاسيرٌ مختلفةٌ ، وآراءٌ مُتغايرةٌ لعبارة : «الذّكر الكثير» ، فقال بعضهم ، أن لا يُنسى الله تعالى في كلّ وقتٍ ومكانٍ.

وقال بعضٌ آخرٌ أنّه الذّكر والتّسبيح ، بأسماء وصفات الله الحُسنى.

وذكرت روايات اخرى ، أن المقصود به ، هو التّسبيحات الأربعة ، أو تسبيح الزّهراء عليها‌السلام.

وقال إبن عباس : كلّ أوامر الله تعالى تنتهي إلى غايةٍ ما ، إلّا الذّكر فلا حدّ له أبداً ، ولا عُذر لتاركه أبداً.

وعلى كلّ حالٍ ، فإنّ «الذّكر الكثير» ، له مفهومٌ واسعٌ ، ويمكن أن يجمع بين طيّاته كلّ ما ذكر آنفاً.

أمّا ما ذكر من ، «الظّلمات» و «النّور» في هذه الآية ، فما المقصود منه؟.

إختلفوا في تفسيرها أيضاً ، فقال البعض أنّها الخُروج من ظلمات الكفر إلى الإيمان ، وقال الآخرون ، أنّها الخروج من ظلمات عالم المادة ، إلى نور الأجواء المعنويّة والرّوحانية ، وقال بعضٌ آخر ، إنّها الخروج من ظلمات المعصية إلى نور الطّاعة ، ولا تَنافي في البَين هنا.

إضافةً إلى أنّها ، تشمل الخروج من ظلمات الرّذائل الأخلاقيّة إلى نور فضائلها ، وهي أهمّ معطيات ذِكر الله جلّ شَأنه.

«الآية التّاسعة» : حذّرت المؤمنين من نتائج مُعاقرة الخَمرة والقِمار ، فقال تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ).

فذكرت هذه الآية ، ثلاثة مفاسد لِشرب الخمر والمقامرة :

إيقاع العداوة بين النّاس ، والردع والصدّ عن ذكر الله ، وعن الصّلاة ، ويستفاد من ذلك أنّ

__________________

١ ـ تفسير الميزان ، ج ١٦ ، ص ٣٢٩ ، ذيل الآية المبحوثة.

٣٠٤

ذكر الله ، كالصّلاة والمحبّة بين النّاس ، أمرٌ ضروري وحياتي للإنسان في واقعه النّفسي ، والحِرمان منه ، يعتبر خَسارةً كُبرى لا تُعوّض.

بالإضافة إلى أنّه يستفاد من جوِّ الآية ، وجود علاقةٍ بين : «الغفلة عن ذِكر الله ، والصّلاة» ، و «ظهور العداوة والشّحناء والمفاسد الأخلاقيّة الاخرى» ، وهذا هو بيت القصيد ، وما نُريد التّوصل إليه.

وفي «الآية العاشرة» : والأخيرة ، أشارةٌ إلى رجالٍ ، أحاطهم الله تعالى بأنوارِ قُدسه ، في بيوتٍ ليس فيها إلّا ذِكرُه وتَسبيحُه والتّقديسُ له ، وهي الآية : (٣٦ و ٣٧) من سورة النّور ، فقالت : (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ ، * رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ ...).

وبناءً عليه ، فإنّ أوّل خُصوصيات الرّجال الإلهيين : هو المُداومة على ذِكر الله في أي وقتٍ وفي كلّ مكانٍ ، حيث لا تغرّهم الدّنيا ، بغرورها وزخارفها وملاهيها الجميلة الخدّاعة ، وهو أسمى إفتخار يعيشونه في واقعهم.

ثم تذكر الآية ، خصوصيّات اخرى ، لهؤلاء المؤمنين في دائرة السّلوك الدّيني ، من قبيل إقامة الصّلاة وإيتاء الزّكاة.

النّتيجة :

نستنتج ممّا ذُكر آنفاً من الآيات الكريمة ، والآيات الاخرى التي لم نذكرها تجنّباً لِلأطالة ، أن ذكر الله تعالى يورث الإنسان إطمئنان القَلب ، ويَنهى عن الفحشاء والمنكر ، ويزّود النّفس بالقُدرة والقُوّة الّلازمة ، في مقابل التّحديات الصّعبة لِلعدو الدّاخلي والخارجي ، ويميت الرّذائل الأخلاقيّة في قلب الإنسان ، كالحِرص والبُخل وحبّ الدنيا ، الذي هو رأس كلّ خطيئةٍ.

فلا ينبغي للسّائر في خطّ التّقوى والإيمان ، أن يغفل عن هذا السّلاح الفعّال ، فهو الدّرع

٣٠٥

الحصين لكلّ من يريد أن يتحرّك ، على مستوى تهذيب النّفس وتربية عناصر الفضيلة فيها ، وهو السدّ المنيع للمؤمنين ، مقابل قوى الشّر والانحراف ، وسلاحهم الذي يمدّهم بالقوّة والعزيمة ، في مقابل الأعداء ، والأخطار التي تحدق بهم في هذه الدنيا ، المليئة بالوُحوش الضّارية الكاسرة ، التي لا تعرف الرّحمة والشّفقة ، وليكن ذِكرُهم للهِ كَذِكرهم لأنفسهم ، بل أشدّ وأقوى.

علاقة ذِكر الله ، بِتهذيب النّفوس في الأحاديث الإسلاميّة :

إنّ إستعراض الكلام ، عن أهميّة ذِكر الله في الأحاديث الإسلاميّة ، لا يتّسع له هذا الُمختصر ، وما نَبتغيه في هذا المجال ، هو أنّ ذكرَ الله ، يعدّ من العوامِلَ المهمّة في تهذيب النّفوس وتشذيب الأخلاق وبناء الرّوح ، وقد أغنتنا الرّوايات في هذا المجال ، وما وَرد عن المعصومين الأربعة عشر ، إلى ما شاء الله ، ولكنّنا نختار منها ما يلي :

١ ـ نقرأ في حديثٍ عن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، أنّه قال : «مَن عَمَّرَ قَلْبَهُ بِدَوامِ الذِّكرِ حَسُنَتْ أَفْعالُهُ في السِّرِّ وَالجَهْرِ» (١).

فقد بيّن الحديث الشّريف ، هذه العلاقة والرّابطة بوضوحٍ تامٍّ.

٢ ـ نقرأ في حديثٍ آخر عن الإمام عليه‌السلام نفسه ، حيث قال : «مُداومَةُ الذِّكرِ قُوتُ الأَرواحِ وَمِفْتاحُ الصَّلاحِ» (٢).

٣ ـ وعنه عليه‌السلام أيضاً ، قال : «أصلُ صلاحِ القَلبِ إِشتِغالُهُ بِذِكْرِ اللهِ» (٣).

٤ ـ وأيضاً في حديث آخر عنه عليه‌السلام ، قال : «ذِكرُ الله دَواءُ أَعلالِ النُّفُوسِ» (٤).

٥ ـ وعنه عليه‌السلام ، قال : «ذِكرُ اللهِ رَأسُ مالِ مُؤمِنٍ ، وَرِبْحُهُ السَّلامَةُ مِنَ الشَّيطانِ» (٥).

__________________

١ ـ تصنيف دُرر الحِكم ، ص ١٨٩ ، الرقم ٣٦٥٨.

٢ ـ المصدر السّابق ، الرقم ٣٦٦١.

٣ ـ المصدر السّابق ، ص ١١٨ ، الرقم ٣٦٠٨.

٤ ـ المصدر السّابق ، ص ١٨٨ ، الرقم ٣٦١٩.

٥ ـ المصدر السّابق ، الرقم ٣٦٢١.

٣٠٦

٦ ـ وأيضاً عن هذا الإمام الهمام عليه‌السلام ، أنّه قال : «الذِّكْرُ جَلاءُ البَصائِرِ وَنُورُ السَّرائِرِ» (١).

٧ ـ وأيضاً عن إمام المتقين عليه‌السلام ، قال : «مَنْ ذَكَرَ اللهَ سُبحانَهُ أَحيَى قَلبَهُ وَنَوَّرَ عَقْلَهُ وَلُبَّهُ» (٢)

٨ ـ وأيضاً عن الإمام نفسه عليه‌السلام ، أنّه قال : «إسْتَديمُوا الذِّكْرَ فَإنَّهُ يُنِيرُ القَلبَ وَهُوَ أَفْضَلُ العِبادَةِ» (٣)

٩ ـ وَرد في «ميزان الحكمة» ، عن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، أنّه قال : «اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً خالِصاً ، تَحْيُوا بِهِ أَفْضَلَ الحَياةِ وَتَسْلُكُوا بِهِ طُرُقَ النَّجاةِ» (٤).

١٠ ـ وَوَرد عن الإمام علي عليه‌السلام في نهج البلاغة ، في وصيّته المعروفة لإبنه الإمام الحسن عليه‌السلام ، أنّه قال : «اوصِيكَ بِتَقوَى اللهِ يا بُنَيَّ! وَلُزُومِ أَمْرِهِ وَعِمارَةِ قَلْبِكَ بِذِكْرِهِ» (٥).

١١ ـ وَرد في غُرر الحِكم ، عن مولى الموحدين أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام ، قال : «ذِكْرُ اللهِ مَطْرَدَةُ لِلشَّيطانِ».

١٢ ـ وَلِحُسن الخِتام ، نَختم هذا البحث ، بحديثٍ عن الرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإن كانت هناك رواياتٌ وافرةٌ لا يسعها هذا المختصر ، قال : «ذِكْرُ اللهِ شِفاءُ القُلُوبِ» (٦).

ونَستلهم ممّا ذُكر آنفاً ، أنّ ذِكر الله تعالى ، له علاقةٌ وثيقةٌ وقريبةٌ جدّاً بتهذيب النّفوس ، فهوُ ينَوّر القلب ، ويجلو الرّوح من عناصر الكِبَر والغُرور والبخل والحَسد ، والأهمّ من ذلك أنّه يطرد الشّيطان الرجيم ، من واقع الإنسان الدّاخلي ، وَيُعيد لِلنفس ثِقتها.

وعلى حدِّ تعبير بعض العلماء الأكارم ، أنّ القلب لا يَخلو من أمرين ، لا يجتمعان في مكانٍ واحدٍ ، فإمّا أن يتّجه لِذكر الله سُبحانه وتعالى ويغذيه بنوره ويطرد منه الظّلمات والشّيطان ، وإمّا أن يكون مَرتعاً ومَلعباً لِلشَيطان الرّجيم ووساوسه ، يوجهه حيث يشاء.

ومن جهةٍ اخرى ، فإنّ الذّات المقدسة هي مصدر لكلِّ الكمالات ، وذكر الله تعالى يُؤدّي

__________________

١ ـ تصنيف دُرر الحِكم ، ص ١٨٩ ، الرقم ٣٦٣١.

٢ ـ المصدر السّابق ، لرقم ٣٦٤٥.

٣ ـ المصدر السّابق ، الرقم ٣٦٥٤.

٤ ـ ميزان الحكمة ، ج ٢ ، ص ٦٩ الطبعة الجديدة.

٥ ـ نهج البلاغة ، الكتاب ٣١.

٦ ـ كنز العمّال ، ح ١٧٥١.

٣٠٧

إلى أنّ الإنسان يقترب من ذلك المصدر في كلّ يومٍ ، وبالتّالي يتحرك في طريق الإبتعاد عن الرّذائل الأخلاقيّة والأهواء النّفسانية ، التي تنبع من النّقص المعنوي في واقع النّفس.

وبناءً على ذلك يجب الإستعانة بهذا السّلاح الماضي ، والنّور المخترق لِلظلمات ، لِلعبور من متاهات هذا الطّريق الموحش المُظلم ، المحفوف بالأخطار الجسيمة ، إلى جادّة السّلام ، والكمال الإلهي في عالم النّفس ، ممّا يورث إستقرارها وإتّصالها ببارئها.

ونُكمِّل بحثنا بثلاثِ نقاطٍ ، وملاحظاتٍ ، لا تخلو من فائدة :

١ ـ ما هي حقيقة الذِّكر

يقول «الرّاغب» في كتاب «المُفردات» : إنّ الذِّكر له مَعنيان ، فمرّةً حضور الشّيء في الذّهن ، ومرّةً بمعنى حفظِ المَعارف والإعتقادات الحقّة في باطن الرّوح.

وقال الأعاظم من علماء الأخلاق : إنّ «ذكرَ الله تعالى» ، ليس هو لِقَلقَةِ لِسانٍ ، أو مجرّد التّسبيح والتّحميد والتّهليل والتّكبير ، في دائرة الألفاظ والكلمات ، بل هو التّوجه الحقيقي للهِ تعالى ، والإذعان لِقُدرته والإحساس بوجوده أينَما كُنّا.

ولا شكّ أنّ مِثلَ هذا الذّكر هو المطلوب ، وهو الغاية القصوى والدّافع للإتجاه نحو الحسنات ، والإعراض عن السّيئات والقَبائح.

ولذلك نقرأ عن الرّسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديثٍ في هذا المضمار :

«وَلَيْسَ هُوَ سُبحانَ اللهِ وَالحَمْدُ للهِ وَلا إِلهَ إِلّا اللهِ وَاللهُ أَكْبرُ ، وَلَكِنْ إِذا وَرَدَ عَلى ما يَحْرُمُ عَلَيهِ ، خافَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ عِنْدَهُ وَتَرَكَهُ» (١).

ونقل ما يقرب لهذا المعنى في حديث عن الإمامين : الصّادق والباقر عليهما‌السلام (٢).

ونقل حديث آخر عن علي عليه‌السلام ، أنّه قال : «الذِّكْرُ ذِكْرانِ : ذِكْرٌ عِنْدَ المُصِيبَةِ ، حَسَنْ جَمِيلٌ وَأَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ ذِكْرُ اللهِ عِنْدَ ما حَرَّمَ اللهُ عَلَيكَ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ حاجِزاً» (٣).

__________________

١ ـ بحار الأنوار ، ج ٩٠ ، ص ١٥١ ، ح ٤.

٢ ـ المصدر السّابق ، ح ٥ و ٦.

٣ ـ المصدر السّابق ، ج ٧٥ ، ص ٥٥.

٣٠٨

ونستنتج من ذلك ، أنّ الذّكر الحقيقي ، هو الذّكر الذي يترك أثره الإيجابي في أعماق روح الإنسان ، ويفعّل إتجاهاته الفكريّة والعمليّة في خطّ التّقوى والإلتزام الدّيني ، ويربّي في النّفس والرّوح ، عناصر الخير والصّلاح ، ويدعو الإنسان إلى الله العزيز الحكيم.

ومن يذكر الله تعالى على مستوى اللّسان ، ويتبع الشّيطان على مستوى المُمارسة والعمل ، فهو ليس بِذاكِرٍ حقيقي ، ولا يذكر الله من موقع الإخلاص ، بل هو كما قال الإمام علي بن موسى الرّضا عليه‌السلام : «مَنْ الذِّكْرِ ولَمْ يَسْتَبِقْ إِلى لِقائِهِ فَقَدْ إسْتَهزَءَ بِنَفْسِهِ» (١).

٢ ـ مراتب الذّكر

ذكر علماء الأخلاق ، أن ذّكر الله تعالى ، على مراتب ومراحل :

المرحلة الاولى : الذِّكر اللّفظي ، حيث يجري فيها الإنسان أسماء الله الحُسنى ، وصفات جَماله وجَلاله ، على لسانه ، من دون التّوجه إلى معانيها ومُحتواها ، كما يفعل كثيرٌ من المصلّين السّاهين في صلاتهم ، وهو نوع من الذّكر ، وله تأثيره المحدود على آفاق النّفس والفِكر! ولكن لماذا؟.

لأنّه أولاً : يعتبر مقدمةً لِلمراحل التّالية.

وثانياً : أنّه لا يخلو من التّوجه الإجمالي نحو الله تعالى ، لأنّ المصلي وعلى أيّةِ حالٍ ، يعلم أنّه يصلّي وهو واقفٌ بين يَدَيِّ الله تعالى ، ولكنّه لا يتوجه لما يقول بصورةٍ تَفصيليَّةٍ ، ولكن مع ذلك فهذا النّوع من الذّكر ، لا يؤثّر في حياة الإنسان ، على مستوى تهذيب النّفس وتربية الأخلاق.

المرحلة الثانية : الذّكر المعنوي ، وهو أن يلتفت الإنسان لمعاني الأذكار التي تجري على لسانه ، ومن البديهي أنّ التّوجه لمعاني الأذكار ، وخصوصيّة كلّ واحدةٍ منها ، سيعمّق الإمتداد المعنوي لمضامين الذّكر في واقع الإنسان ، وبالإستمرار والمداومة سيحسّ الذّاكر ، بمعطيات هذا الذّكر في نفسه وروحِهِ.

المرحلة الثّالثة : الذّكر القلبي ، وقالوا في تفسيره ، إنّه الإحساس الوجداني بحضور الله

__________________

١ ـ بحارالأنوار ، ج ٧٥ ، ص ٣٥٦ ، ح ١١.

٣٠٩

تعالى ، في أجواء القلب ، ثم جريان ذكر الله على اللّسان ، فعند ما يرى عجائب خلقته ، ودقائق صنعته ، من أرضٍ وسماءٍ ومخلوقاتٍ ، وما بثّ فيها من دابّةٍ ، سيقول : «العَظَمَةُ للهِ الوَاحِدِ القهَّارِ».

فهذا الذّكر نابعٌ من القلب ، وينبىءُ عن حالةٍ باطنيّةٍ في داخل الإنسان.

ومرّةَ يشهد الإنسان في نفسه ، نوعاً من الحُضور المعنوي لله تعالى ، من دون واسطةٍ ، فيترنّم بأذكارٍ ، مثل «يا سُبُّوحُ وَيا قُدُّسُ» أو «سُبحانَكَ لا إِلَهَ إِلّا أَنْتَ».

وهذا الأذكار القلبيّة ، لها دورها الفاعل في تهذيب النّفوس وتربية الفضائل الأخلاقيّة ، كما عاشت الملائكة هذا النوع من الذّكر ، عند ما شاهدوا آدم عليه‌السلام ، وسِعة علمه وإطلّاعه على الأسماء الإلهيّة ، فقالوا : (سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)(١).

وأشار القرآن الكريم ، إلى مراحلٍ من الذّكر ، فقال : (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً)(٢).

وفي مكانٍ آخر ، يقول : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ)(٣).

ففي الآية الاولى ، نجد تقريراً على مستوى التّوجه لِلذكر اللّفظي العميق ، ثم التّبتل والإنقطاع إلى الله تعالى ، أَيْ : التّحرك من موقع الإبتعاد عن الناس ، والإتصال بالله تعالى في خطّ العبادة والذّكر.

والآية الثّانية : تتحدث عن الذّكر القلبي ، الذي يؤدّي إلى أن يعيش الإنسان ، حالة التّضرع والخوف من الباري تعالى ، في أجواء الذكر الخفي ، فتتحرك عمليّة الذّكر بشكلٍ بطيءٍ من الباطن وتجري على اللّسان.

__________________

١ ـ سورة البقرة ، الآية ٣٢.

٢ ـ سورة المزّمل ، الآية ٨.

٣ ـ سورة الأعراف ، الآية ٢٠٥.

٣١٠

٣ ـ موانع الذّكر

لا توجد موانع تقف في طريق الذّكر اللّفظي ، فيمكن لِلإنسان أن يذكر أسماء وصفات الله الجماليّة والجلاليّة ، ويجريها على لِسانه في أيِّ وقتٍ شاء ، إلّا أن يكون الإنسان مُنشغلاً وغارقاً في الدّنيا ، لدرجةٍ لا يبقى وقتٌ لِلذكر اللّفظي.

أمّا الذّكر القلبي والمعنوي ، فتقف دونه موانعٌ وسدودٌ كثيرةٌ ، أهمّها ما يَكمُنْ في واقع الإنسان نفسه ، فبالرّغم من أنّ الله تبارك وتعالى ، مع الإنسان في كلِّ مكانٍ وزمانٍ ، وأقرب إلينا من كلّ شيءٍ : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)(١).

أو كما ورد في الحديث العلوي المشهور : «ما رأَيتُ شَيئاً إلّا وَرَأيتُ اللهَ قَبلَهُ وَبَعدَهُ وَمَعَهُ».

ولكن مع ذلك ، فإنّ كثيراً من أعمال الإنسان وصفاته الشّيطانيّة ، تضع الحُجب على عينه ، فلا يُحسّ بوجود الله تعالى أبداً ، من موقع الحضور والشّهود القلبي ، وكما يقول الإمام السّجاد عليه‌السلام ، في دعاء أبي حمزة الثمالي : «وإنَّكَ لا تَحتَجِبُ عَنْ خَلْقِكَ إِلّا أَن تَحجُبَهُم الأَعمالُ دُونَكَ» ، وأهم تلك الحُجب ، هي «الأنانيّة» التي تذهل الإنسان عن ذكر ربه.

فالأناني لا يعيش مع الله تعالى من موقع الوُضوح في الرّؤية ، لأنّ الأنانيّة من أنواع الشّرك التي لا تتناسب مع حقيقة التّوحيد!.

ونقرأ في حديثٍ عن عليٍّ عليه‌السلام أنّه قال : «كُلُّ ما أَلهى مِنْ ذِكْرِ اللهِ فَهُوَ مِنْ إِبلِيسَ» (٢).

وفي حديث آخر عن عليِّ عليه‌السلام أنّه قال : «كُلُّ ما أَلهى عَنْ ذِكْرِ اللهِ فَهُوَ مِنْ المَيسرِ» (٣).

ونعلم أن المَيسر ، جُعِل في القرآن الكريم ، رديفاً لعبادة الأوثان (٤).

ونختم هذا الكلام عن موقع الذّكر ، بحديثٍ عن الرّسول الأكرم ، وقد جاء في معرض تفسيره للآية الكريمة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ، لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ ، وَ

__________________

١ ـ سورة ق ، الآية ١٦.

٢ ـ ميزان الحكمة ، ج ٢ ، ث ٩٧٥ ، الطّبعة الجديدة مبحث الذّكر.

٣ ـ المصدر السّابق.

٤ ـ راجع الآية ٩٠ من سورة المائدة.

٣١١

مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ»)(١).

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «هُم عِبادٌ مِنْ امَّتي ، الصَّالِحُونَ مِنْهُم لا تُلهِيهِم تِجارَةٌ ولا بَيعْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعنِ الصَّلاةِ المَفرُوضَة الخَمْسِ» (٢).

نعم فإنّهم في كلّ حركاتهم وسكناتهم ، يبتغون وجه الله تعالى ، ولا غير.

__________________

١ ـ سورة المنافقين ، الآية ٩.

٢ ـ ميزان الحكمة ، ج ٢ ، ص ٩٧٥ ، الطبعة الجديدة.

٣١٢

١٣

القُدوات في خطّ الإستقامة

إشارة :

كلّ إنسانٍ يسعى للسّير قُدُماً ، تبعاً للُاسوة التي يتأسّى بها ، ليواكب معها ويعيش في رحابها ، وفي آفاقها الواسعةٌ ولتنعكس صفاتها في نفسه وذاته.

وبعبارةٍ اخرى ، فإنّه يوجد في قلب كلّ إنسان ، مكانٌ فارغٌ لا يشغله إلّا الأبطال والقُدوات والمُثل ، ولهذا السّبب فإنّ الامم البشريّةً تفتخر بأبطالها الحقيقييّن أو تخترع لنفسها أبطالاً من افق خيالها ، بحيث تُشكل قسماً من ثقافة الامم والشّعوب ، وأنساقاً تحتيّةً تبني عليها تأريخها ، فتفتخر ببطولاتهم وتشيد بهم في معطياتهم ، وتسعى دائماً لِلاقتداء بهم في صفاتهم وبطولاتهم.

علاوةً على أنّ (المحاكاة) ، هي أصلٌ مُسَلّم به ، من الاصول النّفسية في واقع الإنسان وحركته في الحياة ، وطبقاً لهذا الأصل والأساس ، فإنّ الإنسان يسعى ليصبغ نفسه بصِبغة الآخرين ، ويحاكيهم على مستوى الممارسة والسّلوك ، (خُصوصاً) الأبطال ، وينجذب لأعمالهم وصفاتهم التي تمثل قيماً مطلقة في وعيه وثقافته.

وهذا التّأثير والتّأثر والجذب والإنجذاب ، بالنّسبة إلى الأفراد الذين يؤمنون بالقُدوة والرّمز أقوى وأَشد.

٣١٣

وبناء على ذلك ، نجد في الإسلام أصلين مهمّين ، في دائرة المفاهيم الدينيّة ، بإسم «التّولّي» و «التبرّي».

أو بعبارةٍ اخرى : «الحبُّ في الله» و «البغض في الله» ، وكلٌّ منهما ، يحكي لنا عن حقيقةٍ مهمّةٍ في واقع الإنسان ، وتَماشياً مع هذا الأصل المهمّ في دائرة المعتقد ، فإنّه يتوجب على الإنسان المسلم ، أن يُحبّ من يحبّه الله ، ويكره من يُبغضه الله تعالى ، وأن يتّخذ من الرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والأئمّة المعصومين عليه‌السلام ، اسوةٌ له في حركته المنفتحة على الله والحقِّ.

وهذا الأمر بدرجةٍ من الأهمية ، بحيث ورد في القرآن الكريم ، أنّه من علامات الإيمان ، وفي الرّوايات الشّريفة عرّف بأنّه : «أَوثَقْ عُرى الإِيمانِ» وأنّ حركة الإنسان في خطّ الإيمان ، لا تكون مثمرةً بدون : «التّولّي» و «التّبرّي» ، ومعه سوف تقبل منه سائر العبادات والطّاعات.

وهذين الأمرين ، يعني التولّي والتبرّي ، أو الحب في الله والبُغض في الله ، هُما من أهمِّ الخُطى المؤثّرة ، على مُستوى تهذيب النّفوس والقلوب ، والسّير إلى الله تعالى في خطّ الإستقامة.

وعلى هذا الأساس ، نرى أنّ كثيراً من علماء الأخلاق ، وأرباب السّير والسّلوك ، يؤكّدون على ضرورة اتخاذ الاستاذ والمُرشد في خطّ التّربية والتّهذيب ، وسنتناوله في المستقبل إن شاء الله تعالى ، بصورةٍ وافيةٍ.

والآن نعرج على الآيات القرآنية ، لنستوحي منها ما يتعلق بمسألة التولّي والتبّري ، ودورهما في صِياغة السّلوك الدّيني للإنسان :

الآيات :

١ ـ (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ)(١).

٢ ـ (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَ

__________________

١ ـ سورة الممتحنة ، الآية ٤.

٣١٤

اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)(١).

٣ ـ (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً)(٢).

٤ ـ (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(٣).

٥ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ)(٤).

٦ ـ (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(٥).

٧ ـ (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ»)(٦).

٨ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)(٧).

تفسير وإستنتاج :

يتّضح من آيات سورة المُمتحنة ، أنّ بعض المؤمنين السّذج ، وخلافاً لأوامر الشّريعة وتعليمات الإسلام ، كانوا على علاقةٍ سريّةٍ بالأعداء.

__________________

١ ـ سورة الممتحنة ، الآية ٦.

٢ ـ سورة الأحزاب ، الآية ٢١.

٣ ـ سورة المجادلة ، الآية ٢٢.

٤ ـ سورة الممتحنة ، الآية ١٢.

٥ ـ سورة التوبة ، الآية ٧١.

٦ ـ سورة البقرة ، الآية ٢٥٧.

٧ ـ سورة التوبة ، الآية ١١٩.

٣١٥

وقد جاء في شأن النّزول للآيات الاولى من هذه السّورة الشّريفة ، وقبل فتحِ مكّة المشرّفة أنّه كتب أحد الأشخاص ، إسمه «حاطِب بن أبي بلتعة» ، لكفّار قريش رسالةً سلّمها بيد إمرأةٍ ، إسمها «سارة» ، حذّرهم فيها ، من أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، يعدّ العدّة لفتح مكّة ، فعليهم أنّ يستعدّوا لِلقتال ، فإنّ الرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قادم.

حدثِ هذا الأمر ، والرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، يتهيأ ويعدّ العدّة ، وهو يسعى حثيثاً لِئَلّا يصل هذا الخبر إلى المشركين ، حرصاً منه على أن لا تُراق في ذلك دماءٌ كثيرةُ ، وأن يتمّ الفتح بدون مقاومة ، فأخذت هذه المرأة الرّسالة ، وأخفتها في جَدائلها ، وتحرّكت مسرعةً نحو مكّة.

فأخبر الأمين جبرائيل عليه‌السلام ، الرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بالخبر ، فأرسل على أثرها الإمام علي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقال لها : أخرجي ما عندك ، فأنكرت في البداية ، ولكنّها إستسلمت أخيراً تحت واقع التّهديد بالقتل ، وسلّمت الرّسالة لِعلي عليه‌السلام ، وهو بدوره سلّمها لِلرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فأمر صلى‌الله‌عليه‌وآله بإحضار حاطِب ووبّخه كثيراً ، فإعتذر حاطب عن فعلته بأعذارٍ واهيةٍ ، لكنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله قبلها صوريّاً ، فما ورد في الآيات الاولى ، من السّورة هو تحذيرٌ للمسلمين ، لإجتناب مثل هذه الأعمال ، وبيان واحدٍ من الاصول والمباديء الإسلاميّة المهمّة ، على مستوى التّبري من الأعداء وموالاة الأولياء ، أو كما قِيل : «الحُبُّ فِي اللهِ وَالبُغْضُ فِي اللهِ».

وفي بداية السّورة ، تحرّكت الآية الكريمة لتخاطب جميع المؤمنين ، من موقع التّحذير ، من إقامة العلاقة الودّية والعاطفيّة مع الأعداء ، وقالت :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ).

ونعلم أنّه عند ما تتقاطع أواصر «المحبّة والصّداقة» مع أواصر ««العَقائد والقِيم» ، فالنّصر سيكون حليف أواصر المحبّة والصّداقة ، على حساب إهتزاز العقيدة ، وبذلك ينحدر الإنسان في خطّ البّاطل ، فما نراه من التّأكيد على : «الحُبُّ فِي اللهِ وَالبُغْضُ في اللهِ» ، أو تولّي الأولياء والتّبري من الأعداء ، نابعٌ من هذا الأساس.

ثمّ تستمر الآيات ، «وبالذّات في الآية الرابعة» ، على حثّ المسلمين على الإقتداء بإبراهيم

٣١٦

النبي عليه‌السلام ، وأصحابه المخلصين ، وأنّهم اسوةٌ حسنةٌ للمؤمنين ، الذين يتحرّكون من موقع الرسالة : (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ).

الاسوة «على وزن لُقمة» ، تحمل مَعْناً مصدرياً ، بمعنى التّأسي والاتّباع للآخرين ، وبمعنى آخر هو الإقتداء بالآخرين.

ومن البديهي أنّ هذا الأمر ، يمكن أن يكون على مُستوى الفضيلة أو الرّذيلة ، ولذلك فإنّ الآية الشّريفة ، عبّرت عن إبراهيم عليه‌السلام بأنّه قدوةٌ حسنةٌ ، لأنّه قطع كلّ أواصر المحبة ووشائج الموّدة ، التي كانت بينه وبين قومه ، في سبيل عقيدته وتوحيده لله تعالى.

يقول «الرّاغب» في «مفرداته» ، إنّ كلمة «الأسى» على وَزن (عَصا) ، وهي بمعنى الغمّ والألم ، فكلمة اسوةٌ أخذت من هذه المادة ، ويقال لِلمصاب بمصيبةٍ : «لكَ بِفلانٍ اسوةٌ».

ولكنّ بعض أرباب اللّغة ، مثل : إبن فارس في «المقاييس» ، فصّل بين المعنيين ، فقال : «أنّ الأوّل ناقصٌ (واوي) ، والثّاني ناقصٌ (يائي)» ، وعلى كلّ حالٍ فإنّ القرآن المجيد ، حثّ المسلمين على مسألة : «الحُبُّ فِي اللهِ وَالبُغْضُ فِي اللهِ» ، وجعل لهم إبراهيم عليه‌السلام قدوةً ، لأنّ إختيار القدوة الصّالحة لحركة الإنسان ، في خطّ التّقوى والإيمان ، له دورٌ عميقٌ في طهارة روح الإنسان ، وأفكاره وسلوكياته.

وهذا هو ما يؤكّد عليه علماء والأخلاق ، في عمليّة السّير والسّلوك إلى الله ، فإنّ إختيار القدوة يُعدّ أهمَّ خطوةٍ لحركة الإنسان في طريق الرّقي.

«الآية الثانية» : إستمراراً لبحثنا الآنف الذّكر ، تتحدث عن إبراهيم عليه‌السلام وصحبه ، فتقول :

(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ).

وفرّق هذه الآية عن الّتي قبلها ، في أمرين :

الأوّل : إنّ هذه الآية أكّدت على مسألة : «الحُبُّ في اللهِ وَالبُغْضُ في اللهِ» ، بأنّها من

٣١٧

علامات الإيمان بالله والمعاد.

الثاني : إنّ التّأكيد على هذا الأمر ، لا ينبع من حاجة الباري إليه ، بل هو من حاجة الإنسان إليه ، في مساره التّكاملي والمعنوي إلى الله تعالى ، ولحِفظ سَلامة المجتمع البشري في حركة الواقع والحياة.

«الآية الثّالثة» : ناظرةٌ إلى غَزوة الأحزاب ، وهي في الحقيقةِ تشيرُ إلى مُلاحظةٍ مُهمّةٍ جِدّاً ، ألا وهي : أنّ الرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبالرّغم من الأزمات النّفسية والتّحديات الصّعبة في تلك الظّروف ، وسوء ظنّ بعض المسلمين الجدد ، بالوعد الإلهي بالنّصر في ميادين الوَغى ، فإنّه بَقي صامِداً ينظّر لِلحرب ، ويستخدم أفضل التّكتيكات العسكريّة ، إنتظاراً لِلّحظة الحاسمة ، وكان ينتظر الفُرصة للإنقضاض على عدوّة ، فكان يَمزح مع أصحابه ليقوّي من معنوياتهم ، وأخذ المِعوَل بنفسه لِيحفُر الخَندق بيده ، ويُشجع أصحابه ويذكّرهم بالله تعالى وثوابه ، ويبشّرهم بالفتوحات المُقبلة العَظيمة.

وهذا الأمر تَسبّب في تماسك المسلمين ، ومقاومتهم أمامَ عدوّهم ، وجيشه الجرّار المتفوق عليهم بالعدّة والعَدَد ، بالتّالي الإنتصار عليهم ، فقال تعالى :

(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً).

فالرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لا يُتأَسّى به فقط في ميادين الجِهاد الأصغر ، بل وكذلك في ميادين الجِهاد الأكبر ، ألا وهو جهاد النّفس والتّصدي لِلأهواء المُضلّة ، من موقع المحاربة ، فَمن يتّخذِه اسوةً حسنةً في هذا المضمار ، فإنّه سيصل من أقرب الطّرق وأسرعها ، إلى غايته وهدفِه المَنشود.

والجدير بالذّكر ، أنّ هذه الآية ، علاوةً على ذكرها لِمسألة الإيمان بالله واليوم الآخر : (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ ...) ، أكّدت على ذِكر الله تعالى بجملة : (وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً). فهم يقتدون بقائدهم الربّاني ويستلهمون منه الإيمان ، وذِكر الله كثيراً حيث يحرك فيهم الذّكرُ

٣١٨

الكثيرِ ، عنصر الإهتمام للمسؤوليات التي القيت على عاتقهم ، وَمَنْ أَفضل من الرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لِيكون لهم اسوةً وقدوةً ، في خطّ الإلتزام الدّيني والأخلاقي والإنفتاح على الله؟

«الآية الرابعة» : نوهت إلى النّقطة المقابلة ، ألا وَهَي : البُغض في الله تعالى في خطّ الحقّ ، فتقول : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

فهذه الآية الشريفة ، صرّحت وأرشدت ، إلى الطريق التي يجب على المؤمن سلوكها ، عند تقاطع الطّرق ، وتضارب «العلاقة الإلهيّة» مع «العلاقات الاسريّة» ، فلو أنّ الآباء والإخوة والأقرباء ، تحرّكوا في خطّ الباطل والإنحراف والكُفر ، فإنّ طريق الله هي الجادّة الحقيقيّة ، لِلإلتحاق بالرّكب الإلهي المقدس.

وما ورد في هذه الآية ، من قوله تعالى : (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ).

ليس إلّا تأكيداً على المعنى المتقدم ، وتشجيعاً لذلك الأمرالمهم الحياتي ، أي أنّ «الحُبُّ فِي اللهِ وَالبُغْضُ فِي اللهِ» ، نابعٌ من الإيمان ، وطريق التّكامل الحقيقي في خطّ الإيمان ، السّلوك المعنوي ، وبعبارةٍ اخرى : إنّ هذين الأمرين ، يؤثّر أحدهما في الآخر بصورةٍ مُتقابلةٍ ، مع فارقٍ واحدٍ ، وهو أنّه يجب الإبتداء في عمليّة السّلوك المعنوي ، بالإيمان بالمبدأ والمعاد ، والتّكامل المعنوي يكون ، من حصّة : «الحُبُّ في اللهِ وَالبُغْضُ في اللهِ».

«الآية السّادسة» : تطرّقت لأواصر المحبّة المعنويّة بين المؤمنين ، وقالت : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ

٣١٩

وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ»).

فهذا الرّباط المعنوي ، يتّخذ من الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ، وإقام الصّلاة وإِيتاء الزّكاة ، وطاعة الله ورسوله ، أساساً ودَعامةً في صياغة السّلوك ، حيث يعين الفرد ، على إستلهام الأخلاق الحَسنة والأعمال النّافعة ، من الآخرين ، فيكون كلّ واحدٍ منهم اسوةً للآخر ، ومن أراد الإلتحاق بهذه الجماعة ، عليه أن يكون مُشابهاً لها في دائرة الفكر والسّلوك ، دون الجماعات المنحرفة الضّالة المضلّة ، التي يجب عليه البَراءة منها والإبتعاد عنها.

وفي الحقيقة ، فإنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، الذي يُعدّ عاملاً مُساعداً وفَعّالاً ، في عمليّة تهذيب وتربية النّفوس ، يدعوهم إلى الإلتزام بالإنضباط الدّيني والأخلاقي ، من موقع النّصيحة والتّواصي بالحقّ.

«الآية السّابعة» : فرّقت بين المؤمنين والكافرين ، على مستوى السّلوك في واقع الحياة ، فالمؤمنون يتّخذون من صفات جَماله وجَلاله ، اسوةً لهم في مسيرتهم المعنويّة والأخلاقيّة ، والكافرون اسوتهم الطّاغوت ، حيث تكون أعمالهم وصفاتهم إنعكاس لأِعمال وَصفات الطّاغوت ، فقالت : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).

فالخروج من الظّلمات إلى النّور ، يعتبر نتيجةً وثمرةً لِلإيمان بالله تعالى وولايته ، والخروج من النّور إلى الظّلمات ، هو من معطيات الطّاغوت وولايته.

والنّور والظّلمة هنا ، لهما مفهومٌ واسعٌ جِدّاً ، بحيث يستوعبان ، جميع الفضائل والقبائح والحسنات والسّيئات.

نَعم ، فإنّ الشّخص الذي يعيش في أجواء المَلكوت ، وفي ظلّ ولاية «الله» ، فإنّه سيبدأ رِحلته وهِجرته ، من الرّذائل إلى الفضائل ومن القبائح إلى الجَمال الرّوحي ، ومن السّيئات إلى الحسنات ، لأنّ صِفات جَماله وجَلاله ، هي اسوته الحقّة في رحلته المعنويّة.

٣٢٠