الأخلاق في القرآن - ج ١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأخلاق في القرآن - ج ١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : الأخلاق
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8139-05-9
ISBN الدورة:
964-8139-27-X

الصفحات: ٣٥٢

كَيفَ ذَلِكَ يا بنَ رَسُولِ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ قَالَ : لِأَنّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ ما بَعَثَ الأَنْبِياءَ وَالأَوصياءَ بِالسُّكُوتِ ، إِنَّما بَعَثَهُم بِالكِلامِ ، وَلا اسْتَحَقَّتِ الجَنَّةُ بِالسُّكُوتِ وَلا اسْتَوجَبَتْ وِلايَةً بِالسُّكُوتِ ولا تِوَقِّيتِ النّارُ بِالسُّكُوتِ إِنَّما ذَلِكَ كُلُّهُ بِالكَلامِ ، وَما كُنْتُ لِأعدِلَ القَمَرَ بِالشَّمْسِ إِنَّكَ تَصِفُ فَضْلَ السُّكُوتِ بِالكَلامِ وَلَسْتَ تَصِفُ فَضْلَ الكَلامِ بِالسُّكُوتِ» (١).

أجل لا شك أنّ لكلٍّ من الصّمت والكلام ، محاسنه ومَساويه ، والحقّ أنّ إيجابيات الكلام أكثر ، ولكن متى؟ ، فقط : عند ما يصل الإنسان ، إلى مراحل سامية من التّهذيب للنفس ، في معراج الكمال المعنوي ، وأمّا من كان في بداية الطّريق ، فعليه التّحلي بالسّكوت رَيْثَما تتعمق في نفسه تلك الملكات الرّوحانية ، التي يكتسبها الإنسان في حركة الانفتاح على الله ، أو كما يُقال ، ريثما يملك السّالك لسانه عن ممارسة اللّغو والكلام الباطل ، وبعدها يجلس لِلوَعظ والإرشاد.

وبالإمكان بيان معيارٍ جيّدٍ لهذه الحالة ، فنحن إذا أردنا في يومٍ من الأيّام ، تسجيل ما يصدر منّا من كلماتٍ وألفاظٍ على آلة التسجيل ، ثم أصغينا لهذه الأحاديث والكلمات ، منِ موقع الإنصاف وبعيداً عن التّعصب ، فَسَنرى الشّريط ملىءٌ بالتّفاهات والتّرّهات ، ولن يبقى من الكلام المفيد إلّا كلماتً أو جملاً قليلةً ، تتعلق بالغايات الإلهيّة والحاجات الضرورية ، في حركة الحياة والواقع العملي.

ويبقى أمرٌ أخير ، تجدر الإشارة إليه ، أَلا وهو ، أنّ «الصّمت» و «السّكوت» وَردا بمعنى واحد في معاجم اللّغة ، ولكن بعض علماء الأخلاق ذهب إلى وجود فرق بينهما ، فان السّكوت هو التّرك المُطلق للكلام ، والصّمت هو التّرك المقصود للكلام الزائد واللّغو ، أي : «تركُك ما لا يُعينك» ، وهدف السّالك الحقيقي في إطار تهذيب النّفس ، والسّلوك المعنوي ينسجم مع : [الصّمت] لا [السّكوت].

إصلاح اللّسان :

ما تقدم آنفاً من أهمية السّكوت أو الصّمت ، ودوره في تهذيب النّفوس ، والأخلاق في

__________________

١ ـ بحار الانوار ، ج ٦٨ ، ص ٢٧٤.

٢٦١

خطّ السّير والسّلوك إلى الله ، هو في الحقيقة من الطّرق الحياتيّة للوقاية من آفات اللّسان ، لأنّ اللّسان في الحقيقة ، هو المفتاح للعلوم والثّقافة والعقيدة والأخلاق ، وإصلاحه يُعدّ أساساً لِكلّ الإصلاحات الأخلاقيّة في واقع الإنسان ، والعَكس صحيح ، ولأجله فإنّ الحديث عن إصلاح اللّسان ، أوسع منَ مبحث السّكوت وأَشمل.

وقد إكتسب مبحث إصلاح اللّسان ، أهميّةً بالغةً في الأبحاث الأخلاقيّة بإعتباره ، تُرجمان القلب ورَسول العَقل ، ومفتاح شخصيّة الإنسان ، ونافذة الرّوح على آفاق الواقع.

وبعبارةٍ اخرى : إنّ ما يرتسم على صفحات الرّوح والنّفس ، يظهر قبل كلّ شيء على فَلتات اللّسان ، واللّطيف في الأمر أنّ قُدامى الأطباء ، كانوا يُشخّصون المرض ، ويتعرّفون على سلامة الشّخص ومزاجه عن طريق اللّسان ، فَلَم تكن عندهم هذه الإمكانيّات المعقدّة التي بأيدينا اليوم ، فالطّبيب الحاذق ، كان يتحرك في عمليّة تشخيصه ، لأمراض الباطن عن طريق اللسان ، حيث يَنكشِف له من خلال ظاهر اللّسان ولونه ، الأمراض الكامنة في خَبايا جسم صاحبه.

وهكذا الحال بالنّسبة لأمراض الرّوح والعقل والأخلاق ، فيمكن للّسان أن يكشف لنا المفاسد الأخلاقيّة ، والسّلبيات النّفسية والتّعقيدات الرّوحية ، التي تعتلج في صدر وروح الإنسان أيضاً.

وعليه ، فإنّ علماء الأخلاق يرون ، أنّ همّهم الأول والأخير حفظ وإصلاح اللّسان ، ويعتبرونها خُطوةً مهمّةً ومؤثرةً في طريق التّكامل الرّوحي والأخلاقي ، وقد عكس لنا أميرُ المؤمنين عليه‌السلام ، ذلك الأمر في حديثه الذي قال فيه : «تَكَلَّمُوا تُعرَفُوا فإنّ المَرءَ مَخبُوءٌ تَحتَ لِسانِهِ» (١).

وجاء في حديثٍ آخر ، عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله :

«لا يَسْتَقِيمُ إِيمانُ عَبدٍ حَتّىْ يَسْتَقِيمَ قَلْبُهَ ولا يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ حَتّى يَستَقِيمَ لِسانْهُ» (٢).

__________________

١ ـ نهج البلاغة ، الكلمة ٣٩٢ ، من قصار كلماته عليه‌السلام.

٢ ـ بحار الأنوار ، ج ٦٨ ، ص ٢٨٧ ، المحجّة البيضاء ، ج ٥ ، ص ١٩٣.

٢٦٢

ونعود بعد هذه الإشارة إلى أصل بحثنا ، ونقسّمه إلى أربعة محاور.

١ ـ أهميّة اللّسان بإعتباره نعمة إلهية كبيرة.

٢ ـ العلاقة الوثيقة بين إصلاح اللّسان ، وإصلاح روح وفكر الإنسان وأخلاقه.

٣ ـ آفاتُ اللّسان.

٤ ـ الاصول والأسس الكليّة ، لِعلاج آفاتِ اللّسانِ.

في المحور الأوّل : تحدّث القرآن الكريم ، في آيتين من سورة «البلد» و «الرّحمان» ، بِأبلغ الكلام.

فنقرأ في سورة البَلد ، الآيات (٨ ـ ١٠) : (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ).

فبيّنت هذه الآيات الشّريفة ، النّعم والمواهب الإلهيّة الكبيرة على الإنسان في الحياة ، من قَبيل نِعمة العين واللّسان والشفتان ، كأدواتٍ وجوارحٍ يستخدمها الإنسان لمعرفة الخَير والشّر.

نعم ، فإنّ الحقيقة ، أنّ أعجب جوارح الإنسان هي اللّسان ، قطعةٌ من البدن ، حَمَلَتْ وحُمّلت أثقل الوظائف ، فاللّسان علاوة على دوره في بلع الطّعام ومَضغِه ، فإنّه يؤدي واجِبَهُ بِمهارةٍ فائقةٍ من دون أيّ إشتباهٍ ، في أداء هذه المهمّة الكبيرة ، وَلَوْلا مهارته في تَقليب اللّقمة بين الأسنان ، فما ذا سيكون حالنا! ، وبعد الأكل يقوم بعمليّة تنظيف الفم والأسنان أيضاً.

والأهمّ من ذلك والأعجب ، هو كيفيّة الكلام ، بواسطة حركات اللّسان السّريعة ، والمرتّبة والمنظّمة في جميع الجهات.

واللّطيف في الأمر ، أنّ الله سبحانه وتعالى ، قد سهّل عمليّة الكلام ، بصورةٍ كبيرةٍ بحيث أنّ اللّسان لا يملّ ولا يكلّ من النّطق والتّحدث إلى هذا وذاك ، ومن دون تكلفةٍ ونفقةٍ ، والأعجب من ذلك ، قابلية الإنسان للكلام ، وتكوين الجمل والكلمات المختلفة ، كموهبةٍ إلهيةٍ ، وملكة أصليّةٍ في روح الإنسان وفطرته ، بالإضافة إلى إستعداده وقدرته ، لتكوين وتأليف اللّغات المختلفة ، وتعددها إلى الآلاف ، وكلّما مرّ الزمان إزداد عددها وتنوّعها بتنوع الأقوام

٢٦٣

والجماعات البشريّة.

فليس عجيباً عند ما يتحدث عنها القرآن الكريم ، ويقول أنّها أعظم النعم؟

والجدير بالذكر ، أنّ الآية الكريمة ذكرت الشّفتين إلى جانب اللّسان ، فهما في الحقيقة يُساعدان اللّسان في التّلفظ بالكثير من الحروف ، وتنظيم الأصوات والكلمات في عمليّة التّكلم.

ومن جهةٍ اخرى فإنّ الشّفتين ، أفضل وسيلة للسّيطرة على اللّسان ، كما حدّثنا بذلك رسولنا الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، عن الباري تعالى ، أنّه قال : «يا ابنَ آدَمَ إِنْ نازَعكَ لِسانُكَ فِى ما حَرَّمَتُ عَلَيكَ فَقَدْ أَعَنْتُكَ بِطَبَقَتَينِ فأطْبِق» (١).

وفي بداية سورة الرّحمان : (الآيات ١ ـ ٤) ، يشير سُبحانه إلى نعمة البيان ، التي هي ثمرة من ثمرات اللّسان ، وبعد ذكر إسم «الرّحمان» ، التي وسعت رحمته كلّ شيءٍ ، يشير سُبحانه إلى أهمّ وأفضلّ المواهب الإلهيّة ، يعني القرآن الكريم ، ثم خلقة الإنسان ، ثم يعرّج على موهبة البيان لدى الإنسان : (الرَّحْمنُ* عَلَّمَ الْقُرْآنَ* خَلَقَ الْإِنْسانَ* عَلَّمَهُ الْبَيانَ).

وبناءاً عليه فإنّ نعمة البيان ، هي أهمّ موهبةٍ أعطاها الله سبحانه ، لعباده بعد خلقهم.

وإذا ما أردنا أن نستعرض دور البيان ، في تكامل ورُقي الإنسان ، ودوره الفاعل في بناء الحضارة الإنسانيّة ، عندها سنكون على يقينِ بأنّه لو لا تلك النّعمة الإلهيّة ، والموهبة الربّانية ، لما إستطاع الإنسان أن ينقل خبراته وتجاربه للأجيال المتعاقبة ، ولما تقدّم العِلم ، ولما إنتشر الدّين والأخلاق والحضارات بين الامم السّابقة واللّاحقة.

ولنتصور أنّ الإنسان ، في يوم من الأيّام ، سيفقد هذه الموهبة ، فممّا لا شك فيه أنّ المجتمع البشري ، سيعود في ذلك اليوم إلى أجواء التّخلف الحضاري ، والإنحطاط في جميع الصُّعد.

عُنصر «البيان» ، تتوفر فيه أداةٌ ونتيجةٌ ، وبما أنّنا إعتدنا عليه ، فلذلك نتعامل مع هذه الظّاهرة من موقع اللّامبالاة وعدم الإهتمام ، لكنّ الحقيقة هي غير ذلك ، فهو عملٌ دقيقٌ معقّدٌ فنّيٌ لا مثيل له ولا نظير. لأنّه من جهة ، تتعاون الأجهزة الصوتيّة فيما بينها ، من الرئة إلى الهواء الداخل إلى الأوتار الصوتيّة ، والتي بدورها تتعاون ، مع : اللّسان والشّفتان والأسنان والحلق

__________________

١ ـ مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٩٤ ، ذيل الآية المبحوثة ، نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٥١٨.

٢٦٤

والفم ، لتكوين وتأليف الأصوات بسرعةٍ فائقةِ دقيقةٍ جدّاً ، حتى يصل إلى الحُنجرة ، التي تقوم بتقطيعه وتقسيمه حسب الحاجة.

ثم إنّ قصّة وضع اللّغات البشريّة ، وتعدّدها وتنوّعها هي قصةٌ عجيبةٌ ومعقدةٌ ، وتزيد من أهميّة الموضوع ، «يقول بعض العلماء : أنّ عددَ لُغات العالم ، وصل إلى حوالي (٣٠٠٠) لغة».

ونحن نعلم أنّ هذا العدد لن يتوقف عند هذا الحد ، وأنّ عدد اللّغات في تزايدٍ مُستمرٍ.

فهذه النّعمة الإلهيّة ، هي من أهم وأغرب وألطف النّعم ، والتي لها دورٌ فاعلٌ في حياة الإنسان وتكامله ورقيّه ، وهي الوسيلة ، لتقارب البشر وتوطيد العلاقات فيما بينهم ، على جميع المستويات.

وقد إنعكست هذه المسألة ، في الرّوايات بصورةٍ واسعةٍ ، ومنها ما وَرد عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : «ما الإِنسانَ لَو لا اللّسانُ إِلّا صُورَةٌ مُمَثَّلَةٌ أَو بَهَيمَةٌ مُهمَلَةٌ» (١).

والحقُّ ما قاله الإمام عليه‌السلام ، لأنّه لو لا اللسان فعلاً لَما إمتاز الإنسان عن الحيوان ، وَوَرد في حديثٍ آخر ، عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الجَمالُ فِي اللّسانِ» (٢).

ونقل هذا الحديث بصورة اخرى ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : «الجَمالُ في اللّسانِ والكَمالِ في العَقلِ» (٣).

ونختم بحديثٍ آخرٍ عن عن الإمام علي عليه‌السلام ، فقال : «إِنّ فِي الإِنسانِ عَشَرَ خِصَالٍ يُظْهِرُها لِسانُهُ ، شاهِدٌ يُخْبِرُ عَنِ الضَّميرِ ، وَحاكِمٌ يَفْصِلْ بَينَ الخِطابِ ، وَناطِقٌ يَرُدُّ بِهِ الجَوابَ ، وَشافِعٌ يُدْرِكُ بِهِ الحاجَةَ ، وَواصِفٌ يَعْرِفُ بِهِ الأشياءَ ، وَأَمِيرٌ يأمُرُ بِالحَسَنِ ، وَوَاعِظٌ يَنهى عَنِ القَبِيحِ ، وَمُعَزٍّ تَسْكُنُ بِهِ الأحزانُ ، وَحاضِرٌ (حامِدٌ) تُجْلى بِهِ الضَّغائِنُ ، وَمُونِقٌ تَلَذُّ بِهِ الأَسماعُ» (٤).

ولحسن الختام ، نعرج على كتاب : «المحجّة البيضاء» في «تهذيب الأحياء».

__________________

١ ـ غُرر الحِكم ، الرقم (٩٦٤٤).

٢ ـ بحار الأنوار ، ج ٧٤ ، ص ١٤١ ، ح ٢٤.

٣ ـ المصدر السّابق ، ج ٧٥ ، ص ٨٠ ، ح ٦٤.

٤ ـ الكافي ، ج ٨ ، ص ٢٠ ، ح ٤.

٢٦٥

ففي بداية الكلام ، وتحت عنوان : «كتاب آفات اللّسان» ، يقول :

(فإنّ اللّسان من نعم الله العظيمة ، ومن لطائف صُنعه الغريبة ، فإنّه صغيرٌ جرمه ، عظيمٌ طاعته وجرمه ، إذ لا يستبين الكفر والإيمان ، إلّا بشهادة اللّسان ، وهما غاية الطّاعة والطغّيان ، ثمّ إنّه ما من موجودٍ أو معدومٍ ، خالق أو مخلوق ، متخيّل أو معلوم ، مظنون أو موهوم إلّا واللّسان يتناوله ، ويتعرّض له بإثباتٍ أو نفي ، فإنّ كلّ ما يتناوله العلم ، يُعرب عنه اللّسان ، إمّا بحقّ أو باطلٍ ، ولا شيء إلّا والعلم متناول له ، وهذه خاصيّة لا توجد في سائر الأعضاء ، فإنّ العين لا تصل إلى غير الألوان والصّور ، والأذن لا تصل إلى غير الأصوات ، واليد لا تصل إلى غير الأجسام ، وكذا سائر الأعضاء ، واللّسان رَحب الميدان ، ليس له مردّ ولا لمجاله مُنتهى ولا حدّ ، فله في الخير مجال رَحب ، وله في الشرّ مجرى سحب ، فمن أطلق عذبة اللّسان وأهمله مرخى العِنان ، سَلك به الشّيطان في كلّ ميدان ، وساقه إلى شفا جرفٍ هار). (١)

علاقة اللّسان بالفكر والأخلاق :

لا شك أنّ اللّسان هو نافذة الرّوح ، وهو يعني أنّ شخصيّة الإنسان مخبوءةٌ تحت لِسانِه ، وبالعكس فإنّ كلمات كلّ إنسانٍ لها دورٌ في بلورة وصياغة روحه ونفسيّته ، فالتّأثير بين الكلام وشخصيّة المتكلم ، هو تأثيرٌ مُتقابلٌ.

والآية الوحيدة التي تناولت ، علاقة اللّسان بالفكر والأخلاق ، هي الآية (٣٠) من سورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بالشّكل الذي يشخّص معها الإنسان ، ما يدور في خُلد طَرفه المقابل ، عن طريق حديثه وكلامه معه ، ولذلك فإنّ الإنسان ، سعى قديماً وحديثاً للتّركيز على هذا الأمر ، لمعرفة خبايا وبواطن الرّجال عن طريق المحادثة والطّب النّفسي ، فنقرأ في هذه الآية ، التي نزلت لتفضح المنافقين ، قوله تعالى : (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ).

وعلى حدّ تعريف الرّاغب ، في : «مفردات القرآن» ، أنّ معنى «اللّحن» ، هو الخطأ في الإعراب ، أو الانحراف عن قواعد اللّغة ، أو قلب الكلام من الصّراحة إلى الكناية ، و

__________________

١ ـ المحجّة البيضاء ، ج ٥ ، ص ١٩٠.

٢٦٦

الإشارات ، «ولحن القول» المقصود في الآية ، هو المعنى الأخير ، وهي الكنايات والتّعبيرات ذات المعاني المتعدّدة ، والحمالة لوجوهٍ.

ففي حديثٍ عن أبي سعيد الخدُري قال :

(لَحْنُ القَولِ بُغْضُهُم عَلي بنَ أَبي طالبٍ ، وَكُنَّا نَعْرِفُ المُنافِقِينَ عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ بِبُغْضِهِم عَلي بنَ أَبي طالِبٍ) (١).

ولم تنسَ الروايات حظها في هذا المجال ، فقد وَرد :

١ ـ «ما أَضْمَرَ أَحَدٌ شَيئَاً إلّا ظَهَرَ فِي فَلَتاتِ لِسانِهِ وَصَفَحاتِ وَجِهِهِ» (٢).

فهذا الحديث يمكن أن يكون أساس الطبّ والعلوم النّفسية ، والحقيقة أنّ اللّسان هو مرآة الرّوح.

٢ ـ وعنه عليه‌السلام أيضاً : «الإِنسانُ لُبُّهُ لِسانُهُ» (٣).

٣ ـ وعنه عليه‌السلام أيضاً : «قُلْتُ أَربَعاً ، أَنْزَلَ اللهُ تَصدِيقي بِها في كِتابِهِ ، قُلْتُ المَرءُ مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسانِهِ فإذا تَكَلَّمَ ظَهَرَ ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعالى (وَلَتَعْرِفَنَّهُم فِي لَحْنِ القَولِ) (٤) ، قُلْتُ فَمَنْ جَهِلَ شَيئَاً عاداهُ ، فَأَنْزَلَ اللهُ ؛ (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) (٥) ، وَقُلْتُ قِيمَةُ كُلُّ امرِءٍ ما يُحْسِنُ ، فَأَنْزَلَ اللهُ ، فِي قِصَّةِ طالُوتَ (إِنَّ اللهَ اصطفَاهُ عَلَيكُم وَزَادهُ بَسْطَةً في العِلْمِ والجِسمِ) (٦) ، وَقُلْتُ القَتلُ يُقِلُّ القَتلَ ، فَأَنْزَلَ اللهُ ، وَلَكُم فِي القِصاصِ حياةٌ يا اولِي الأَلبابِ) (٧)» (٨).

٤ ـ وفي حديثٍ آخرٍ عنه عليه‌السلام أيضاً قال : «يُسْتَدَلُّ عَلى عَقْلِ كُلِّ امرِءٍ بِما يَجرِي عَلَى لِسانِهِ» (٩).

__________________

١ ـ مجمع البيان ، ج ٦ ، ص ١٠٦ ، ونقل كثير من أهل الحديث هذه القصة ، كأحمد بن حنبل في الفضائل ، وإبن عبد البر في «الإستيعاب» والذهبي في «تاريخ أوّل الإسلام» وإبن الأثير في «جامع الاصول» ، وغيرها.

٢ ـ نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الكلمة ٢٦.

٣ ـ بحار الأنوار ، ج ٧٨ ، ص ٥٦.

٤ ـ سورة محمد ، الآية ٣٠.

٥ ـ سورة يونس ، الآية ٣٩.

٦ ـ سورة البقرة ، الآية ٢٤٧.

٧ ـ سورة البقرة ، الآية ١٧٩.

٨ ـ بحار الأنوار ، ج ٦٨ ، ص ٢٨٣.

٩ ـ غرر الحكم.

٢٦٧

وقال عليه‌السلام أيضاً : «إِياكَ والكَلامَ في ما لا تَعْرِفُ طَرِيقَتَهُ وَلا تَعْلَمَ حَقِيقَتَهُ فَأنَّ قَولَكَ يَدُلُّ عَلى عَقْلِكَ وَعِبادَتِكَ تُنْبَؤُ عَنْ مَعْرِفَتِكَ» (١).

والحقيقة أنّ اللّسان له دور حيوي وفعّال ، في حياة الإنسان وبناء شخصيته ، وهو أمرٌ لا يخفى على أحدٍ ، وله أصداءٌ واسعةٌ في الرّوايات الإسلاميّة ، وما ورد آنفاً ليس إلّا نَزَرٌ قليلٌ من ذاك الكمّ الكثير.

وبالطّبع فإنّ النّعم الإلهيّة العظيمة ، هي رأسمالٌ عظيمٌ لبناء الذّات في طريق التّكامل المعنوي ، وكلّما إزدادت النعم الإلهيّة ، وتوسّعت ، إزداد الأمر خطورةً ، للحفاظ عليه من الآفات والأخطار في دائرة التّحديات الصعبة ، التي تحاول القضاء على شخصيّة الإنسان.

والمعروف : «أنّه إلى جانبِ كلِّ جبلٍ عظيمٍ وادٍ سحيقٍ» ، ففي جانب كلّ نعمةٍ وموهبةٍ ، هناك خطرٌ محدقٌ ، فالطّاقة الذريّة مثلاً إذا استعملت في الأغراض السلميّة ، والإعمار ، فستبني وتُعمّر دنيا الإنسان ، وإذا ما استعملت في الشر فستفني العالم في دقائق معددوة.

ومنها نفتح باب الحديث ، على آفات اللّسان.

آفات اللّسان :

كما أشرنا أنّ فوائد اللّسان وبركاته البنّاءة عديدةٌ ، وكذلك آثاره السلبيّة ، وما يترتب عليه من ذنوبٍ وآثامٍ ، ونتائجٍ مخرّبةٍ على مستوى الفرد والمجتمع ، وقد ذكر العلّامة المرحوم الفيض الكاشاني رحمه‌الله ، في كتابه : «المحجّة البيضاء» ، والغزالي في كتابه : «إحياء العلوم» ، بحوثاً مطوّلة ، فذكر الغزالي عشرين نوعاً من أنواع الإنحرافات والأخطار للّسان :

١ ـ الكلام في ما لا يعني الإنسان ، «وليس له أثر مادّي ولا معنوي في حياة الإنسان».

٢ ـ الثّرثرة والكلام اللّغو.

__________________

١ ـ غرر الحكم.

٢٦٨

٣ ـ الجدال والمراء.

٤ ـ الخصومة والنّزاع واللّجاج في الكلام.

٥ ـ التّكلم حول المنكرات ، مثل الشّراب والقمار وما شابهه.

٦ ـ التكلّف في الكلام ، والتّصنع في السّجع والقافية.

٧ ـ البَذاءة

٨ ـ اللّعن لغير مستحقّيه.

٩ ـ الغِناء.

١٠ ـ المِزاح الرّكيك.

١١ ـ السّخرية والإستهزاء بالآخرين.

١٢ ـ إفشاء أسرار الناس.

١٣ ـ الوعود الكاذبة.

١٤ ـ الكذب والأخبار الكاذبة.

١٥ ـ الغيّبة.

١٦ ـ النمَّيمة.

١٧ ـ النّفاق في اللّسان ، «أو كما يقال ذو اللسانين».

١٨ ـ المدح لِغَير مُستَحقّيه.

١٩ ـ الكلام والتّحدث بدون تفكّر وتدبّر ، حيث يُصاحبه الوقوع في الخطأ والاشتباه عادة.

٢٠ ـ التّساؤل عن الامور المعقدّة والغّامضة ، التي تخرج عن قُدرة المسؤول ، هذا وإنّ الدّقة في البحث ، أثبتت لنا أنّ الآفات لا تَنحصر بهذه الامور فقط ، فالمرحوم الكاشاني والغزالي ، ربّما لم يكن قَصدهما ، إحصاء جميع عناصر الخلل والزّيغ في اللّسان ، ولذلك فإنّنا نضيف إلى هذه الموارد العشرين ، موارد اخرى ، وهي :

١ ـ التّهمة.

٢٦٩

٢ ـ الشّهادة بالباطِل.

٣ ـ مدح النّفس.

٤ ـ نشر الشّائعات والأكاذيب ، التي لا تعتمد على أساس ، وإشاعة الفَحشاء والمُنكر ، وإن كان من باب الإحتمال.

٥ ـ البذاءَة والخُشونة في الكلام.

٦ ـ الإصرار العَقيم : (كما أصرّ أصحاب بقرة بني إسرائيل).

٧ ـ ايذاء الآخرين بالكلام الجارِح.

٨ ـ المذمّة لغير مُستحقيها.

٩ ـ الكُفران وعدم الشّكر باللّسان.

١٠ ـ الدّعاية لِلباطِل ، والتّرغيب على الذَنب ، والأمر بالمُنكر ، والنّهي عن المعروف.

وغَنيٌّ عن البيان ، أنّ ما تقدّم آنفاً لا يشكل جميع خطايا اللّسان ، بل يمكن القول أنّ هذه الموارد الثّلاثين ، من امهّات المِوارد في هذا الصّدد.

والجدير بالذّكر ، أنّ البَعضِ أفرطوا في هذا المجال ، ونسبوا إلى اللّسان ذُنوباً هو بَريءٌ منها ، كَإظهار الفقر والمَسكنة والبدعة في الدّين ، والتّفسير بالرّأي والجاسوسيّة ما شابَهها ، فكلٌّ منها يعتبر ذنباً مُستقلًّا ، فربما إرتكبت باللّسان أو بالقلم ، أو بوسائل اخرى ، وتصنيفها في عداد ذنوب اللّسان ، ليس بالشّيء المُناسب ، لأنّه على هذا الأساس ، يمكن تصنيف جميع الذّنوب في قائمة ذنوب اللّسان ، حيث إنّها ترتكب بنوعٍ ما ، بواسطة اللّسان ، أو أنّ لها علاقة به ، كالرّياء والحسد والتكبر والقتل والزّنا.

والبعض أَقَدم على كلّ خطيئةٍ من خَطايا اللّسان ، وقسّمها إلى أقسامٍ عديدةٍ ، وجعل كلّ قسم منها ، في فرع خاصٍّ وعنوانٍ مستقلٍ ، مثل الجَسارة مع الأستاذ أو الوالدين ، أو تلقيبّهم بألقاب نابيةٍ.

وعلى كلّ حال ، علينا إتخاذ جانب الإعتدال في كلّ شيءٍ ، وإن كانت هذه التّقسيمات ، في الحقيقة لا تؤثّر في أصلِ البحث.

٢٧٠

الاسس الكليّة للوقاية من أخطار اللّسان :

تبيّن ممّا سَبق ، أنّ اللّسان في الوقت الذي يعدّ فيه نعمةً إلهيةً عظميةً ، هو في نفس الوقت ، خطرٌ جدّاً إلى درجةٍ أنّ بإمكانه ، أن يكون مصدرَ الخطايا والذّنوب ، وأن يَهبُط بالإنسان في خطّ الباطل ، إلى أسفل السّافلين ويجره إلى الحَضيض.

ولأجله علينا التّفكير ، في الاصول التي تُعيننا في تجنّب أخطاره الكبيرة ، أو تقليلها إلى أقصى حد.

ونستعين في دائرة الكشف عن أخطار اللّسان ، بتوجيهات أئمّتنا العظام عليهم‌السلام ورواياتهم ، وكذلك نَستعين بِبَعض من كلمات علماء الأخلاق ، حيث وضعوا لنا اصولاً واسساً وخطوطاً عامةً ، عليها التَّعويل في حركتنا المعنويّة المتجهة نحو الله تعالى ، ومنها :

١ ـ الإنتباه الحَقيقي لأخطار اللّسان

للوقاية من أخطار أيّ موجودٍ خطرٍ علينا ، في البِداية نَلتَزِم حالة الإنتباه والتّوجه الّتام ، لما يترتب عليه من أخطار ، فعند ما يستيقظ الإنسان كلّ يومٍ صباحاً ، عليه أن يُوصي نفسه ومعها على مستوى الحَذر ، من شطَحات لسانه وأفكاره ، لأنّ هذا العضو من البدن إذا تعامل معه الإنسان ، من موقع الإنضباط في خطّ المسؤوليّة ، فسوف يصعد به إلى أوج السّعادة والكَمال ، وإذا أطلق له العِنان ، فسيورد صاحبه في المهالك ، فهو وَحشٌ ضارَي لا همّ له إلّا التّدمير والتّخريب ، وقد ورد هذا المعنى بصورةٍ جمليةٍ وتعبيراتٍ مؤثّرةٍ في رواياتنا الشّريفة ، منها ما ورد عن سعيد بن جُبير ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث قال :

«إذا أَصبَحَ إبنُ آدَمَ أَصْبَحَتْ الأَعْضاءُ كُلُّها تَشْتَكِي اللِّسانَ أَي تَقُولُ إِتَّقِ اللهَ فِينا فَإِنَّكَ إِنْ اسْتَقَمْتَ إِسْتَقَمنا وَإِنْ إِعوَجَجْتَ إِعوَجَجنا» (١).

وجاء عن إمامنا السّجاد عليه‌السلام :

«إِنَّ لِسان إبنِ آدَمَ يُشْرِفُ عَلى جَمِيعِ جَوارِحِهِ كُلَّ صَباحُ فَيَقُولُ كَيفَ أَصْبَحْتُم؟!

__________________

١ ـ المحجّة البيضاء ، ج ٥ ، ص ١٩٣.

٢٧١

فَيَقُولُونَ بِخَيرٍ إِنْ تَرَكْتَنا وَيَقُولُونَ اللهَ اللهَ فِينا ، وَيُناشِدُونَهُ وَيَقُولُونَ إِنَّما نُثابُ وَنُعاقَبُ بكَ». (١)

٢ ـ السّكوت

تطرّقنا سابقاً لمباحث السّكوت ، بصورةٍ وافيةٍ ، ونقلنا آيات وروايات كثيرة في هذا الصّدد ، فكلّما كانَ الكلام أقل ، كان الزّلل كذلك ، وكلّما كان السّكوت أكثر ، كانتْ السّلامة تحيط بالإنسان في حركة الحياة والواقع ، عِلاوةً على ذلك فإنّ إلتزام السّكوت في أغلب الحالات ، يعوّد الإنسان السّيطرة على لسانه والحدّ من جموحه ، والوصول في هذه الحالة النّفسية ، إلى درجةٍ لا يقول إلّا الحقّ ، ولا يتكلّم إلّا بما يُرضي الله تعالى.

ويجب الإنتباه إلى أنّ المراد من السّكوت ، ليس هو السكوت المطلق ، فكثيرٌ من امورنا الحياتيّة لا يتحقّق إلّا بالكلام ، من قبيل كثيرٍ من الطّاعاتِ والعبادات ، ونشر العلوم والفَضائل ، وإصلاح ذاتِ البَين ، وأمثال ذلك ، فالمقصود قلّة الكلام والإجتناب عن فُضوله ، فقد قال الإمام علي عليه‌السلام :

«مَنْ كَثُرَ كَلامُهُ كَثُرَ خَطَؤُهُ ، مَنْ كَثُرَ خَطَؤُهُ قَلَّ حَياؤُهُ ، وَمَنْ قَلَّ حَياؤُهُ قَلَّ وَرَعُهُ ، وَمَنْ قَلَّ وَرَعَهُ ماتَ قَلْبُهُ ، وَمَنْ ماتَ قَلْبُهُ دَخَلَ النّارَ» (٢).

ونقل هذا التّعبير ، بصورةٍ اخرى عن الرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله (٣).

وفي حديثٍ آخر عن الإمام علي عليه‌السلام ، أنّه قال : «الكَلامُ كَالدَّواءِ قَلِيلُهُ يَنْفَعُ وَكَثِيرهُ قاتِلٌ» (٤).

٣ ـ حِفظ اللّسان : «التفكّر أولاً ثّم الكَلام»

إذا فكّر الإنسان في مضمون كلامه ، ودوافعه ونتائجه ، فسيكون بإمكانه أن يَتجنّب كثيراً من الشّطحات ، والذّنوب التي تنطلق من موقع الغفلة ، نعم فإنّ إطلاق العِنان لِلّسان من موقع اللّامبالاة والإستهانة ، بإمكانه أن يوقعه في أنواع الذّنوب والمَهالك في حركةِ الحياة.

__________________

١ ـ الكافي ، ج ٢ ، ص ١٥ ، ح ١٣.

٢ ـ نهج البلاغة ، الكلمات القِصار ، الكلمة ٣٤٩.

٣ ـ النحجّة البيضاء ، ج ٥ ، ص ١٩٦.

٤ ـ غُرر الحِكم ، الرقم ٢١٨٢.

٢٧٢

وَوَرد في حديثٍ عن الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنّه قال :

«إِنَّ لِسانَ المُؤمِنِ وَراءَ قَلْبِهِ ، فَإِذا أَرادَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِشيءٍ تَدَبِّرَهُ بِقَلْبِهِ ، ثُمَّ أَمضاهُ بِلِسانِهِ وإنَّ لِسانَ المُنافِقِ أَمامَ قَلْبِهِ ، فَإِذا هَمَّ بِشيءٍ أَمضاهُ بِلِسانِهِ وَلَم يَتَدَبَّرْهُ بِقَلْبِهِ» (١).

وَوَرد نفسُ هذا المعنى ، مع بعض الإختلاف في كلمات أمير المؤمنين عليه‌السلام ، في الخُطبة (١٧٦) من نهج البلاغة.

ونقرأ في تعبيرٍ آخر ورد عن الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام ، أنّه قال : «قَلْبُ الأَحْمَقِ في فَمِهِ ، وَفَمُ الحَكِيمِ فِي قَلْبِهِ» (٢).

فَمن البَديهي ، أنّ المراد من القلب هُنا هو العقل والفكر ، وَوُجود اللّسان في موقع الأمام أو الخلف ، هو كنايةٌ عن التدبّر والتفكّر في محتوى الكلمات والألفاظ ، قبل النّطق بها ، وبالفِعل كم يكون جميلاً ، لو أنّنا حسبنا لكلامنا حسابه ، وفكّرنا في كلّ كلمةٍ نريد أن نقولها ، والدّوافع والنّتائج التي ستعقبها ، وهل أنّها من اللّغو أو ممّا يفضي إلى إيذاء مؤمنٍ ، أو إلى تأييد ظالم وأمثال ذلك ، أو أنّها تنطلق من موقع الدّوافع الإلهيّة ، ولغرض حماية المظلوم ، وفي طريقٌ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وكسب مَرضاة الله تعالى؟!.

ونَختم هذا الكلام ، بحديثٍ جامعٍ لجميع الموارد المذكورة آنفاً ، يمنح قلب الإنسان نوراً وصفاءً ، وقد ورد عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال :

«إِنْ أَحبَبتَ سَلامَةَ نَفْسِكَ وَسَترَ مَعايبِكَ ، فَاقْلِل كَلامَكَ وَأَكْثِر صَمْتَكَ ، يَتَوفَّرْ فِكْرُكَ وَيَستَنِرُ قَلْبُكَ». (٣)

هذه هي خلاصة دور اللّسان في تهذيب النّفس ، وطهارة الأخلاق والاصول الكلّية لحفظ اللّسان ، وبالطّبع سوف نقدم شرحاً وافياً ، لتفاصيل أهمّ الإنحرافات والذّنوب اللّسانيّة ، كالغيبة والتّهمة والكَذب والَنميمة ونشر الأكاذيب وإشاعة الفحشاء ، وذلك في المجلّد الثاني من الكتاب ، إن شاء الله تعالى ، بعد الإنتهاء من بيان الاصول الكلّية لِلقيم الأخلاقيّة.

__________________

١ ـ المحجّة البيضاء ، ج ٥ ، ص ١٩٥.

٢ ـ بحار الأنوار ، ج ٧٥ ، ص ٣٧٤.

٣ ـ غُرر الحكم ، ص ٢١٦ ، ص ٤٢٥٢.

٢٧٣

الخُطوة الثّامنة : معرفة الله تعالى ومعرفة النّفس

من الخَطوات الاولى في طريق إصلاح النّفس ، والتّهذيب الرّوحي ، وبلورة الأخلاق والملكات الأخلاقية السّامية ، في واقع الإنسان هي : «معرفة النّفس».

فكيف يمكن للإنسان أن يرقى في درجات الكمال الرّوحي ويتحرك على مُستوى إصلاح عُيوبه ، والتّخلص من رذائله الأخلاقيّة ، والحال أنّه لا يعرف نفسه من موقع الوعي لذاته؟

وهل للمريض أن يذهب إلى الطّبيب ، ولمّا يعرف أنّه مُصابٌ بالمرض؟

وهل لِلتائه الضّال عن الطّريق ، أن يعرف وجهته ، ويتحرك في طريق العثور على الجادة الصّحيحة ، قبل أن يعرف أنّه ضالٌ عن الطريق؟

وهل للإنسان أن يُهيّىء أسباب ووسائل الدّفاع عن نفسه ، وهو لا يعرف أنّ العدوّ قد كَمَن له على باب داره؟

من الطّبيعي ، أنّ الإجابة عن هذه الأسئلة هو بالنّفي ، فكَذلك من لا يعرف نفسه ولا عيوبه فإنّه لن يستطيع أن يتحرّك في عملّية إصلاح نفسه ، ولن يستفيد من أطبّاء الرّوح ، في خطّ التّربية والتّهذيب.

وبهذه الإشارة نعود إلى صُلب الموضوع ، لنبيّن علاقة معرفة النّفس بِتهذيبها ، وكذلك العلاقة بين : معرفة الله وتهذيب النّفس.

١ ـ علاقة معرفة النّفس بتهذيبها

كيف يُمكن لمعرفة النّفس أن تكون سبباً في تهذيب النّفس؟ دليلُهُ واضحٌ وبَيّنٌ ، لأنّه :

أولاً : إنّ الإنسان عن طريق معرفة نفسه ، سوفَ يعَي كرامةَ نفسه ، وشرفَ ذاتِه ، وعظمةَ الصّنع الإلهي في هذه الخِلقة ، وبالتّالي سَيُدرِك ، أهميّة الرّوح الإنسانيّة ، التي هي نفحةٌ من نفحات قُدسه ، نعم فإنّه سَيُدْرِك أنّ الجوهَرة الّثمينة ، التي منحه الله تعالى إيّاها ، عليه ألّا يُضيّعها ولا يَبيعها بأبخسِ الأثمان ، فلن يُضيّعها إلّا من كانَ يعيش الرّذائل الأخلاقيّة ، ومن غَرِق

٢٧٤

بِوحل الذّنوب ، ومستنقع الخَطيئة.

ثانياً : الإنسان بمعرفته لنفسه ، سيطّلع على الأخطار التي تحدق به ، جرّاء مِيوله النّفسية ، وعنصر الهَوى ودوافع الشّهوة ، التي تقع في خطّ التّقابل ، مع سعادته وتكامله المعنوي في حركة الواقع النّفساني ، وسيكون بإمكانه التّحرك في دائرة المُواجهة الواعية ، للوقوف بوجهها والتّصدي لها.

ومن البديهي ، أنّ الإنسان الذي لا يَخبُر نفسه لن يكون على إحاطةٍ بوجود تلك الدوافع ، ويبقى كالغافل عمّا يدور حواليه ، بينما يكون الأعداء قد إحتوشوه من كلّ جانبٍ ، وهو لا يُحرّك ساكناً ، وبالطّبع فإنّ هذا الشّخص ، سيتلقّى ضرباتٍ قاصمةٍ من عدوّه ، وبعدها يخضع لواقع السّيطرة من قِبل العدو ، وأنّى له ساعتها ، التّدبير والتّفكير من موقع الشّعور الهادِىء ، والبعيد عن الإنفعال والتّوتر!!.

ثالثاً : بمعرفة النّفس ، ستظهر له خَبايا نفسه ، وإستِعداداتِها المختلفة ، ولأجل رُقيّها وكمالها والسّير بها إلى الله ، سيسعى الإنسان في خطّ التربيّة والتّهذيب ، لِبلورة تلك الإستعدادات والكَمالات ، ويستخرج كُنوزها من واقعه الذّاتي ، ليقترب بواسطتها من آفاق السّماء.

وحال الشّخص الذي لا يتعامل مع ذاته ، من موقع المعرفة والوَعي ، كحال الذي دَفَن في بيته كُنوزاً ، وهو لا يعلم بها ، وهو بأمسّ الحاجة إليها لفقره المُدقع ، فيموت جوعاً بدون أن يجد في نفسه باعثاً على الانتفاع بها ، في واقع الحياة.

رابعاً : إنّ كلّ واحدةٍ من المفاسد الأخلاقيّة ، لها جذورها في النّفس الإنسانيّة ، وبمعرفة النّفس ، سيسعى الإنسان في عمليّة قلع تلك الجُذور ، من واقع النّفس وغلق تلك الرّوافد التي تمدّها بالماء الآسن ، ومُعالجة هذا الواقع السّلبي ، بفتح روافد الماء الصّافي الرّقراق الذي يمدّها بالحَياة والوِصال الحقيقي المنفتح على الإيمان والصفاء النّفسي.

خامساً : والأهم من هذا وذاك ، فإنّ معرفة النّفس ، تؤدّي إلى معرفة الربّ ، ومعرفة صفاته الجلاليّة والجماليّة ، والتي هي من أقوى الدّوافع الذاتيّة ، لتربية المَلَكات الأخلاقيّة ، والكَمالات الإنسانيّة ، وطريقٌ قويمٌ لِلنجاة من الإنحطاط والرّذيلة ، والصّعود بها إلى أعلى

٢٧٥

مراتب الكمال المعنوي ، وآفاق المَثل الإنسانيّة.

وإذا أضفنا إلى ذلك كلّه هذه الحقيقة ، وهي أنّ الرّذائل تقلب حلاوة السعادة إلى مرارة الشّقاء ، وتجرّ البشريّة إلى حيث الويلات والدّمار ، فعندها ستتّضح مدى الأهميّة القُصوى ، لمعرفة النّفس في حياة الإنسان والمجتمع البشري.

وقد وَرد في كتاب : «إعجاز الطبّ النّفسي» ، للكاتب «كارل منينجر» : (معرفة النّفس عبارة عن الإحاطة بقوى الخير والمحبّة ، ومعرفة عناصر الشّر والكراهيّة في النفس الإنسانيّة ، وأيّ تجاهلٍ وتغافلٍ عن وجود هذه القوى والعناصر في أنفسنا ، وفي الغير ، بإمكانه أن يُعرّض اسس الحياة للإهتزاز والخلَل) (١).

وفي كتاب : «الإنسان ذلك المجهول» ، وردت جملةٌ تعتبر شاهداً حيّاً على مدّعانا ، فيقول : (لسوء الحظ فإنّ الإنسان المعاصر ، لم يتحرّك على مستوى التّعرف على نفسه ، إلى جانب التّقدم الصّناعي والتّطور العلمي ، ولم يوفّق برنامج الحياة ، وفق واقعه الطّبيعي ، والفِطري ، لذلك فَمع ما في الحياة العصريّة من زينةٍ وتفاخرٍ ، لكنّها لم توصل الإنسان للسّعادة المنشودة ، فالتّقدم الذي حصل على مستوى العلم والتّكنولوجيا ، لم يحصل بتدبيرٍ وتفكيرٍ ، بل حصل عن طريق الصّدفة الَمحضة .. ، فلو ركّز : «غاليلو» و «نيوتن» و «لافوازيه» ، وغيرهم من العلماء على جسم وروح الإنسان ، لربّما تغيّرت الدنيا ، ولمّا أصحبت كما هي عليه الآن» (٢).

وبناءاً عليه ، فإنّ إحدى العقوبات التي أعدّها الباري تعالى ، لِلمُعرضين عن الله من موقع الّتمرد على الحقّ ، وحذّر الباري تعالى ، المسلمين من الوقوع فيها ، هي نسيان النّفس ، والغفلة عن الذّات : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ)(٣).

٢ ـ معرفة النّفس في الرّوايات الإسلاميّة

وقد أغنتنا الرّوايات الشّريفة ، الواردة عن النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والائمّة الهداة عليهم‌السلام ، في هذا

__________________

١ ـ إعجاز الطّب النّفسي ، ص ٦.

٢ ـ الإنسان ذلك المجهول ، ص ٢٢.

٣ ـ سورة الحشر ، الآية ١٩.

٢٧٦

المجال ، ومنحتنا زَخماً معرفيّاً كبيراً ، على مستوى بيان مَعطيّات معرفة النّفس ، وأثرها الإيجابي في حركة الإنسان ، في خطّ التّكامل المعنوي ، والأخلاقي ، ومنها :

١ ـ ما ورد عن الإمام علي عليه‌السلام ، أنّه قال : «نالَ الفَوزَ الأَكبَرَ ، مَنْ طَفَرَ بِمَعرِفَةِ النَّفسِ» (١).

٢ ـ ويقول عليه‌السلام ، في النّقطة المُقابلة لِهذا : «مَنْ لَمْ يَعْرِفْ نَفْسَهُ بَعُدَ عَنْ سَبِيلِ النَّجاةِ ، وَخَبَطَ في الضَّلالِ وَالجَهالاتِ» (٢).

٣ ـ وَوَرد في حديث آخر ، عن هذا الإمام الهمام عليه‌السلام : «العارِفُ مَنْ عَرِفَ نَفْسَهُ فَأَعْتَقَها وَنَزَّهَها عَنْ كُلِّ ما يُبَعِّدُها» (٣).

ويُستفاد من هذا التّعبير ، أنّ معرفة النّفس سببٌ للتحرر من قيود الأهواء ، وأسر الشّهوات ، وتطهير النفس من الرذائل الأخلاقيّة.

٤ ـ ونقرأ في حديث آخر ، عن هذا الإمام الكبير عليه‌السلام : «أَكْثَرُ النّاسِ مَعْرِفَةً لِنَفْسِهِ ، أَخْوَفُهُم لِرَبِّهِ» (٤).

ونَستوحي من هذا الحديث الشّريف ، العلاقة الوثيقة بين الإحساس بالمسؤوليّة ، من موقع الخَوف من الله تعالى ، الذي يعدّ منطلقاً لتهذيب النّفس في خطّ التّقوى ، وبين معرفة النّفس.

٥ ـ وَوَرد في حديثٍ آخر ، عن الإمام نفسه ، يقول : «مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ جاهَدَها وَمَنْ جَهِلَ نَفْسَهُ أَهْمَلَها» (٥).

فطبقاً لهذا الحديث الشريف ، فإنّ الدعامة الأصلية لجهاد النفس ، أو الجهاد الأكبر ، كما ورد التّعبير عنه في الروايات الإسلاميّة ، هي معرفة النّفس.

٦ ـ وجاء في نهج البلاغة ، في قصار الكلمات لأمير المؤمنين عليه‌السلام : «مَنْ كَرُمَتْ عَلَيهِ نَفْسُهُ

__________________

١ ـ غُرر الحِكم ، ح ٩٩٦٥.

٢ ـ المصدر السابق ، ح ٩٠٣٤.

٣ ـ غُرر الحِكم ، طبقاً للميزان ، ج ٦ ، ص ١٧٣.

٤ ـ المصدر السابق ، ح ٣١٢٦.

٥ ـ تفسير الميزان ، نقلاً عن ميزان الحكمة ، ج ٣ ، ص ١٨٨١ ، المادة : المعرفة.

٢٧٧

هانَتْ عَلَيهِ شَهَواتُهُ» (١).

فالشّخص الذي عرف نفسه ، على مستوى كرامتها الذّاتية ، لا يعيش الذّلة في إطار الخضوع للشّهوات ، والإستسلام للأهواء والنّوازع النّفسيّة.

٧ ـ كما أنّ معرفة النّفس ، تعتبر ركناً مُهمّاً في تهذيب النّفس ، في خطّ التّكامل الأخلاقي والمعنوي ، فالجهل بِكرامة النّفس ، سبب للإبتعاد عن الله تعالى ، ولِذا ورد في حديثٍ آخر ، عن الإمام العاشر : (الإمام الهادي عليه‌السلام): «مِنْ هانَتْ عَلَيهِ نَفْسُهُ فَلا تأَمَنْ شَرَّهُ» (٢).

ومِن مَضمون ما تقدّم ، يتبيّن بوضوح ، أنّ من الدّعامات الأساسيّة للفضائل الأخلاقية ، والتّكامل المعنوي ، هو معرفة النّفس ، ولن يصل الإنسان إلى غايته المَنشودة ، إلّا بعد عبور ذلك الممر الصّعب ، ولذلك أكّد علماء الأخلاق ، كثيراً على هذه المسألة ، لِكي لا يغفل عنها السّائرون في الطّريق إلى الله تعالى.

٣ ـ معرفة النّفس طريقٌ لمعرفة الرّبّ

يقول الباري تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ)(٣).

وَوَرد في آية اخرى ، قوله تعالى : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ)(٤).

وإستدلّ بعض المحقّقين ، بالآية الشّريفة ، التي تتحدث عن عالَم الذَّرْ ، على هذه الحقيقة أيضاً ، وهي أنّ : «معرفة النّفس» ، تعتبر الأساس والقاعدة : «لمعرفة الله تعالى» حيث تقول الآية الكريمة : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ، وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا)(٥).

ونقرأ في تفسير الميزان : «فالإنسان وإن بلغ من التّكبر والخُيلاء ما بلغ ، وغرّته مساعدة

__________________

١ ـ نهج البلاغة ، قصار الكلمات ، الكلمة ٤٠٩.

٢ ـ تُحف العقول ، من قصار كلمات الإمام الهادي عليه‌السلام.

٣ ـ سورة فصّلت ، الآية ٥٣.

٤ ـ سورة الذّاريات ، الآية ٢١.

٥ ـ سورة الأعراف ، الآية ١٧٢.

٢٧٨

الأسباب ما غَرّتهُ وإستهوته ، لا يسعه أن ينكر أنّه لا يملك وجود نفسه ، ولا يستقلّ بِتدبير أمره ، ولو ملك نفسه ، ـ لوقاها ممّا يكرهه من الموت ، وسائر آلام الحياة مَصائبها ، ولإستقلّ بتدبير أمره ، لم يفتقر إلى الخضوع ، قبال الأسباب الكونيّة.

فالحاجة إلى ربٍّ : ـ مَلِكٍ مُدَبّرٍ ـ ؛ حقيقة الإنسان ، والفقر مكتوبٌ على نفسه ، والضعف مطبوعٌ على ناصيته ، لا يخفى ذلك على إنسانٍ له أدنى الشّعور الإنساني ، والعالم والجاهل ، والصّغير والكبير ، والشّريف والوضيع ، في ذلك سواء.

فالإنسان في أيّ منزلٍ من منازلِ الإنسانية نزل ، يشاهد من نفسه أنّ له رباً يملكه ويدبّر أمره ، وكيف لا يشاهد ربّه ، وهو يشهد حاجته الذاتيّة؟

ولذا قيل : إنّ الآية تشير إلى ما يشاهده الإنسان في حياته الدنيا. أنّه محتاج في جميع جهات حياته ، من وُجوده وما يتعلق به وجوده من اللّوازم والأحكام ، ومعنى الآية أنّا خلقنا بني آدم في الأرض ، وفرّقناهم ، وميّزنا بعضهم من بعضٍ بالتّناسل والتّوالد ، وأوقفناهم على إحتياجهم ومربوبيتهم لنا ، فإعترفوا بذلك قائلين ، بلى شَهِدنا أنّك ربّنا» (١).

وبناءاً على ذلك ، يثبت لنا أنّ التّعرف على حقيقة الإنسانيّة ، بخصوصياتها وصفاتها ، هي السّبب والأساس لمعرفة الباري تعالى شأنه.

والحديث المعروف ، الذي يقول : «مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ عِرَفَ رَبَّهُ» ، ناظر إلى هذه المسألة بالذات.

وقد نقل هذا الحديث مرّةً عن الرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومرّةً اخرى عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ومرّةً نُقل عن صُحف إدريس عليه‌السلام.

فجاء في بحار الأنوار نقلاً عن صحف إدريس عليه‌السلام ، في الصّحيفة الرّابعة ، والتي هي صحيفة المعرفة : «مَنْ عَرَفَ الخِلْقَ عَرَفَ الخالِقَ ، وَمَنْ عَرَفَ الرِّزْقَ عَرَفَ الرَّازِقَ ، وَمَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ عَرَفَ رَبَّهُ» (٢).

__________________

١ ـ تفسير الميزان ، ج ٨ ، ص ٣٠٧ ، ذيل الآية المبحوثة ، (مع التلخيص).

٢ ـ بحار الأنوار ، ج ٩٢ ، ص ٤٥٦ ؛ ج ٥٨ ، ص ٩٩ ؛ ج ٦٦ ، ص ٢٩٣ ، ونقل عن المعصوم عليه‌السلام ، وفي ج ٢ ، ص ٣٢ عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

٢٧٩

وعلى كلّ حالٍ ، فإنّ مضمون هذا الحديث قد ورد بطرق متعدّدة ، في كتاب بحار الأنوار ، عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو أحد المعصومين عليهم‌السلام ، أو إدريس النبي عليه‌السلام ، وكذلك ورد عن الإمام علي عليه‌السلام ، في : «غُرر الحِكَم» (١).

وقال العلّامة الطّباطبائي ، في تفسيره : «أنّ الشّيعة والسّنة قد نقلوا هذا الحديث عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو حديثٌ مشهورٌ» (٢).

التّفاسير السّبعة ، لحديث من عَرف نفسه :

وقد وردت تفاسيرٌ عديدةٌ لهذا الحديث ، ومنها :

١ ـ يشير هذا الحديث إلى : «بُرهان النّظم» ، فكلّ إنسانٍ يتعرف على عجائب الخِلقة ، في روحه وجِسمه ، وما تتضمّن من النّظم المعقد والمحيّر في تفاصيلها الدقيقة ، فسوف ينفتح له طريق إلى الله تعالى ، فإنّ هذا النّظم والإنتِظام والدّقة في الخلقة ، لا يمكن أن ينشأ ، إلّا بتدبير عالم قادر مبدىء معيد.

٢ ـ ويمكن أن يكون هذا الحديث ، إشارةً إلى بُرهان : «الوجود والإمكان» ، فعند ما ينظر الإنسان ويُدقّق في تفاصيل وُجوده ونشأته ، يرى أنّه وجودٌ مستقلٌ ، من عِلمه وقُدرته وذَكائه وسَلامته ، فكلّها تحتاج إلى وجوده سُبحانه ، ومن دونه ، فَهو لا شيء وسينتهي وجوده ، وفي الحقيقة هو كالمعاني الحرفيّة ، التي بدون المعاني الإسميّة ، لن يكتمل لها معنى ، كجملة : «ذهبتُ إلى المسجد» ، فكلمة «إلى» ، وحدها لا مفهوم لها إطلاقاً ، من دون إرتكازها على كلمتي : «ذهبت» و «المسجد» ، وكذلك الحال في وجودنا بالنّسبة إلى الله تعالى ، فكلّ شخصٍ يحسّ في نفسه هذا الإحساس ، سيعرف ربّه من موقع الإعتماد والإيمان أكثر ، لأنّ وجود الممكن محال ، بدون وجود الواجب.

__________________

١ ـ غُرر الحِكم ، ص ٧٩٤٦.

٢ ـ الميزان ، ج ٦ ، ص ٤٦٩ ، في البحث الرّوائي ، ذيل الآية ١٠٥ ، من سورة المائدة.

٢٨٠