الأخلاق في القرآن - ج ١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأخلاق في القرآن - ج ١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : الأخلاق
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8139-05-9
ISBN الدورة:
964-8139-27-X

الصفحات: ٣٥٢

٥ ـ هل أن الأخلاق قابلة للتغيير؟

إنّ مصير علم الأخلاق وكلّ الأبحاث الأخلاقية ، يتوقف على الإجابة عن هذا السؤال ، إذ لو لا قابليتها للتغيير لأصبحت كلّ برامج الأنبياء التربويّة والكتب السماويّة ، ووضع القوانين والعقوبات الرّادعة ، لا فائدةٍ ولا معنى لها.

فنفس وجود تلك البرامج التربويّة وتعاليم الكتب السماويّة ، ووضع القَوانين في المجتمعات البشريّة ، هو خير دليل على قابليّة التغيير في الملكات والسلوكيّات الأخلاقيّة لدى الإنسان ، وهذه الحقيقة لا يعتمدها الأنبياء عليهم‌السلام فحسب ، بل هي مقبولةٌ لدى جميع العقلاء في العالم.

والأَعجبْ من هذا ، والغريب فيه ؛ أنَّ علماء الأخلاق والفلاسفة ألّفوا الكتب الكثيرة حول هذا السؤال : «هل أنّ الأخلاق قابلة للتغيير أم لا»؟!

فالبعض يقول : إنّ الأخلاق غير قابلة للتغيير ، فمن كانت ذاته ملوَّثة في الأصل يكون مجبولاً على الشرّ ، وعلى فرض قبوله لعمليّة التّغيير ، فإنّه تغيير سطحي ، وسرعان ما يعود إلى حالته السّابقة.

ودليلهم على ذلك ، بأنّ الأخلاق لها علاقةٌ وثيقةٌ مع الرّوح والجسد ، وأخلاق كلُّ شخصٍ تابعة لكيفية وجود روحه وجسمه ، وبما أنّ روح وجسد الإنسان لا تتبدلان ، فالأخلاق كذلك لا تتبدل ولا تتغير.

وفي ذلك يقول الشاعر أيضاً :

إذا كان الطّباع طِباعَ سوءٍ

فلا أدبٌ يفيد ولا أديبُ

واستدلوا على ذلك أيضاً ، بمقولة تأثر الأخلاق بالعوامل الخارجية ؛ وأنّ الأخلاق تخضع لمؤثّراتٍ خارجيَّةٍ من قبيل الوعظ والنّصيحة والتأديب ، فبزوال هذهِ العوامل ، تعود الأخلاق لحالتها الاولى ، فهي بالضّبط كالماء البارد ، الذي يتأثر بعوامل الحرارة ، فعند زوال المؤثّر ، يعود الماء لحالته السّابقة.

ومما يؤسف له وجود هذا الّنمط من التّفكير والإستدلال ، حيث أفضى لتردي المجتمعات البشريّة وسُقوطها!

٢١

أمّا المؤيدون لتغيير الأخلاق ، فقد أجابوا على الدّليلين السّابقين وقالوا :

١ ـ لا يمكن إنكار علاقة الأخلاق وارتباطها بالرّوح والجسم ، ولكنه في حدّ (المقتضي) ؛ وليس (العلّةَ التّامةَ) لها ، وبعبارةٍ اخرَى يمكن أن تهيّىء الأرضيّة لذلك ، لكن ذلك لا يعني بالضّرورة أنّها ستؤثر تأثيراً قطعيّاً فيها ، من قبيل مَن يولد من أبوين مريضين ، فإنّ فيه قابليةٌ على الابتلاء بذلك المرض ، ولكن وبالوقاية الصّحيحة ، يمكن أن يُتلافى ذلك المرض من خلال التّصدي للعوامل الوراثية المتجذرة في بدن الإنسان.

فالأفراد الضّعاف البَنية يمكن أن يصبحوا أشداء ، بالإلتزام بقواعد الصّحة وممارسة الرّياضة البدنية ، وبالعكس يمكن للأشداء ، أن يصيبهم الضّعف والهزال ، إذا لم يلتزموا بالامور المذكورة أعلاه.

وعلاوةً على ذلك يمكن القول ؛ أنّ روح وجسم الإنسان قابلانِ للتغيير ، فكيف بالأخلاق التي تعتبر من معطياتهما؟

نحن نعلم ، أنّ كلّ الحيوانات الأهليّة اليوم ، كانت في يومٍ ما بَرّيّةً ووحشيّةً ، فأخذها الإنسان وروّضها وجعل منها أهليةً مطيعةً له ، وكذلك كثير من النّباتات والأشجار المثمرة ، فالذي يستطيع أن يُغيِّر صفات وخُصوصيّات النبّات والحيوان ، ألا يستطيع أن يغيّر نفسه وأخلاقه؟

بل توجد حيوانات روّضِت ، لِلقيام بأعمالٍ مخالفةٍ لطبيعتها ، وهي تُؤدّيها بأحسن وجهٍ!.

٢ ـ وممّا ذُكر أعلاه ، يتبيّن جواب دليلهمِ الثّاني ، لأنّ العوامل الخارجيّة قد يكون لها تأثيرها القوي جداً ، ممّا يؤدّي إلى تغير خصوصيّاتها الذاتيّة بالكامل ، وستؤثر على الأجيال القادمة أيضاً ، من خلال العوامل الوراثيّة ، كما رأينا في مثال : الحيوانات الأهليّة.

ويقصّ علينا التأريخَ قصصاً ، لُاناسٍ كانوا لا يراعون إلّاً ولا ذِمّةً ، ولكن بالتّربية والتّعليم تغيّروا تَغيُّراً جَذريّاً ، فمنهم من كان سارقاً محترفاً ؛ فأصبح عابداً متنسّكاً مشهوراً بين الناس.

إنّ التعرّف على كيفية نشوء الملكات الأخلاقيةٍ السّيئة يعطينا القُدرة والفرصة لإزالتها ، والمسألة هي كالتّالي : إنّ كلّ فعلٍ سيّءٍ أو حسنٍ يخلّف تأثيره الإيجابي أو السّلبي في الروح

٢٢

الإنسانية ، بحيث يجذب الروح نحوه تدريجياً ، وبالتّكرار سوف يتكرّس ذلك الفعل في باطن الإنسان ، ويتحول إلى كيفيّةٍ تسمى : (بالعادة) ، وإذا إستمرت تلك العادة تحوّلت إلى (مَلَكَةٍ).

وعلى هذا ، وبما أنّ المَلَكات والعادات الأخلاقيّة السّيئة ، تنشأ من تكرار العمل ، فإنّه يمكن مُحاربتها بواسطة نفس الطّريقة ، طبعاً لا يمكننا أن ننكر تأثير التّعليم الصّحيح والمحيط السّالم ، في إيجاد المَلَكات الحَسنة ، والأخلاق الصّالحة ، في واقع الإنسان وروحه.

وهناك «قولٌ ثالثٌ» ، : وهو أنّ بعض الصّفات الأخلاقيّة قابلةٌ لِلتغير ، وبعضها غير قابل ، فالصّفات الطّبيعيّة والفطريّة غير قابلةٍ لِلتغير ، ولكنّ الصّفات التي تتأثّر بالعوامل الخارجيّة يمكن تغييرها (١).

وهذا القول لا دليل عليه ، لأنّ التّفصيل بين هذهِ الصّفات ، مدعاة لقبول مَقولة الأخلاق الفطريّة والطبيعيّة ، والحال أنّه لم يثبت ذلك ، وعلى فرض ثُبوته ، فمن قال بأنّ الصّفات الفطريّة غير قابلةٍ لِلتغيّر والتّبدّل؟. ألم يتمكن الإنسان من تغيير طِباع الحيوانات البريّة؟.

ألا يمكن لِلتربية والتّعليم ، أن تَتَجذّر في أعماق الإنسان وتغيّره؟.

الآيات والرّوايات التي يستدل بها ، على إمكانيّة تغيّر الأخلاق :

ما ذكرناه آنفاً كان على مستوى الأدلة العقليّة والتّأريخيّة ، وعند رجوعنا للأدلة النّقلية ، يعني ما وصل إلينا من مبدأ الوحي وأحاديث المعصومين عليهم‌السلام ، سوف تتبيّن لنا المسألة من خلاله بصورةٍ أفضل لأنّه :

١ ـ إنّ الهدف من بعث الأنبياء والرّسل وإنزال الكتب السّماوية ، إنّما هو لأجل تربية وهداية الإنسان ، وهذا أقوى دليل على إمكان التربية ، وترشيد الفضائل الأخلاقيّة لدى جميع أفراد البشر ، ويشير إلى هذا المعنى قوله تعالى :

(هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ

__________________

١ ـ أيّد هذه النظريّة المحقق النّراقي في كتابه جامع السعادات : ج ١ ، ص ٢٤.

٢٣

وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(١).

وأمثالها من الآيات الكريمة التي تبيّن لنا أنّ الهدف من بعثة الرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : هو تعليم وتزكية كل اولئك الذي كانوا في ضلالٍ مبينٍ.

٢ ـ كلّ الآيات التي توجّه الخطاب الإلهي إلى الإنسان ، مثل : (يا بَنِي آدَمَ) و (يا أَيُّهَا النَّاسُ) و (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ) و (يا عِبادِيَ) ، تشمل أوامر ونواهي تتعلق بتهذيب النّفوس ، وإكتساب الفضائل الأخلاقيّة ، وهي بدورها خير دليل على إمكانيّة تغيير «الأخلاق الرّذيلة» ، وإصلاح الصّفات القبيحة في واقع الإنسان ، وإلّا ففي غير هذه الصّورة تَنتفي عُموميّة هذه الخطابات الإلهيّة ، فتصبح لغواً بدون فائدةٍ.

وقد يقال : إنّ هذهِ الآيات ، غالباً ما تشتمل على الأحكام الشرعيّة ، وهذه الأحكام تتعلق بالجوانب العمليّة والسلوكيّة في حياة الإنسان ، بينما نجد أنّ الأخلاق ناظرةٌ للصفات الباطنيّة؟

ولكن يجب أن لا ننسى ، أنّ العلاقة بين «الأخلاق» و «العمل» ، هي : علاقة اللّازمِ والَملزومِ لِلآخر ، وبمنزلة العلّة والمعلول ، فالأخلاق الحسنة تُعتبر مصدراً للأعمال الحسنة ، والأخلاق الرذيلة مصدراً للأعمال القبيحة ، وكذلك الحال في الأعمال ، فإنّها من خلال التّكرار تتحول بالتّدريج ، إلى ملكاتٍ وصفاتٍ أخلاقيّةٍ في واقع الإنسان الداخلي.

٣ ـ القول والاعتقاد بعدم إمكان التّغيير للأخلاق ، مدعاة للقول والإعتقاد بالجَبر ؛ لأنّ مفهومها هو : أنّ صاحب الخُلق السّيء والخُلق الحسن ، ليسا بقادرين على تغيير أخلاقهم ، وبما أنّ الأعمال والسّلوكيات تعتبر إنعكاساً للصفات والملكات الأخلاقيّة ، ولِذا فمثل هؤلاء يتحرّكون في سلوكياتهم من موقع الجَبر ، لكننا نرى أنّهم مكلّفين بفعل الخيرات وترك الخبائث ، وعليه يترتب على هذا القول جميع المفاسد التي تترتب على مقولة الجبر (٢).

٤ ـ الآيات الصّريحة التي ترغّب الإنسان في تهذيب أخلاقه ، وتُحذّره من الرذائل ، هي أيضاً دليلٌ محكمٌ على إمكانيّة تغير الصفات والطّبائع الإنسانية ، مثل قوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ

__________________

١ ـ سورة الجمعة : الآية ٢ ، ويوجد نفس المعنى والمضمون في الآية ١٦٤ من سورة آل عمران.

٢ ـ انظر : اصول الكافي ، ج ١ ص ١٥٥ ، وكشف المراد ، بحث القضاء والقدر وما يترتب على ذلك من مفاسد المذهب الجَبري.

٢٤

مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) (١).

فالتّعبير بكلمة دَسّاها ، والتي هي في الأصلِ بمعني : خلطُ الشيّءِ بشيءٍ آخر غير مرغوب فيه من غير جنسه ، مثل «دسّ الحنطة بالتراب» ، يبيّن لنا أنّ الطّبيعة الإنسانيّة مجبولةٌ على الصفاء والنّقاوة والتقوى ، والتلويث ، والرذائل تعرض عليها من الخارج وتنفذ فيها ، والاثنان قابلان للتّغير والتّبدل.

نقرأ في الآية (٣٤) من سورة فُصّلت : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ).

تُبيّن لنا هذهِ الآية أنّ العداوات المتأصّلة والمتجذّرة في الإنسان : بالمحبّة والسّلوك السليم ، يمكن أن تتغير وتتبدل إلى صداقةٍ حميمةٍ بالتّحرك في طريق المحبّة والسّلوكيات السليمة ، ولو كانت الأخلاق غير قابلةٍ للتغير ، لما أمكن الأمر بذلك.

ونجد في هذا المجال أحاديث إسلامية ، تؤكّد هذا المعنى أيضاً ، من قبيل الأحاديث التالية :

١ ـ الحديث المعروف الذي يقول : «إنّما بُعثتُ لُاتمم مكارم الاخلاق» (٢) هو دليل ساطعٌ على إمكانيّة تغيير الصّفات الأخلاقيّة.

٢ ـ الأحاديث الكثيرة التي تحث الإنسان على حسن الخُلق ، كالحديث النّبوي الشريف الآتي : «لَو يَعلَمُ العَبدُ ما فِي حُسنِ الخُلقِ لَعَلِمَ أَنّهُ يَحتاجُ أن يكونَ لَهُ خُلقٌ حسنٌ» (٣).

٣ ـ وكذلك الحديث النبوي الشريف الآخر حيث يقول :

«الخُلقُ الحسنُ نِصفُ الدِّينِ» (٤).

٤ ـ نقرأ في حديثٍ عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : «الخُلقُ الَمحمُودُ مِن ثِمارِ العَقلِ وَالخُلقُ المَذمُومُ مِن ثِمارِ الجُهلِ» (٥).

__________________

١ ـ سورة الشّمس ، الآية ٩ و ١٠.

٢ ـ سفينة البحار (مادة خلق).

٣ ـ بحار الأنوار ، ج ١٠ ، ص ٣٦٩.

٤ ـ بحار الأنوار ، ج ٧١ ، ص ٣٨٥.

٥ ـ غرر الحكم ، ١٢٨٠ ـ ١٢٨١.

٢٥

وبما أنّ كلاً من «العلم» و «الجهلَ» قابلان للتغيير ؛ فتتبعها الأخلاق في ذلك أيضاً.

٥ ـ وفي حديثٍ آخر ، جاء عن الرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله :

«إنّ العَبدَ لَيَبلُغُ بِحُسنِ خُلقِهِ عَظيمَ دَرجاتِ الآخِرَةِ وَشَرفِ المَنازِلِ وَأَنّهُ لَضَعِيفُ العِبادةِ» (١).

حيث نجد في هذا الحديث ، مقارنةً بين حُسن الأخلاق والعبادة ، هذا أولاً.

وثانياً : إنّ الدرجات العُلى في الآخرة تتعلق بالأعمال الإختياريّة.

وثالثاً : التّرغيب لكسب الأخلاق الحسنة ، كلّ ذلك يدلّ على أنّ الأخلاق أمرٌ إكتسابي ، وغير خارجة عن عنصر الإرادة في الإنسان.

مثيل هذهِ الرّوايات والمعاني القَيّمة كثيرٌ ، في مضامين أحاديث أهل البيت عليهم‌السلام ، وهي إن دلّت على شيءٍ فإنّها تدلّ على إمكانِيَّة تغيّر الأخلاق ، وإلّا فستكون لغواً وبلا فائدةٍ (٢).

٦ ـ وفي حديث آخر ورد عن الرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، نقرأ فيه أنّه قال لأحد أصحابه وأُسمه جرير بن عبد الله : «إنّك امرُءٌ قَد أحسنَ اللهُ خَلقَكَ فأَحسِنْ خُلْقَك» (٣).

وخلاصة القول أنّ رواياتنا مليئةٌ بهذا المضمون ، حيث تدلّ جميعها على أنّ الإنسان قادر على تغيير أخلاقه (٤).

ونختم هذا البحث بحديثٍ عن الإمام علي عليه‌السلام ، يحثّنا فيه على حُسن الخلق ، حيث قال عليه‌السلام : «الكَرَمُ حُسنُ السّجيةِ وَإجتنابِ الدَّنِيّةِ» (٥).

__________________

١ ـ المحجّة البيضاء ، ج ٥ ، ص ٩٣.

٢ ـ أُصول الكافي ، ج ٢ في باب حسن الخلق ص ٩٩ ، نقل رحمه‌الله : ١٨ رواية حول هذا الموضوع.

٣ ـ سفينة البحار مادة خلق.

٤ ـ راجع أصول الكافي ، ج ٢ ؛ وروضة الكافي ؛ ميزان الحكمة ، ج ٣ ؛ سفينة النجاة ، ج ١.

٥ ـ غُرر الحِكم.

٢٦

أدلّة مُؤيّدي نظرية ثبات الأخلاق ، وعَدم تغيّرها :

وفي مقابل ما ذكرناه آنفاً ، إستدلّ البعض برواياتٍ يظهر منها أنّ الأخلاق غير قابلةٍ للتغيير ، ومنها :

١ ـ الحديث المعروف الوارد عن الرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث قال :

«النّاسُ مَعادِنٌ كَمَعادِنِ الذَّهبِ وَالفِضَّةِ ، خِيارُهُم فِي الجَاهِليّةِ خِيارُهُم فِي الإسلامِ».

٢ ـ الحديث الآخر الوارد أيضاً عن الرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله :

«إذا سَمِعتُم أَنَّ جَبَلاً زالَ عَن مَكانِهِ فَصدِّقُوهُ ، وَإذا سَمِعتُم بِرَجُلٍ زَالَ عَن خُلقِهِ فَلا تُصَدِّقُوهُ! فإنَّهُ سَيعُودُ إلى ما جُبِلَ عَلَيهِ» (١).

الجواب :

إنّ تفسير مثل هذهِ الروايات ، وبالنّظر للأدلة السّابقة ، والروايات التي تصرّح بإمكانية تغير الأخلاق ، ليس بالأمر العسير ، لأنّ النّقطة المهمّة والمقبولة في المسألة ، أنّ نفوس الناس بالطبع متفاوتة ، فبعضها من ذَهبٍ والبعض الآخر من فضّةٍ ، ولكنّ هذا لا يدلّ على عدم إمكانية تغيير هذه النفوس والطبائع.

وبعبارةٍ اخرَى : إنّ مثل هذهِ الصّفات النّفسية في حدّ المقتضي : ليس علّةً تامّةً ، ولذلك رأينا وبالتجربة أشخاصاً تغيّرت أخلاقهم بالكامل ، ويعود الفضل في ذلك للتربية والتعليم.

وعلاوةً على ذلك ، إنّنا إذا أردنا أن نعمّم الحكم ، في الحديث الشّريف ، على جميع النّاس ، فهذا يعني أنّهم كلّهم ذَووا خُلقٍ حَسنٍ. فبعضهم حسنٌ والبعض الآخر أحسَن ، (كما هو الحال في الذّهب والفضّة). وعليه فَلَن يبقى مكانٌ للأخلاق السّيئة في طبع الإنسان. (فتأمّل).

وبالنّسبة للحديث الثاني ، نرى أنّ المسألة أيضاً هي من باب المُقتضي ، وليس علّةً تامّةً ، أو بعبارة اخرَى : إنّ الحديث ناظرٌ لأغلبية الناس ، وليس جميعهم ، وإلّا لخالف مضمون الحديث ، صريح التّأريخ ، الذي حكى لنا قَصصاً حقيقيّةً عن أفرادٍ إستطاعوا تغيير أنفسهم

__________________

١ ـ جامع السّعادات ، ج ١ ، ص ٢٤.

٢٧

وبقوا على ذلك حتّى الممات.

ولخالف أيضاً التّجارب اليوميّة ، التي رأينا فيها الكثير من الأشخاص الفاسدين ، غيّروا طريقة حياتهم بسبب التّعليم والتربية ، وإستمروا يسيرون في خطّ الهداية والصّلاح حتى الممات.

وخُلاصة القول : أنّه وفي نفس الوقت الذي تختلف فيه سَجايا النّاس ، لا يوجد أحد مجبور على الرّذائل والأخلاق السّيئة ، وكذلك الحال بالنسبة للأخلاق الحسنة ، فذَوُوا السّجايا الطيّبة إذا ما إتّبعوا هواهم ، سيسقطون إلى الحضيض ، وذَووا السّجايا الخبيثة ، قادرون على بناء أنفسهم وذاتهم ، من موقع التّهذيب والتزكية ، والوصول إلى أعلى درجات الكمال الرّوحي.

ويجب التّنويه إلى أنّ بعض الأفراد الفاسدين والمفسدين ، ولأجل توجيه أعمالهم المخالفة للطريق السّليم ، يتذرّعون بحججٍ واهيةٍ من هذا القبيل ؛ وأنّ الله تعالى قد جَبَلنا على ذلك الخُلق السّيء. وإن شاء أن يُغيّرنا لفعل؟! ....

وعلى كلّ حال ، فإن الإعتقاد بعدم إمكانيّة تغيير الأخلاق ، ليس له نتيجةٌ إلّا الوقوع في وادي الإعتقاد بالَجبر ، ورفض ما دعا إليه الأنبياء ، والقول بأنّ سعي علماء الأخلاق وأطّباء النفس في إصلاح النفوس ، هو سعيٌ غير مثمر ، ويترتب على ذلك بالتّالي فساد المجتمعات البشرية.

٦ ـ المَسار التّأريخي لِعلم الأخلاق

نختم البحث أعلاه ، بشرح مقتضب للمسار التأريخي لعلم الأخلاق :

فمما لا شك فيه أنّ الأبحاث الأخلاقية ، ولدت مع أوّل قدم وضعها الإنسان على الأرض ، لأن النّبي آدم عليه‌السلام لمُ يعلّم أبناءه الأخلاق فقط ، بل إنّ البّاري تعالى ، عند ما خلقه وأسكنه الجنّة ، أفهمه المسائل الأخلاقيّة والأوامر والنّواهي ، في دائرة السّلوك الأخلاقي مع الآخرين.

واتخذ سائر الأنبياء عليهم‌السلام طريق تهذيب النّفوس والأخلاق ، والتي تكمَن فيها سعادة

٢٨

الإنسان ، حتى وصل الأمر إلى السيّد المسيح عليه‌السلام ، حيث كان القسم الأعظم من تعاليمه ، هو أبحاثٌ أخلاقيّةٌ ، فَنَعَته حواريّوه وأصحابه بالمعلِّم الأكبر للأخلاق.

ولكن أعظم مُعلِّمي الأخلاق ، هو : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأنّه رفع شعار : «إنّما بُعثت لُاتمّم مكارَم الأخلاق».

وقال عنه الباري تعالى : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)(١).

ويوجد قديماً بعض الفَلاسفة ، مَنْ لُقّب بمعلّم الأخلاق ، مثل : إفلاطون ، وأرسطو ، وسُقراط ، وجَمعٌ آخر من فَلاسفة اليونان.

وعلى كلّ حال ، فإنّه وبعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّ الأئمّة عليهم‌السلام هم أكبر معلّمي الأخلاق ، وذلك بشهادة الأحاديث التي نُقلت عنهم ، حيث ربّوا أشخاصاً بارزين يمكن أن يعتبر كلّ واحد منهم مُعلِّماً لعصرهِ.

فحياة المعصومين عليهم‌السلام وأتباعهم ، هي خيرُ دليلٍ على سُمّو نفوسهم ، ورفعة أخلاقهم ، في حركة الواقع.

ويبقى السّؤال في أنّه متى تأسّس علم الأخلاق في الإسلام ، ومن هم مشاهيره؟. وهذا البحث مذكورٌ بالتّفصيل في الكتاب القيّم : تأسيس الشّيعة لعلوم الإسلام ، بقلم آية الله الشّهيد الصّدر قدس‌سره. ولا بأس بالإشارة إلى بعض ما جاء فيه ، حيث قسّم السيد الصدر الموضوع إلى ثلاثة أقسام :

أ ـ يقول إنّ أوّل من أسّس علم الأخلاق ، هو الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، (وذلك من خلال الرّسالة التي كتبها لإبنه الإمام الحسن عليه‌السلام) بَعد رجوعه من صفّين ، حيث بيّن الاسس الأخلاقيّة ، وتطرق للمَلكات الفاضلة والصّفات الرذيلة ، وحلّلها بأحسن وجهٍ (٢).

ونقل هذهِ الرّسالة ، بالإضافة إلى السيّد الرّضي في نهج البلاغة ، الكثير من علماء الشّيعة أيضاً.

ونقلها كذلك بعض علماء أهل السُنّة ، مثل : أبو أحمد بن عبد الله العسكري ، في كتابه

__________________

١ ـ سورة القلم ، الآية ٤.

٢ ـ رسالة الامام السّجاد عليه‌السلام الحقوقية ، ودعاء مكارم الأخلاق ، وكثير من الأدعية والمناجاة في طليعة الآثار الأخلاقية الإسلامية المعروفة ، بحيث لا يوازيها أثر ولا يصل إلى مقامها شيء.

٢٩

الزّواجر والمواعظ ، حيث أوردها كلّها وقال :

(لو كانَ مِنَ الحِكمةِ ما يجب أن يُكتبَ بالذّهبِ لكانتْ هذِهِ).

ب ـ أوّل من كتب كتاباً في دائرة (علم الأخلاق) ، هو : إسماعيل بن مهران أبو النصر السكوني ، وهو من علماء القرن الثاني ، وأسماه : المؤمن والفاجر ، (وهو أوّل كتاب أخلاقي عُرف في الإسلام).

ج ـ بعدها يذكر بعض من أسماء أكابر العلماء في هذا المجال ، (وإن كانوا لم يألفّوا كُتباً فيها) مثل :

«سلمان الفارسي» ، حيث قال في حقّه الإمام علي عليه‌السلام :

«سَلمانُ الفارسِي مِثلُ لُقمانِ الحَكيمِ ، عَلِمَ عِلمَ الأوّلِ والآخرِ ، بحرٌ لا يُنزفُ ، وهو مِنّا أهلَ البيتِ» (١).

٢ ـ «أبو ذَرْ الغَفاري» ، والذي بقيَ طويلاً يُروّج للأخلاق الإسلاميّة ، وهو الّنموذج الحيّ لها ، والمشاحنات التي كانت بينه وبين الخليفة الثّالث «عَثمان» ، و «معاوية» ، في المسائل الأخلاقيّة معروفةٌ لدى الجميع ، حيث أودت بحياته ، ومات في سبيل ذلك الطّريق القويم.

٣ ـ «عَمّار بن ياسِر» ، وقد ذكر أمير المؤمنين عليه‌السلام في حقّه وحقّ إخوانه وأصحابه المخلصين ، يبيّن منزلتهم الأخلاقية السّامية ، فقال : «أينَ إِخواني الّذين رَكِبُوا الطَّريقَ وَمَضوا عَلَى الحَقِّ ، أينَ عَمّارُ ... ثُمَّ ضَربَ يَدَهُ عَلَى لِحيَتِهِ الشَّريفَةِ الكَريمَةِ فأطالَ البُكاءَ ، ثُمَّ قَالَ : اوَّهْ عَلى إِخواني الَّذِينَ تَلَوا القُرآنَ فأحكَمُوهُ ، وَتَدّبَرُوا الفَرضَ فأقامُوهُ ، أَحْيَوا السُّنّةَ وأماتُوا البِدعَةَ» (٢).

٤ ـ «نوف البكّالي» ، كان مثال الزّهد والعبادة وحُسن الأخلاق ، وتوفّي بعد السّنة (٩٠) للهجرة.

٥ ـ «محمد بن أبي بكر» ، كان من خُلّص أصحاب أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ويحذو حَذو الإمام

__________________

١ ـ بحار الأنوار ، ج ٢٢٢ ، ص ٣٩١.

٢ ـ نهج البلاغة ، خطبه ١٨٢.

٣٠

في الزّهد والعبادةِ والأخلاق.

٦ ـ «الجارود بن المنذر» ، كان من أصحاب الأئمّة الرابع والخامس والسادس عليهم‌السلام ، ومن كبار العلماء في العِلم والعمل ، وله مقامٌ رفيعٌ جدّاً.

٧ ـ «حذيفة بن المنصور» ، كان من أصحاب الأئمّة : الباقر والصادق والكاظم عليهم‌السلام ، وقيل عنه : (أنّه أخذ عن اولئك العظام ، وقد نبغ في مكارم الأخلاق وتهذيب النفس).

٨ ـ «عثمان بن سعيد العمري» ، هو أحد الوكلاء الأربعة للإمام المهدي عليه‌السلام ، ومن أحفاد عمّار بن ياسر رحمه‌الله ، وقالوا فيه : (ليس له ثانٍ في المعارف والأخلاق والفقه والأحكام).

وكثيرٌ من العظماء الّذين يطول ذكرهم.

ونودُّ الإشارة إلى أنّ كثيراً من الكتب الأخلاقيّة ، وعلى مدى التأريخ الإسلامي ، قد كُتبت ، ونذكر منها :

١ ـ من القَرن الثّالث ، كتاب : «المانعاتُ من دخول الجنّة» ، بقلم جعفر بن أحمد القُمي ، وهو من كبار العلماء في عصره.

٢ ـ من القَرن الرّابع ، كتاب : «الآداب» وكتاب «مكارم الأخلاق» ، بقلم عليّ بن أحمد الكوفي.

٣ ـ كتاب : «طهارة النّفس» أو «تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق» ، بقلم إبن مَسكويه ، والمُتوَفّى في القَرن الخامس ، فهو من الكتب المعروفة في هذا المجال ، وله كتاب آخر في علم الأخلاق ، وإسمه «آداب العرب والفُرس» ، ولكن شهرته ليست كشهرة الكتاب المذكور آنفاً.

٤ ـ كتاب : «تنبيه الخاطر ونزهةُ الناظر» ، والذي عُرِف ب : «مجموعة ورّام» ، أحد الكتب المعروفة أيضاً في هذا المجال وكاتبه «ورّام بن أبي الفوارس» ، من علماء القَرن السّادس الهجري.

٥ ـ ونرى في القَرن السّابع كتابي : «الأخلاق النّاصرية وأوصاف الأشراف وآداب المتعلمين» ، للشيخ خَواجة نصير الطّوسي رحمه‌الله ، فكلّ واحد منها مَعلَم من مَعالم التّصنيف في هذا المجال ، في ذلك القرن.

٦ ـ وفي باقي القُرون نرى كتباً مثل : «إرشاد الديلمي» ، «مصابيح القلوب للسبزواري» ،

٣١

«مكارم الأخلاق لحسن بن أمين الدين» ، و «الآداب الدينية لأمين الدين الطّبرسي» ، و «المحجة البيضاء للفيض الكاشاني» ، وهو كتاب قيّم جداً في هذا العلم ، و : «جامع السّعادات» و «معراج السّعادة» ، وكتاب : «أخلاق شبّر» ، وكثير من الكتب الاخرى (١).

والمرحوم العلّامة الطّهراني ، أورد عشرات التّصانيف في كتابه المعروف ب : «الذريعة» (٢).

ويجب الإشارة إلى أنّ كثيراً من الكتب الأخلاقيّة ، طُبعت بعنوان كتب : السير والسلوك إلى الله ، والبعض الآخر طُبع بعنوان : الكتب العرفانيّة ، وتطرّق البعض الآخر لمسائل الأخلاق في فصل أو فصلين ، ككتاب : «بحار الأنوار» و «اصول الكافي» ، حيث يُعدّان من أفضل مصادر هذا العلم.

__________________

١ ـ مُلخص ومُقتبس من كتاب تأسيس الشّيعة لعلوم الإسلام. الفصل الأخير.

٢ ـ الذريعة ، ج ١.

٣٢

٢

دور الأخلاق في الحياة والحضارة الإنسانيّة

يعتقد البعض من غير المطّلعين ، أنّ المسائل الأخلاقيّة تمثل أمراً خاصاً في حدود الحياة الشّخصية للإنسان ، أو أنّها مسائل مقدّسة معنويّة ، لا تفيد إلّا في الحياة الاخرويّة ، وهو أشتباه محظ ، لأن أكثر المسائل الاخلاقيّة لها أثرها في واقع الحياة الإجتماعيّة للإنسان ، سواء كانت ماديّة أم معنويّة ، فالمجتمع البشري بلا أخلاق ، سينقلب إلى حديقةِ حيواناتٍ لا يُجدي معها إلّا الأقفاص ، لِردع أفعال الحيوانات البشريّة عن أفعالها الضّارة ، وستُهدر فيها الطّاقات ، وتحطّم فيها الإستعدادات ، وسيكون الأمان والحريّة لعبة بيد ذوي الأهواء ، وستفقد الحياة الإنسانية مفهومها الواقعي.

وعند ما نتحرى التأريخ ، نرى أنّ كثيراً من الأقوام البشريّة قد حَلّ بهم البوار ، وتمزقوا شرّ مُمَزّق نتيجةً لإنحرافاتهم الأخلاقيّة.

وكم رأينا في التأريخ حُكّاماً ، عرّضوا شعوبهم لمصائب أليمةٍ وويلاتٍ ، نتيجةً لضعفهم الأخلاقي!!. وكم يوجد من امراء فاسدين وقيادات عسكريّة متعنّتة ، عرّضوا حياة جنودهم للخطر الفادح ، بسبب استبدادهم بالرّأي وعدم المشورة.

والحقيقة أنّ الحياة الفرديّة للإنسان ، لا لَطافةَ ولا شفافيّة لها بدون الأخلاق. ولن تصل العوائل إلى برِّ الأمان من دونها ، ولكنّ الأهمَّ من ذلك هو الحياة الإجتماعيّة للبشر ، فما لم

٣٣

يتمسك أفراد المجتمع بالأخلاق ، فستكون نهاية المجتمع أليمة وموحشة جدّاً.

ولرب قائل يقول : إنّ السّعادة والتكامل في واقع المجتمع البشري ، يمكن أن يتحقّقا في ظِلِّ العمل بالقوانين والأحكام الصّحيحة ، من دون الإعتماد على مبادىء الأخلاق في الفرد.

ونقول له : إنّ العمل بالقوانين ، من دون وجود قاعدةٍ متماسكةٍ من القِيم الأخلاقيّة لدى الفرد غير ممكن ، لأنّه إذا لم يتوفر الدّاعي الذّاتي للإنسان ، فالسّعي الظّاهري لن يُجدي نفعاً.

فالقوّة والضّغط من أسوأ الأدوات لتنفيذ القوانين والضّوابط ، ولا يصحّ إستعمالها إلّا في الضّرورات ، وبالعكس فإنّ الإيمان والأخلاق ، يُعتبران من أفضل الأساليب لتنفيذ أيّة قرارات.

بعد هذه الإشارة ، نعود للآيات القرآنيّة الناظّرة إلى هذه المسألة المهمّة ، لنستوحي منها بعض المعاني في هذا المجال :

١ ـ «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَاخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» (١).

٢ ـ (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)(٢).

٣ ـ (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)(٣).

٤ ـ (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ)(٤).

٥ ـ (وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً ولا

__________________

١ ـ سورة الأعراف ، الآية ٩٦.

٢ ـ سورة فصّلت ، الآية ٣٤ و ٣٥.

٣ ـ سورة آل عمران ، الآية ١٥٩.

٤ ـ سورة سبأ ، الآية ٣٤.

٣٤

يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) (١).

٦ ـ (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً ـ وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً)(٢).

٧ ـ (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ)(٣).

٨ ـ (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)(٤).

٩ ـ (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى)(٥).

١٠ ـ (وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)(٦).

تفسير وإستنتاج :

«الآية الاولى» : تكلّمت عن الرّابطة بين بركات الأرض والسّماء وبين التّقوى ، حيث يُصرِّح فيها بأنّ التّقوى ، سبب البركات التي تنزل من السّماء على الناس ، وبالعكس فإنّ عدم التّقوى والتّكذيب بآيات الله ، سبب لنزول العذاب : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ).

فبركات الأرض والسّماء لها معنى وسيع جداً ، بحيث يشمل : نزول الأمطار ، وإنبات النّباتات ، وكثرة الخيرات ، وكثرة القوى البشريّة.

«البركة» : أصلها الثّبات والإستقرار ، وبعدها اطلقت على كلّ نِعمةٍ وموهبةٍ تبقى ثابتةً لا تتغير ، ولذلك فإنّ الموجودات غير المبارك فيها ، تكون غير ثابتةٍ وتفنى بسرعةٍ.

__________________

١ ـ سورة القصص ، الآية ٧٧ و ٧٨.

٢ ـ سورة نوح ، الآية ١٠ إلى ١٢.

٣ ـ سورة المائدة ، الآية ٦٦.

٤ ـ سورة النحل ، الآية ٩٧.

٥ ـ سورة طه ، الآية ١٢٤.

٦ ـ سورة الأنفال ، الآية ٤٦.

٣٥

إن الكثير من الامم لديها إمكاناتٌ ماديّةٌ كبيرةٌ ، ومعادن ومصادر للثروة تحت الأرض ، وكذلك لديها أنواع الصّناعات ، ولكن بسبب أعمالهم السيئة والتي لها علاقة مُباشرة بإنحطاطهم الأخلاقي ، فإنّ تلك المواهب والمنن الإلهيّة ، ستتعرض للإهتزاز وتفقد البركة في مضمونها الإجتماعي ، حيث تُستعمل تلك النعم الإلهيّة في الغالب ، لتعجيل فنائهم وزوال نعيمهم من موقع النقمة الإلهيّة.

وقد صرّح القرآن الكريم بذلك ، حيث قال في سورة التوبة في الآية (٨٥) : (وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ)

نعم إنّ هذه النِّعم إذا إقترنت بفساد الأخلاق ، فستكون سبباً لعذاب الدنيا وخُسران السّعادة في الآخرة!.

وبعبارةٍ اخرَى ، إذا إقترنت هذه المواهب الإلهيّة ، بالإيمان والأخلاق والقيم الإنسانية ، فستجلب الرّفاه والسعادة والعمران للمجتمع البشرى ، وهذا هو الشّيء الذي تُشير إليه الآية الآنفة الذّكر.

وبالعكس فيما لو سلك الإنسان معها ، اسلوب البُخل والظُّلم والإستبداد ، وسوء الخُلق وإتّباع الأهواء ، فستكون من وسائل الإنحطاط والفساد والإنحراف!.

«الآية الثانية» : تتحرك في إطار بيان طريقةٍ مُهمّةٍ ومُؤثرةٍ جداً لدفع العداوات والضّغائن ، وتوضّح أيضاً دور الأخلاق في إزالتها : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ).

ويضيف قائلاً : إنّ هذا الأمر ، أي سِعة الصّدر ، أمرٌ لا يقدر عليه كلّ أحد ، بل يختصّ بها من اوتي حظّاً عظيماً من الإيمان والتّقوى ، فيقول : (وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ).

إنّ إحدى المشاكل الكبيرة للمجتمعات البشريّة ، هي تراكم الحقد والكراهيّة في النفوس ، وفي حال وصولها الذّروة ، فإنّ من شأنها أن تفضي إلى إشعال نيران الحروب ، التي تحرق معها

٣٦

كلّ شيء وتحوله إلى رماد.

ومع تحرك الإنسان من موقع : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ، فستذوب الأحقاد والكراهيّة كالثّلج في الصّيف ، وستتخلص المجتمعات البشريّة من خطر الحروب ، وتقلّ الجنايات ، وتنفتح البشريّة على أجواء المحبّة والتعاون والتّكامل الإجتماعي.

وكما يقول القرآن الكريم ، : إنّ هذا المستوى الأخلاقي لا يصدر من كائن من يكن ، حيث يتطلب قوّة الإيمان والتّقوى والتربية الأخلاقيّة.

ومن الطبيعي أنّ الخُشونة إذا ما قابلتها الخُشونة ، والسّيئة دُفعت بالسّيئة ، فستطّرد هذه السّلبيات وتتوسع يوماً بعد يوم ، وبالتّالي ستجر الويلات والمآسي على المجتمع البشري.

ومن البديهي أنّ : (مسألة (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)) ، لها شروطٌ وحدودٌ وإستثناءاتٌ ، سنشرحها بالتّفصيل في المستقبل إن شاء الله.

«الآية الثالثة» : تحدثت عن تأثير حُسن الخُلق في جلب وجذب الناس ، وبيّنت أنّ المدير المتخلق بالأخلاق الإلهيّة إلى أيّ حدّ يكون موفقاً في عمله ، وكيف يجمع القلوب المُتنافرة ويوحِّدها التوحيد الذي يصعد بها إلى الرّقي والكمال الإجتماعي :

(فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ).

ففي هذه الآية ، نرى التّأثير العميق لحسن الأخلاق في تقدّم أمر الإدارة ، وجلب وجذب القلوب ووحدة الصّفوف ، والنّجاح على مُستوى التّفاعل الإجتماعي لأفراد المجتمع ؛ فأثر حسن الأخلاق لا يتحدّد بحدود البُعد الإلهي والمعنوي فقط ، بل له آثاره الوسيعة في حياة الإنسان الماديّة.

والأوامر الثّلاثة التي جاءت في ذيل الآية ، يعني مسألة : «العَفو عن الخَطأ» و «طلب المغفرةِ من الباري تعالى» و «المشورة في الامور» ، هي أيضاً تصبّ في دائرة تفعيل عناصر الأخلاق في النّفس ، لأنّ تلك الأخلاق النّابعة من الرّحمة والتّواضع ، تكون سبباً للعفو و

٣٧

الإستغفار وتصحيح الأخطاء السّابقة ، وإحترام شخصيّة ووجود الإنسان أيضاً.

«الآية الرابعة» : تبيّن الآثار السّلبية لبعض الأخلاق السيئة ، حيث يقف في مقابل الأنبياء الإلهيين ، جماعة من المترفين ، وهم المُنعّمين الذين ملأ الكبَر والأنانيّة أنفسهم ووجودهم : (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ).

وبعدها يعقّب قائلاً : أنّ الغُرور وصل بهم إلى درجةٍ كبيرةٍ ، فقالوا : (وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ).

فمثل هذه الأخلاق القبيحة ، تُعدّ سبباً في التّصدي للإصلاح الإجتماعي ، على مُستوى قتل رجال الحقّ ، وخنق أصوات طلّاب الحقيقة ، وبالتالي زرع بذور الفساد والظّلم والطغيان في المجتمعات ، وهنا يتّضح نموذج آخر من آثار الأخلاق السّيئة في المجتمعات البشريّة.

والعجيب في الأمر ، أنّ روحيّة الإستكبار النّاشئة من الرّفاه المادي وسبوغ النّعمة ، هي السّبب في التّورط في مُستنقع الخطيئة وإرتكاب أخطاء فاضحة جدّاً ، فإعتقدوا بأنّ وفور النّعمة وكثرتها ، هو دليل للقرب الإلهي ، وقالوا : لو لا قُربنا من الله تعالى لما آتانا تلك النّعم!؟. وبذلك أنكروا جميع القيم الأخلاقيّة والمعنويّة ، ولكنّ القرآن الكريم في الآية التاليّة يُفنّد منطقهم الواهي ، ويجعل المعيار هو الإيمان والعمل الصّالح.

فلم يكن موقف المترفين المشركين من قُريش بالوحيد في عصرهم ، فهذا هو موقف جميع المترفين في الأقوام السّالفة مع الأنبياء والمصلحين.

«الآية الخامسة» : تنظر لوجهٍ آخر من المسألة ، وتبيّن قصّة «قارون» الغني المغرور والأناني وهو من بني إسرائيل.

فعند ما نصحه أهل العلم والمعرفة من قومه ، وقالوا له : (وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ

٣٨

لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) وقال وبكلّ تكبّر وغُرور : (قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي).

يعني أنّ الله لا دخل له في وفور النّعمة عليّ ، ولكنّ علمي ودرايتي بالامور هي السّبب في ذلك ؛ وهكذا أودى به الكِبَر والغُرور إلى السّقوط في وادي إنكار الآيات الإلهيّة ، وبالتّالي التّحرك من موقع التعاون مع أعداء الحقّ والعدالة ، وفي لحظةٍ وحادثةٍ عجيبةٍ ، خُسِفَت به وَبِأمواله الأرض.

وهنا نرى كيف أنّ الرّذائل الأخلاقيّة ، بإمكانها تغيير وجوه الأشخاص والمجتمعات ، ومنعهم من الوصول إلى الخير والسّعادة.

والطّريف في الأمر ، أنّنا نقرأ في الآيات التي قبلها ، بأنّ قومه قالوا له : (إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ).

ومن البديهي أنّ الإسلام لا يعارض الفرح والسّرور ، ولكنّ المقصود هنا الفرح النّاشيء من الغَفلة والغرور ونِسيان الله تعالى ، والمقترن بالظّلم والفساد ومُمارسة الخطيئة والذي بدوره يجرّ الإنسان لِلعربدة والجُموح والفساد ، وكلّ ذلك منشؤه الصّفات القبيحة التي تضرب بجرانها في القلب.

«الآية السادسة» : نقرأ فيها شكوى النّبي نوح عليه‌السلام إلى الباري تعالى ، فنرى في طيّاتها معانٍ تُشير إلى تأثير أعمال الإنسان ، والأخلاق التي تدعم تلك الأعمال ، في الحياة الفرديّة والإجتماعيّة للإنسان ، فيقول : (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً* يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً* وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ* وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً).

وفي الإستمرار في قراءة تلك الآيات ، نرى عصيانهم وتمرّدهم على الأوامر الإلهيّة ، وكذلك تبيّن الآيات صفاتهم القبيحة ، والتي هي بمثابة المنَبع الآسن الذي يمدهم بالذّنوب.

ويمكن القول أنّ ما ذُكر آنفاً ، هو العلاقة المعنويّة والإلهيّة بين الإستغفار وترك الذنوب ، وبين زيادة النعم ، ولا يوجد منع من سراية هذه العلاقة لتشمل البُعد الظّاهري والبُعد المعنوي ، لذلك نقرأ في آيةٍ اخرى من القرآن الكريم : (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ)(١).

__________________

١ ـ سورة الروم ، الآية ٤١.

٣٩

وقد ورد هذا المعنى في سورة هود بشكل آخر على لسان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، في خطابه لُمشركي مكّة : (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى)(١).

لا شك أنّ الّتمتع «بالمتاع الحسن» ، لأجلٍ مُسمّى ، هو إشارةٌ إلى المواهب الماديّة الدنيويّة ، فهي رهينة الإستغفار والتّوبة من الذّنب ، والعودة إلى الباري تعالى ، والتّخلق بالأخلاق الحسنة.

ولا شكّ أنّ الصّفات القبيحة هي الأساس والأصل لأنواع الذّنوب ، والذّنوب بدورها سبب لنشر الفساد في المجتمع وتفكيك لِعُرى الوحدة ، وأواصر الصّداقة والاخوّة والاعتماد بين الناس ، وبالتّالي التّأخر في العُمران والّنمو الإقتصادي والرّفاه المادي ، والتّكامل المعنوي وسلامة النّفوس.

وفي «الآية السابعة» : إشارةٌ إلى حالة أهل الكتاب وعصيانهم وطغيانهم ، فيقول : (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ).

ونرى هنا أيضاً تقريراً ، للعلاقة الوطيدة بين العمل الصالح والتّقوى من جهةٍ ، ونزول البركة السّماوية والأرضية من جهةٍ اخرى ، وهذه العلاقة يمكن أن تحمل الجانب المعنوي أو الطّبيعي ، أو بالأحرى الإثنين معاً.

نعم فإنّ الفيوضات الإلهيّة لا حدّ لها ، ويتوجب علينا تحصيل الأهليّة والقابليّة ، لنتصل بالمصدر الأصلي للفيض ، ولكن الإفراط والتّفريظ والعُدول عن جادّة الإعتدال والتّوازن ، سوّدت وجه الحياة الإنسانيّة ، وسلبت منها الراحة.

فالحروب المدمّرة تعرّي النفوس الإنسانيّة من الفضيلة والصّلاح ، وتُزهق الثّروات الماديّة والمعنويّة ، وتفضي بالإنسان إلى الزّوال.

__________________

١ ـ سورة هود ، الآية ٣.

٤٠