الأخلاق في القرآن - ج ١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأخلاق في القرآن - ج ١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : الأخلاق
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8139-05-9
ISBN الدورة:
964-8139-27-X

الصفحات: ٣٥٢

كُلِّ مُسْلِمٍ يَعْرِفُنا ، أَنْ يُعْرِضَ عَمَلَهُ في كُلِّ يَومٍ وَلَيلَةٍ عَلى نَفْسِهِ ، فَيَكُونَ مُحاسِبَ نَفْسِهِ ، فَإنّ رَأَى حَسَنَةً استَزادَ مِنْها وَإِنْ رأَى سَيِّئَةً إِسْتَغْفَرَ مِنْها لِئلّا يُخْزى يَومَ القِيامَةِ» (١).

٥ ـ ما نُقل عن الإمام موسى الكاظم عليه‌السلام : «يا هُشامُ لَيسَ مِنّا مَنْ لَمْ يُحاسِبْ نَفْسَهُ فِي كُلِّ يَومٍ ، فإنْ عَمِلَ حَسَنَةً استَزَادَ مِنْها وَإِنْ عَمِلَ سَيِّئَةً إِسْتَغْفَرَ اللهُ مِنْها وَتابَ» (٢).

فالروايات جمّةٌ في هذا المجال ومن أراد الإكثار ، عليه مراجعة مستدرك الوسائل : كتاب الجهاد ، أبواب جهاد النفس (٣).

هذه الرّوايات كلّها تبيّن أهميّة المسألة في الإسلام ، وأنّ مَنْ لم يحاسب نفسه فهو ليس من أتباع الأئمّة عليهم‌السلام ، الحقيقيين!.

وكما أشارت الرّوايات إلى فلسفة وحكمة هذا الأمر ، فهو يزيد من الحسنات ، ويمنع الإنسان من السّقوط في وادي الهلاك والقبائح ، ويُساعده في إنقاذه من بحر الغفلة والضّياع ، وهَلّا ساوينا الامور الماديّة بالمعنويّة الروحيّة ، ففي الماديّات يُحسب حساب كلّ شيءٍ ، ولكلٍّ دفتره الخاص به ، دفترٌ : يومي ، وسنوي ، وشهري ، وللمخزن ... وو. ولسنا مُستعدّين من وضع ولو ورقةٍ واحدةٍ نحاسب فيها أنفسنا ، على ما فعلت في دائرة الطّاعة والمعصية ، للهِ تعالى!!.

هذا مع وجود فرق كبير بين الأمرين ، ولا يُقاس أحدهما بالآخر ، أو كما يقال شَتّان ما بين الثَّرى والثُّريّا ، فنقرأ حديثاً عن الرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، يقول : «لا يَكُونَ العَبدُ مُؤمناً حتّى يُحاسِبَ نَفْسَهُ أَشد مِنْ مُحاسَبَةِ الشّريكِ شَرِيكَهُ ، وَالسَّيِّدِ عَبْدَهُ» (٤).

فهذا الموضوع مهم لِلغاية ، إلى درجةٍ أنّ العلماء كتبوا فيه كتباً عديدةً ، ومنهم السيد إبن طاووس الحلي رحمه‌الله المتوفي فى سنة «٦٦٤ للهجرة» في كتابه محاسبة النّفس ، وكتاب محاسبة النّفس في إصلاح عمل اليوم والإعتذار من الأمس ، للمرحوم الحاج ميرزا علي الحائري

__________________

١ ـ تحف العقول ، ص ٢٢١.

٢ ـ مستدرك الوسائل ، ج ١٢ ، ص ١٥٣.

٣ ـ المصدر السابق ، ج ١٢ ، ص ١٥٢ ـ ١٥٦ ؛ اصول الكافي ، ج ٢ ، باب محاسبة العمل ، ص ٤٥٣ ، ح ٢.

٤ ـ محاسبة النّفس ، لإبن طاووس رحمه‌الله ، ص ١٤ ؛ بحار الأنوار ، ج ٦٧ ، ص ٧٢ ، ح ٢٢.

٢٢١

المرعشي ، (المتوفى في سنة ١٣٤٤ للهجرة) ، ومحاسبة النّفس للسيّد علي المرعشي ، المتوفى في سنة (١٠٨٠ للهجرة (١)).

ويجدر هنا الإشارة إلى عدّة ملاحظات :

١ ـ كيفيّة محاسبة النّفس وإستنطاقها

وأفضل طريقٍ لذلك ، ما ورد عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، نقلاً عن الرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال : «أَكْيَسَ الكيَسِينَ مَنْ حاسَبَ نَفْسَهُ ...» فَقَالَوا : يا أَميرِ المُؤمِنِينَ وَكَيفَ يُحاسَبُ الرَّجُلُ نَفْسَهُ؟.

قال : إذا أَصْبَحَ ثُمَّ أَمسى رَجَعَ إِلى نَفْسِهِ وَقَالَ : يا نَفسُ إِنَّ هذا يَومٌ مضى عَلَيكِ لا يَعُودُ إِلَيكِ أَبَداً ، وَاللهُ سائِلُكِ عَنْهُ فَيما أَفْنَيتَهُ ، فَما الَّذِي عَمِلْتَ فِيهِ؟ أذَكَرْتَ اللهَ أَمْ حَمَدْتَه؟ أقَضَيتِ حَقَّ أَخٍ مُؤمِنٍ؟ أَنْفَّسْتَ عَنْهُ كُربَتَهُ؟ أحَفِظتِيهِ بِظَهرِ الغَيبِ فِي أَهْلِهِ وَوَلَدِه؟ أحَفِظتِيهِ بَعْدَ المَوتِ فِي مُخلِّفِيهِ؟ أَكَفَفتِ عَنْهُ غَيبَةِ أَخٍ مُؤمِنْ بِفَضْلِ جاهَك؟ أَأعَنْتَ مُسلِماً؟ ما الَّذِي صَنَعْتِ فِيهِ؟ فَيَذكُرَ ما كانَ مِنْهُ ، فإنْ ذَكَرَ أَنّهُ جَرى مِنهُ خَيرَ حَمَدَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ وَكَبَّرَهُ عَلى تَوفِيقِهِ ، وإِنْ ذَكرَ مَعْصِيةً أَو تَقْصِيراً اسْتَغْفَرَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ وَعَزَمَ عَلى تَرْكِ مَعاوَدَتَهُ وَمحا ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ بِتَجْدِيدٍ الصّلاةِ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَّيّبِينَ وَعَرَضَ بَيعَةَ أَمِيرِ المُؤمِنِينَ عَلِى نَفْسِهِ وَقَبُولِها ، وإِعادَة لَعَنَ شانِئِيهِ وَأَعدَائِهِ ، وَدَافِعِيه عَنْ حُقُوقِهِ ، فَإِذا فَعَلَ ذَلِكَ قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ : لَستُ اناقِشُكَ فِي شيءٍ مِنْ الذُّنُوبِ مَعَ مُوالاتِكَ أَولِيائِي وَمُعادَاتِك أَعدَائِي» (٢).

نعم فإنّها أفضل طريقةٍ لمحاسبة النّفس ، وإلجامها عن الّتمادي في خطّ العصيان والّتمرد.

٢ ـ ما هي معطيات محاسبة النّفس؟

الإجابة على هذا السؤال ، ظهرت جليةً في طيّات بُحوثنا السّابقة ، والحَريّ بنا هنا

__________________

١ ـ الذّريعة ، ج ٢.

٢ ـ بحار الأنوار ، ج ٧٠ ، ص ٦٩ و ٧٠.

٢٢٢

الإستعانة بالأحاديث التي وردت عنهم عليهم‌السلام ، منها :

ما ورد عن الإمام علي عليه‌السلام : «مَنْ حاسَبَ نَفْسَهُ وَقَفَ عَلَى عُيوبِهِ ، وَأَحاطَ بِذُنُوبِهِ ، واستَقالَ الذُّنُوبَ وَأَصْلَحَ العُيوبَ» (١).

وأيضاً عنه عليه‌السلام : «مَنْ حاسَبَ نَفْسَهُ سَعَدَ» (٢).

وعنه عليه‌السلام : «ثَمَرَةُ الُمحاسِبِةِ صلاحُ النَّفْسِ» (٣).

ويقول بعض العلماء في هذا الفن ، إنّ المحاسبة يجب أن تكون شبيهة ، بالمحاسبة بين الشّريكين ، فإذا ما وجد النّفع إستمر معه وبارك في خُطاه ، وإلّا فسيكون ضامناً للخسارة في الحاضر والمستقبل.

وأهمّ رأسمالٍ عند الإنسان : هو عمره ، فإذا ما قضاه بالخير والمنفعة ، فهو الفائز ، ولكنه سوف يعيش الخسارة في إرتكابه لِلذنوب ، فموسم هذه التّجارة هي أيّامه ، وشريكه في المعاملة هو النّفس الأمّارة.

فأوّل ما يطالبها بالفرائض ، فإذا ما أدّتها فليشكر الباري تعالى ، وليبارك خُطاه ، وإذا ما ضيّعت فريضة ما ، فليطالبها بقضائها وإذا كان فيها نقص ، فليجبرها بالنّوافل ، وعند المعصية يطالبها بالتّكفير عنها ، كما يفعل التاجر مع شريكه ، في أتفه الامور والمبالغ التي لا قيمة لها ، كي لا يُغبن في المعاملة ، وخصوصاً أنّ الإنسان ، يواجه عدوّاً لدوداً مخادعاً ، وهو النفس الأمّارة ، وليحاسب نفسه كما تحاسبه الملائكة ، في تداعيات أفكاره ، وخواطر نفسه في قيامه وفي قُعوده ، ولما ذا تكلّم ، ولما ذا سكن؟ ، وهكذا في كلّ ساعةٍ وكلِّ يومٍ ، وعلى كلّ فعلٍ وعملٍ ، وإذا ما تهاون في الأمر ، فسوف تتراكم على قلبه وروحه الذّنوب والعيوب ، والأنكى من ذلك أنّ الإنسان ينسى ما يفعله بسهولةٍ ، ولكنّ الكرام الكاتبين ، لا يغفلون ولا يفترون في عملهم ، فقال الباري تعالى : (أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ)(٤)(٥).

__________________

(١) غرر الحكم

(٢) المستدرك ج ١٢٦ ص ١٥٤

(٣) غرر الحكم

(٤) سوره المجادله الايه ٦

٥ ـ المحجّة البيضاء ، ج ٨ ، ص ١٦٨ ، (مع التلخيص).

٢٢٣

ومسك الخِتام ، نورد حديثاً يبيّن كيفيّة الحساب في يوم القيامة ، عن الرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنّه قال : «لا تَزُولُ قَدَما عَبْدٍ يَومَ الَقيامَةِ ، حَتّى يُسْئَلَ عَنْ أَرْبَعٍ : عَنْ عُمْرِهِ فِي ما أَفناهُ وَعَنْ شَبابِهِ فَي ما أَبلاهُ ، وَعَنْ مالِهِ مِنْ أَينَ كَسَبَهُ وَفي ما أَنْفَقَهُ وَعَنْ حُبِّنا أَهْلَ البَيتِ» (١).

الخطوة الخامسة : المعاتبة والمعاقبة

بعد «المحاسبة» ، يأتي دور المُعاتبة والمُعاقبة للنّفس على أخطائها وأغلاطها ، فالحساب بدون إظهار ردّ الفعل ، لا فائدة فيه ولا ثمرة ، ونتيجته ستكون عكسيةً ، بل تحمل النّفس على الجرأة والجسارة والعناد ، في حركة الحياة والواقع ، فكما يحاسب الرّئيس موظفيه عن تقصيرهم ، ويعاقبهم بنوعٍ ما ، وكلٌّ حسب حجم تقصيره ، فكذلك يفعل السّائرون في طريق الباري ، فإذا ما جَمَحَت بهم أنفسهم يوماً ، فسوف يعاقبونها لجرأتها على سيّدها ومولاها.

وأكّد القرآن الكريم على هذه المسألة ، فأقسَم بالنّفسِ اللّوامة ، لأهميتها : (لا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ)(٢) ، (٣).

ونحن نعلم أنّ النّفس اللوامة ، هي الضّمير الحي الذي يردع صاحبه عن إرتكاب المعاصي ، وهو نوع من العِقاب للنفس.

ومن الواضح أنّ العقاب للنفس له درجاتٌ ومراتبٌ ، وأوّل ما يبدأ من حالة الملامة ، ثمّ يشدّد العقاب ، وذلك بحرمان النّفس من بعض اللذائذ الدنيوية لفترة من الزّمن.

وأشار القرآن الكريم ، لنموذجٍ رائعٍ حول هذا الموضوع ، وذلك بالنّسبة للثلاثة الذين

__________________

١ ـ خصال الصدوق ، ص ٢٥٣.

٢ ـ سورة القيامة ، الآية ٢.

٣ ـ المعروف بين المفسّرين : أنّ «لا» زائدة وللتأكيد ، والجدير بالملاحظة أنّه وردت تفسيرات مختلفة «للنفس اللّوامة» ، فبعض قال : أنّها إشارةٌ للكفّار والعاصين الذين يلومون أنفسهم في يوم القيامة ، وبعض أشاروا إليهم في هذه الدنيا ، أنّهم يستحقون الملامة في الدنيا قبل الآخرة ، ولكنّ المعنى : «الوجدان أو الضمير المستيقظ» ، أنسب من الجميع ، وقَسَمٌ القرآن بهاٌ دليلٌ على أفضليّتها على باقي الامور.

٢٢٤

تخلّفوا في غزوة تَبوك ، وأمر الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، الناس بمقاطعتهم في كلّ شيءٍ ، فضاقت عليهم الأرض بما رحبت ، فعاقبوا أنفسهم على فعلتهم ، وإنشغلوا بالتّوبة ، وإنعزلوا عن الناس بالكامل ، وبعد مدّة تاب الله تعالى عليهم ، ونزلت الآية الكريمة : (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)(١).

فجملة : «وضاقت عليهم أنفسهم» ، ربّما تكون إشارةً إلى مسألة : «معاقبة النّفس» ، بالعزلة التي إختاروها لأنفسهم ، فقبلها الباري تعالى منهم ، وَورد في شأن النّزول للآية (١٠٢) من سورة التوبة : (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

فهي تشير إلى قصة : «أبو لُبابة الأنصاري» ، وهو أحد أصحاب النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكنّه تهاوَن عن نَصرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، في غزوة تَبوك ، وبعدها ندم أشدّ الندم ، فأراد أن يُكفّر عن فِعلته ، فذهب إلى مسجد النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وربط نفسه إلى أحد أعمدته ، وأقسم أنّ لا يطلق نفسه إلّا بموافقة الله ورسوله ، أو يتوب الله تعالى عليه ، فبقي على هذه الصورة حتى تاب الله تعالى عليه ، ونزلت الآية ، وصرّحت بقبول الله تعالى لِتوبته.

ومن الواضح ، أنّ أبا لُبابة كان قد تحرك من موقع مُحاسبة النفس ، ومُعاقبتها على فِعلتها ، وهو دليلٌ على أنّ السّير والسّلوك إلى الله تعالى ، كان موجوداً على عهد الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وأمّا جملة : (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً) ، فهي أيضاً ربّما تكون إشارةً لذلك المعنى أيضاً ، وأَتحفتنا الرّوايات أيضاً ، وأرشدتنا إلى موضوع بحثنا ، ومنها :

١ ـ ما ورد عن علي عليه‌السلام ، أنّ قال في أوصاف المتّقين ، في نهج البلاغة :

«إِن اسْتَصْعَبَتْ عَلَيهِ نَفْسُهُ في ما تَكْرَهُ لَمْ يُعْطِها سُؤلَها فِي ما تُحِبُّ» (٢).

والمقصود منه ، أن يمنع نفسه في حالة جموحها ، من النوم والرّاحة والأكل والشّرب ،

__________________

١ ـ سورة التوبة ، الآية ١١٨.

٢ ـ نهج البلاغة ، الخطبة ١٩٣.

٢٢٥

لتتأدّب ولتنصاع إليه.

٢ ـ ما ورد في غُرر الحِكَم ، عن ذلك الإمام عليه‌السلام الهمام ، أنّه قال : «إِذا صَعُبَتْ عَلَيكَ نَفْسُكَ فاصْعَبْ لَها تَذِلُّ لَك».

٣ ـ وعنه عليه‌السلام : «مَنْ ذَمَّ نَفْسَهُ أَصلَحَها ، وَمَنْ مَدحَ نَفْسَهُ ذَبَحها» (١)

٤ ـ وعنه عليه‌السلام ، قال : «دَواءُ النَّفْسِ الصَّومُ عَنِ الهوى وَالحَمِيةُ عَنْ لَذّاتِ الدُّنيا» (٢).

ويحدّثنا التأريخ عن نماذجٍ كثيرةٍ من أصحاب النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والعلماء الكبار ، والمؤمنين المخُلصين ، الذين إذا مسّهم إغواء الشّيطان ، وإرتكبوا بعض الذنوب ، كانوا يسارعون في وضع أنفسهم تحت طائلة العقاب ، لئلّا يتكرّر هذا العمل منهم مرّةً اخرى في المستقبل ، ومنها :

١ ـ ورد أنّ أحد أصحاب النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإسمه «ثَعلبة» (٣) ، كان من الأنصار ، وكان يُؤاخي «سعيد بن عبد الرحمن» ، وهو من المهاجرين ، وصاحَبَ سعيدٌ الرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في إحدى غزواته ، وخَلّف ثعلبة في المدينة ، مُعتمداً عليه في حلّ مشاكل بيته وعائلته ، وما يحتاجونه من باقي الامور المعيشيّة ، وفي يوم ما ، إحتاجت امرأة «سعيد» إلى شيءٍ ، فوقفت خلف الباب ، تتحدّث مع ثعلبة في ذلك الأمر ، فوسوس له الشّيطان في ممارسة الإثم ، فكشف عن حجابها ، فرآها جميلةً جدّاً ، فأراد أن يضمّها إلى صدره ، ولكنّها نهرته قائلة له : ما تفعل يا ثعلبة ، أمِنَ الحقِّ أن يكون أخوك في الجِهاد ، وأنت تُريد بأهلِهِ السّوء؟!

إنتبه ثعلبةُ من نومه وغفلته ، وأيقظه هذا النّداء من غيّه ، فَصاحَ وفرّ على وجهه في البيداء باكياً ، وهو يقول : «إِلَهِي أَنْتَ المُعرُوف بِالغُفرانِ وأَنا المَوصُوفُ بِالعِصيانِ» (٤).

فبقي في الصحراء مدّةً طويلةً مُعاقباً نفسه ، مَضيّقاً عليها لِما صدر منه ، وفي قصّةٍ طويلةٍ

__________________

١ ـ غُرَر الحِكَم.

٢ ـ المصدر السابق ، ح ٥١٥٣.

٣ ـ ثعلبة كان إسماً لعدّة من أصحاب النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وثَعلبةُ هذا ، غير ثعلبة بن حاطِب الأنصاري ، الذي إمتنع عن أداء الزكاة ، فطرده الرّسول والمسلمون.

٤ ـ ذكرت هذه القصة في كتبٍ كثيرةٍ ، منها خزينة الجواهر ، ص ٣٢٠ ، وكذلك في تفسير الفخر الرازي ، في ذيل هذه الآية ، بصورة ملخصة ، ج ٩ ، ص ٩.

٢٢٦

تحكي أنّه عاد بعدها إلى الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتاب على يده ، فنزلت الآية أدناه لتوكيد قبول توبته ، وهي الآية (١٣٥) من سورة آل عمران : (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ).

٢ ـ نقل عن حالات الفقيه الكبير ، المرحوم آية الله ، البروجردي قدس‌سره ، عند ما كان يجلس للدرس مع طلابه ، فربّما بَدَر منه أثناء النّقاش ، أن يرفع صوته بالتّوبيخ لأحد طلّابه ، ولم يكن ذلك منه إلّا من باب المحبّة ، وعلاقة الأب مع إبنه ، فكان يندم مباشرةً ويعتذر ، وينذر للصوم في غَدِه ليُكفّر عن فعله ، رغم أنّه لم يصدر منه ما يخالف الشّرع.

٣ ـ نقلُ أحد كِبار عُلماء الأخلاق ، عن أحد الوعّاظ ، أنّه عند ما كان يصعد على المِنبَر للوعظ والخطابة ، وقبل الشّروع كان يُسلّم على الحسين عليه‌السلام ، ولا يبدأ بكلامه حتى يسمع الجواب منه عليه‌السلام ، هذه الحالة المعنوية ، لم تحصل لديه إلّا بعد حادثةٍ حدثت له مع أحد الوعّاظ ، حيث قَرّر في يوم من الأيّام مع نفسه ، يكسر مجلس ذلك الواعظ المعروف ، بإيراده كلاماً أبلغ وأحلى من كلام ذلك الشّيخ ، فتنبّه لِخَطئه ، وأخذ على نفسه بعدم إرتقاء المنبر لمدّة (٤٠) يوماً ، عِقاباً لنفسه على فعلتها تلك ، فالقي في قلبه ذلك النّور وتلك الحالة الإلهيّة. (١)

وزبدة الكلام ، أنّه وللحصول على النتائج والمعطيات ، المرجوّة من المراقبة والمحاسبة ، أن يتحرك الشّخص في عملية التّزكية ، من موقع معاقبة النفس عند زلَلِها وجُموحها عن الطريق ، وإلّا فلا يمكن تَوخّي النّتائج المطلوبة في نطاق التّهذيب والتّزكية ، وهذا لا يعني أننا نُمضي أعمال وفعال بعض الصّوفيين المنحرفين ، كما أورد بعضها الغزالي في كتابه : «إحياء العلوم» ، فما يفعلوه من أعمال خَشنةٍ مُتهوِّرة ، وسلوكياتٍ شاذةٍ ، في دائرة معاقبة النفس وجُبران تقصيرها ، لا تَمُتّ إلى الدّين بصلةٍ ، وقصدنا من المعاقبة ، هي أعمالٌ مشروعةٌ في دائرة المفاهيم الإسلاميّة ، كالصّوم ، ومخالفة الهوى ، وحرمان النفس من بعض لذّاتها المادية ، التي لا تخدش في سماحة الدين ورأفته ، بل هي من اسسه.

__________________

١ ـ وكذلك قصّة علي بن يقطين ، وإبراهيم الجمّال المعروفة.

٢٢٧

وكما يقول المرحوم النّراقي ، في «معراج السّعادة» :

إذا صدرت من الشّخص مخالفةٌ ؛ ما فعليه تأديب نفسه وترويضها ، بالعبادات الثّقيلة مثلاً ، أو بإنفاق الأموال التي يحبّها ويجمعها ، أو يقوم يتجويع نفسه عند أكله لِلُقمة الحرام ، أو يؤدب نفسه بالسّكوت ، ويمدح الشّخص الذي يغتابه ، أو يجبرها بذكر الله تعالى ، وإذا إستهان أو استصغر أحداً من الناس لفقره ، فليكرمه بالمال الكثير ، وكذلك الحال في بقيّة المعاصي ، والموبقات التي صدرت منه ، ولكلٍّ بِحَسَبِه» (١).

الخطوة السّادسة : «النيّة» و «إخلاص النيّة»

تناول العلماء في بداية مباحثهم الأخلاقية ، مسألة «النيّة» و «إخلاص النيّة» ، وفرّقوا بينهما وقالوا : إنّ «النيّة» شيءٌ ، و «إخلاصُ النيّة» شيءٌ آخر ، لكنّهم لم يذكروا فروقاً واضحةً ومشخّصَةً ، فأدخلوا إخلاص النيّة في مبحث النيّة ، بحيث يصعب الّتمييز بينهما.

ولأجل التّفريق والّتمييز بينهما ، يمكن القول : إنّ المقصود من «النيّة» : هو العَزمُ والإرادةُ الرّاسختين لفعلٍ ما ، بقطع النّظر عن الدّافع الإلهي ، أو المادي الذي يقف خلفها.

بالطّبع إذا أراد الإنسان أن يرى ثمرة عمله ، في دائرة الواقع وحركة الحياة ، فعليه أن يدخل إلى ساحة العمل والسّلوك ، بإرادةٍ قويّةٍ ، وعزمٍ راسخ ، لا تُزلزِلهُ التّحديات ، ولا تهزّه الصّعاب ، سواءً في نطاق تحصيل العلم ، أو في الزّراعة والتجارة والسّياسة.

والخُلاصة : إنّ كلّ عملٍ إيجابي ، نريد أن نصل به إلى النتائج المرجوّة ، علينا في البداية ، أن نتقدم نحو ميدان العمل والممارسة ، بقلبٍ ثابتٍ وإرادةٍ بعيدةٍ عن التّردد ، وبالطبع فإنّ هذا الأمر لا يتمّ إلّا بالتنظير له ، في مرحلةٍ سابقةٍ ، ودراسةِ كلّ جوانبه والامور المحيطة به ، من عوائد ونتائج إيجابيّة أو سلبيّة ، والعقبات التي يمكن أن تقف بوجهه ، وبعدها المُضي قُدُماً بخطى ثابتةٍ نحو الهدف ، في خطّ العمل والتّطبيق.

__________________

١ ـ معراج السعادة ، الطّبعة الجديدة ، ص ٧٠٣ ، (مع شيءٍ من التّلخيص).

٢٢٨

ولأجل السّير في طريق تهذيب الأخلاق والسلوك إلى الله تعالى ، نحتاج إلى نيّة جادّةٍ ، وإرادةٍ حاسمةٍ ، لأنّ ضعف الإرادة ، يمثّل أكبر عائقٍ أمام تحقيق ما يطمح إليه الإنسان ، في دائرة التّكامل الأخلاقي ، فأيّ مانع يقف بوجهه ، سُرعان ما يُولّي دُبُرَه ويعود أدراجَه ، فالضّعف في عنصر الإرادة ، بإمكانه أن يتَسرّب إلى سائر القوى الباطنيّة ، وبالعكس ، فإنّ القويُّ الإرادة ، سيقوم بتوظيف قِواه ، وملكاته الداخليّة ، ويدفعها بقوةٍ نحو الهدف المنشود.

وهذا هو الأمر ، الذي عبّر عنه القرآن الكريم ب : «العزم» ، وقد سُمّي الأنبياء العظام ، لعزمهم القوي ، وإرادتهم الحديديّة ، ب الأنبياء أولو العزم) (١)

فخاطب القرآن الكريم ، الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قائلاً : (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ)(٢).

وبالنسبة لآدم عليه‌السلام ، قال : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً)(٣) ، حيث تناول من الشّجرة الممنوعة ، ولم تكن لديه إرادةٌ قويةٌ في خطّ الطّاعة.

أمّا في دائرة الرّوايات الشّريفة ، فنرى أنّها توّجهت إلى عنصر العزم ، وأكّدت عليه من موقع الأهميّة. ومنها :

ما نقل عن الإمام موسى الكاظم عليه‌السلام ، في أدعية رجب ، نقرأ : «وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ أَفضَلَ زَادِ الرَّاحِلِ إِلَيكَ عَزْمُ إِرادَةٍ يَخْتارُكَ بِها وَقَدْ ناجاكَ بِعَزمِ الإِرادَة قَلبي» (٤).

وفي حديث آخر عن الصّادق عليه‌السلام ، قال : «إِنّما قَدَّرَ اللهُ عَوْنَ العِبادِ عَلى قَدْرِ نَيّاتِهِم ، فَمَن صَحَّتْ نِيَّتَهُ تَمَّ عَوْنُ اللهِ لَهُ ، وَمَنْ قَصُرَتْ نِيَّتَهُ قَصُرَ عَنْهُ العَوْنَ بِقَدْرِ الَّذِي قَصَّرَهُ» (٥).

وفي حديثٍ آخر ، عنه عليه‌السلام : «ما ضَعُفَ بَدَنٌ عَمّا قَوِيتْ عَلَيهِ النِّيَّةُ» (٦).

فهذا الحديث ، يبيّن لنا فاعليّة الإرادة ، ودورها في الصّعود بالقوى الجسمانيّة ، إلى أبعد الحدود والمراتب في حركة الإنسان.

__________________

١ ـ ورد في مقاييس اللغة : أن العزم في الأصل بمعنى القطع ، والإرادة القاطعة اخذت منه.

٢ ـ سورة آل عمران ، الآية ١٥٩.

٣ ـ سورة طه ، الآية ١١٥.

٤ ـ نقله المحدّث القمي في مفاتيحه ، عن إبن طاووس رحمهما‌الله تعالى ، وهو في أعمال شهر رجب المُرجّب.

٥ ـ بحار الأنوار ، ج ٦٧ ، ص ٢١١.

٦ ـ المصدر السابق ، ص ٢٠٥ ، ح ١٤.

٢٢٩

ومن المعاني الاخرى «لِلنيّة» ، هو إختلاف الدّوافع ، بالنّسبة لِلأعمال الّتي تكون على هيئةٍ واحدةٍ في الظّاهر ، فالذّهاب للجهاد ، يمكن أن يكون الباعث له هو كسب الغنائم ، أو الإستعلاء على النّاس ، أو يكون دافِعُهُ نصرة الحقّ ، ودفع الظّلم ، وإطفاء نار الفِتن ، وأمثال ذلك.

فالذّهاب لِلحرب ، واحدٌ في الشّكل والظّاهر ، ولكن شتّان بين النّوايا السّليمة ، وبين النّوايا المغرضة.

ولأجل ذلك ، أتت الأوامر بإصلاح النيّة ، وتنقيتها من الشّوائب ، قبل السّلوك في أيّ طريق ، وما السّالك في خطّ الله ، والكمال المعنوي بِمُستثنى عن ذلك ، فهل أنّ هدفه من سلوك سبيل التهذيب والرياضة ، هو التّكامل المعنوي ، والوصال الحقيقي ، أم أنّه يريد كسب عنصر القّوة في عالم النفس ، والتّسلط على ما وراء الطّبيعة ، ليشار إليه بِالبَنان؟!.

وما وردنا من حديثٍ : «إِنّما الأَعمالُ بالنِّيَّاتِ» ، هو إشارةٌ لهذا المعنى ، وَوَرد الحديث في موسوعة : بحار الأنوار ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال : «إِنّما الأَعمالُ بالنِّيَّاتِ وإنَّما لِكُلِّ امرِءٍ ما نَوى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ، فَهِجْرَتُهُ إِلى اللهِ وَرَسُولِهِ ، وَمَنْ كانَتْ هِجرَتُهُ إِلى دُنيا يُصِيبَها أو إِمرَأَةٍ يَتَزَوَّجَها فَهِجْرَتُهُ إِلى ما هاجَرَ إِلَيهِ» (١).

وكذلك الحديث الوارد عن علي عليه‌السلام ، حيث يقول : «عَلى قَدْرِ النِّيَّةِ تَكُونُ مِنَ الله عَطِيَّةٌ» (٢).

فهو إشارةٌ إلى نفس المعنى الآنف الذكر.

ويُستفاد مما تقدم ، أنّه ولأجل الوصول إلى المقاصد والأهداف المنشودة ، في أيّ أمرٍ وعملٍ ، وخصوصاً المصيريّة منها ، علينا أن نتحرّك في دائرة العمل ، بإرادةٍ قويّةٍ وعزمٍ راسخٍ ، في مُواجهة التحدّيات الصّعبة ، لتحقيق الأهداف المرسومة ، وبدون ذلك ، سيحل فينا عنصر اليأس والحيرة والضّياع.

وكذلك هو حال السّائر في طريق تهذيب النّفس ، وإصلاح الخَلل في واقعه الداخلي ، عليه البِدء بإرادةٍ حديديّةٍ ، ويدعمها بالتوكّل على الباري تعالى ، في عمليّة السّلوك المعنوي ، ويمكن

__________________

١ ـ بحار الأنوار ، ج ٦٧ ، ص ٢١١ ، وورد في هامشه ، أن هذا الحديث متفق عليه عند جميع المسلمين ، ثم يشير إلى كلام البخاري في صحيحه ، في كتاب الإيمان ، ص ٢٣.

٢ ـ غُرر الحِكَم ، ح ١٥٩٤.

٢٣٠

أن يتساءل المرءُ عن كيفيّةِ تَحصيل هذه الإرادة القويّة ، في واقعه الدّاخلي والنّفسي.

والجواب واضح جِدّاً ، فَنفس الهدفِ المنشودِ ، هو الحافز الأصلي الذي يدفع الإنسان نَحوه ، فكُلّما كان الهدف سامِياً ، كان السّير إليه أقوى وأشد ، والخُطى نَحوه أثبت.

فإذا أذعن الإنسان لهدف الحقيقة ، وهيَ : أنّ وجوده ، والهدف من خلقته ، ليس هو إلّا تهذيب الأخلاق والقربُ من الله تعالى ، وبِغَفلته أو تَغافُله عنها ، سيقع في مستنقع الرّذائل ، وينحدر في وادي الظّلمات ، فإذا صدّق تلك الحقيقة ، وتعمّق فيها ، أكثر وأكثر ، فسوف يسير على بصيرةٍ من أمره ، ثابتَ الخُطى ، هادىءَ البال ، مرتاحَ الضّمير ، رابطَ الجّأش ، بل وأكثر من ذلك ، سيفدي روحه في هذا السّبيل ، ويكون مِصداقاً ل : «عَجّلْتُ إليك رَبِّ لِتَرضى».

ويمكن القول في جملة واحدة ، أنّ الإرادة القويّة منشؤها المعرفة الكاملة ، من موقع الوضوح في الرّؤية وسمّو الهدف ، في وعي الإنسان.

الإخلاص :

المراد من «الإخلاص» ، هو : إخلاص النيّة ، وأن يكون الهدف ، في دائرة الفكر والسّلوك : هو الله تعالى فقط.

وقد يكون هناك أشخاص من ذوي الإرادة القويّة ، تمنحهم القوّة للوصول إلى أهدافهم ، إلّا أنّ الدّافع الحقيقي لهم ، هو : النّفع المادي والمصلحة الذّاتية ، ولكنّ أولياء الله والسّالكين في خطّ الحقّ والإيمان ، يتمتعون بإخلاص النيّة لله تعالى ، إلى جانب الإرادة القويّة.

ونرى في القرآن الكريم والرّوايات الإسلاميّة ، أن عنصر : «الإخلاص» ، إلى درجةٍ من الأهميّة ، بحيث يُعدّ العامل الأساس في حركة الإنسان والحياة ، للفوز في الدنيا والآخرة ، وكلّ عملٍ في الإسلام ، لا يقبل إلّا إذا توفّر عنصر الإخلاص لله تعالى ، هذا من جهةٍ :

ومن جهةٍ اخرى : نرى أنّ الإخلاص يعدّ من أصعب الامور ، ولا يصل إلى الدّرجة العليا من الإخلاص إلّا المقرّبون ، رغم أنّ حالة الإخلاص محمودةٍ في أيّ مرحلةٍ ومرتبةٍ.

٢٣١

ولنرجع الآن لِلقرآن الكريم ، لنستوحي من آياته مسألة الإخلاص. فبعض الآيات تتحدث عن المخلِصين ، والبعض الآخر عن المخلَصين من موقع الثناء ، والّتمجيد بهم ، ومنها :

١ ـ في الآية (٥) من سورة البيّنة : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ).

حيث تتبيّن أهميّة هذا الموضوع ، بالنّظر إلى أنّ الدّين له مفهومٌ واسعٌ يستوعب في إطاره ، كلّ العقائد والأعمال الباطنيّة والخارجيّة ، فالضّمير في : وما امروا ، يعود على جميع أتباع المذاهب الإلهيّة والأديان السماوية ، والإخلاص والصلاة والزكاة ، تمثّل : عناصر مشتركة بين الجميع ، فهذا التّعبير في الآية ، يبيّن حقيقةً واحدةً ألا وهي أنّ جميع الأوامر الإلهيّة مستقاةٌ من حقيقة التّوحيد والإخلاص ، في خطّ الطّاعة والعبوديّة.

٢ ـ وفي آية اخرى ، نجد أنّ القرآن الكريم يوجّه خطابه إلى جميع المسلمين ، ويقول : (فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ)(١).

٣ ـ وفي مكان آخر ، يخاطب الرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويقول : (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ)(٢).

ويُستشف من هذه الآيات وآياتٍ اخرى ، أنّ الإخلاص هو أساس الدّين ودعامته ، التي يرتكز عليها في عمليّة تثبيت الإنسان ، في خطّ الإيمان والإنفتاح على الله تعالى.

وسنتعرّض لِشرح معنى المخلِصين والمخلَصين ، والفرق بينهما في ما بعد ، ولكن توجد هنا عباراتٌ على درجةٍ من الأهميّة ، على مستوى المفاهيم القرآنية :

١ ـ الآية : (٣٩ و ٤٠) من سورة الحِجر ، تتحدثان عن الشيطان ، بعد ما طرد من رحمة الله سبحانه إلى الأبد ، فقال بعنادٍ : (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ).

فتبيّن هذه الآية ، حالة المخلَصين من عباده ، وأنّها إلى درجةٍ من القوّة والإستحكام ، حتى الشّيطان قد يأس منهم.

٢ ـ الآية : (٣٩ و ٤٠) من سورة الصافات ، تتحدثان عن وعد الله تعالى لعباده المخلَصين ،

__________________

١ ـ سورة غافر ، الآية ١٤.

٢ ـ سورة الزّمر ، الآية ١١.

٢٣٢

بثوابٍ لا يعلمه إلّا الباري تعالى ، فيقول : (وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ* إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ).

٣ ـ الآية : (١٢٧ و ١٢٨) من سورة الصافات ، أيضاً صعدت بمقام المخلَصين ، إلى درجةٍ أنّهم معفوّون من الحساب والحضور في المحكمة الإلهيّة ، ويدخلون الجنّة مباشرة.

٤ ـ الآية : (١٥٩ و ١٦٠) من نفس السورة ، وصفت المخلَصين ، بأنّهم الوحيدون الذين يصحّ منهم وصف الذات المقدسة ، ممّا يدلّ على عمق معرفتهم الحقيقة بحقيقة الالوهيّة : (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ* إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ).

فوصفهم للهِ ، لا إشكال فيه.

٥ ـ الآية : (٢٤) من سورة يوسف ، تحدّثت عن الحصانة الإلهيّة للنبي يوسف عليه‌السلام ، في مقابل وساوس إمرأة العزيز الشّيطانيّة ، فقال : (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ).

أمّا ما الفرق بين المخلِصين والمخلَصين؟ ، هنا نجد تفسيراتٌ كثيرةٌ ، ويمكن القول أنّ أفضل هذه التّفاسير ، هو الذي يقول : أنّ «المخلِص» هو الذي يتحرك في طريق الإخلاص لله تعالى ، بعيداً عن كلّ الشّوائب والأدران والمقاصد غير الإلهيّة ، في دائرة الفكر والنيّة ، ويتحرك بعيداً عن الرّذائل والقبائح ، في دائرة الفعل والمُمارسة ، أمّا «المخلَصين» ، فهو الذي تحضره العناية الربانيّة ، والمدد الإلهي ، لرفع آخر شائبة من قلبه ، ويشمله لطف الربّ لتخليصه من كلّ ما لا يحب ويرضى.

وتوضيح ذلك : إنّ الشّوائب التي تصيب قلب الإنسان ووجوده على نوعين :

نوعٌ يكون الإنسان منها على بصيرةٍ ، ويسعى لإزالتها من واقع وجوده ، بإخلاص النيّة والعقيدة والعمل ، ويُوفّق في مسعاه.

أمّا النّوع الآخر ، فهو خفي لا يحسّ به الإنسان في مسارب النّفس والرّوح ، كما ورد في الحديث النبوي الشريف : «إِنَّ الشِّركَ أَخفَى مِنْ دَبِيبِ الَّنملِ عَلى صَخْرَةٍ سَوداءٍ في لَيْلَةٍ ظَلْماءٍ» (١).

__________________

١ ـ بحار الأنوار ، ج ٦٩ ، ص ٩٣.

٢٣٣

فهنا لا يمكن العبور من هذه المطبّات ، إلّا بتوفيقٍ من الباري تعالى ، وتسديدٍ إلهي يشمل حال السّائرين إليه ، وبدونه ستبقى الشّوائب عالقة في القلب والنّفس ، وكأنّ الباري تعالى يريد أن يُتحف هؤلاء المخلِصين ، الذين لم يتخلّصوا تماماً من عَلَق الشّوائب ، ووصلوا بالقرب من النّهاية ، بأن يبدل شوائبهم باليّقين ، بلطفه وعنايته ، ويجعلهم في عداد المخلَصين.

فعند وصول الإنسان إلى هذه المرحلة ، يكون في مأمَنٍ من الأهواء ، ومن الوساوس الشّيطانية ، بما يمثّل من تحدّيات صعبة في طريق التّكامل ، وبالتّالي ينقطع طمع الشّيطان فيه ، ويظهر عجزه عن إغوائه بصورةٍ رسميّةٍ.

وهنا يستقر المخلَصين في النّعيم الخالد ، ويرتعون بالمواهب الإلهيّة ، ويكون ثناؤهم وتوصيفهم ، للذات المقدّسة بالصّفات الجماليّة والجلاليّة الإلهيّة ، قد صبغت بصبغة التّوحيد الخالص ، وبما أنّهم صفّوا حساباتهم في هذه الدنيا ، فستكون عاقبتهم أنّهم سيدخلون الجنّة بغير حساب.

ويصف الإمام علي عليه‌السلام في بعض خطبه ، التي وردت في نهج البلاغة ، اولئك المخلصين ، فيقول : «قَدْ أَخْلَصَ للهِ فَاسْتَخْلَصَ» (١).

وقال الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «فَعِنْدَ ذَلِكَ إسْتَخْلَصَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لِنُبُوَّتِهِ وَرِسالَتِهِ مِنَ الشَّجَرَةِ المُشَرِّفَةِ الطَّيِّبَةِ ... مُحَمَّداً اخْتَصَّهُ للِنُبُوَّةِ وَاصطَفاهُ بِالرِّسالَةِ» (٢).

وفي حديثٍ آخر عن أحد المعصومين عليهم‌السلام أنّه قال : «وَجَدْتُ ابنَ آدَمَ بَينَ الشَّيطانِ فَإنْ أَحَبِّهُ اللهُ تَقَدَّسَتْ أَسْمائَهُ ، خَلَّصَهُ وَآسْتَخْلَصَهُ وَإِلّا خَلّى بَينَهُ وَبَينَ عَدُوِّهِ» (٣).

والخلاصة ، إنّ الإخلاص في النيّة والفكر والعمل ، هو من أهمّ الخُطى في عمليّة التّهذيب والتّربية والسّير إلى الله تعالى.

__________________

١ ـ نهج البلاغة ، الخطبة ٨٧.

٢ ـ بحار الأنوار ، ج ١٤ ، ص ٥٢٠.

٣ ـ المصدر السّابق ، ج ٥ ، ص ٥٥.

٢٣٤

الإخلاص في الرّوايات الإسلاميّة :

وأتحفتنا الروايات بزخم كبير من المفاهيم ، التي تدور حول محور الإخلاص ، ونشير إلى بعضٍ منها :

١ ـ ما جاءنا عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنّه قال : «ثَلاثٌ لا يَغُلُّ عَلَيهِنَّ ، قَلْبُ رَجُلٍ مُسْلِمٍ ، إِخلاصُ العَمَلِ للهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَالنَّصِيحَةِ لِأئِمَّةِ المُسْلِمِينَ ، واللُّزُومَ لِجَماعَتِهِم» (١).

٢ ـ ما ورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، في حديثٍ آخر : «الإِخلاصُ سِرٌّ مِنْ أَسرارِي اسْتَودِعَهُ قَلْبَ مَنْ أَحَبَبْتُهُ مِنْ عِبادِي» (٢).

٣ ـ قال الإمام علي عليه‌السلام : «الإِخلاصُ أَشرَفُ نِهايَةٍ» (٣).

٤ ـ في حديث آخر عنه عليه‌السلام ، قال : «الإِخلاصُ أَعلَى الإِيمانِ» (٤).

٥ ـ وعنه عليه‌السلام : «فِي إِخلاصِ الأَعمالِ تَنافَسَ اولُوا النُّهى وَالألبابِ» (٥).

٦ ـ ما ورد في أهميّة الاخلاص بحيث أنّ الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قسّم المؤمنين وِفق درجات إخلاصهم ، فقال : «بِالإِخلاصِ تَتَفاضَلُ مَراتِبُ المُؤمِنِينَ» (٦).

٧ ـ وفي بيان أنّ آخر مرحلةٍ من مراحل اليّقين ، هو الإخلاص ، قال الإمام علي عليه‌السلام : «غايَةُ اليَقِينِ الإِخلاصُ» (٧).

٨ ـ ما ورد من معطيات الاخلاص على مستوى العمل ، لدرجة أنّ قليلاً منه يكفي للنّجاة ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أَخْلِصَ قَلْبَكَ يَكْفَيكَ القَلِيلَ مِنَ العَمَلِ» (٨).

٩ ـ وقال علي عليه‌السلام : «الإِخلاصُ عِبادَةُ المُقَرِّبِينَ» (٩).

١٠ ـ ونختم هذه الأحاديث ، بحديث عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، أنّه قال عليه‌السلام : «طُوبى لِمَنْ

__________________

١ ـ المحجّة البيضاء ، ج ٨ ، ص ١٢٥ ـ وأورد الحديث بالكامل : الصدوق في ، خصاله ، باب الثلاثة ، ص ١٦٧.

٢ ـ المحجّة البيضاء ، ج ٨ ، ص ١٢٥.

٣ ـ تصنيف الغرر ، ص ١٩٧ ، الرقم (٣٨٩٤).

٤ ـ غرر الحكم ، ج ١ ، ص ٣٠.

٥ ـ المصدر السّابق ، ج ١ ، ص ٥١٣.

٦ ـ ميزان الحكمة ، مادة خلص ، ج ١ ، ص ٧٥٤.

٧ ـ غُرر الحِكم ، ج ٢ ، ص ٥٠٣.

٨ ـ بحار الأنوار ، ٧٠ ، ص ١٧٥ ، ذيل الحديث ١٥.

٩ ـ غرر الحِكم ، ج ١ ، ص ٢٥ (الرقم ٧١٨).

٢٣٥

أَخْلَصَ للهِ العِبادَةَ وَالدُّعاءِ ، وَلَمْ يَشْغَلْ قَلْبَهُ بِما تَرى عَيناهُ ، وَلَمْ يَنْسَ ذِكْرَ اللهِ بِما تَسْمَعُ اذُناهُ وَلَمْ يَحْزَنْ صَدْرُهُ بِما اعطِي غَيْرَهُ» (١).

حقيقة الإخلاص :

يقول المرحوم الفيض الكاشاني ، في المحجّة البيضاء حول هذا الموضوع : «إعلم أنّ كلّ شيء يتصور أن يشوبه غيره ، فإذا صفا عن شوبه ، وخلص عنه سمّي خالصاً وسُمّي الفعل المصفّى ، المخلص إخلاصاً ، قال الله تعالى : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ)(٢) ، فإنّما خلوص اللّبن ، أن لا يكون فيه شوب من الدم والفرث ، ومن كلّ ما يمكن أن يتمزج به والاخلاص ، يضادّه الإشراك ، فمن لا يكون مخلصاً فهو مشرك ، إلّا أنّ للشّرك درجاتٍ ، والإخلاص في التوحيد يضادّه الشرك في الإلهيّة ، والشّرك منه خفي ومنه جلّي وكذلك الإخلاص» (٣).

وكذلك ما ورد من تعبيرات لطيفةٍ في الرّوايات ، تبيّن الإخلاص الحقيقي والمخلصين الحقيقيين ، منها :

١ ـ الحديث الوارد عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنّه قال : «إِنَّ لِكُلِّ حَقٍّ حَقِيقَةً ، وَما بَلَغَ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الإِخلاصِ ، حَتّى لا يُحِبَّ أَنْ يُحْمَدَ عَلَى شَيءٍ مِنْ عَمَلٍ للهِ» (٤).

٢ ـ نقل عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أَمّا عَلامَةُ الُمخْلِصِ فَأَربَعَةٌ ، يُسْلمُ قَلْبَهُ وَتُسلمُ جَوارِحُهُ ، وَبَذَلَ خَيْرَهُ وَكَفَّ شَرَّهُ» (٥).

٣ ـ في حديث آخر عن الإمام الباقر عليه‌السلام ، أنّه قال : «لا يَكُونُ العَبْدُ عابِداً للهِ حَقَّ عِبادَتِهِ

__________________

١ ـ اصول الكافي ، ص ١٦.

٢ ـ سورة النّحل ، الآية ٦٦.

٣ ـ المحجّة البيضاء ، ج ٨ ، ص ١٢٨.

٤ ـ بحار الأنوار ، ج ٦٩ ، ص ٣٠٤.

٥ ـ تُحف العقول ، ص ١٦.

٢٣٦

حَتّى يَنْقَطِعَ عَنِ الخَلْقِ كُلُّهُ إِلَيهِ ، فَحِينَئِذٍ يَقُولُ هذا خالِصٌ لِي فَيَتَقَبِّلَهُ بِكَرَمِهِ» (١).

٤ ـ وأخيراً يقول الإمام الصادق عليه‌السلام : «ما أَنْعَمَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى عَبْدٍ أَجَلَّ مِنْ أَنْ لا يَكُونَ فِي قَلْبِهِ مَعَ اللهِ غَيْرُهُ» (٢).

الآن بعد ما عرفنا أهميّة الإخلاص ، ودوره العميق في سلوك طريق الحق والقرب من الله ، والسّير في حركة الإنسان في خط الإيمان والتوحيد ، يبقى هنا سؤال يفرض علينا نفسه ، وهو كيف يمكننا تحصيل الأخلاص؟

لا شك أنّ الإخلاص في النيّة ، هو وليد الإيمان واليقين العميق بالمعارف الإلهيّة ، وكلمّا كان الإنسان متيقناً على مستوى التّوحيد الأفعالي ، وأنّ كلّ شيء في عالم الوجود يبدأ من الله تعالى ويعود إليه ، وهو المؤثر الأول وعلّة العلل وأنّ الاسباب والعِلل الجليّة والخفيّة خاضعة لأمره وتدبيره ، فحينئذٍ يكون سلوك هذا الإنسان مُنسجماً مع هذه العقيدة ، بالمستوى الذي يكون فيه عمله في غاية الخُلوص ، لأنّه لا يرى مُؤثّراً في الوجود غير الله ، يثير في نفسه الدّوافع المضادّة للإخلاص ، والحركة في غير طريق التّوحيد.

وعكست الرّوايات هذه الحقيقة ، فقال الإمام علي عليه‌السلام : «الإخلاصُ ثَمَرَةُ اليَقِينِ» (٣).

وعنه عليه‌السلام : «ثَمَرَةُ العِلْمِ إِخلاصُ العَملِ» (٤).

وأخيراً تناول الإمام علي عليه‌السلام المسألة بشيءٍ من التفصيل ، فقال : «أَوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُهُ ، وَكَمالُ مَعْرِفَتِهِ التَّصدِيقُ بهِ ، وَكَمالُ التَّصدِيقِ بِهِ ، تَوحِيدُهُ ، وَكَمالُ تِوحِيدهِ الإِخلاصُ لَهُ» (٥).

موانع الإخلاص :

أشار علماء الأخلاق الأفاضل إلى هذه المسألة إشارات دقيقة وواضحة ، فقال البَعض ، إنّ

__________________

١ ـ مستدرك الوسائل ، ج ١ ، ص ١٠١.

٢ ـ المصدر السابق.

٣ ـ غُرر الحِكم ، ج ١ ، ص ٣٠ (الرقم ٩٠٣).

٤ ـ المصدر السابق ، ص ١٧ ، (الرقم ٤٤٤).

٥ ـ نهج البلاغة ، الخطبة ١.

٢٣٧

موانع الإخلاص وآفاته على نحوين : جليّةٌ ، وخفيّةٌ. فبعضها خطر جداً ، والبعض الآخر أضعف ، والشّيطان والنّفس الأمّارة ، يسعيان لتكدير صفاء القلب ، وتلويثه بالرّياء ، بالمستوى الذي يحوّل الإنسان إلى كيان مهزوزٍ ، أمام حالات الخطر ، ويشلّ فيه إرادة المُواجهة.

فَبعضٌ من مراحل الرّياء واضحةٌ للعيان ، بحيث يمكن لكلّ فرد التّوجه إليها ، مثلما يأمر الشّيطان المصلي بالتوءدة بصلاته ، كي يراه الناس ويقولوا هذا إنسانٌ مؤمنٌ ، فلا يتحرّكون من موقع الغِيبة له والوَقيعة فيه.

فهذه من حيل الشّيطان الجليّة.

ويمكن أن تكون وساوس الشيطان بصورةٍ أخفى ، حيث تتلبّس بلباس الطّاعة ، فمثلاً ، يلقي في نفسك : أنّك إنسانٌ معروفٌ ، والنّاس تشير إليك بالبَنان ، ويجب أن تكون طاعتك وعبادتك على أتمّ الصّحة ، لكي يقتدي بك الناس في أعمالهم ، وستكون شريكاً معهم في ثوابهم ، فَهنا ستستسلم لأحابيل الرّياء من دون أن تشعر.

أو تكون الخُدع والحيل أشدّ وأقوى وأخفى ، فمثلاً يقول للمصلّي إنّ العبادة في السرّ يجب أن تكون مثلها في العلانية ، والذي تكون عبادته في السّر ، أدنى مستوى من العلانية ، يعتبر من المرائين ، وبهذه الصّورة يدفعه ليحسن صلاته وينمّق عبادته في الخفاء ، ليكون كذلك في صلاته أمام الناس ، وهذا نوعٌ من الرّياء الخَفي ، ويمكن أن يغفل عنه الكثيرون ، وكذلك المراحل الأخفى والأشد (١).

نعم فإنّ آفات الإخلاص كثيرةٌ ، ولا يستطيع أيّ إنسانٍ العبور منها ، إلّا بتوفيق ربّاني ، ولطفٍ إلهي.

ونجد هذا المعنى كذلك في الرّوايات الإسلاميّة ، حيث أتحفتنا بما يلزم ، للتنبيه على آفات الإخلاص ومنها :

__________________

١ ـ المحجّة البيضاء ، ج ٨ ، ص ١٣٣.

٢٣٨

ما ورد عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، حيث قال : «كَيفَ يَستَطِيعُ الإخلاصُ مَنْ يَغْلِبَهُ الهوى» (١).

وفي الواقع فإنّ ما ذُكر في الحديثٍ ، آنفاً ، هو أهم وأقوى آفات الإخلاص ، نعم فإنّ هوى النفس ، يكدّر عين الإخلاص ويُظلِمُها.

وعنه عليه‌السلام ، قال : «قَلِّلِ الآمالَ تَخْلُصُ لَكَ الأعمالُ» (٢).

والجدير بالذّكر ، أنّ الوساوس يمكن أن تأتي بشكلٍ آخر ، فتقول للمُصلي لا تذهب لِصلاة الجماعة ، لأنّ نيّتك يمكن أن تتلّوث بالرّياء أمام الناس ، وعليك بإقامة الصّلاة في بيتك ، لكي تعيش أجواء الإخلاص في خطّ العبادة والصلاة ، وتتخلص من براثن الرّياء!!.

أو يدعوه لترك المستحبات لنفس السّبب ، لِيحرمه من ثوابها.

ولعل هذا هو السّبب في دعوة القرآن الكريم ، للإنفاق بالسرّ والعَلانية : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(٣).

ونختم بحثنا بملاحظةٍ مُهمّةٍ ، ألا وهيَ ، أنّ الإخلاص في السرّ ، ليس بتلك الدرجة من الصّعوبة والأهميّة ، بل المهم هو أن يعيش الإنسان ، حالة الإخلاص في العلانية ، وأمام مرأى ومسمعٍ من الناس.

معطيات الإخلاص :

بما أنّ حالة الإخلاص ، تُمثّل أغلى جوهرةٍ تُحفظ في خزانة الرّوح ، وما يترتّب على هذه الحالة من معطيات إيجابيةٍ مهمّةٍ ، فقد أوردت الرّوايات تلك المسألة ، بصورةٍ بليغةٍ جميلةٍ ، ومنها : «ما أَخْلَصَ عَبْدٌ للهِ عَزَّ وَجَلَّ أَربَعِينَ صَباحاً إلّا جَرَتْ يَنابِيعُ الحِكْمَةُ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسانِهِ» (٤).

__________________

١ ـ غرر الحكم ج ٢ ص ٥٥٣ الرقم ٤.

٢ ـ المصدر السابق ح ٢٩٠٦.

٣ ـ سوره البقره الايه ٢٧٤.

٤ ـ عُيون أخبار الرضا ، ج ١ ، ص ٦٩ ، بحار الأنوار ، ج ٦٧ ، ص ٣٤٢.

٢٣٩

وفي حديثٍ آخر عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، أنّه قال : «عِنْدَ تَحققُ الإخلاصُ تَسْتَنِيرُ البَصائِرُ» (١).

وَوَرد عنه عليه‌السلام أيضاً : «فِي إخلاصِ النيّاتِ نَجاحُ الامورِ» (٢).

ويتّضح من ملاحظة هذا الحديث ، أنّ النيّة كلّما أخلصت ، كان الإهتمام بِباطن الأعمال أقوى ، أو بتعيبرٍ أدق : إنّ الجَودة والدّقة على مستوى السّلوك والعمل ، ستكون في ذَروتها ، ونجاح العمل سيكون مضموناً ، والعَكس صحيحٌ ، فإذا كان الهدف يتركز على معالم الظاهر فقط ، دون أن يولّي أهميّةً للمحتوى ، فسيكون مصير العمل إلى الفَشل والخَيبة.

ولذلك قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «لَو خَلُصَتِ النِّيَّاتُ لَزَكَّتِ الأَعمالُ» (٣).

الرّياء :

النقطة المقابلة للإخلاص هي : «الرّياء» ، وقد ورد ذمّه بكثرةٍ في الآيات والروايات الشريفة ، التي نهرت النّاس من هذا العمل المُشين ، وإعتبرته من أوضح مصاديق الشّرك الخفي ، وعلّة بطلان الأعمال ، وعلامة من علامات النّفاق.

ونجد فيها أنّ الرّياء يهدم الفضائل ، ويزرع بذور الرّذائل في روح الإنسان ، وُ يشغله عن الهدف الأساسي الحقيقي ، في خطّ الرّسالة والإستقامة.

وهو أداةٌ قويةٌ مؤثرةٌ بيد الشّيطان الرّجيم ، لإضلال وصرف النّاس عن الطّريق الصّحيح ، وتحويلهم من دائرة الإيمان ، إلى دائرة الكفر والإنحراف.

ونعود هنا للآيات القرآنية الكريمة ، التي ترينا وجه المرائي القبيح ، والنّتائج السلبيّة المترتّبة على الرّياء :

١ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ

__________________

١ ـ غُرر الحِكم ، ج ٢ ، ص ٤٩٠ ، الرقم ١٢.

٢ ـ المصدر السّابق ، ص ١٤ ، الرقم ٦٨.

٣ ـ المصدر السّابق ، ص ٦٠٣ ، الرقم ١١.

٢٤٠