الأخلاق في القرآن - ج ١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأخلاق في القرآن - ج ١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : الأخلاق
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8139-05-9
ISBN الدورة:
964-8139-27-X

الصفحات: ٣٥٢

صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ)(١).

٢ ـ (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً)(٢).

٣ ـ (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً)(٣).

٤ ـ (وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً)(٤).

٥ ـ (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ)(٥).

٦ ـ (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ* الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ* الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ* وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ)(٦).

تفسير وإستنتاج :

«الآية الاولى» : تبيّن أن المنّ بالصدقات وإيذاء الآخرين ، يدخل في عداد الرّياء ويمحق أعمال الخير ، وتبيّن أنّ المرائي لا يعيش الإيمان بالله ولا باليوم الآخر ، (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى ...) ، وبعدها يشبّه هؤلاء الناس بمثل الذي يُنفق أمواله من موقع الرّياء : (كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ...).

وجاء في ذيل الآية : تشبيهٌ جميلٌ جدّا لأعمالهم العقيمة ، التي لا تثمر في نطاق المعنويّات وترتب الثّواب ، فأعمالهم كالصّخر الذي يعلوه التراب ، فيَشتَبِه الفلاح في أمره ، فيبذر فيه البذور بأمل الخصب والزّرع ، فيأتي المطر ويزيل كلّ شيءٍ ، فقال : (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ

__________________

١ ـ سورة البقرة ، الآية ٢٦٤.

٢ ـ سورة الكهف ، الآية ١١٠.

٣ ـ سورة النّساء ، الآية ١٤٢.

٤ ـ سورة النساء ، الآية ٢٨.

٥ ـ سورة الأنفال ، ٤٧.

٦ ـ سورة الماعون ، الآية ٤ إلى ٧.

٢٤١

فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً).

ومن المؤكد أنّ مثل هذا العمل والزرع ، لن يثمر أو يورق ، فكذلك سبحانه وتعالى ، لا يهدي من ينطلق في تعامله مع الله تعالى من موقع الرّياء والكفر ، (لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ).

فعرّفت الآية مثل هؤلاء الأفراد بالمرائين الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ، ومرّة اخرى عرّفتهم بالكافرين ، الذين تتحرك أعمالهم كالسّراب المخادع ، الذي لا قيمة له ، لأنّهم بذروا أعمالهم في أرض الرّياء السّبخة التي لا تصلح للزراعة ، ويوجد إحتمال آخر في تفسير الآية ، وهو أنّ المرائي نفسه بمثابة قطعة الصّخر ، التي لا يثبت عليها التراب ، ولا يفيد معه أيّ بذرٍ من بذور الخير والصّلاح.

نعم! فأرواحهم مريضةٌ وأعمالهم عقيمة ، لا تقوم على أساس من الخير ، ونيّاتهم مشوبة بدرن الرّياء والشّرك الخَفي.

واللّطيف : أنّ الآية التي تلتها في سورة البقرة ، شبّهت أعمال المخلصين ، بجُنينةٍ لا بذور فيها إلّا بذور الصّلاح ، فأصابها وابلٌ فنبتت نَباتاً حسناً ، فأثمرت ثمراً مضاعفاً ومُباركاً فيها.

«الآية الثانية» : خاطبت الرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأمرته بإيصال التّوحيد الخالص للنّاس ، إنسجاماً مع خطّ الرّسالة ، وبإعتبار أَنَّ التّوحيدَ أصلٌ أساسي في الإسلام : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ).

وبذلك يستوحي المؤمن من جو الآية الكريمة ، أنّ الأعمال يجب أن تكون خالصةً ومنزّهةً من أدران الشّرك : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً).

وعليه فإنّ الشّرك في العبادة ، يهدم أساس التّوحيد ، والإعتقاد بالمعاد في حركة الإنسان والحياة ، أو بتعبيرٍ أدق : فإنّ جواز السّفر إلى الجنّة الخالدة ، يتمثل بِخُلوص العمل في دائرة السّلوك والنيّة.

وجاء في شأن نزول الآية : قال إبن عباس : أنّها نزلت في جُندب بن زهير العامري ، قال : يا

٢٤٢

رسول الله إنّي أعمل العمل لله تعالى ، واريد به وجه الله تعالى ، إلّا أنّه إذا إطّلع عليه أحد من الناس سرّني ؛ فقال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنَّ اللهَ طَيِّبٌ وَلا يَقْبَلُ إِلّا الطَّيِّبَ وَلا يَقْبَلُ ما شُورِكَ فِيهِ» (١).

وجاء في شأن نزول الآية أيضاً ، قال طاووس : قال رجل : يا رسول لله! إني احبّ الجهاد في سبيل الله تعالى واحبّ أن يرى مكاني ، فنزلت الآية. (٢)

وَوَرد مثل هذا المضمون بالنّسبة للإنفاق وصِلة الرّحم (٣) ، وتبيّن أنّ الآية الآنفة : نزلت بعد الأسئلة المختلفة ، في الأعمال المشوبة بغير الأهداف الإلهيّة ، وقد إعتبرت المُرائي على حدّ من يعيش حالة الشّرك بالله والشّخص الذي لا إيمان له بالآخرة.

ونقرأ في حديثٍ آخر ، عن الرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «مَنْ صَلّى يُرائي فَقَدْ أَشرَكَ ، وَمَنْ صامَ يُرائِي فَقَدْ أَشرَكَ ، وَمَنْ تَصَدَّقَ يُرائي فَقَدْ أَشرَكَ ، ثُمَّ قَرَأ : فَمَنْ كانَ يَرجُوا لِقاءَ رَبِّهِ ...» (٤).

«الآية الثّالثة» : بيّنت أنّ الرّياء هو من فعل المنافقين : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً).

والجدير بالذكر أنّ النّفاق عبارةٌ عن إزدواجية الظّاهر والباطن ، وكذلك الرّياء فهو إزدواجية الظاهر والباطن ، حيث يتحرك المرائي في أعماله لجلب الأنظار ، فمن الطّبيعي أن يكون الرّياء من برامج المنافقين.

«الآية الرابعة» : إعتبرت الأعمال التي ينطلق بها الإنسان من موقع الرّياء ، مساويةٌ لعدم الإيمان بالله تعالى واليوم الأخر : (وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً).

وعليه فإنّ المرائين هم أصحاب الشيطان ، الذين يفتقدون الإيمان الحقيقي بالمبدأ والمعاد.

__________________

١ ـ تفسير القُرطبي ، ج ١١ ، ص ٦٩.

٢ ـ المصدر السابق.

٣ ـ المصدر السابق.

٤ ـ الدر المنثور ، (طبقاً لتفسير الميزان ، ج ١٣ ، ص ٤٠٧).

٢٤٣

«الآية الخامسة» : تنهى المسلمين من التشبّه بأعمال المشركين الكفّار ، الذين لا يفعلون شيئاً إلّا للرياء والتّفاخر فقط : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ).

فطبقاً للقرائن والشواهد الموجودة ، وتصديق المفسّرين ، فإنّ هذه تشير إلى خروج المشركين من قريش في يوم بَدر ، بحليّهم وزينتهم وقد جلبوا معهم آلات الطّرب واللّعب واللهو والنبّيذ ، وهم يقصدون جلب أنظار أصحابهم من المشركين الوثنيين.

وجاء في بعض التّفاسير ، أنّ منطقة بدر ، كانت تعتبر من المراكز التّجارية لعرب الجاهليّة في وقتها ، وأنّ أبا جهل جاء بوسائل الطرب والجواري ، لغرض مُراءاة النّاس ، وفَقْأ العيون كما يقول المثل الشّائع.

وعلى كلّ حال ، فإنّ القرآن الكريم قد نهى المؤمنين من أمثال هذه الأعمال الشائنة ، ودعاهم إلى ترويض النّفس بالإخلاص والتّقوى ، للتغلب على تلك الحالات النفّسية الخطرة ، وأن لا ينسوا مصير المُرائين وأتباع الشّيطان في معركة بدر.

«والآية الأخيرة» : من الآيات مورد البحث ، نجدها تذّم الرّياء ولكن بصورة اخرى فتقول : (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ* الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ* الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ* وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ).

فقد جاءت كلمة «الويل» ، في (٢٧) مورداً من القرآن ، وإختصّت في الأغلب بالذّنوب الكبيرة الخطرة جدّاً ، وهنا تحكي عن شدّة قُبح ذلك العمل في واقع الإنسان وروحه.

إنّ ما ورد في الآيات الآنفة الذكر ، يوضح إلى درجةٍ كبيرةٍ ، قُبحَ هذه الخطيئة ، وأخطارها وآثارها السلبيّة على سعادة الإنسان في حركة الحياة ، ومن الواضح فإنّ الرّياء يقف حَجرَ عثرةٍ في طريق تهذيب النّفس ، وطهارة القلب والرّوح للإنسان المؤمن.

٢٤٤

الرّياء في الرّوايات الإسلاميّة :

تطرقت الرّوايات لهذا الأمر بقوّةٍ وأهميّة بالغةٍ ، وعرّفت الرّياء بأنّه من أخطر الذّنوب ، ومنها :

١ ـ ما وَرد عن الرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنّه قال : «أَخْوَفَ ما أَخافُ عَلَيكُمْ الرّياء والشَّهوةُ الخَفِيّةُ» (١).

ويمكن أن يكون المراد من الشّهوة الخفيّة ، هو المقاصد الخفيّة للرياء.

٢ ـ وأيضاً ما نقل عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أَدنى الرِّياءِ شِركٌ» (٢).

٣ ـ وأيضاً عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا يَقْبَلُ اللهُ عَملاً فِيهِ مِقدارُ ذَرَّةٍ مِنْ رِياءٍ» (٣).

٤ ـ وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إِنَّ المُرائِي يُنادى يَومَ القِيامَةِ يا فاجِرُ يا غادِرُ يا مُرائي ضَلَّ عَمَلُكَ وَحَبَطَ أَجْرُكَ إِذْهَبْ فَخُذْ أَجْرَكَ مِمَّن كُنْتَ تَعْمَلُ لَهُ» (٤).

٥ ـ وقال أحد أصحاب الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في يوم ما باكياً ، فقلت : ما يُبكيك يا رسول الله؟ فقال : «إنّي تَخَوَّفْتَ عَلى أُمَّتِي الشَّركَ ، أَمّا إِنّهُمْ لا يَعَبُدُونَ صَنَماً وَلا شَمْساً وَلا قَمَراً وَلا حَجرَاً ، وَلَكِنَّهُم يُراؤُونَ بِأَعْمالِهِم» (٥).

٦ ـ وفي حديث آخر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «إِنَّ المَلَكَ لَيَصْعَدُ بِعَمَلِ العَبْدِ مُبْتَهِجاً بِهِ فَإِذا صَعَدَ بِحَسَناتِهِ يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِجْعَلُوها فِي سِجِّينٍ إِنَّهُ لَيسَ إِيَّايَ أَرادَ بِها» (٦).

٧ ـ وأيضاً عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : «يَقُولُ اللهُ سُبْحانَهُ إِنِّي أَغْنَى الشُّرَكاءِ فَمَنْ عَمِلَ عَمَلاً ثُمَّ أَشْرَكَ فِيهِ غَيرِي فَأَنَا مِنْهُ بَرِىءٌ وَهُوَ لِلَّذِي أَشرَكَ بِهِ دُونِي» (٧).

هذه الأحاديث السّبعة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بيّنت أنّ إثم الرّياء بدرجةٍ من الشدّة ، بحيث لا

__________________

١ ـ المحجّة البيضاء ، ج ٦ ، ص ١٤١.

٢ ـ المصدر السابق.

٣ ـ المصدر السّابق.

٤ ـ المصدر السابق.

٥ ـ المصدر السابق.

٦ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٢٩٥.

٧ ـ ميزان الحكمة ، ج ٢ ، ص ١٠١٧ ، الطبعة الجديدة.

٢٤٥

يضاهيه شيءٌ من الذّنوب والخطايا ، وما ذلك إلّا للنتائج السّيئة للرّياء في نفس وروح الإنسان ، وكذلك على مستوى الفرد والمجتمع.

أمّا ما ورد عن الأئمّة عليهم‌السلام :

٨ ـ ما ورد عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، ينقل عن جدّه عليه‌السلام : «سَيأَتِي عَلَى النَّاسِ زَمانٌ تَخْبَثُ فِيهِ سَرائِرِهُمْ وَتَحْسُنُ فِيهِ عَلانِيَّتِهِم ، طَمَعاً في الدُّنيا لا يُريدُونَ بِهِ ما عِنْدَ رَبِّهِم يَكُونَ دِينُهُمْ رِياءً ، لا يُخالِطُهُم خَوْفٌ ، يَعُمُّهُمُ اللهُ بِعِقابٍ فَيَدْعُونَهُ دُعاءَ الغَرِيقِ فلا يَسْتَجِيبُ لَهُمْ» (١).

٩ ـ وفي حديثٍ آخر عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، أنّه قال : «كُلُّ رِياءٍ شِرْكٌ ، إِنَّهُ مَنْ عَمِلَ لِلنَّاسِ كانَ ثَوابُهُ لِلنّاسِ ، وَمَنْ عَمِلَ للهِ كانَ ثَوابُهُ عَلَى اللهِ» (٢).

١٠ ـ وفي حديث عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، قال : «المُرائِي ظاهِرُهُ جَمِيلٌ وَباطِنُهُ عَلِيلٌ» (٣).

وقال أيضاً : «ما أَقْبَحَ بِالإِنسانِ باطِناً عَلِيلاً وَظاهِراً جَمِيلاً» (٤).

وما ورد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعن الأئمّة الهداة ، في هذا المجال كثير.

فلسفة تحريم الرّياء :

قد يتعجّب البعض الذين يعيشون السّذاجة الفكريّة ، عند نظرهم وللوهلة الاولى ، للروايات التي تتعرض لمسألة الرّياء ، ونتائج المرعبة ، ويتصورون أنّ عمل الإنسان إذا كان سليماً ومنتجاً في واقعه الخارجي ، فأيّاً كانت النيّة والدّافع ، فلن يؤثر ذلك في تغيير العمل ، فالذي يبني مُستَشفاً! أو مسجداً أو يعبّد الطّرق والجسور .. وغيرها من الامور التي تصبّ في الصّالح العام للناس ، فعمله صحيحٌ وحسنٌ مهما كانت نيّته ، فلْندَع النّاس يفعلوا الخير ، وما لنا والنيّة!!

__________________

١ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٢٩٦.

٢ ـ المصدر السابق ، ص ٢٩٣.

٣ ـ أمالي الصّدوق ، ص ٣٩٨ ؛ غرر الحكم ، ج ١ ، ص ٦٠ ، الرقم ١٦١٤.

٤ ـ غُرر الحِكم ، ج ٢ ، ص ٧٤٩ ، الرقم ٢٠٩.

٢٤٦

ولكن الخطأ الفادح يكمن هنا لأنّه : أولاً : إنّ كلّ عملٍ وفعلٍ يترتب عليه نوعان من ردود الفعل ، أحدهما ما ينعكس أثره في نفس الإنسان ، والآخر ما يترتب على الفعل في الخارج ، فالمُرائي يحطّم نفسه من الدّاخل ويُبعدها عن التّوحيد والدّين الحنيف ، ويوقعها في وادي الشّرك ، ويعتبر عزّته وإحترامه رهنٌ بيدَ النّاس ، وينسى قُدَرة الباري تعالى في دائرة التّصرف في عالم الوجود ، وبهذا يكون الرّياء نوعاً من الشّرك بالله تعالى ، ويُفضي إلى نتائج وخيمة على مستوى الأخلاق والقِيَم الإنسانية.

وثانياً : بالنّسبة للعمل الخارجي ، الذي يقصد به الرّياء والسّمعة ، فالمجتمع هو الخاسر الأوّل في هذا المضمار ، لأنّ المرائي يسعى لتحسين عمله ، على مستوى الظّاهر فحسب دون الإهتمام بالباطن ، ممّا يُفضي إلى تحويل العمل ، إلى إنحراف وإفسادٍ على المستوى الإجتماعي.

وبعبارةٍ اخرى : إنّ المجتمع الذي يتّخذ من الرّياءِ مركباً ، في ممارسات الأفراد ، سيكون كلّ شيءٍ فيه بلا مُحتوى ، ك : (الثقافة ، الإقتصاد ، السياسة ، الصحة والنظام والقوى الدفاعية) وكلّها ستهتم بالظّاهر فقط ، ولا يكون الهدف منها نيل السّعادة الحقيقيّة للأفراد ، بل سيركضون وراء كلّ شيءٍ برّاقٍ وجميلِ الظاهر ، وأمّا باطنه ، فالله العالم.

وهذا النّوع من الإتجاه ، يورد صدمات وضربات ومضرّات في حركة الواقع الإجتماعي ، لا تخفى على ذهن الفطن الكيّس.

علامات المُرائي :

قد يصاب بعض الأشخاص ، لدى مطالعتهم لتلك الأحاديث التي تُشدّد على المرائي بالوسَوسة النّاشئة من الإبهام في تشخيص موضوع الرّياء ، ورغم أنّ الجَدير بالإنسان التّشديد في مسألة الرّياء ، لأنّ نفوذه خفيٌّ جدّاً ، وكم حَدَث للإنسان ، أن يعمل عملاً ويبقى لفترةٍ طويلةٍ غير ملتفتٍ لأصابته بالرّياء ، كالقصّة المعروفة عن أحد المؤمنين السّابقين ، حيث نقل عنه ، أنّه قضى صلوات جماعته كلّها ، التي صلّاها في سنوات من عمره الطويل ، ولمّا سألوه عن السّبب قال : إنّي كنت دائماً اصلّي الجماعة في الصّف الأول ، وفي يوم من الأيّام تأخّرت

٢٤٧

بعض الشّيء ، فلم أجد مكاناً في الصّف المقدّم ، فإضطررت للوقوف خلف الجميع ، فشعرت في نفسي بالأذى من ذلك ، وتنبّهت لهذه المسألة ، فأعدت جميع الصّلوات لأنّها كانت رياء؟!

بالطّبع ، الإفراط والتّفريط في هذه المسألة ، مَثَلُه كَمَثَلِ بقيّةِ المسائل ، غير محمودٍ ، وخطأٌ محضٌ ، والمفروض التَّنبّه للرياء من خلال تتبع مقدماته وعلاماته ، ولا نَدع مجالاً للوساوس في إطار إكتشاف هذه الحالة السّلبية ، في دائرة السّلوك الخارجي ، والواقع النّفسي ، ولعلماء الأخلاق الأفاضل أبحاثٌ لطيفةٌ في هذا المضمار ، ومنهم العلّامة المرحوم الفَيض الكاشاني ؛ ، فقد طرح سؤالاً في كتابه : «المحجّة البيضاء» ، وقال : فبأيّ علامةٍ يُعرف العالم والواعِظ ، أنّه صادق مخلصٌ في وعظه ، غير مريدٍ رئاء النّاس؟.

قال في جواب هذا السؤال : «فاعلم أنّ لذلك علاماتٍ ، إحداها أنّه لو ظهر من هو أحسن منه وعظاً وأغزرُ منه علماً ، والنّاس له أشدّ قبولاً ، فرح به ولم يحسده ، نعم لا بأسَ بالغِبطة ، وهي : أن يتمنّى لنفسه مثل عمله ، والاخرى أنّ الأكابِر إذا حَضروا مجلسه لم يتغيّر كلامه ، بل يبقى كما كان عليه ، فينظر إلى الخلق بعينٍ واحدةٍ ، والاخرى : أن لا يحبّ إتّباع النّاس له في الطريق ، والمشي خلفه في الأسواق ، ولذلك علاماتٌ كثيرةٌ يطول إحصاؤها» (١).

وأفضل المعايير لمعرفة المرائي من غيره ، هو ما وردنا عن الأئمّة الأطهار ، ومن جملة الأحاديث :

١ ـ في حديثٍ عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال : «أَمّا عَلامَةُ المُرائي فَأرْبَعَةٌ : يَحْرُصُ في العَمَلِ للهِ إِذا كانَ عِنْدَهُ أَحَدٌ وَيَكْسَلُ إِذا كانَ وَحْدَهُ وَيَحْرُصُ في كُلِّ أَمْرِهِ عَلَى الَمحمَدَةِ وَيُحْسِنُ سَمْتَهُ بِجُهْدِهِ» (٢).

٢ ـ وَوَرد في نفس هذا المعنى في حديثٍ عن أمير المؤمنين ، بألفاظٍ جميلةٍ ، فقال : «لِلمُرائي أرْبَعة عَلاماتٍ :

يَكْسَلُ إذا كانَ وَحدَهُ ،

وَيَنْشُطُ إِذا كانَ في النّاسِ ،

__________________

١ ـ المحجّة البيضاء ، ج ٦ ، ص ٢٠٠.

٢ ـ تُحف العقول ، ص ١٧.

٢٤٨

وَيَزِيدُ في العَمَلِ إِذا اثنِيَ عَلَيهِ ،

وَيَنْقُصُ مِنْهُ إِذا لَمْ يُثْنَ عَلَيهِ» (١).

وورد نفس هذا المعنى عن لقمان الحكيم أيضاً (٢).

وخلاصة القول : إنّ كلّ عملٍ ، كان القصد منه المباهاة للناس ، فهو دليلٌ على الرّياء ، ومهما كان هذا القصد غامضاً وخفيّاً في دائرة الوعي ، فهو دليلٌ على إزدواجيّة شخصيّة الإنسان في التعامل مع نفسه ، في الخلأ والملأ.

وهذا الأمر في الحقيقة بالغ في الدقّة والغموض ، لدرجةٍ أنّ الإنسان يخدع وجدانه وضميره ، بإتيان نفس الأعمال التي يأتي بها في الملأ ، وبدرجةٍ عاليةٍ من الجودة والحُسن ، في خلوته ليقنع نفسه أنّه لا يُرائي ، لأنّه يساوي بأعماله في الظّاهر والباطن ، ولكنّ الحقيقة هي إزدواجيّة ذلك الشّخص ، ففي كلا الحالتين يكون مرائياً.

بالطّبع يجب إجتناب الإفراط والتّفريط في هذه المسائل ، لأننا وجدنا اناساً إمتنعوا من أداء كثيرٍ من الواجبات وحُرموا من الثّواب حذراً أو خوفاً من الرّياء ، فلم يؤلّفوا كتاباً ، ولم يرشدوا أحداً من النّاس ، ولم يصعدوا المنابر ، لا لِشيءٍ إلّا لأنّهم كانوا يعيشون الخوف من الوقوع في الرّياء؟!

وقد ورد في الرّوايات ، أنّ من يقصد القُربة إلى الله تعالى ، إذا أتى بعملٍ ما علانيةً ، وعرف به الناس وفرح هو من ذلك ، ما دام قصده هو التّقرب إلى الله سبحانه وتعالى ، فلن يؤثّر ذلك على عمله (٣).

ولا يخفى على القارىء الكريم ، أنّ القصد من هذا الأمر ، هو تشجيع النّاس إلى سلوك طريق الخير والصّلاح ، وإمضاء أعمالهم المتقرّب بها إلى الله تعالى ، في السّر والعلانية ، والمهم هو قصد القُربة وإخلاص النيّة فقط.

وجاءت الآيات والرّوايات ، مؤكّدةً لهذا المعنى ، وحثّت الإنسان على الإنفاق والتّصدق

__________________

١ ـ شرح نهج البلاغة ، إبن أبي الحديد ، ج ٢ ، ص ١٨٠.

٢ ـ الخصال : (طبقاً لنقل ميزان الحكمة ، ج ٢ ، ص ١٠٢٠) ، الطّبعة الجديدة.

٣ ـ راجع وسائل الشّيعة ، ج ١ ، الباب ١٥ ، من أبواب مقدمة العبادات ، ص ٥٥.

٢٤٩

في السرّ والعلانية ، وهذا إن دلّ على شيءٍ فإنّه يدلّ على إمكانيّة الإتيان بالأعمال علانيةً ، وبدوافع إلهيّة بعيداً عن الرّياء.

ويوجد خمسُ آياتٍ شجّعت على الإنفاق سرّاً وعلانيةً ، أو سِرّاً وجهراً (١).

مضافاً إلى أنّ قسماً كبيراً من العبادات ، يؤدّى في العلانية ، فإذا ما لم يتسلط الإنسان على نفسه في خط الإلتزام الديني ، ويُمسك بزمامها في دائرة النّوازع الذاتيّة ، فَسيخسر هو والمجتمع كثيراً من أشكال الثّواب والخير ، وستختل أركان بعض العبادات في خطّ الممارسة والعمل.

علاجُ الرِّياء :

يوجد طريقان لِمُعالجة حالة الرّياء ، فالرّياء مَثَلُه كَمَثَلِ سائر الأخلاق السلبيّة والسّلوكيّات الذّميمة ، ففي بادىء الأمر ، علينا التّركيز على معرفةِ العِلَل ، وجذور هذه الحالة السّلبية في الواقع النّفسي ، لأجل القضاء عليها ، ثم التّحرك نحو دراسة عواقبها المؤلمة ، والكشف عنها في عمليّة التّصدي لها ، وتوخي جانب الحَذر منها.

بالطّبع لقد أشرنا آنفاً ، أنّ الرّياء هو : «الشّرك الأفعالي» ، والغفلة عن حقيقة التّوحيد ، فإذا ما تأصلت حقيقة التّوحيد الأفعالي في قلوبنا ، وإستحكمت في نفوسنا ، وإستيقنّا أنّ العزّة لله جميعاً ، من موقع المشاهدة الوجدانية ، ورأينا أنّ الرّزق والضرّ والنّفع بيده وهو المسخّر للقلوب ، فسوف لن نختار سواه بدلاً ، ولن نُدنّس أنفسنا وأفعالنا بحالة الرّياء الشّنيعة ، التي لا تنسجم مع خطّ التّوحيد في دائرة الأفعال ، فالذي يعيش اليقين الرّاسخ بهذه الحقيقة ، وهي أنّ مَنْ يكون مع الله تعالى ، يكون كلّ شيءٍ معه ، وبدونه فهو لا شيء ، ويرى بعين البصيرة ، مِصداق قوله تعالى : (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ)(٢).

__________________

١ ـ سورة البقرة ، الآية ٢٧٤ ؛ الرّعد ، ٢٢ ؛ إبراهيم ، ٣١ ؛ النّحل ، ٧٥ ؛ فاطر ، ٢٩.

٢ ـ سورة آل عمران ، الآية ١٦٠.

٢٥٠

وإذا أدركنا هذه الحقيقة القرآنية التي تقرر أنّ العزّة لله تعالى : (أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً)(١).

أجل إذا ترسّخَ الإيمان بهذه الحقائق الإيمانيّة في أعماق الرّوح ، فلا يجد الإنسان في نفسه باعثاً على الرّياء والنّفاق ، وكسب الجاه والمقام لدى الناس والمُفاخرة والمُباهاة.

وقال بعض علماء الأخلاق ، إنّ دعامة الرّياء وأساسِه هو حبّ الجاه والمُقام ، وعند تحليلنا لمفهوم الرّياء ، نجد أنّه يتكون من ثلاثة أركانٍ :

«حبّ الثّناء والمدح من الناس» ، و «الفرار من مذمّتهم» ، و «الطّمع لِما في أيديهم».

ثم يضرب لذلك مثلاً وهو المجاهد في سبيل الله ، فتارةً يكون قصدُه المُباهاة والمفاخرة ، وإظهار شجاعته وبطولاته للناس ، واخرى خوفاً من أن يتّهمه الناس بالجُبن والخوف ، وثالثةً يكون دافعه الحصول على الغنائم ، والفائز الوحيد ، هو الذي يدافع عن الحقّ والدّين لا غير.

هذا من جهةٍ ، ومن جهةٍ اخرى ، عند ما يتأمل الإنسان في سلبيات الرّياء وأضراره ونتائجه القاتلة ، نرى أنّه كالنّار التي تقع على عبادات الإنسان وطاعاته ، فتحوّلها إلى رماد تذروه الرّياح ، ولا يقتصر الأمر على ذلك فحسب ، بل هو ذنبٌ عظيمٌ يسوّد وجه صاحبه في الدّنيا والآخرة ...

الرّياء : حشرة الإرضة التي تَنخر دَعامات بيت سعادة الإنسان ، لينهار به في وادٍ سحيقٍ من الشّقاء والظلّام ..

والرّياء بدوره نوعٌ من أنواع الكفر والنّفاق والشّرك ...

والرّياء يسحق الشّخصيّة والحريّة والكرامة ، وأشدّ النّاس بؤساً يوم القيامة ، المراؤون.

فهذه حقائقٌ تردع الإنسان ، وتبعده عن ذلك الأمر الشّينع.

ولا ننسى أنّ المرائي سيفتَضِح ، إن عاجلاً أو آجلاً في هذه الدّنيا ، وستظهر حقيقته الزّائفة على فلتات لسانه وشَطحات كلماته ، وهذا العامل له قسطٌ من التأثير في عمليّة الرّدع النّفسي ، لحالة الرّياء في واقع الإنسان ، مضافاً إلى أنّ لذّة العمل الصالح ، والنيّة الطيّبة التي تطرأ على

__________________

١ ـ سورة النّساء ، الآية ١٣٩.

٢٥١

الإنسان ، لا تقاس بشيءٍ ، وهو أمرٌ يكفي لإخلاص النيّة.

ويعتقد البعض ، أنّ إحدى طرق المعالجة ، هي السّعي إلى إخفاء العبادات والحسنات ، ولا يُمارسها في العلن ، ليتخلّص تدريجيّاً من هذه العقدة المستعصيّة في الذّات المرائيّة.

ولكن هذا لا يعني ، عدم الحضور في صلاة الجَماعة والجُمعة والحج ، لأنّها تعدّ أيضاً خسارةً كُبرى لا تُعوّض.

هل النّشاط في العبادة يُنافي الإخلاص؟

يُراود هذا السّؤال أذهان الكثيرين ، وهو أنّهم يشعرون بنشاطٍ روحي ، بعد الإتيان بالعبادة بالمستوى المطلوب ، فهل أنّ هذا الشّعور بالنّشاط ، يتقاطع مع الإخلاص ، أو أنّه علامةٌ على الرياء؟.

والجواب : أنّ النّشاط إذا إستمدّ اصوله ، من التّوفيق الإلهي والنّور المعنوي المستقى من العبادة ، ومعطياتها على روح الإنسان ، فلا تَثريب ولا ضير ، ولا يُنافي الإخلاص في النيّة ، أمّا لو كان النّشاط ينشأ من مشاهدة الناس له ، فإنّه يُنافي الإخلاص ، رغم أنّه لا يكون سبَباً في بُطلان الأعمال ، شريطةَ أن لا يتغيّر مقدار وكيفيّة العمل بسبب مشاهدة الناس له.

وَوَرد هذا المعنى في الرّوايات الإسلاميّة :

منها ما وَرد عن أحد أصحاب الإمام الباقر عليه‌السلام ، أنّه قال : سألتُ الإمام عليه‌السلام ، عن الرّجل يعمل الشّيء من الخير ، فيراه إنسانٌ فيسّره ذلك.

قال عليه‌السلام : «لا بَأْسَ ، ما مِنْ أَحَدٍ إِلا وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَظْهَرَ لَهُ في النّاسِ الخَيرُ ، إذا لَمْ يَكُنْ صَنَعَ ذَلِكَ لذَلِكَ» (١).

وفي حديثٍ آخر عن أبي ذر رحمه‌الله ، ـ عند ما سأل الرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ، قال : قلت يا رسول

__________________

١ ـ وسائل الشيعة ، ج ١ ، ص ٥٥.

٢٥٢

الله : الرّجل يعملُ العمل لنفسه ويحبّه الناس.

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «تِلكَ عاجِلُ بُشرى المُؤمِنِ» (١).

ما الفرق بين الرّياء والسّمعة :

هذا سؤال يفرض نفسه أيضاً ، فهل يوجد فرق بين الرّياء والسّمعة؟ ، وهل أنّهما يتنافيان مع إخلاص النيّة ، ويوجبان بطلان العمل؟.

الجواب : الرّياء : هو فعل الخير أمام مرآى ومسمع من النّاس ، لكسب الوجاهة لديهم ، وليشار إليه بالبنان من موقع المدح والثّناء.

وأمّا السّمعة ، فهي أداء أفعال الخير بعيداً عن أنظار النّاس ، ولكن لِيُفهمَهم لاحقاً أنّه هو الذي فعل هذه الامور ، ليكتسب بذلك وجاهةً لديهم ، والحقيقة أن الدّافع لِكِلا الإثنين غير إلهي ، فالأوّل يؤدّي عمل الخير أمام مرآى الناس ، والثّاني بصورةٍ غير مُباشرةٍ وعن طريق السّماع ، ولا فرق بينهما في دائرة فساد النيّة ، وبطلان العمل وفقدان قصد القربة.

ولكن إذا فسّرنا السمعة بأنّها أداء الفعل بقصد القُربّة ، ولكن إذا علم النّاس في الآجل ومدحوه وأثنوا عليه ، فإنّه يفرح بذلك ، فلا شكَّ بأنّ هذه الحالة لا توجب بُطلان العمل.

ويمكن أن يتحرك الإنسان في سلوكيّاته وأعماله ، بقصد القُربة المطلقة ، ولكنّه يرويها للناس بعد ذلك ليحتل مكانةً بينهم ، «وهذا العمل يُسمى بالرّياء اللّاحق» ، فهذا السّلوك أيضاً لا يُبطل العمل ، لكنّه يُقِّلل من قيمته إلى أدنى حدّ ، وخصوصاً من النّاحية الأخلاقيّة.

وقد تحدّث بعض من كبار الفُقهاء ، عن كيفيّة نفوذ وتوغّل الرّياء في أعمال الإنسان ، وقالوا أنّها على عَشرِ صُوَرٍ :

الصّورة الاولى : أن يكون قصده من الفعل : مشاهدة النّاس له ، ولا شكّ ببطلانها.

__________________

١ ـ وسائل الشيعة ، ج ١ ، ص ٥٥.

٢٥٣

الصورة الثّانية : أن يكون الهدف فيها الباري تعالى ، والرّياء مَعاً ، وهذه الحالة أيضاً موجِبةُ : للبطلان والإحباط.

الثّالثة : أن يُرائي في جزءٍ من الأعمال الواجبة ، كما لو مارس الرّياء في الرّكوع ، أو السّجود وحده في الصّلاة الواجبة ، ولا شك في كونه يستوجب البُطلان ، حتى لو كان هناك مجالاً للإستدراك ، وحاله حالَ ما لو فقد وضوءه وهو في أثناء الصّلاة ، وإن كان الأحوط أن يأتي بالجزء الذي وقع فيه الرّياء ، ثم إعادة الصّلاة بعد الإنتهاء.

الصّورة الرّابعة : الرّياء في الجزء المستحب ، كما في القُنوت ، فهو أيضاً من دواعي البُطلان.

الخامسة : أصلُ العمل والقَصد ، يكون الله تعالى ، ولكنّه يؤدّيه في مكانٍ عام : (كالمسجد) ، من دون قصد ربّاني فيه ، وهو باطلٌ أيضاً.

السّادسة : أن يُرائي في وقت العمل ، فأصل الصّلاة لله تعالى ، ولكنّه يُرائي في أدائها في أوّل وقتها ، فعمله باطلٌ أيضاً.

السّابعة : أن يُرائي في بعض خُصوصيات وأوصاف العمل ، كما لو صلّى الجماعة ، وهو في حالةٍ من الخشوع والخضوع المُفتعلة ، وهو باطلٌ أيضاً ، فالموصوف يتبع الأوصاف في هذه الحالة.

الثّامنة : أن تأتي بالعمل قربةً إلى الله ، ولكنّه يرائي في مقدّمات العمل ، فيذهب إلى المسجد بقصد الصّلاة والثّواب ، ولكنّ حركته نحو المسجد بقصد الرّياء. فالكثير من الفُقهاء لا يرون بُطلان العمل لمثل هذا النوع من الرّياء ، لأنّ مقدّمات الرّياء حدثت بعيداً عن العمل ، وهو ما تقتضيه القاعدة الفِقهيّة.

التّاسعة : أن يُؤدّي بعض الأوصاف الخارجيّة بنيّة الرّياء ، كما لو صلّى للهِ تعالى ، ولكنّه يحنّك نفسه رياءً ، فالبِّرغم من قبح هذا العمل ، ولكنّه لا يُبطل الصلاة. (١)

عاشراً وأخيراً : أن يتحرّك في إتيانه بالعمل ، من موقع القربة المطلقة لله تعالى ، ولكن إذا

__________________

١ ـ نَسترعي الانتباه : إلى أنّ التّحنيك في الصّلاة لم يثبت استحبابه ، وما ورد في الرّوايات فهو يشمل كلّ الحالات والأوقات ، وفي وقتنا الحاضر يحتمل أن يكون من لِباس الشّهرة.

٢٥٤

شاهده الناس ، فإنّه يشعر في قرارة نفسه بالفرح ، من دون أن يؤثّر ذلك على كيفيّة العمل ، فهذا القسم لا يوجب البُطلان أيضاً ، لأنّه لا يعدّ من الرّياء.

ونصل هنا إلى نهاية بحثنا حول الرّياء ، وإن كنّا قد أعرضنا عن كثيرٍ من الامور ، إجتناباً للتّطويل.

الخطوة السّابعة : السّكوت وإصلاح اللّسان

تناولت الرّوايات الإسلاميّة هاتين المسألتين ، بمزيدٍ من الإهتمام ، وكذلك علماء الأخلاق ، أكّدوا عليهما في أبحاثهم التّربوية ، لإعتقادهم أنّ السّير والسّلوك إلى الله تعالى ، لنْ يتحقّق في واقع الإنسان إلّا بالسّكوت ، وحفظ اللّسان من الذنوب التي قد يقع الإنسان فيها من خلال الكلام ، وإن كان ، قد أتعب نفسه في الرياضات الرّوحيّة وأنواع العبادات.

أو بتعبيرٍ أدَقْ : إنّ مفتاح مسيرة التهذيب والسّلوك إلى الله تعالى هو الإلتزام بِذَينك الأمرين ، ومن لم يستطع السّيطرة على لسانه ، فلن يُفلح في الوصول ، إلى الأهداف السّامية والمقاصد العالية.

وبعد هذه الإشارة نعود إلى بحثنا الأساسي ، ودراسة الآيات والرّوايات التي وَرَدت في هذا المِضمار.

السّكوت في الآيات القرآنيّة الكريمة :

في كِلا المَوردين ، إعتبر القرآن الكريم ، هذه المسألة من القيم السّامية ، في خطّ الإيمان والأخلاق ، ففي بادِىء الأمرِ ، إستعرض قصّة مريم عليها‌السلام ، فعند ما كانَت في وضعها المُتأزّم ، وتفكيرها في حملها وحالة الطلق التي أصابتها ، ووحدتها في تلك الصّحراء المريعة ، وقد هوّمت نحوها الهُموم من كلِّ جانبٍ ، وأشدّها إفتراءات بني إسرائيل عليها ، فتمنّت الموت في تلك السّاعة من بارِئها ، ولكن جاءها النّداء ، أن لا تحزن ولا تغتم ، فإنّ الله معها وهو الذي يتكفّل

٢٥٥

أمرها ، وهذا ما تُحدِّثنا به الآيات التالية : «فَأَجَاءَهَا الْمخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَني مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَنْسِيّاً* فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَني قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً* وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً* فَكُلِي وَاشْرَبي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنْ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولي إِنّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمانِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً» (١).

وإختلف المفسّرون في الذي نادى مريم عليها‌السلام ، فقال بعضهم : إنّه جِبرائيل عليه‌السلام ، وسياق الآية قرينةٌ على هذا المعنى ، وقال البَعض الآخر ، كالعلّامة الطّباطبائي رحمه‌الله ، إنّه إبنها عيسى عليه‌السلام ، وكلمة : «من تحتها» ، تناسب هذا المعنى ، لأنّه كان بين أقدامها ، علاوة على أنّ أغلب الضّمائر في الآية الشّريفة ، تعود على المسيح عليه‌السلام ، وتَتَناسب أيضاً مع كلمة «نادى» ، وعلى كلٍّ فإنّ مَحَطَّ نظرنا ، هو الأمرُ بنذر السّكوت ، فأيّاً كان المُنادي ، جبرائيل عليه‌السلام ، أو المسيح عليه‌السلام ، فإنّ المهم هو ، أنّ ذلك النّذر ، يفضله ويرجحّه الباري تعالى ، وخصوصاً أنّ ذلك الأمر ، كان سائداً في وقتها ، وهو من الأعمال التي يُتقرّب بها إلى الله سبحانه وتعالى ، فلذلك لم يعترض على مريم عليها‌السلام أحد ، بالنّسبة إلى هذا العمل بالذّات.

ويوجد إحتمالٌ آخرٌ لصوم مريم عليها‌السلام ، وهو الصّوم عن الطّعام والشّراب ، بالإضافة لصوم السّكوت.

أمّا في الشّريعة الإسلاميّة ، فإنّ صوم السّكوت حرام ، لتغيّر الظّروف المكانيّة والزمانيّة ، وقد وَرد عن الإمام علي بن الحسين السّجاد عليه‌السلام ، أنّه قال : «وَصَومُ الصَّمتِ حَرامٌ» (٢).

وَوَرد في نفس هذا المعنى في حديثٍ آخر ، في وصايا النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إلى الإمام علي عليه‌السلام (٣).

وَوَرد عن الإمام الصّادق عليه‌السلام ، أنّه قال : «وَلا صَمْتَ يَوماً إِلَى اللّيلِ» (٤).

والطّبع ، فإنّ من آداب الصّوم عندنا ، هو المحافظة على اللّسان وباقي الجوارح من الذّنوب ، قال الإمام الصادق عليه‌السلام في هذا الصّدد : «إِنّ الصّومَ لَيسَ مِنْ الطّعامِ والشَّرابِ وَحْدَهُ إِنَّ مَريَمَ

__________________

١ ـ سورة مريم ، الآية ٢٣ إلى ٢٦.

٢ ـ وسائل الشيعة ، ج ٧ ، ص ٣٩٠ ، باب تحريم صوم الصّمت.

٣ ـ المصدر السابق.

٤ ـ المصدر السابق.

٢٥٦

قَالتْ إِنّي نَذَرتُ لِلرَّحمانِ صَوماً أي صمْتاً فَاحْفَظُوا أَلْسِنَتَكُم وَغُضُّوا أَبْصارَكُم» (١).

ومن هذه الآية والرّوايات الشّريفة ، التي وردت في تفسيرها ، تتبيّن أهميّة وقيمة السّكوت ، في خطّ التّربية والتّهذيب.

وفي الآية (١٠) من نفس السورة ، توجد إشارةٌ اخرى لفضيلة السّكوت ، وذلك عند ما وهب الباري تعالى يحيى عليه‌السلام ، لنبيّه الكريم زكريّا عليه‌السلام ، فخاطب الباري تعالى ، وقال : (قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) ، فقال له : (قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا) ، ولا تحركه إلّا بذكر الله.

وصحيح أنّ هذه الآية لم تَحمد ولم تَذم السّكوت ، ولكن قيمة السّكوت تتّضح ، من جعله : آيةَ النّبي زكريا عليه‌السلام.

وورد نفس هذا المعنى ، في الآية (٤١) من سورة آل عمران ، فبعد تلقّيه البشارة من الباري تعالى ، طلب أن يجعل له آيةً في دائرة تقديم الشّكر للباري تعالى ، فقال له : (قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً).

وإحتمل بعض المفسّرين ، أنّ إمتناع زكريا عليه‌السلام عن الكلام ، كان بإختياره ولم يكن مجبوراً عليه ، والحقيقة أنّه كان مأموراً بالسّكوت لمدّة ثلاثة أيّام.

يقول الفَخر الرّازي ، نقلاً عن «أبي مسلم» : أنّ هذا النحو من التّفسير جميلٌ ومعقولٌ ، لكنّه مخالفٌ لسياق الآية ، فزكريّا عليه‌السلام طلب آيةً لمّا بُشّر بيحيى ، والسّكوت الإختياري لا يكون دليلاً على هذا المعنى ، إلّا بتكلّف وتحميل على المفهوم من الآية الشّريفة.

وعلى أيّةِ حال فإنّ هذا الاختلاف في تفسير الآية ، لا يُؤثّر على ما نحن فيه ، لأنّ غرضنا من إيراد هذه الآيات ، هو التّنويه بقيمة السّكوت في القرآن الكريم ، بإعتباره آيةً من الآيات الإلهيّة.

__________________

١ ـ نور الثّقلين ، ج ٣ ، ص ٣٣٢.

٢٥٧

السّكوت في الروايات الإسلاميّة :

ما ورد عن : «الصّمت» ، في الروايات الإسلاميّة ، أكثر من أن يُحصى ، فقد أشارت الروايات إلى عدّة نقاطٍ وملاحظاتٍ دقيقة وهامة جدّاً في هذا الصّدد ، وبيّنت ثمرات جميلةً للصّمت ، ومنها :

١ ـ دَور السّكوت في تعميق التّفكير ، وثبات العقل ، فقد قال الرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إِذا رَأَيْتُمْ المُؤمِنَ صَمُوتاً فَآدْنُوا مِنْهِ فَإِنَّهُ يُلْقي الحِكْمَةَ ، وَالمُؤمِنُ قَليلُ الكَلامِ كَثِيرٌ العَمَلِ وَالمُنافِقُ كَثِيرُ الكَلامِ قَلِيلُ العَمَلِ» (١).

٢ ـ وجاء عن الإمام الصّادق عليه‌السلام ، أنّه قال : «دَلِيلُ العاقِلِ التَّفَكُّرُ وَدَلِيلُ التَّفَكُّرِ الصَّمتُ» (٢).

٣ ـ ما ورد عن الإمام علي عليه‌السلام ، أنّه قال : «أَكْثِرْ صَمْتَكَ يَتَوفَر فِكْرُكَ ويَستَنيرُ قَلْبُكَ وَيَسلَم النّاسُ مِنْ يَدِكَ» (٣).

فيظهر من هذه الرّوايات ، العلاقة الوثيقة الدقيقة ، التي تربط التّفكر بالسّكوت ، ودليله واضح ، لأنّ القوى الفكريّة سوف تفقد التوحّد والإنسجام ، وتصيبها حالةٌ من التّشتت والإنفلات ، في حالات الكلام الزّائد ، وعند ما يتخذ الإنسان السّكوت جِلباباً له ، فستَتَمَركز قِواه الفكريّة ، ممّا يعينه على التّفكير الصّحيح ، وبالتّالي إنفتاح أبواب الحِكمة بِوَجهه ، ولا يُلّقى الحكمة إلّا ذو حَظٍّ عظيمٍ.

٤ ـ يُستَشفّ من بعض الأخبار ، أنّ السكوت هو أهمّ العبادات ، فنقرأ في مواعظ الرّسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأبي ذر رحمه‌الله ، قال : «أَرْبَعَ لا يُصِيبَهُنَّ إلّا مُؤمِنْ ، الصَّمْتُ وَهُوَ أَوَّلَ العِبادَةِ» (٤).

__________________

١ ـ بحار الأنوار ، ج ٧٥ ، ص ٣١٢.

٢ ـ المصدر السابق ، ص ٣٠٠.

٣ ـ ميزان الحكمة ، ج ٢ ، ص ١٦٦٧ ، الرقم ١٠٨٢٥.

٤ ـ المصدر السابق ، مادة الصّمت ، ح ١٠٨٠٥.

٢٥٨

٥ ـ ويُستفاد من الرّوايات الواردة ، أنّ كثرة الكلام تزرع القساوة في القلب ، فقد ورد عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، حديثٌ يقول فيه : «كانَ المَسِيحُ عليه‌السلام يَقُولُ لا تكثروا الكَلامَ في غَيرِ ذِكْرِ اللهِ فَإنَّ الَّذِينَ يكْثِرُونَ الكَلامَ في غَيرِ ذِكْرِ اللهِ قاسِيَةٌ قُلُوبُهُم وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ» (١).

٦ ـ ما ورد عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام ، أنّه قال : «إِنَّ الصَّمْتَ بابٌ مِنْ أَبوابِ الحِكْمَةِ ، إِنَّ الصَّمْتَ يَكْسِبُ الَمحَبَّةَ إِنَّهُ دَليلٌ عَلَى كُلِّ خَيرٍ» (٢).

فقوله إنّ السّكوت يكسب المحبّة ، لأنّ أكثر المشاحنات والملاحاة ، تصدر عن اللّسان ، والسّكوت يسدّ أبواب الشّر.

٧ ـ السّكوت نجاةٌ من الذّنوب ، ومفتاح دخول الجنة ، فقد ورد في حديثٍ عن الرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قَالَ لِرَجُلٍ أَتاهُ : أَلا أَدُلُّكَ عَلى أَمْرٍ يُدخِلُكَ اللهُ بِهِ الجَنَّةَ؟ ، قَالَ : بَلى يا رَسُولَ الله ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «.... فاصْمُتْ لِسانَكَ إلّا مِنْ خَيرٍ ، أَما يَسُرُّكَ أَنْ تَكُونَ فِيكَ خِصلَةٌ مِنْ هُذِهِ الخِصال تَجُرُّكَ إِلى الجَنَّةِ» (٣).

٨ ـ والسّكوت علامةُ الوقار ، فقد ورد عن الإمام علي عليه‌السلام : «الصَّمْتُ يَكْسِبُكَ الوِقارُ ، وَيَكْفِيكَ مَؤُونَةَ الإِعتِذارِ» (٤).

فالثّر ثار كثير الخطأ ، كثير الإعتذار والنّدم ، لما يصدر منه مِنْ شطحات ، من موقع الغفلة والإندفاع العاطفي والإنفعال النّفسي.

٩ ـ وعنه عليه‌السلام ، في حديث أوضح وأجلى ، فقال : «إِنْ كانَ في الكَلامِ بَلاغَةٌ فَفي الصَّمْتِ سَلامَةٌ مِنَ العِثارِ» (٥).

فالصّمت قد يكون ، أبلغ من أيّ كلامٍ في بعض الموارد!.

١٠ ـ ما ورد عن الإمام الحسن المجتبى عليه‌السلام ، أنّه قال : «نِعْمَ العَونُ الصَّمْتُ في مَواطِنٍ كَثِيرةٍ وَإِنْ كُنْتَ فَصِيحاً» (٦).

__________________

١ ـ اصول الكافى ج ٢ ص ١١٤ (باب الصمت وحفظ اللسان ح ١١).

٢ ـ المصدر السابق ص ١١٣.

٣ ـ اصول الكافى ج ٢ ص ١١٣.

٤ ـ غرر الحكم الرقم ١٨٢٧.

٥ ـ المصدر السابق الرقم ٣٧١٤.

٦ ـ ميزان الحِكمة ، مادّة صمت ، ح ١٠٨٢٦.

٢٥٩

وهناك رواياتٌ كثيرةٌ في هذا المجال ، لم نذكرها هنا ، خوفاً من الإطالة والخروج عن مِحَور البحث.

إزالة وَهم :

إنّ كلّ ما ورد في الآيات والأحاديث الشّريفة ، من معطيات الصّمت الإيجابيّة في حياة الإنسان وواقعه ، من قَبيل تعميق الفكر ومنع الإنسان من الوقوع في الخطأ ، وصيانته من كثيرٍ من الذّنوب ، وحفظ وَقاره وشَخصيّته ، وعدم الحاجة إلى الإعتذار المُكَرّر ، وأمثالُ ذلك ، كِلّ هذا لا يعني أن السكوت ، يمكن أن يتخذه الإنسان قاعدةً على الدّوام ، فالسّكوت المَطلق مذمومٌ بدوره ، وخسارةٌ اخرى لا تُعوّض.

والغاية ممّا تقدم ، في مَدح السّكوت والصّمت في الآيات والرّوايات الإسلامية ، هي منع اللّسان عن الثّرثرة وفضول الكلام ، في خط التّربية ومصداق ، أن : «قلْ خيراً وإلّا فاسْكت» ، وإلّا فالسّكوت في كثيرٍ من الامور ، حَرامٌ مَسلّمٌ.

ألم يذكر القرآن الكريم في سورة الرحمن نعمة البيان باعتبارها من أسمى إفتخارات البشر؟

ألا تقام أكثر وأغلب العبادات كالصلاة وتلاوة القرآن الكريم ومراسم الحج والذكر باللسان؟

ولو لا اللسان ، فكيف سيتمكن المؤمن من إقامة فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وكيف سيكون دور الإرشاد والتربية والتعليم ، وكيف سيتمكن العلماء والمصلحين من أداء دورهم في عملية هداية الناس وإرشادهم إلى طريق الحق والسعادة؟!

فالمذموم هو الافراط والتفريط والطريق الوسطى هي الجادّة!

وما صدر من إمامنا السجاد عليه‌السلام في هذا المضمار هو خير مرشد ودليل في هذا المجال ، حيث سأله شخص عن أيهما الأفضل : الكلام أو السكوت؟ فقال عليه‌السلام :

«لِكُلِّ وَاحدٍ مِنْهُما آفاتٌ فَإذا سَلِما مَنَ الآفاتِ فَالكَلامُ أَفْضَلُ مِنَ السُّكُوتِ ، قِيلَ

٢٦٠