الأخلاق في القرآن - ج ١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأخلاق في القرآن - ج ١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : الأخلاق
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8139-05-9
ISBN الدورة:
964-8139-27-X

الصفحات: ٣٥٢

٣ ـ ويمكن لهذا الحديث ، أن يدلّنا على : «برهان العلّة والمعلول» ، فكلّ إنسان يَتَفكر في نفسه ، قليلاً فسوف يعرف أنّه معلول ، لعلّةٍ اخرى منذ وجوده ، وعند ما ينظر لأبيه سيراه هو أيضاً معلولاً لعلّةٍ اخرى ، وهكذا حتى يصلَ إلى علّةِ العلل ، وإلّا يلزم التسّلسل ، وبطلان التّسلسل ، أمرٌ مفروغٌ عنه لدى الحكماء (١).

وعليه ، يجب أن تصل العلل إلى العلّة الاولى ، التي لا تحتاج إلى عِلّة ، فعلّة العِلل : وجوده في ذاته ، فعند ما يرى الإنسان نفسه بهذا الوصف ، فإنّه سيصل إلى الباري سبحانه وتعالى ، من خلال هذا القانون العقلي.

٤ ـ ويمكن أن يكون هذا الحديث ، إشارة إلى «بُرهان الفطرة» ، فعند ما يعرف الإنسان في تأمل حَنايا نفسه ، وجَوانب فطرته ، فسوف يتجلّى له نورُ التّوحيد ، وينفتح على الله تعالى ، ويصل من «معرفة النفس» ، إلى «معرفة الله» ، ولن يحتاج إلى دليلٍ آخر يقوده إلى الله تعالى.

٥ ـ ويمكن أن يكون الحديث ، ناظراً إلى مسألة : «صفات الله تعالى» ، بمعنى أنّ الإنسان عند ما يرى محدوديّته ، في دائرة حالاته وصفاته في عامل الإمكان ، سيصل إلى نقاطِ ضعفهُ ويُدرك من خلال محدوديّته في مجال الصّفات البشريّة ، لا محدوديّة الله تعالى ، لأنّه لو كان مخلوقاً مثله ، لكان محدوداً أيضاً ، ومن فنائه إلى بَقائه تَبارك وتعالى ، لأنّه لو كان مخلوقاً أيضاً لكان فانياً ، وكذلك يُدرك من خلال إحتياجاته وفَقره ، إستغناء الله وعدم حاجته عمّا سواه ، ويُدرك قوّة الباري من خلال فَقره وحاجته هو ... وهكذا ، وهذا ما يشير إلى كلام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، في أوّل خطبةٍ ، حيث يقول :

«وَكَمالُ الإِخلاصِ لَهُ نَفي الصِّفات عَنْهُ ، لِشَهادَةِ كُلِّ صِفَةٍ أَنَّها غَيرُ المَوصُوفِ ، وَشَهادَةِ كُلِّ مَوصُوفٍ أَنَّهُ غَيرُ الصِّفَةِ» (٢).

٦ ـ ونقل العلّامة المجلسي رحمه‌الله ، تفسيراً آخر لهذا الحديث ، عن بعض العلماء ، أنّه قال : (الرّوح لطيفةٌ لاهوتيّة في صفةٍ ناسوتيّةٌ : دالّةٌ من عشرة أوجهٍ ، على وحدانيّة الله وَرَبّانِيَّتِهْ :

١ ـ لما حرّكت التهيكَل ودبّرته ، علمنا أنّه لا بدّ لِلعالم من مُحرّكٍ ومُدبِّرٍ.

__________________

١ ـ من أراد التّوضيح ، فيراجع كتاب : «نفحات القرآن ج ٢».

٢ ـ نهج البلاغة ، الخطبة ١.

٢٨١

٢ ـ دلّت وحدتها على وحدته.

٣ ـ دلّ تحريكها لِلجسد على قدرته.

٤ ـ دلّ إطّلاعها على ما في الجسد على علمه.

٥ ـ دلّ إستواؤها إلى الأعضاء على إستوائه إلى خلقه.

٦ ـ دلّ تقدّمها عليه وبقاؤها بعده ، على أزلَهِ وأَبده.

٧ ـ دلّ عدم العلم بكيفيّتها ، على عدم الإحاطة به.

٨ ـ دلّ عدم العلم بمحلّها من الجسد ، على عدم أينيتّه.

٩ ـ دلّ عدم مسّها على إمتناع مسّه.

١٠ ـ دلّ عدم إبصارها على إستحالة رؤيته) (١).

٧ ـ التّفسير الآخر لهذا الحديث ، هو أنّ جملة : «مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ عَرَفَ رَبَّهُ» ، هي من قَبيل التّعلّق بالمحال ، يعني بما أنّ الإنسان لا يستطيع أن يعرف نفسه ، فهو لن يعرف ربّه بصورةٍ حقيقيةٍ.

ولكن التّفسير الأخير هذا غير مناسب ، والتّفاسير السّابقة أنسب لسياق الحديث ، ولا ضَير من إحتواء ذلك الحديث الشريف ، لكلّ تلك المعاني الجليلة.

نعم ، فإنّ كلّ إنسان يعرف نفسه ، سيعرف ربّه ، ومعرفة النّفس هي طريقٌ لمعرفة الرّب ، وهي أهمّ وسيلةٍ لتهذيب الأخلاق ، وطهارة النّفس والرّوح ، فذاته المقدسة هي مصدر لكلّ الكمالات والفضائل ، وأهمّ طريقٍ للسّير والسّلوك في خط بناء الذات ، وتهذيب الأخلاق ، هو معرفة النّفس ، ولكنّ معرفة النّفس تقف دونها موانعٌ كثيرةٌ ، لا بدّ من إستعراضها وبحثها.

موانع معرفة النّفس :

أوّل خطوةٍ تُتَّخذ ، لعلاج الأمراض البدنيّة هي معرفتها ، وعليه ففي وقتنا الحاضر ، يمكن

__________________

١ ـ بحار الأنوار ، ج ٦١ ، ص ٩٩ ـ ١٠٠.

٢٨٢

تشخيص أغلب الأمراض ، بالأشعّة السّينيّة ، والسّونار ، والمختبرات المختلفة لتحاليل الدّم والبول ، وما شابهها من الامور ، حيث يستطيع الطّبيب بمعونتها ، من تشخيص مواضع الخلل البدني بدقةٍ ، وبالتالي يكون بإمكانه ، وضع الأدوية والعلاجات لذلك المرض ، وكذلك الحال في الأمراض الروحيّة والنفسيّة على مستوى التّشخيص والمعالجة ، فإنّنا إن لم نشخّص أمراضنا الرّوحيّة ، بمساعدة الطّبيب الحقيقي للنفس ، ولم نتمكن من العثور على جذور الرّذائل الأخلاقيّة ، في واقعنا النّفسي ، فسوف لا يمكننا الوصول إلى طريقةٍ لعلاج هذه الأمراض ، وجُبران مواضع الخَلل في عالم النّفس.

ولكن أغلب الناس ، يتجاهلون الأعراض الخطيرة للأمراض ، وذلك لِغَلبة الأنانيّة عليهم وحبّ الذات ، الذي لا يسمح لهم برؤية النّقص على حقيقته ، وهذا الهروب من الحقيقة ، غالباً ما ينتهي إلى عواقب غير حميدة ، ولا يتوجه إليها الإنسان إلّا بعد فوات الأوان ، وبعد تجاوز المرض مرحلة العلاج ، ففي الأمراض الأخلاقيّة ، والإنحرافات النّفسية ، غالباً ما يكون حبّ الذات والأنانية ، مانعاً قويّاً لِلناس ، يحول دون معرفة صفاتهم الرّذيلة ، وعيوبهم الأخلاقيّة والإعتراف بها ، بل ويتذرعون بالأعذار المختلفة ، في عملية التغطية اللّاشعورية ، على تشوّهات الأنا ليكون الشّخص متعالياً عن النّقد والنّقص ، وبذلك يعيش مثل هذا الإنسان ، حالةَ الوَهم في ثياب الواقع.

والحقيقة أنّ الأعترافَ بالخطأ فَضيلةٌ ، ويحتاج إلى عزمٍ جدّي ، وإرادةٍ راسخةٍ ، وإلّا فان الإنسان سيتحرك على مستوى تغطية عيوبه ، ويُدرجها في طيّ النسيان ، ليخدع بها نفسه ومن حواليه ، بالظّواهر الخادعة والعناوين الزائفة.

نعم فإنّ الوقوف على العيوب والنقص ، في واقع الذّات أمرٌ مرعبٌ ومريعٌ ، وغالبيّة النّاس يهربون من واقعهم في حركة الحياة ، ولا يريدون أنّ يعترفوا بأخطائهم من موقع تحمّل المسؤوليّة ، لكنّ الهروب من الحقيقة ، سيعود بالضّرر الكبير على صاحبه ، وسيدفع الإنسان الّثمن غالياً على المستوى البعيد ، جرّاء ذلك!. وعلى كلّ حال ، فإنّ المانع الحقيقي ، والحِجاب الأصلي لمعرفة الذّات ، هو حجاب حبّ الذّات ، والأنانيّة والتّكبر ، وما لم تنقشع هذه الحُجب ،

٢٨٣

وتلك الغَشاوات عن النّفس ، فلن يستطيع الإنسان أن يعرف ذاته ، ونوازعها وستغلق دونه أبواب المعرفة الاخرى ، التي تريد به النّهوض والوصول إلى الحقّ ، في خطّ التّكامل المعنوي ، والتّحذيرات التي صدرت من رسولنا الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، شاهدٌ حيٌّ على مدّعانا ، منها :

«إذا أَرادَ اللهُ بِعَبدٍ خَيراً فَقَّهَهُ في الدِّينِ وَزَهّدَهُ في الدُّنيا وَبَصَّرَهُ عُيوبَهُ» (١).

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام ، في حديثٍ آخر : «جَهْلُ المَرءِ بِعُيوبِهِ مِنْ أَكبَرِ ذُنُوبِهِ» (٢).

ويُفرض علينا هذا السؤال نفسه ، وهو أنّه كيف يستطيع الإنسان ، أن يُزيل تلك الغَشاوات والحُجب ، التي ترين على نفسه وروحه؟.

هنا أتحفنا الفيض الكاشاني في هذا المجال ، بنصائح قيمةٍ ، فقال :

(اعلم أنّ الله تعالى ، إذا أراد بعبدٍ خيراً بصّره بعيوب نفسه ، فَمن كَملت بَصيرته لم تخف عليه عيوبه ، وإذا عرف العيوب أمكنه العلاج ، ولكنّ أكثر الخلقِ جاهلون بعيوب أنفسهم ، يرى أحدهم القَذى في عينِ أخيه ولا يرى الجذع في عينه هو ، فمن أراد أن يقف على عيب نفسه ، فله أربع طُرق :

الأوّل : أنّ يجلس بين يدي بصيرٍ بعيوب النّفس ، مطّلعٌ على خَفايا الآفات ، ويحكّمه على نفسه ، ويتّبع إشارته في مجاهداته ، وهذا قد عزّ في هذا الزمان وجوده.

الثاني : أن يطلب : صديقاً صدوقاً بصيراً متديّناً ، فينصبه رقيباً على نفسه ، ليُراقب أحواله وأفعاله ، فما يكرهه من أخلاقهِ وأفعاله وعيوبه الباطنة والظّاهرة ، ينبّهه عَلَيها. فهكذا كان يفعل الأكابر من أئمّة الدّين ، كان بعضهم يقول : «رحم الله إمرءً أهدى إليّ عيوبي» (٣) ، وكلّ من كان أوفر عقلاً وأعلى منصباً ، كان أقلّ إعجاباً وأعظم اتّهاماً لنفسه ، إلّا أنّ هذا أيضاً قد عزّ ، فقلّ في الأصدقاء من يترك المُداهنة ، فيخبر بالعَيب ، أو يترك الحسد فلا يزيد على القدر الواجب ، فلا يَخلو أصدقاؤك عن حَسودٍ ، أو صاحب غرض ، يرى ما ليس بعيب عيباً ، أو عن

__________________

١ ـ نهج الفصاحة ، ص ٢٦ ، وورد نفس هذا المعنى عن الإمام الصّادق عليه‌السلام ، في اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ١٣٠.

٢ ـ بحار الأنوار ، ج ٧٤ ، ص ٤١٩.

٣ ـ تُحف العقول ، ص ٣٦٦.

٢٨٤

مُداهنٍ يُخفي عنك بعض عُيوبك ، لهذا كان داود الطائي قد إعتزل عن النّاس ، فقيل له : لِمَ لا تُخالط النّاس؟ ، قال : ما ذا أصنع بأقوامٍ يخفون عنّي ذُنوبي.

ان أهل الدين يحبون أن يُنبّهوا على عُيوبهم ، بنصيحة غيرهم ، وقد آلَ الأُمر إلى أمثالنا ، بأن وأبغضُ الخلق إلينا من يَنصحنا ، ويُعرّفنا عيوبنا ، ويكاد أن يكون هذا مُفصِحاً عن ضَعف الإيمان ، فإنّ الأخلاق السّيئة : حيّاتٌ وعقاربٌ لدّاغةٌ ، ولو نبّهنا منبّهٌ على أنّ تحت ثوبنا عقرباً ، لشكرنا له ذلك وفرحنا به ، وإشتغلنا بإبعاد العقرب وقتلها ، وإنّما أذى العقرب على البدن ، ويدوم ألمها يوماً أو بعض يوم ، ونكايةُ الأخلاق الردّية على صميم القلب ، وعسى أن يدوم بعد الموت ، أبداً أو آلافاً من السّنين ، ثمّ إنّا لا نفرح بمن ينبّهنا عليها ، ولا تشتغل العداوة معه عن الإنتفاع بنصحه.

الطّريق الثّالث : أن يستفيد معرفة عيوب نفسه ، من لسان أعدائه ، فإنّ عين السّخط تُبدي المساوي ، ولعلّ إنتفاع الإنسان بعدوٍّ مشاحن ، يذكرّ عيوبه ، أكثر من إنتفاعه بصديقٍ مداهنٍ ، يُثني عليه ويمدحه ، ويخفي عنه عُيوبه.

الطّريق الرّابع : أن يخالط الناس ، فكلّ ما يراه مذموماً ، فيما بين الخَلق فيطالب نفسه بتركه ، وما يراه محموداً يطالب نفسه به وينسب نفسه ، إليه ، فإنّ المؤمن مرآةُ المؤمن ، فيرى في عيوبِ غيره عيوبُ نفسه ، وليعلم أنّ الطّباعَ مُتقاربةٌ في إتّباع الهوى ، فما يتّصف به واحد من الأقران أعظم منه ، أو عن شيء منه ، فيتفقّد نفسه ويطهّرها عن كلّ ما يذمّه من غيره ، وناهيكَ بهذا تأديباً ، فلو ترك النّاس كلّهم ما يكرهونه من غيرهم ، لإستغنوا عن المؤدّب ، قيل لِعيسى عليه‌السلام : من أدَّبك؟ فقال : «ما أدّبَني أحد ، رأيت جهلَ الجاهل فجانبته» (١).

__________________

١ ـ المحجّة البيضاء ، ج ٥ ، ص ١١٢ الى ١١٤.

٢٨٥

الخُطوة التّاسعة : العبادة والدّعاء تصقل مرآة القلب :

الخُطوة الاخرى ، هي العبادة والدّعاء ، ولأجل التّعرف على دور ، العِبادة والدّعاء في بناء وتهذيب النّفوس ، علينا أولاً التّعرف ، على حقيقة ومفهوم العبادة والدّعاء.

الواقع أنّ الحديث عن هذا الموضوع ، طويلٌ وعريضٌ ، وقد تناوله العلماءُ ، العظماءُ ، في كتبهم الأخلاقيّة والتفسيريّة والفقهيّة ، بصورةٍ مُفصّلةٍ ووافيةٍ ، ولكن يمكن القول وبإختصارٍ شديدٍ : علينا قبل معرفة حقيقة العبادةِ ومفهومها ، أوّلاً أن ندرس مفهوم كلمة «عبد» ، وهي الأصل والجَذر اللّغوي ، لكلمة : «العِبادة».

«العبُد» لُغة تُطلق على الإنسان ، الذي لا حول له ولا قوّة ، في مقابِل مولاه ، فإرادته تابعةٌ لإرادة مَولاه ، ولا يملك شيئاً في عرضِ ما يملكه مولاه ، ولا حقَّ له في التّقصير في طاعة سيّده.

وعليه فإنّ العبودية ، هي آخر وأقصى مراحل الخُضوع والخُشوع ، في مقابل السيّد ، حيث إنّ كلّ شيءٍ في حياته يراهُ من هبته وإنعامه وإكرامه ، ومن هنا يتبيّن لنا بوضوح ، أنّه لا أحد يستحقّ هذه الدّرجة من العِبادة ، ويكون مَعبوداً سوى الله تعالى ، فهو الفَيض اللّامتناهي الذي لا ينقطع أبداً.

ومن بُعدٍ آخر ، أنّ «العُبوديّة» : هي قمّة ونهاية التّكامل المعنوي ، للرّوح في حركة التّكامل المعنوي للإنسان ، وغايةُ ما يطمح إليه الإنسان ، من حالة القُرب من الله تعالى ، والتّسليم المُطلق لِلذات المُقدسة ، فالعبادة لا تنحصر بالرّكوع والسّجود والقيام والقُعود ، بل إنّ روح العِبادة هي التّسليم المطلق لله تعالى ، ولذاته المُقدسة والمَنزّهة من كلٍّ عيبٍ ونقصٍ.

ومن البديهي أنّ العبادة ، هي أفضل وسيلةٍ للرّقي المعنوي ، وتحصيل الكَمال المطلق ، في حركة الإنسان والحياة ، وتقف حائلاً أمام كلّ رذيلةٍ ، فإنّ الإنسان يسعى لِلقُرب من معبوده ، لِتَتَجلى في نفسه إشعاعاتٌ من نور قُدسه وجَلاله وجَماله ، ويكون مظهراً ومرآةً لصفات الجمال والكَمال الإلهيّة ، في واقعه النّفسي وسلوكه العملي.

وفي حديثٍ عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، أنّه قال : «العبُودِيّةُ جَوهَرَةٌ كُنْهُها الرُّبُوبِيَّةُ» (١).

__________________

١ ـ مصباح الشّريعة ، ص ٥٣٦ ، نقلاً عن ميزان الحكمة ، مادة «عبد».

٢٨٦

وهو إشارة لتلك الإنعكاسة الربّانية ، التي تتجلّى في العبد جرّاء العِبادة الخالصةِ ، المنفتحة على الله ، حيث يصل بواسطتها إلى درجاتٍ من الرّقي والكمال ، بحيث يمكنه معها السّيطرة على الكَون ، ويكون صاحبٌ بالولاية التَّكوينيّة ، أو هو : كالحديد الأسود ، الذي يحمّر جرّاء مجاورته لِلنار ، وهذه الحرارة والنّورانية ليست من ذاته ، لكنّها من معطيات تلك النار.

ومنها نعود لِلقرآن الكريم ، لنستوحي ممّا فيه من آياتٍ حول العبادة ، وما لها من دورٍ في تنمية الفضائل الأخلاقية :

١ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(١).

٢ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(٢).

٣ ـ (وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ)(٣).

٤ ـ (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً* إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً* وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً* إِلَّا الْمُصَلِّينَ* الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ)(٤).

٥ ـ (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها)(٥).

٦ ـ (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)(٦).

٧ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)(٧).

تفسير وإستنتاج :

تتحرك الآيات الآنفة الذّكر ، لتؤكّد لنا حقيقةً واحدةً ، ألا وهي ، أنّ كلّ إنسانٍ يريد

__________________

١ ـ سورة البقرة ، الآية ٢١.

٢ ـ سورة البقرة ، الآية ١٨٣.

٣ ـ سورة العنكبوت ، الآية ٤٥.

٤ ـ سورة المعارج ، الآية ١٩ إلى ٢٤.

٥ ـ سورة التّوبة ، الآية ١٠٣.

٦ ـ سورة الرّعد ، الآية ٢٨.

٧ ـ سورة البقرة ، الآية ١٥٣.

٢٨٧

الوصول إلى الكمال المطلقُ ويتحرك على مستوى تهذيب النّفس ، عليه أنّ يسلك طريق العبادة ، فالسّائر في خطّ الإستقامة والتّربية ، ولأجل أن يبني نفسه ، ويحصل على ملكة التّقوى ، عليه أنّ يَعبُد ويَدعو الله تعالى ، من موقع العِشق والشّوق ليوفقه في ذلك ، ويطلب منه العَون ، لإزالة شوائب نفسه ، لِتّتصل النّقطة بالبحر ، ولِتَنْدَكّ ذاته بالذّات الأزليّة ، ويتحول نحاس وجوده ، في بوتقة العِشق ، إلى ذهبٍ خالصٍ.

هنا تحرّكت «الآية الأُولى» ، لتخاطب جميع الناس بدون إستثناء ، أن يسلكوا إلى الله من موقع العِبادة ، وأرشدتهم لِطريق التقوى ، فقالَ تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

والتّأكيد على مسألة الخلقة للأوّلين ، لعلها تقع في دائرة تنبيه العَرب الجاهلين ، الذين كانوا يستدلون بعبادتهم للأصنام ، بسنّة آباهم ، فيقول الباري : إنّنا خلقناكم والجِبلّة الأولين ، نعم فهو الخالق والمالك لكلّ شيءٍ ولا يستحق العبادة أحدٌ إلّا هو ، وإذا ما توجه الإنسان ، حقيقةً نحو الباري تعالى ، فستتفتح في جوانحه عناصر الخير والتّقوى ، لأنّ ما يوجد من الشّوائب في النفس ، إنّما هو بِسبب التّوجه لغير الله ، من موقع العبادة الزّائفة.

فهذه الآية تبيّن معالم الرّابطة والعلاقة الوثيقة ، بين العبادة التقوى.

وتطرقت «الآية الثّانية» ، للحديث عن عبادةٍ مهمّةٍ ، وهي الصّوم وعلاقته بالتّقوى ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

ومن المعلوم أنّ الصّوم يُنوّر القلب ويجلوه ، بحيث يحسّ معه الإنسان أنّه يعيش القُرب من الحسنات ، والبُعد عن السّيئات والقَبائح ، والإحصائيات التي ترد في هذا الشّهر من المصادر المختصّة عن الجرائم ، تشير إلى أنّها تصل إلى أدنى مستوى ، في شهر رَمضان ، وأنّ الشرّطة في هذا الشّهر المُبارك ، يتفرّغون لِلأهتمام بامورٍ اخرى ، إداريّة عالقة بالأشهر الماضية!!.

وهذا الأمر إنّ دلّ على شيءٍ ، فهوَ يدلّ على أنّ الإنسان ، كلّما إقترب من الله تعالى ، في خطّ العبوديّة والطّاعة ، فإنّه يبتعد عن الموبقات والآثام ، والقبائح بنفس المقدار.

٢٨٨

وأشارت «الآية الثّالثة» ، إلى علاقة الصّلاة بالنّهي عن الفَحشاء والمنكر ، وخاطبت الرّسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بإعتباره قدوة واسوة للآخرين ، فقالت : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ).

«فالفَحشاء والمنكر» ، عبارةٌ عَنْ مجموعة الأفعال غير الأخلاقيّة ، التي تنبع وتنشأ من الصّفات الأخلاقيّة ، والنّزعات الشّريرة الموجودة في مطاوي النّفس البشرية ، حيث تؤثّر بدورها في سلوك الإنسان ، وتفرز الأخلاق الظاهريّة لَه ، و «الصّلاة» تمثّل أَداةَ ردعٍ لتلك الأخلاق المنحرفة ، في دائرة السّلوك ، لأنّ الأذكار والأدعية ، تعمل على تهذيب النّفس ، وترويضها وتطويعها في طريقِ الخَير والصّلاح ، وحالة القُرب من الباري تعالى ، هذه هي التي تتولى إبعاد الإنسان عن منبع الشّر والرّذيلة ، الذي هو عبارةٌ عن هوى النّفس وحبّ الدنيا ، من خلال الإنفتاح على آفاق المَلكوت ، لِتَغرف نفسه من أنوار القُدس ، وترتفع به إلى عالم الخلودِ والكَمالِ المُطلق.

فالمصلّي الحقيقي سيبتعد عن الفحشاء والمنكر لا مُحالة ، لأنّ الصّلاة والعِبادة تَصون النّفس من المنكرات ، وتحول دون إختراق الرذائل للنّفس الإنسانية ، وتعمل على تَفعيل عناصر الخَير ، في أعماق الوِجدان.

وتحدّثت «الآية الرابعة» عن حالة الجَزع والبخل ، اللّذان هما من السجّايا الوضيعة في واقع الإنسان ، وخُصوصاً الجَزع في حالة سيطرة المشكلات والشّرور ، والبُخل في حالة إنفتاح أبواب الثّراء أمام الإنسان ، وإستثنت الآية المصلّين ، وقالت : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً* إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً* وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً* إِلَّا الْمُصَلِّينَ* الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ).

فهذه الآيات الكريمة ، تبيّن لنا بصورِةٍ جيدةٍ ، أنّ التّوجه لله تعالى ، والسّير في خطّ العبادة والدُّعاء والمناجات ، له دورٌ هامّ في مَحو الرّذائل الأخلاقيّة ، من قبيل البُخل والجّزع من واقع النّفس.

٢٨٩

وتشيرُ «الآية الخامسة» ، إلى تطهير النّفس ، بواسطة «الزّكاة» ، والتي بدورها تُعتبر ، من العبادات الإسلامِيَّةِ المُهِمَّةِ ، في ديننا الحنيف ، فتقول : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها).

وجُملة : (تُزَكِّيهِمْ بِها) ، هي دليلٌ واضحٌ على هذه الحقيقة ، وهي أنّ الزّكاة تعمل على تطهير النفس ، من البَخل والحِرص وحُبِّ الدنيا ، وتزرع في نفسه صفة الكرم ، وحبّ الخير لِلناس ، وتثير في نفسه الحركة ، على مستوى حمِاية الفقراء والمحتاجين.

وما ورد من روايات في هذا الصدد ، تبيّن هذه الحقيقة أيضاً ، ومنها الحديث النبوي الشريف : «ما تَصَدَّقَ أَحَدُكُم بِصَدَقَةٍ مِنْ طَيِّبٍ ـ وَلا يَقْبَلُ اللهُ إلّا الطّيِّبَ ـ ، إلّا أَخَذَها الرَّحمانُ بِيَمِينِهِ وَإِنْ كانَتْ تَمْرَةً فَتَربُو مِنْ كَفِّ الرَّحمانِ في الجِنان حَتّى تَكُونَ أَعْظَمَ مِنَ الجَبَلِ» (١).

هذا الحديث الشّريف يبيّن تلك العلاقة الوثيقة المباشرة ، بين هذه العبادة المهمّة وبين توطيد العلاقة مع الله تعالى ، وتفعيل الحالات المعنوية في واقع الإنسان ومحتواه الداخلي.

وتتحرك «الآية السّادسة» ، من موقع الإشارة إلى عبادة مهمّةٍ اخرَى ، وهي عبادة : «الذِّكر» ، للهِ تعالى ، وما لَها من دورٍ في بعث الطّمأنينة ، في واقع الرّوح فتقول : (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ).

فالطّمأنينة تقترنُ دائماً مع التّوكل على الباري تعالى ؛ وعدم الوقوع في أسر الماديّات والامور الدنيويّة ، من الإنخداع بِبَريق الدُنيا ، والطّمع والبُخل والحَسد وما شابهها من الامور ، فَمع وجود هذه الحالات السّيئة في واقع النفس ، فسوف لن يذوق الإنسان معها الرّاحة والطّمأنينة.

وعليه ، فإنّ ذكر الله تعالى بإمكانه إزالة هذه الصّفات السّلبية عن القلب ، وتطهير النّفس منها لِتَتَهيأ الأرضيّة المساعدة ، في تَفتّح براعم السّكينة والطّمأنينة في واقع القلب والرّوح.

أو بتعبيرٍ أدق ، إنّ جميع الإضطرابات الرّوحية ، وأشكال القلق النّفسي ، في واقع الذّات

__________________

١ ـ صحيح مسلم ، ج ٢ ، ص ٧٠٢ ، طبع بيروت.

٢٩٠

البشريّة ، ناشئة من هذه الرّذائل الأخلاقيّة ، وستزول وتقلع جذورها بذكر الله ، الذي يعمل على تسكين روح الإنسان ، وتجفيف مصادر القلق هذه ، لِتحل محلّها السّكينة والهدوء النّفسي (١).

وأخيراً تناولت «الآية السّابعة» ، دور الصّلاة والصّيام في رفع المعنويات ، وتقوية عناصر الخير في وجدان الإنسان : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ).

وقد فسّرت بعض الرّوايات الإسلاميّة الصّبر بالصيام (٢) ، من حيث كون الصّوم أحد المَصاديق البارزة لِلصبر ، وإلّا فالصّبر له مفهومٌ وسيعٌ يشمل كلّ أنواع المُقاومة ، والتّحدي لِلأهواء النّفسانية والوساوس الشيطانية ، في طريق طاعة الله تعالى ، وكذلك تَستوعب الآية حالة الصّبر على المصائب والمحن ، التي تصيب الإنسان في حركة الواقع.

وقد وَرد في حديثٍ عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، أنّه كلّما أهمّه شيءٌ إندفع مُسرعاً نحو الصّلاة ، وبعدها يتلو هذه الآية ثلاث مرّاتٍ : «كانَ عَليٌّ عليه‌السلام إذا أَحالَهُ أَمْرٌ فَزِعٌ قامَ إِلى الصَّلاةِ ثُمَّ تَلا هذِهِ الآيةَ : (اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)» (٣).

نعم فإنّ العبادة ترسخ في النّفس محاسنها ، وتصقلها وتعمل على تفعيل عناصر الخير فيها ، من : التّوكّل والشّهامة والصّبر والإستقامة ، وتستأصل الرّذائل الأخلاقيّة من قَبيل : الجُبن والشّك والإضطراب والتّوتر النّاشيء من حالات الصّراع ، وحبّ الدنيا وتزيحها عن واقع النّفس ، وبهذا تحيي العبادة في واقع النّفس ، شطراً مُهمّاً من الفضائل الأخلاقية ، وكذلك تقوم بإلغاء الكثير من عناصر الشّر ، وقوى الإنحراف والرّذيلة من وجود الإنسان.

__________________

١ ـ للتفصيل يرجى مراجعة التفسير الأمثل ، ذيل الآية الآية الشريفة المبحوثة.

٢ ـ مجمع البيان ، ج ١ ، ذيل الآية ٤٥ من سورة البقرة ، التي تشابه الآية التي نحن في صددها ، وتفسير البرهان ، ج ١ ، ص ١٦٦ ، ذيل ١٥٣ ، سورة البقرة ، ففي حديثٍ عن الصّادق عليه‌السلام ، قال في الآية «الصّبرُ هُو الصّوم» : بحار الأنوار ، ج ٩٣ ، ص ٢٩٤.

٣ ـ اصول الكافي ، (طبقاً لنقل الميزان ، ج ١ ، ص ١٥٤).

٢٩١

النّتيجة :

نستنتج ممّا ذُكر آنفاً : أنّ العِبادة لَها دورها الفاعل ، والعميق في تَهذيب الأخلاق ، ويمكن تَلخيص هذا المعنى في عدّة نقاط :

١ ـ إنّ التوجه لِلمبدأ ، والإحساس بحضور الله تعالى ، مع الإنسان في كلّ وقتٍ ومكانٍ ، يدفع الإنسان نحوَ المزيد من مُراقبة أعماله وحركاته وسكناته ، ويُساعده على السّيطرة على ميوله الذّاتية ، وأهوائه النفسيّة ، لأنّ العالم محضر الله ، والمعصية في حال الحضور ، تمثّل الإنحراف عن خطّ الحقّ ، وبالتّالي فهي عين الوقوع في لُجّة الكُفران للنعمة.

٢ ـ إنّ التّوجه لصفات جَلاله وجَماله ، التي وردت في العبادات والأدعية ، يثير في نفس الإنسان حالةً من لُزوم الإقتباس ، من تلك الأنوار القُدسيّة ، ويعيشها في واقعه الرّوحي ، ليسير في طريق التّكامل الأخلاقي.

٣ ـ التّوجه للمَعاد والمحكمة الإلهيّة العظيمة في يوم القيامة ، يمثّل أداةً فاعلةً لتطهير وتزكيّة النّفس ، خوفاً من العقاب والحِساب في غدٍ.

٤ ـ العِبادة والدّعاء ، تضفي على الإنسان هالاتٍ من النّور لا توصف ، فلا تستطيع معها ظُلمات الرّذيلة أن تقف أمامها ، فيحسّ الإنسان بالقُرب الإلهي ، وصفاء الضّمير بعد كلّ عبادةٍ ، شريطَة أن تكونَ مقرونةً بحضور القلب.

٥ ـ إنّ مضامين العبادات والأدعية ، غنيٌّ جدّاً بالتّعاليم والآداب الأخلاقيّة ، فهي ترسمُ الطّريق لِلسالك نحو الله تعالى ، وهي في الحقيقة دروسٌ قيّمةٌ ، توصل الإنسان السّالك لِهدفه السّامي ، من أقصر طريقٍ ، وبدونِ العبادة والمُناجاة ، وخاصّةً في حالات الخَلوة مع الله ، تعالى ولا سيّما في وقت السّحر ، فسوف لن يصل الإنسان إلى غايته المنشودة.

تأثير العبادة في صقل الرّوح في الرّوايات الإسلاميّة :

لهذه المسألة ، صَداً وَاسعاً في الرّوايات الإسلاميّة ، ونشير إلى بعضٍ منها ، تاركين التّفاصيل

٢٩٢

إلى البحوث الموسّعة :

١ ـ أشارت جميع الرّوايات الإسلاميّة ، التي تناولت فلسفة الأحكام ، إلى دور العبادة في تَهذيب النّفوس وصفاء القلوب ، فقال الإمام علي عليه‌السلام ، في قِصار كلماته :

«فَرَضَ اللهُ الإِيمانَ تَطْهِيراً مِنَ الشِّركِ ، والصَّلاةَ تَنْزِيهاً عَنِ الكِبْرِ وَالزَّكاةَ تَسبِيباً لِلرِّزْقِ وَالصِّيامَ إِبتِلاءً لِإِخلاصِ الخَلْقِ» (١).

وَوَرد نفس هذا المعنى ، مع إختلافٍ بسيطٍ في خُطبة الزّهراء عليها‌السلام فإنّها تقول : «فَجَعَلَ اللهُ الإِيمانَ تَطْهِيراً مِنَ الشِّركِ ، والصَّلاةَ تَنْزِيهاً عَنِ الكِبْرِ وَالزَّكاةَ تَزكِيَّةً لِلنَّفْسِ وَنَماءً في الرِّزْقِ وَالصِّيامَ تَثبيتاً لِلإِخلاصِ» (٢).

٢ ـ ويشبّه الرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله الصّلاة بنهرٍ جاري ، يتولى تطهير البدن كلّ يومٍ خمس مرّاتٍ ، حيث يقول : «إِنّما مَثلُ الصَّلاةِ فِيكُم كَمَثلَ السّري ـ وهو النهر ـ عَلى بابِ أَحَدِكُم يَخرُجُ إِلَيهِ في اليَومِ وَاللَّيلَةُ ، يَغْتَسِلُ مِنْهُ خَمسُ مرّاتٍ ، فَلا يَبْقى الدَّرنُ عَلَى الغَسلِ خَمْسُ مرّاتٍ ، وَلَم تَبْقَ الذُّنُوبُ عَلى الصَّلاةِ خَمسُ مِّراتٍ» (٣).

وعليه فقد ذكرت هذه الرّوايات ، لكلّ عبادةٍ : دوراً خاصّاً في عمليّة تهذيب النّفوس الإنسانيّة.

٣ ـ وَوَرد في حديثٍ آخر عن الإمام الرضا عليه‌السلام ، يشرح فيه السّبب ، الذي شرّع الله تعالى بِسَببِه العبادة ، فيقول :

«فَإنْ قالَ فَلِمَ تَعبَّدَهُم؟ قِيلَ لِئَلا يَكُونُوا ناسِينَ لِذِكْرِهِ وَلا تارِكِينَ لِأَدَبِهِ وَلا لاهِينَ عَنْ أَمْرِهِ وَنَهْيهِ إِذا كانَ فِيهِ صَلاحُهُم وَقِوامُهُم ، فَلَو تُرِكُوا بِغَيرِ تَعَبُّدٍ لَطالَ عَلَيهِم الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُم» (٤).

فيتّضح من ذلك أنّ العبادة ، تجلو القلب وتُبلوِر الرّوح وتَحثّ على ذكر الله تعالى ، الذي هو

__________________

١ ـ نهج البلاغة ، قِصار الكلمات ، الكلمة ٢٥٢.

٢ ـ يرجى الرجوع إلى كتاب : حياة السيدة الزهراء عليها‌السلام.

٣ ـ المحجّة البيضاء ، ج ، ص ٣٣٩ ، كتاب أسرار الصّلاة.

٤ ـ عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ، طِبقاً لنقل نور الثقلين ، ج ١ ، ص ٣٩ ، ح ٣٩.

٢٩٣

مدعاة لإصلاح الظاهر والباطن.

٤ ـ وَوَرد في حديث آخر ، عن الإمام الرّضا عليه‌السلام ، وفي مَعرض حديثه لإحصاء فوائد الصّلاة ، أنّه قال :

«مَعَ ما فِيهِ مِنَ الإِيجابِ وَالمُداوَمَةِ عَلى ذِكْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ بِاللَّيلِ وَالنَّهارِ لِئَلا يَنْسَى العَبْدُ سَيِّدَهُ وَمُدَبِّرَهُ وَخَالِقَهُ ، فَيَبْطُرَ وَيَطْغى وَيَكُونَ فِي ذِكْرِهِ لِرَبِّهِ وَقِيامِهِ بَينَ يَدَيهِ زاجِراً لَهُ عَنِ المَعاصِي وَمانِعاً لَهُ عَنْ أَنْواعِ الفَسادِ» (١).

٥ ـ وَوَرد عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، في دور الصّلاة وميزان قبولها ، أنّه قال :

«مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَعْلَمَ أَنْ قُبِلَتْ صَلاتُهُ أَمْ لَم تُقْبَلْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ مَنَعَتْ صَلاتُهُ عِنَ الفَحشاءِ وَالمُنْكَرِ ، فَبِقَدَرِ ما مَنَعَتْهُ قُبِلَتْ» (٢).

فهذا الحديث يُبيّن بوضوح ، أنّ صحّة الصّلاة وقبولها ، لها علاقةٌ طرديّةٌ بالأخلاق والدّعوة إلى الخير وترك الشّر ، ومن لم تؤثّر صلاته ، في تفعيل عناصر الخير والصّلاح في وجدانه ، فعليه أن يعيد النّظر فيها حتماً ، لأنّها وإن كانت مسقطة للتكليف ، إلّا أنّها غير مقبولةٍ لدى الباري تعالى.

٦ ـ وفي فلسفة الصّيام ، قال الرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله :

«إِنَّ الصَّومَ يُمِيتُ مُرادَ النَّفْسِ وَشَهْوَةَ الطَّبْعِ الحَيوانِي ، وَفِيهِ صَفاءُ القَلْبِ وَطَهارَةِ الجَواحِ وَعَمارَةُ الظَّاهِر وَالباطِنِ ، وَالشُّكْرُ عَلَى النِّعَمِ ، وَالإِحْسانِ إِلى الفُقَراءِ ، وَزِيادَةُ التَّضَرُّعِ وَالخُشُوعِ ، وَالبُكَاءِ وَجَعَلَ الإِلتِجاءِ إِلى اللهِ ، وَسَبَبُ إِنْكِسارِ الهِمَّةِ ، وَتَخْفِيفِ السَّيِّئاتِ ، وَتَضعِيفِ الحَسَناتِ وَفِيهِ مِنَ الفَوائِدِ ما لا يُحْصى» (٣).

فقد ذكر هذا الحديث الشّريف ، أربعة عشر صفةً إيجابيةً للصّوم في واقع النّفس ، وهي مجموعةٌ من الفضائل والأفعال الأخلاقيّة ، تصعد بالإنسان في مدارج الكمال المعنوي والإلهي.

__________________

١ ـ وسائل الشيعة ، ج ٣ ، ص ٤.

٢ ـ مجمع البيان ، ج ٨ ، ص ٢٨٥ ، ذيل الآية ٤٥ من سورة العنكبوت.

٣ ـ بحار الأنوار ، ج ٩٣ ، ص ٢٥٤.

٢٩٤

٧ ـ ونختم هذا البحث الواسع ، بحديثٍ عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، أنّه قال : «دَوامُ العِبادَةِ بُرهانُ الظَّفَرِ بِالسَّعادَةِ» (١).

ومن أراد التّفصيل أكثر فليراجع : «وسائل الشّيعة» ، الأبواب الاولى من العِبادات ، وكذلك ما ورد في : «بحار الأنوار».

نعم فإنّ كلّ من يطلب السّعادة ، عليه أن يتحرك بإتّجاه توثيق العلاقة مع الله تعالى ، من موقع الدّعاء والعبادة.

النّتيجة :

نستنتج من هذه الرّوايات الشّريفة التي أوردناها ، والاخرى التي أَعْرضنا عنها لِلإختصار ، أنّ علاقة العبادة بصفاء الرّوح ، وتهذيب النّفوس ، وتفعيل القيم الأخلاقيّة في واقع الإنسان ، علاقةٌ طرديّةٌ ، وكلّما تحرّك الإنسان في عبادته ، من موقع الإخلاص لله تعالى ، كان أثرها في نفسه أقوى وأشدّ.

وهذا الأمر محسوس جدّاً ، فالمخلص الذي يؤدي عبادته بحضور قلبٍ ، فإنّه يحسُ بالنّور والصفاء في قلبه ، والميل إلى الخير والنّزوع عن الشّر ، ويجد في روحه العبوديّة والخشوع والخضوع الحقيقي ، بإتجاه خالقه وبارئه.

وهذا الأخير في الحقيقة هو العامل المشترك بين جميع العبادات ، وإن كان لكلّ منها تأثير خاص على النفس ، فالصّلاة تنهى عن الفَحشاء والمنكر ، والصّيام يقوّي الإرادة وينشط العقل ، لِيْسيطر على جميع نوازع النّفس ، والحج يمنح الإنسان بُعداً معنوياً ، يجعله بعيداً عن زخارف الدّنيا وزبرجها ، والزّكاة تقمع البخل في واقع النّفس ، وتقضي على أشكال الطّمع والحرص على الدنيا.

وذِكر الله يَهدىء الرّوح ، ويمنحها الطّمأنينة والرّاحة ، وكلّ ذكرٍ من الأذكار ، تتجلّى فيه

__________________

١ ـ غُرر الحِكم ، الرقم ٤١٤٧.

٢٩٥

صفةٌ من صفاتِ جَلاله وجَماله سبحانه وتعالى ، التي تتولّى ترغيب الإنسان في السّلوك إلى الله ، والإنسجام مع خطّ الرّسالة.

وعليه فإنّ الشّخص الذي يؤدّي العبادة على أتمّ وجهٍ ، سينتفع من فوائدها في دائرة المعطيات العامة ، وكذلك تمنحه العبادات آثارها الإيجابيّة الخاصّة ، بما يحقّق له بلورة فضائله الأخلاقيّة ، وملكاته النفسانيّة في واقع وجوده ، فالعِبادة تشكّل الخطوة والحجر الأساس ، لبناء النّفس ، في خطّ التّقوى والإيمان ، والإنفتاح على الله ، شَريطة الانس بمثل هذه المعاني الروحيّة ، والتّعرف على فلسفة العبادة ، فلا ينبغي أن نقنع بالمحافظة على قوى الجسم وحده ، ولأهميّة مَبحث الذّكر خصّصنا له بَحثاً مُستقلًّا عن باقي البحوث.

ذِكر الله وتربية الرّوح :

أعطى علماء الأخلاق ، الأهميّة القُصوى لِلذكر ، وذلك تبعاً لما ورد ، في الرّوايات الإسلاميّة والقرآن الكريم ، واعتبروه من العناصر المهمّة في خطّ العبادة ، وتطهير النّفس وتهذيبها ، وذكروا لكلّ مرحلةٍ من مراحل السّير والسّلوك ، الذّكر الخاص بها.

فمثلاً في مرحلة التّوبة ، ينبغي للسالك في طريق الحقّ ، الإهتمام بِذِكر : «يا غَفّار» ، وفي مرحلة محاسبة النّفس : «يا حَسيب» ، وفي مرحلة إستنزال الرّحمة : «يا رحمان» و «يا رَحيم» ... وَهَلُمَّ جرّا.

وهذه الأذكار تتناسب وحالات الإنسان ، والسّلوك الذي يسلكه الإنسان في خطّ الإستقامة ، والإلتزام بها على كلّ حالٍ حسنٍ ، ولا تختص بعنوان : قصد الوُرود إلى ساحة الرّحمة الإلهيّة.

نعم فإنّ ذكر الله تعالى ، من أكبر العبادات وأفضل الحسنات ، في عمليّة التّصدي للتحديات النّفسية الصّعبة ، وتحقيق الصّيانة من الوساوس الشّيطانية.

ذكرُ الله ، يخرق حُجب الأنانيّة والغرور والنّوازع النّفسانية ، التي تُعدّ من أَقوى العوامل ، لِهَدم سعادة الإنسان ، ويمنح الإنسان وعياً في أجواء السّلوك إلى الله تعالى ، من الأخطار التي

٢٩٦

تهدّد سعادته ، ويرسم له معالم مسيرته في حركة الحياة والواقع.

ذكر الله تعالى : هو المطر الذي ينزل على أرض القَلب ، لِيسقي بذور التّقوى والفضيلة ، ويعمل على تقويتها وتنميتها. والحقيقة أنّ المحاولة للإحاطة بعظمة هذه العبادة ، وإحصاء معطيّاتها على مستوى تهذيب النّفس ، لا تفي بالغرض ، ولا تحيط بأهميتها في خطّ السّلوك المعنوي للإنسان.

بعد هذه الإشارة نعود إلى القرآن الكريم ، لنستوحي من آياته ، أهميّة ذكر الله تعالى :

١ ـ (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ»)(١).

٢ ـ (وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ)(٢).

٣ ـ (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي)(٣)

٤ ـ (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي)(٤).

٥ ـ (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً)(٥).

٦ ـ (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً»)(٦).

٧ ـ (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا)(٧).

٨ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً* وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً* هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً)(٨).

__________________

١ ـ سورة الرّعد ، الآية ٢٨.

٢ ـ سورة العنكبوت ، الآية ٤٥.

٣ ـ سورة طه الآية ١٤.

٤ ـ سورة طه ، الآية ٤٢.

٥ ـ سورة طه ، الآية ١٢٤.

٦ ـ سورة الكهف ، الآية ٢٨.

٧ ـ سورة النّجم ، الآية ٢٩.

٨ ـ سورة الأحزاب ، الآية ٤١ إلى ٤٣.

٢٩٧

٩ ـ (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ)(١).

١٠ ـ (رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ)(٢).

تفسير وإستنتاج :

«الآية الاولى» : تطرّقت للحديث عن دور ذكر الله تعالى ، في خلق حالة الطّمأنينة في القلوب ؛ لِتتولّى إنقاذ الإنسان من حالات الزلّل والتّوتر ، وتوجهه فيها إلى تحقيق الفضائل الأخلاقية في واقع النّفس ، فيقول تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ).

ثمّ يبيّن قاعدةً كليّةً ، تقول : (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ).

فما يجول في خاطر الإنسان وخُلدِه ، من الحُزن من المستقبل والتّفكير بالرّزق ، والموت والحياة والمرض وما شابهها من امور الدنيا ، كلّها تدفع الإنسان للتّفكير الجاد في مصيره ، وتسلب منه الرّاحة النّفسية ، وتَورثه القلق الحقيقي نحو المستقبل المجهول.

وكذلك عناصر : البخل والطّمع ، والحرص ، هي أيضاً من الامور التي تزرع القلق والتّوتر في نفس الإنسان ، ولكن عند ما يتجسّد ذِكر الله الكريم ، الغني القوي ، الرّحمن الرّحيم ، الرزّاق في وعي الإنسان ، ويعيش الإيمان بأنّ الله تعالى ، هو الواهب والمانع الحقيقي ، فعند ما تَتَجسّد هذه المعاني والمفاهيم ، وتتفاعل مع بعضها في واقع الإنسان في حركة الحياة ، فسوف يعيش الإطمئنان ، والسّكينة أمام تحدّيات الواقع ، فكلّ شيءٍ يراه مسيّراً لقدرة الله تعالى وإرادته المطلقة ، وما شاء كانَ وما لَمْ يَشأ لم يكن.

وبهذا سيطمئن الإنسان ، ويسلّم أمره إلى بارئِه ، وستزرع في نفسه حالة التّقوى وحبّ الفضائل ، وهو ما نَقرأه في الآية الشّريفة :

(يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ* ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً* فَادْخُلِي فِي عِبادِي* وَادْخُلِي جَنَّتِي)(٣).

__________________

١ ـ سورة المائدة ، الآية ٩١.

٢ ـ سورة النّور ، الآية ٣٧.

٣ ـ سورة الفجر ، الآية ٢٧ إلى ٣٠.

٢٩٨

وتحركت «الآية الثّانية» ، بعد ذكرها لمعطيات الصّلاة ، على مستوى النّهي عن الفحشاء والمُنكر : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) ، إلى تقرير هذه الحقيقة وهي : (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ).

نعم ، فإنّ ذكر الله هو روح الصّلاة ، والرّوح أشرف شيءٍ في عالم الوجود ، فإذا ما منَعت الصّلاة عن الفحشاء والمُنكر ، فإنّما ذلك بسبب تضمّنها لذكر الله ، لأنّ ذكر الله هو الذي يذكّر الإنسان بالنّعم ، التي غرق بها الإنسان في واقع الحياة ، وتذكّر نِعم الله ، بِدوره يمنع الإنسان من العصيان والطّغيان ، وسيخجل من إرتكاب الذّنوب ، هذا من جهةٍ.

ومن جهةٍ اخرى ، سيدعو الإنسان للتّفكير بيوم القيامة ، الذي لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون ، ويوم تنشر الصّحف وتَتطاير الكُتب ، ويعيش المُسيئون الفضيحة والعار ، في إنتظار ملائكة العذاب التي تأخذهم إلى الجحيم ، ويكتب الفوز والنّصر للمحسنين ، وسيكون في إستقبالهم ملائكة الرّحمة الذين يقولون لهم ، ادخلوها بسلامٍ آمِنين ، فذِكر هذه الامور ، وتجَسيدها في وعي الإنسان ، سيدفع إلى التّوجه نحو الفضائل ، ويمنعه من مُمارسة الرّذيلة والإثم.

وقال بعض المفسّرين ، إنّ جُملة : (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) ، إشارةً إلى أنّ ذِكر الله تعالى ، هو أسمى وأرقى العبادات ، في مسيرة الإنسان المعنويّة.

ويوجد إحتمالٌ آخرٌ ، وهو أنّ المقصود من : (وَلَذِكْرُ اللهِ) ، هو ذِكر الله لِعبده ، (وذلك في مقابل ذكر العبد لله تعالى) (١).

حيث يصعد ذكر الله تعالى به ، إلى أسمى وأعلى درجات العبوديّة ، في آفاقها الواسعة ، ولا شيء أفضل من هذه الحالة المعنويّة للإنسان ، ولكنّ الإحتمال الأوّل ، يتناسب مع معنى الآية أكثر.

«الآية الثّالثة» : ذكرت أوّل كلامٍ لله تعالى ، مع نبيّه موسى عليه‌السلام ، في وادي الطّور الأيمَنِ ، في البُقعة المباركة عند الشّجرة ، فسمع موسى عليه‌السلام النداء قائلاً : (إِنَّني أَنَا اللهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاٌعْبُدْني

__________________

١ ـ المحجّة البيضاء ، ج ٢ ، ص ٢٦٦.

٢٩٩

وَأَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي).

والحقيقة أنّ الآية ذكرت ، أنّ الهدف والفلسفة الأصليّة للصّلاة ، هي ذكر الله تعالى ، وما ذلك إلّا لأهميّة الذّكر ، في حركة الإنسان المنفتحة على الله تعالى ، وخُصوصاً أنّها ذكرت مسألة الصّلاة ، وذكر الله بعد بحث التّوحيد مباشرةً.

«الآية الرابعة» خاطبت الأخوين موسى وهارون عليهما‌السلام ، من موقع نَصبهما لِمقُام النّبوة والسّفارة الإلهيّة ، وأمرتهما بمحاربة قوى الإنحراف والزّيغ ، والتّصدي لفرعون وأعوانه : (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي).

فالأمر بذكر الله تعالى وعدم التّواني فيه ، لِلوقوف بوجه طاغية : مثلَ فِرعون ، هو أمرٌ يحكي عن دور الذّكر وأبعاده الوسيعة ، وأهميّته الكبيرة في عمليّة السّلوك إلى الله تعالى ، فذِكر الله يمنح الإنسان عناصر القّوة والشّجاعة ، في عمليّة مواجهة التّحديات الصّعبة ، لِلواقع المُنحرف.

وَوَرد في تفسير : «في ظِلال القرآن» ، في مَعرض تفسيره لهذه الآية ، قوله : (إنّ الله تعالى أمر موسى وهارون عليهما‌السلام ، أن اذكروني ، فإنّ ذِكري ، هو سِلاحكم ووسيلتكم لِلنجاة» (١).

وبعض المفسّرين فسّروا كلمة «الذّكر» ، الواردة في الآية ، بإبلاغ الرّسالة ، وقال البعض الآخر ، أنّها مطلق الأمر بالذّكر ، وقال آخرون : إنّها ذِكر الله تعالى خاصّةً ، والحقيقة أنّه لا فرق بين التّفسيرات الثّلاثة ، ويمكن أن تجتمع كلّها في مفهوم الآية.

ومن المعلوم أنّ الرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولِاجل أن يستمر في إبلاغ الرّسالة ، والتّحرك في خطّ الطّاعة والتّصدي لقوى الباطل والإنحراف ، عليه أن يستمد القوّة والقدرة من ذكر الله تعالى ، والتّوجه إليه في واقع النّفس والقلب.

__________________

١ ـ في ظِلال القرآن ، ج ٥ ، ص ٤٧٤.

٣٠٠