الأخلاق في القرآن - ج ١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأخلاق في القرآن - ج ١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : الأخلاق
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8139-05-9
ISBN الدورة:
964-8139-27-X

الصفحات: ٣٥٢

ونقل نفس هذا المعنى في وروايةٍ اخرى ، عن كميل بن زياد عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فقال : يا أمِيرَ المؤمنين العَبْدُ يُصِيبُ الذَّنْبَ فَيَسْتَغْفِرُ اللهَ مَنْهُ فَما حَدُّ الإستِغْفَارِ؟.

فقال الإمام عليه‌السلام : «يا ابْنَ زِيادٍ التَّوبَةُ».

قلت : بَسْ.

قال عليه‌السلام : «لا».

قلت : فَكَيفَ؟

قال عليه‌السلام : «إنَّ العَبْدَ إِذا أَصابَ ذَنْبَاً يَقُولُ أَسْتَغْفِرُ اللهَ بِالتَّحْرِيكِ».

قلت : وَما التَّحْرِيكُ؟.

قال عليه‌السلام : «الشَّفَتَانِ وَاللِّسانِ يُرِيدُ أَنْ يَتْبِعَ ذَلِكَ بِالحَقِيقَةِ».

قلت : وَما الحَقِيقَة؟.

قال عليه‌السلام : «تَصْدِيق فِي القَلْبِ وَإِضْمارُ أَنْ لا يَعُودَ إلَى الذَّنْبِ الَّذِي اسْتَغْفَرَ مِنْهُ».

فقلت : «فإذا فَعَلَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ مِنَ المُسْتَغْفِرينَ».

قال عليه‌السلام : «لا».

فقال كميل رحمه‌الله ، قلت : فَكَيفَ ذاكَ.

فقال الإمام عليه‌السلام : «لِأَنَّكَ لَمْ تَبْلُغْ إِلَى الأَصْلِ بَعْدَهُ».

فقال كميل رحمه‌الله : فَأَصْلِ الإِسْتِغْفارِ ما هُوَ؟.

فقال الإمام عليه‌السلام : «الرُّجُوعُ إِلَى التَّوبَةِ مِنَ الذَّنْبِ الَّذي إِسْتَغْفَرْتَ مِنْهُ وَهِيَ أَوَّلُ دَرَجَةِ العابِدِينَ».

ثم قال الإمام عليه‌السلام : «وَتَركُ الذَّنْبِ والاستِغفارِ اسمٌ وَاقِعٌ لِمعانٍ سِتّ».

ثم ذكر نفس المراحل السّتة ، المذكورة في قصار الكلمات لنهج البلاغة ، مع قليلٍ من الاختلاف (١).

ويمكن أن يقال : إنّ التّوبة إذا كانت كما ذكرها أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فلن يوجد تائب حقيقي أبداً.

__________________

١ ـ بحار الأنوار ، ج ٦ ، ص ٢٧.

٢٠١

ولكن يجب الّتنبّهُ إلى أنّ بعض الشروط السّتة ، هي في الحقيقة من كمال التّوبة ، كما في الشّرط الخامس والسّادس ، أمّا الشّروط الأربعة الاخرى ، فهي من الشّروط الواجبة واللّازمة ، أو كما يقول بعض المحقّقين : إنّ القسم الأول ، والثّاني من أركان التّوبة ، والثّالث والرابع هما من الشروط اللّازمة ، والخامس والسّادس من شروط الكمال (١).

وجاء في حديثٍ آخر عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنّه قال : «أمّا عَلامَةُ التَّائِبِ فَأَرْبَعَةٌ : النّصِيحةُ للهِ فِي عَمَلِهِ وَتَركُ الباطِلِ وَلُزُومِ الحَقِّ وَالحِرصُ عَلَى الخَيْرِ» (٢).

ويجب الإنتباه ، أنّ الذّنب إذا تسبّب في إضلال الآخرين ، مثل الدّعاية المضلّة ، والبِدعة في الدّين ، سواء كان عن طريق البيان ، أو عن طريق الكتابة ، فيجب عليه إرشاد الضّالين بالقدر الّذي يستطيع ، وإلّا فلن تُقبل توبته.

ومنه يتّضح صعوبة سلوك طريق التوبة ، بالنّسبة إلى المحرّفين للآيات الإلهيّة ، والمُبتَدِعين في دين الله تعالى ، والذين يتحرّكون على مستوى إضلال الناس ، وسوقهم إلى الإنحراف.

فليس من الصحيح ، أن يُضلّ شخصٌ عدداً غفيراً من النّاس ، في الملأ العام ، أو بكتاباته ومقالاته ، ثمّ يجلس في زاوية البيت ، ويستغفر الله تعالى ليعفو عنه ، فمثل هذه التّوبة ، لن تُقبلَ أبداً.

وكذلك الذي يهتك حرمة أحد الأشخاص أمام الملأ ، ثم يستحلّ منه على إنفراد ، أو يتوب في خَلوته ، فلن تُقبل مثل هذه التّوبة ، ما لم يرد إعتبار ذلك الشخص ، أمام الملأ العام.

وبناءً على هذا ، فإنّنا نقرأ في الرّوايات عن أشخاصٍ هَتكوا حُرمة الغير ، واجري عليهم الحَد ، فإنّ توبتهم لن تقبل ، إلّا إذا رجعوا عن غيّهم وكلامهم.

وقد ورد في حديث مُعتبر ، عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، قال الرّاوي : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن المحدود إذا تاب ، أتقبل شهادته؟ ، فقال :

«إذا تابَ وَتَوبَتُهُ أَنْ يَرْجَعَ مِمّا قالَ وَيُكِذِّبَ نَفْسَهُ عِنْدَ الإِمامِ وَعِنْدَ المُسْلِمِينَ ، فإذا فَعَلَ

__________________

١ ـ كتاب «گفتار معنوي» ، للمرحوم الشهيد مطهري ، ص ١٣٩.

٢ ـ تُحف العقول ، ص ٣٢.

٢٠٢

فَإِنَّ عَلَى الإِمامِ أَنْ يَقْبَلَ شَهادَتَهُ بَعْدَ ذَلِك» (١).

وَوَرد في حديثٍ آخر : «أَوصى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلى نَبِيٍّ مِنَ الأنبِياءِ ، قُلْ لِفُلانَ وَعِزَّتِي لَو دَعَوتَنِي حَتّى تَنْقَطِعَ أَوصالُكَ ، ما اسْتَجَبْتُ لَكَ ، حَتّى تَرّدَ مَنْ ماتَ إِلى ما دَعَوتَهُ إِلِيهِ فَيَرْجَعَ عَنْهُ» (٢).

فهذا الحديث يبيّن أهميّة مسألة الإصلاح ، والسّعي لجبران الخلل من موقع التّوبة ، وإلى أيّ حدٍّ يمتد في آفاق الممارسة العمليّة ، وبدون ذلك ستكون التّوبة صوريّة أو مقطعيّة.

وآخر ما يمكن أن يقال في هذا المجال ، أنّ من يقنع من الإستغفار بالإسم ، مُقابل كثرة الذّنوب والمعاصي ، ولا يسعى في تحصيل أركانه وشروطه ، فكأنّه قد إستهزأ بنفسه ، وبالتّوبة وبالإستغفار.

وفي ذلك يقول الإمام الباقر عليه‌السلام :

«التّائِبُ مِنَ الذَّنِبِ كَمَنْ لا ذَنْبَ لِهُ ، وَالمُقِيمُ عَلَى الذَّنْبِ وَهُوَ مُسْتَغْفِرٌ مِنْهُ كالمُستَهزِىء» (٣).

٥ ـ قبول التوبة : هل هو عقلي أم نقلي؟

إتّفق علماء الأخلاق أنّ التّوبة الجامعة للشّرائط ، مقبولة عند الله تعالى ، ويدل على ذلك الآيات والرّوايات ، ولكن يوجد نقاش حول قبول التّوبة ، هل هو عَقلي أم عقلائي ، أم نَقلي؟.

ويعتقد جماعة ، أنّ سقوط العقاب الإلهي ، هو تفضل من الباري تعالى ، فبعد تحقق التّوبة من العبد ، يمكن للباري تعالى أن يتوب على عبده ويغفر له ، أو لا يغفر له ، كما هو المُتعارف بين النّاس ، عند ما يقوم أحد الأشخاص بظلم الغَير ، فِللمظلوم أن يغفر له ، أو لا يعفو عنه.

وترى جماعةٌ اخرى ، أنّ العقاب يسقط حتماً بعد التّوبة ، وعدم قبول عُذر المجرم ، من الله تعالى ، بعيدٌ وقبيحٌ ، ولا يصدر منه تعالى.

__________________

١ ـ وسائل الشيعة ، ج ١٨ ، ص ٢٨٣ ، ج ١ باب ٣٧ ، من أبواب الشّهادات.

٢ ـ بحار الأنوار ، ج ٦٩ ، ص ٢١٩.

٣ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٤٣٥ ، باب التوبة ، ح ١٠.

٢٠٣

وهنا يمكن قبول رأي ثالث ، وهو أنّ قبول التّوبة أمر عقلائي ، يعني أنّ العقل وإن لم يوجب قبول التّوبة والعُذر ، ولكنّ بناءَ العُقلاء في العالم كلّه ، مبنيٌّ على قبول عذر الخاطيء ، وإقالة عثرته ، إذا ما عاد عن غَيّه ، وأصلح أعماله السّيئة ، وجَبر ما كسره ، وأرضى خصمائه بطرقٍ مختِلفَةٍ ، فهذا الموقف هو بناء العقلاء في العالم أجمع ، فلو أصرّ شخص على نفي هذا المبدأ العقلائي ، ولم يقبله في سلوكه إتجّاه المُعتذر ، فسيعتبر حقوداً وخارجاً عن موازين الإنسانية والأخلاق.

ولا شك أنّ الله تعالى ، وهو القادر والغني عن العالمين ، أَوْلى وأجدر من عباده بالعفو والمغفرة ، وقبول عذر التائب ، وعدم إنزال العقاب عليه.

ويمكن القول بأكثر من ذلك ، وهو وجوب قبول التّوبة ، لدى العقل الذي يعتمد على قاعدة : «قُبح نَقض الغَرض».

وتوضيح ذلك : نحن نعلم أنّ الباري تعالى ، غنيٌّ عن عباده وطاعة العالمين ، وإن كلّفنا بشيءٍ فهو لطفٌ منه ، للسير في خطّ التّكامل والتّربية ، فالصّلاة والصّيام تُربّي النّفس وتُقرّب الإنسان من الله تعالى ، وكذلك سائر الواجبات ، فلها قِسطٌ في عمليّة التّكامل الإنساني.

فنقرأ عن الحج : «لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُم» (١).

ونقرأ في الآيات الاخرى ، أنّ الصّلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر (٢) ، والصّوم سبب للتّقوى (٣) ، والزّكاة لتطهير الأفراد والمجتمع من الرذائل الأخلاقيّة والإنحرافات (٤).

وإعتبرت الرّوايات الإيمان ، سبباً للطهارة من الشّرك ، والصّلاة لِدرء الكِبَر عن الإنسان ، والحجّ سبباً لوحدة المسلمين ، والجهاد لِعزّة المسلمين .... (٥)

وعليه فإنّ كلّ التّكاليف الإلهيّة ، هي من أسباب سعادة الإنسان ، وتكامله في خط الإيمان

__________________

١ ـ سورة الحج ، الآية ٢٨.

٢ ـ سورة العنكبوت ، الآية ٤٥.

٣ ـ سورة البقرة ، الآية ١٨٣.

٤ ـ سورة التوبة ، الآية ١٠٣.

٥ ـ نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، مقتبسة من جملة رقم (٢٥٢).

٢٠٤

والحقّ والتّكامل ، هذا هو الهدف الأصلي للإنسان ، في دائرة الوصول لمرتبة القرب الإلهي ، والعبودية الحقّة ، قال الباري تعالى : «وَما خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ» (١).

ولا شك فإنّ وجوب التّوبة ، وقبولها من قبل الباري تعالى ، يشكّل إحدى حلقات التّكامل المعنوي للإنسان ، لأنّ الإنسان من طبيعته الخطأ ، فإذا أوصد الباب دونه ، فلن يتكامل أبداً.

وإذا ما احيط الإنسان علماً بالتّوبة ، وأنّ الباري فتح الباب أمامه بشرط إصلاح ما مضى ، فمثل هذا الإنسان يكون أقرب للسّعادة والتّكامل ، ويبتعد عن الإنحراف والخطأ في مسيرة الحياة.

والنّتيجة : أنّ عدم قبول التّوبة يؤدي إلى نقض الغرض ، لأنّ الهدف من التّكاليف والطّاعة ، هو تربية وتكامل الإنسان ، وعدم قبولها لا ينسجم مع هذا الغرض ، ومن البعيد عقلاً على الحكيم ، أن ينقض غرضه.

وعلى كلّ حال ، فإنّ التّوبة وقبولها لها علاقةٌ وثيقةٌ بالتّكامل الإنساني ، وبدونها سينتفي الدّافع والقصد للتّكامل ، وسيكون الإنسان في غاية اليأس من النّجاة ، مما يشجعه على الّتمادي في إرتكاب المعاصي ومُمارسة الجريمة ، ولذلك فإنّ كلّ المربّين ، سواء كانوا إلهيين أم ماديّين ، يؤكّدون على مسألة التّوبة ، ويجعلون الطّريق مفتوحاً دائماً أمام الخاطئين ، كَي يُحرّكوا فيهم روح الأنابة ، ودافع الإصلاح والحركة نحو الكمال المُطلق.

وعليه فإنّ التوبة بشرائطها ، لم تحكم بها الآيات والرّوايات فقط ، بل هي ثابتة بحكم العقل وسيرة العُقلاء ، وهذا أمرٌ لا يمكن تجاهله البتّة.

٦ ـ التّبعيض في التّوبة

هل يمكن للإنسان أن يقيم على بعض الذّنوب ، ويتوبَ عن البعض الآخر؟ ؛ فمثلاً إذا كان يشربُ الخَمر ويغتابُ الناس ، فهل يصحّ منه الإقلاع عن الخمر فقط ، بينما يستمر في خط الغِيبة؟

__________________

١ ـ سورة الذّاريات ، الآية ٥٦.

٢٠٥

يقول البعض : إنّ التّوبة يجب أن تكون شاملةً لكلّ الذّنوب ، لأنّ المسألة تعود إلى عِصيان الباري تعالى ، وَهَتك حُرمته ، فالنّادم يجب أن يترك كلّ الذّنوب ، لا أنّ يُصِرّ عليها.

لكن هذا الكلام مُجانب للصواب ، حيث يمكن القول بصحّة التّجزئة في عمليّة التّوبة ، (وصرّح بها بعض العلماء ، مثل المرحوم النّراقي في «معراج السعادة» ، وقد نقلها عن أبيه رحمه‌الله) ، لأنّه ربّما يكون الإنسان ، على إطّلاعٍ كاملٍ على آثار بعض الذّنوب وَعَواقبها السّيئة ، أو هو عند الله أشدّ وأقبح ، ولأجل ذلك فإنّه يتركه على مستوى الممارسة ويتوب منه ، أمّا بالنّسبة للذنوب التي هي أقلّ قُبحاً ، أو أقل عِقاباً ، أو لأنّ علمه بها وإطلاعه على ما يترتب عليها من المفاسد ، ليس كافياً بالدّرجة التي تردعه عنه ، فإنّه يستمر في ممارستها.

فأكثر التائبين هم كذلك ، فغالباً ما يقلعون عن بعض الذّنوب ، ويبقون على البَعض ، ولم يردنا شيءٌ من قبل الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام ، أو علماء الإسلام ، ينفي قبول مثل هذه التوبة ، ويؤكّد على التوبة الكاملة الشاملة لكلّ الذنوب التي يرتكبها الإنسان.

ونرى في الآيات الشّريفة ، إشارات واضحة على معنى التّجزئة في التّوبة ، وصحّة القول بالتّفكيك ، فمثلاً بالنّسبة للمُرابين ، يقول تعالى : (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ)(١).

وبالنّسبة للمرتدين بعد الإيمان ، يقول تعالى : (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) ... (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ»)(٢).

وبالنّسبة للمحاربين والمتسببّين في ضَلال الناس والمجتمع ، فبعد ذكر ما يستحقون من العِقاب الشّديد ، يقول تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٣).

وأمّا بالنّسبة للأعمال المنافية للعفّة ، فيقول تعالى : (فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً)(٤).

وفي مكان آخر أشار إلى الذّنوب ، مثل : الشّرك ، وقتل النفس ، والزنا ، وعقوباتها ، فقال :

__________________

١ ـ سورة البقرة ، الآية ٢٧٩.

٢ ـ سورة آل عمران ، الآية ٧٨ و ٧٩.

٣ ـ سورة المائدة ، الآية ٢٤.

٤ ـ سورة النساء ، الآية ١٦.

٢٠٦

(إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ)(١).

ورغم أنّ بعض الآيات ، تناولت بعض العقوبات الدنيويّة ، والعفو عنها بالتّوبة ، لكنّ الحقيقة أنّه لا يوجد فرق من هذا اللحاظ ، فإذا ما غفرت في الدنيا فستغفر في الآخرة قطعاً.

والخُلاصة : أنّه لا يوجد مانعٌ من التّفكيك والتّفريق ، بين الذّنوب من جهاتها الَمختلفة ، مثل : (الفرق في ميزان المعلومات ، الدّوافع ، وقُبح الذّنوب) ، ولكنّ التّوبة الكّاملة الشّاملة ، هي التّوبة التي تستوعب جميع الذنوب ، بدون التّفريق بينها في خطّ العودة إلى الله تعالى.

٧ ـ دوام التّوبة

التّوبة يجب أن تكون مستمرةً ودائمةً ، هذا من جهةٍ ، فعند ما يُخطيء الإنسان إثر وساوسه النّفسية «النّفس الأمّارة» ، عليه أن يُقدِم على التّوبة لتدخل في مرحلة : «النّفس اللّوامة» ، وبعدها تصل إلى مرحلة : «النّفس المطمئنة» ، لتقلع جذور الوَساوس من أساسها.

ومن جهةٍ اخرى : وبعد توبته من الذنب ، عليه أن يُراقب نفسه بإستمرار ، وليحذر من نقض العهد مع الباري تعالى ، في المستقبل أو بعبارة اخرى : إذا وجد في نفسه بقايا لِلميل إلى الذّنب ، والرّغبة في الإثم ، عليه أن يُجاهد نفسه ، ويتحرك في مجال تهذيبها من هذه الشّوائب ، ليكونَ في صفّ التّائبين والُمجاهدين.

بعضَ علماء الأخلاق ، تطرّقوا لبحوثٍ لا طائل لها ، وهوَ هلْ : مقام التائب ومجاهدته وممارسته لعناصر الذّنوب في الخارج أفضل ، أم التّائب الذي يقلع جذور الذّنب من قلبه (٢)؟

وليس من المُهم الأفضليّة ، بل المُهم هو العمل على تكريس حالة الإنضباط ، في جو المسؤوليّة وعدم العودة لممارسة الذّنب ، ولرعاية هذا الأمر يتوجب اتّباع امور ، منها :

١ ـ الابتعاد عن أجواء الذّنب ، وعدم مُجالسة أهل المعاصي ، لأنّ التّائب يكون في البداية ضعيف القلب جداً ، كالمريض في بدايةُ شفائه من مرضه ، فأدنى شيء ، بإمكانه أن يثير في نفسه

__________________

١ ـ سورة الفرقان ، الآية ٧٠.

٢ ـ راجع المحجّة البيضاء ، ج ٧ ، ص ٧٥.

٢٠٧

مشاعر الخطيئة ، بالمستوى الذي يشلّ فيه إرادة الصّمود ، ويحوله إلى كيانٍ مهزوزٍ ، أمام حالات المرض ، ويُشدّده عليه ، وكالمُعتاد على الأفيون ، التّارك له للتَوِّ أيضاً ، يتأثر بالأجواء الملوّثة بسرعةٍ.

٢ ـ عليه هجر أصدقاء السّوء ، وتجديد النّظر في علاقته معهم ، والفرار منهم كالفرار من الوحوش الضّارية.

٣ ـ في حالات وقوعه في دائرة وسوسة الشّيطان ، يشتغل بذكر الله تعالى : (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)(١).

٤ ـ لِيفكر دائماً بالذّنب الّذي تاب منه ، وإفرازاته ، ويجعلها نصب عينه ، لِئّلا يغفل وينسى مضرّاته ، وإلّا ستهجم عليه الوَساوسُ والدّوافعُ لإيقاعه في هُوّةِ الخطيئة مرّةً اخرى.

٥ ـ لِيتّعظ بقصص الماضين والسّابقين ومن وقعوا في المَهالك ، جرّاء معاصيهم ، وحتّى الأنبياء المعصومين ، ولتركهم الأوْلى أحياناً ، مثلاً ، يُفكّر في قصّة آدم عليه‌السلام ، والسّبب الّذي أدّى إلى خسرانه ، ذلك المُقام السّامي وطَرده من الجنّة ، أو حكاية يونس النّبي عليه‌السلام ، الذي حُبس في بَطن الحوت ، ويَعقوب الَذي ابتلي بفراق ولده.

فكلّ ذلك يؤثر إيجابياً ، في تفعيل عناصر الإرادة والصّمود ، في خطّ الإيمان والإنفتاح على الله تعالى.

٦ ـ التّفكير بالعقوبات التي وضعها الباري للعاصين ، وليجعل هذه الحقيقة أمام عينه دائماً ، وهي أنّ معاودته لإرتكاب الذّنوب ، يمكن أن يؤدي به إلى إستحقاق عقوبةٍ أشدّ وأقوى.

وفي المقابل ، ليفكر برحمة الله تعالى ولُطفه ، وهو اللّطيف الخبير الغفور ، فرحمته بإنتظار التّوابين العائدين إلى خطّ الإستقامة والإيمان ، وليُحدّث نفسه بعدم تضييع هذا المقام ، الذي وصل إليه بعد تعبٍ وعناءِ ، في واقع العمل والمُثابرة.

٧ ـ ليشغل وقته بالبرامج الصّحيحة السّليمة ، والتمّتع بغير الُمحرّم ، ولا يدع فراغاً في أوقاته ، يفضي به أن يعيش التّخبط في الوَساوس الشّيطانية مرّةً اخرى.

__________________

١ ـ سورة الرّعد ، الآية ٢٨.

٢٠٨

وقد سُئل أحد العُلماء ، عن قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «التّائِبُ حَبِيبُ اللهِ» ، فقال : إنّما يكون التّائب حبيباً إذا كان فيه جميع ما ذكره في قوله تعالى : (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)(١).

٨ ـ مراتب التّوبة

ذكر علماء الأخلاق ، درجات ومراتب مختلفة للتّوبة والتّائبين.

ويمكن تقسيم التّائبين من جهةٍ ، إلى أربعة أقسامٍ :

القسم الأوّل : اولئك التّائِبون الذين لا يقلعون عن الذنوب ، ولا يتأسفون على ما فعلوا ، حيث وقفوا عند مرحلة النّفس الأمّارة ، وعاقبتهم غير معلومةٍ أصلاً ، فَمِن المُمكن أن يعيش حالةَ التّوبة في آخر أيّام حياته ، وتكون عاقبته الحُسنى ، ولكنّ الطامّة الكبرى ، عند ما يتفق موتهم مع معاودتهم للذنب ، وهناك ستكون عاقبتهم السّوآى ، وفيها الخُسران الأبدي.

القسم الثاني : التّائبون بحق الّذين يستمرون في طريق الحقّ والطّاعة ، ويتحرّكون في خطّ الإستقامة ، ولكن الشّهوات تغلبهم أحياناً ، فيكسرون طوق التّوبة ، ويرتكبون بعض الذّنوب ، من موقع الشّعور بالضّعف أمامها ، ولكنّهم لا يقعون في هذا الخطأ ، من موقع الّتمرد والجُحود والعِناد ، على وعي الموقف ، بل من موقع الغفلة والإندفاع العفوي في حالات الضّعف ، الّتي تفرزها حالات الصّراع مع النّفس الأمّارة ، ولهذا يحدثون أنفسهم بالتّوبة من قريب ، هؤلاء الأشخاص وصلوا إلى مرحلة النّفس اللّوامة ، والأمل بنجاتهم أقوى.

القسم الثّالث : التوّابون الذين يجتنبون كَبائِر الإثم ، ويتمسّكون باصول الطّاعات ، ولكنهم قد يقعون في حبائل المعصية ، لا عن قصدٍ وعمدٍ ، ولذلك يتوبون مباشرةً عن الذّنب ، فيلومون أنفسهم ويعزمون على التّوبة والعودة إلى خطّ الإستقامة بإستمرار ، ويعيشون حالة الإبتعاد عن الذّنب دائماً.

__________________

١ ـ سورة التّوبة ، الآية ١١٢.

٢٠٩

النّفس اللّوامة لهذه المجموعة ، مهيمنةٌ عليهم ، ويعيشون على مقربةٍ من النّفس المُطمئنّة ، والأمل بنجاتهم أكبر.

القسم الرابع : التّوابون بعزمٍ وقوةٍ إرادةٍ ، في طريق الطّاعة لله تعالى ، فلا تهزّهم العَواصف التي تفرضها حالات الصّراع مع الخَطيئة ، ولا يخرجون من أجواء التّقوى ، صحيح أنّهم ليسوا بمعصومين ، ولَرُبّما فكّروا بالمعصية ، ولكنّهم محصّنين مُبعدين عنها ، فَقِوى الإيمان والعقل عندهم ، سَلبت هوى النّفس فاعليّته في واقعهم الباطني ، وكبّلته بالسّلاسل الغلاظ ، في خطّ التّزكية والجهاد الأكبر ، فلا سبيل للشّيطان والأهواء عليهم.

فاولئك هم أصحاب : «النّفوس المطمئنّة» ، الذين نعتتهم الآيات (٢٧ الى ٣٠) من سورة الفَجر ، وخُوطِبوا بأبلغ خِطابٍ ، فقال عز من قائل : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً).

فدخلت بإفتخارٍ في أجواء النّور والقُرب الإلهي : (فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي).

ومن جهةٍ اخرى ، فإنّ لِلتوبةِ مراحل على مستوى المصاديق أيضاً :

المرحلة الاولى : التّوبة من الكفر إلى الإيمان.

المرحلة الثّانية : التّوبة من الإيمان الموروث التّقليدي ، والتّحرك نحو الإيمان الحقيقي المُستحكم.

المرحلة الثّالثة : التّوبة من الذّنوب الكبيرة الخَطرة.

المرحلة الرّابعة : التّوبة من الذّنوب الصّغيرة.

المرحلة الخامسة : التّوبة من التّفكير بالذّنب ، والخواطر المشوبة بالمعصية ، وإن لم يرتكب الُمخالفة في دائرة الفعل والمُمارسة.

فكلّ فرقةٍ من العباد لهم توبة ، فتوبة الأنبياء من إضطراب السّر ، (في كلّ لحظةٍ لم يتوجهوا فيها إلى الله تعالى بالباطن والسِّر).

وتوبةُ الأصفياء من كلّ تنفّس بغير ذكر الله (١).

__________________

١ ـ فسّر المرحوم المجلسي : التّنفس بنفس ذلك المعنى ، ولكنّ بعض كتب اللّغة ، فسّرته : بالخطابات الطّويلة.

٢١٠

وتوبةُ الأولياء من تلوين الخطرات.

والخَواص من الإشتغال بغير الله.

وتوبة العوام من الذّنوب.

وكلّ واحدٍ منهم ، يشتمل على نوعٍ من المعرفة والعلم ، في أصل توبته ، ومُنتهى أمره (١).

٩ ـ معطيات وبركات التّوبة

إذا كانت التّوبة توبةً حقيقيةً وواقعيةً ونابعةً من الأعماق ، فلا بدّ من أن تقع مورد القَبول من قبل الله تعالى ، العَفوّ الغَفور ، وستنشر خيرها بركاتها على صاحبها في حركة الحياة ، وتُغطَّي على ما صدر منه من معاصي ، أدّت به إلى السّقوط في منحدر الضّلال والزّيغ.

مثل هذا الإنسان ، يعيش أجواء الحَذر الدّائم من مجالس السّوء والعصيان ، ومن كلٍّ عوامل الذّنب والوساوس ، والتّداعيات الاخرى ، الّتي توقعه في وحلّ المعصية مرّةً اخرى.

ويعيش حالة الخجل والنّدم ، ويدأب بإستمرار لتحصيل رضا الله تعالى ، وجبران ما فاته من الطّاعات.

هذه هي العلاقات الفارقة لهم ، عن المتظاهرين والمرائين.

قال قسم من المفسّرين ، في معرض تفسيرهم للآية الشّريفة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً)(٢).

قالوا : إنّ المراد من التّوبة النّصوح ، هي تلك التّوبة التي تفعّل في الإنسان عناصر الخير من موقع النّصيحة ، وتتجلى في روح التّائب على مستوى حثها له ، للقضاء على جذور العصيان في باطنه ، قضاءً تامّاً بلا رجعةٍ بعدها.

وفسّرها قسم آخر ، بالتّوبة الخالصة ، وقال آخرون إنّ : «النّصوح» من مادّة «النّصاحة» ، وهي بمعنى الخِياطة والتّرقيع ، لما حدث من تمزيق ، وبما أنّ الذّنوب : الإيمان والدّين فتقوم

__________________

١ ـ بحار الأنوار ، ٦٨ ، ص ٣١.

٢ ـ سورة التحريم ، الآية ٨.

٢١١

التّوبة بتوصيلها ببعض ، وتعيد التّائب إلى حضيرة الأولياء ، كما تجمع الخياطة بين قطع الثّوب (١).

إنّ بركات وفوائد التّوبة جمّةٌ لا تُحصى ، وقد أشارت إليها الرّوايات والآيات العديدة ، ومنها :

١ ـ تمحو وتُفني الذّنوب ، كما ورد في ذيل الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) ، ورد (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ)(٢).

٢ ـ تمنح التّائب بركات الأرض والسّماء ، كما ورد في الآيات (١٠ و ١١ و ١٢) من سورة نوح عليه‌السلام : (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً* يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً* وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً).

٣ ـ تبدل التّوبة السّيئات حسنات ، كما ورد في سورة الفرقان الآية (٧٠) : (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ).

٤ ـ يتعامل الله مع هذا الإنسان ، من موقع السّتر على الذّنوب ، وينسي الملائكة الكاتبين ذنبه ، ويأمر أعضاء بدنه بالستر عليه يوم القيامة ، وكتمان أمره ، فقد ورد في الحديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «إِذا تابَ العَبْدُ تَوبَةً نَصُوحاً أَحَبَّهُ اللهُ وَسَتَرَ عَلَيهِ فِي الدُّنيا وَالآخِرَةِ» ، فَقُلْتُ : وَكَيفَ يَسْتُرُ؟ قَالَ : «يُنْسِي مَلَكَيهِ ما كَتَبَا عَلَيهِ مِنَ الذُّنُوبِ ، وَيُوحِي إِلَى جَوَارِحِهِ : اكْتُمِي عَلَيهِ ذُنُوبَهُ ، وَيُوحِي إِلى بِقاعِ الأَرْضِ : اكْتُمِي ما يَعْمَلُ عَلَيكَ مِنَ الذُّنُوبِ ، فَيَلْقَى اللهَ حِينَ يَلْقَاهُ وَلَيسَ عَلَيهِ شَيءٌ يَشْهَدُ عَلَيهِ بِشَيءٍ مِنَ الذُّنُوبِ» (٣).

٥ ـ التّائب الحقيقي ، يُحبّه الله تعالى ، لدرجةٍ أن ورد في الحديث : «إِنّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَعطَى التّائِبِينَ ثَلاثَ خِصالٍ ، لَو أَعطى خِصْلَةً مِنْها جَمِيعَ أَهْلِ السَّمواتِ والأَرضَ لَنَجَوا بِها».

وبعدها يشير إلى الآية الشريفة : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)(٤).

__________________

١ ـ بحار الأنوار ، ج ٦ ، ص ١٧.

٢ ـ سورة التحريم ، الآية ٨.

٣ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٤٣٠ ، (باب التوبة ، ح ١).

٤ ـ سورة البقرة ، الآية ٢٢٢.

٢١٢

وقال : «مَنْ أَحَبَّهُ اللهُ لَمْ يُعَذِّبْهُ».

ثمّ يُعرّج على الآية : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ* رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ* وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(١)» (٢).

إلى هنا نصل إلى خاتمة بحثنا ، في الخطوة الاولى لتهذيب الأخلاق ، وهي التّوبة ، وتوجد مطالب اخرى في هذا المجال ، يمكن الإستفادة منها في بحوثٍ مُستقلةٍ.

نعم ، فإنّه ما لم ينجلِ عن القلب والروح صدأ الذُنوب ، ويتحرك الإنسان لتطهير النّفس من مخلفات المعصية بماء التّوبة ، فلن يشرق القلب بنور ربّه ، ولن يتمكن هذا الإنسان من السّير على خطّ الإيمان ، والسّلوك إلى الله تعالى والفوز بجواره ، ولن يذوقَ طعم التجلّيات العرفانيّة ، في حركة الحياة المعنويّة.

هذا هو أوّل محطٍّ للرحال ، وأهمّها ، ولا يمكن تخطّيه إلّا بعزمٍ صادقٍ وإرادةٍ راسخةٍ ، يدعمها لطفٌ إلهي وتوفيقٌ ربّاني ، ولا يُلقّيها إلّا ذو حظٍّ عظيمٍ.

الخطوة الثّانية : المشارطة

تكلمنا سابقاً بصورةٍ مقتضبةٍ ، عن بعض برامج وخُطى السّير والسّلوك ، المشتركة بين كبار العلماء والسّائرين على ذلك الدّرب ، ويصل البحث بنا عن التّوبة ، إلى واقع التفصيل لتلك المباحث ، مدعوم بالآيات والرّوايات الشّريفة :

__________________

١ ـ سورة غافر ، الآية ٧ الى ٩.

٢ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٤٣٢.

٢١٣

الخطوة التالية التي ذكرها علماء الأخلاق ، في خطّ الإلتزام الدّيني بعد التّوبة : «المشارطة» :

والقصد منها هو الإشتراط على النّفس وتذكيرها وتنبيهها ، وأفضل الأوقات لها هو بعد صلاة الفَجر ، والتنوّر بأنوار هذه العبادة الإلهيّة ، الكبيرة العظيمة عند الله تعالى ، فيذكّر نفسه ويوصيها بأن تَتحرك في طريق الخَير والصّلاح ، فإذا ما إنقضى العُمر فلن يفيد النّدم ، ولا يمكن الإستدراك ، وليجعل نصب عينيه هذه الآية الشّريفة : (وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ)(١) ، فإذا ما ضاع العُمر ، فلن ينفع شيءٌ بعده : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ)(٢).

وعليه أنّ يُحدِّث نَفسه ، ويقول لها : تصوّري أنّ العُمر قد إنقضى ، وزالت الحُجب وتجلّت الحقائق المُرّة ، وبرزت مَعالم العَذاب ، وهَولِ المطّلع ، ومُنكَر وَنكير ، فحينئذٍ تشعرين بِحالة النَّدم على ما عَمِلْتِ ، وتقولين : (رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ)(٣).

وعلى فرض إنّك لم تسمعي جواب : «كلّا» ، وأعادوكِ الى الدنيا فهل ستتعظين وتُكَفّرين عمّا قصرتِ في جَنب الله؟؟

ثمّ يوصي نفسه بجوارحه السّبعة : العَين والاذن واللّسان واليّد والرّجل والبطن والفَرج ، فهذه الجوارح مُنصاعَةٌ لكِ اليوم وفي خدمتك ، فلا تقحميها في المعاصي ، فإنّ لجهنَّم سبعة أبوابٍ ، لكلِّ باب جماعةٌ خاصةٌ من النّاس ، يدخلون جهنّم منها ، فعليك بالسيّطرة الدّقيقة على الجوارح لئَّلا تنحرف عن الطّريق القويم ، والهدف المرسوم لها ، وبذلك توصَد أبواب جهنم دونها ، وتفتح أبواب الجنان لها؟.

ويُوصي النّفس بالمُراقبة لِجوارحه ، للإستعانة بها في طريق الطّاعة لا المعصية ، فهي نِعَمٌ كبيرةٌ مُحاسب عليها الإنسان غداً.

ونَجد في أدعية الإمام السجاد عليه‌السلام ، تأكيداً لمسألة المُشارطَة في حركة الإنسان المنفتح على الله.

__________________

١ ـ سورة العصر ، الآية ١ و ٢.

٢ ـ سوره العصر ، الآية ٣ و ٤.

٣ ـ سورة المؤمنون ، الآية ١٠٠.

٢١٤

ففي الدّعاء ، رقم (٣١) المعروف بدعاء التّوبة ، يقول الإمام عليه‌السلام «وَلَكَ يا رَبِّ شَرطِي أَلّا أَعُودَ في مَكْرُوهِكَ ، وَضَماني أَنْ لا أَرجَعَ في مَذْمُومَكَ وَعَهْدِي أَنْ أَهْجُرَ جَمِيعَ مَعاصِيك».

وكذلك الحال في الآيات القرآنية ، فإنّ أصحاب الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كانوا من خلال إرتباطهم مع الله تعالى ، بنحوٍ من العهدِ والميثاقِ ، يُطبّقون نوعاً من المُشارطة على أنفسهم ، في خط الرّسالة والمسؤولية ، ففي الآية (٢٣) من سورة الأحزاب ، نقرأ : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) ... (١).

وكان البعض الآخر ، ينقضون العهد مع الباري تعالى ، بعد توكيدها ، فورد في سورة الأحزاب ، الآية (١٥) : (وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً).

وَوَرَد في حديثٍ عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : «مَنْ لَمْ يَتَعاهَدْ النَّقْصَ مِنْ نَفْسِهِ غَلَبَ عَلَيهِ الهَوى ، وَمَنْ كانَ في نَقْصٍ فَالمَوتُ خَيرٌ لَهُ» (٢).

«فالمُشارطة» إذن : هي من الخُطى المهمّة لَتِهذيب الأخلاق ، ولولاها لتراكمت سُحب الغفلة والغُرور ، على قلب وروح الإنسان ، ولَحادَت به عن الطرّيق القويم ، والجادّة المستقيمة.

الخطوة الثّالثة : المراقبة

«المُراقبة» من مادة : «الرَقَبَة» ، وبما أنّ الإنسان يحني رقبته عند مراقبة الأشياء والأوضاع ، فاطلِقَت على كلّ أمر يُحتاج فيه إلى المواظبة والتّحقيق.

وهذا المُصطلح عند علماء الأَخلاق ، يُطلق على «مراقبة النّفس» ، وهي مرحلةٌ تاليةٌ لمرحلة المُشارطة ، يعني أنّه يتوجّب على الإنسان ، وبعد مُعاهدته ومُشارطته لنفسه بالطّاعة

__________________

١ ـ بحار الأنوار ، ج ٦٧ ، ص ٦٤.

٢ ـ بحار الأنوار ، ج ٦٧ ، ص ٦٤.

٢١٥

للأوامر الإلهيّة ، والإجتناب عن الذّنوب ، عليه المُراقبة والمُواظبة على طهارته المعنوية ، لأنّه في أدنى غفلةٍ ، فإنّ النّفس ستَنقُض كلّ العُهود والمواثيق ، وتَسلُك به في خطّ المعصية مرّةً اخرى.

وطبعاً يجب أن لا ننسى ، أنّ الإنسان وقبل مراقبته لِنفسه ، فإنّ الملائكة تراقب أعماله ، فيقول القرآن الكريم : «وإنّ عَلَيكُم لَحافِظِينَ» (١).

فالحافظون هنا هم الذين يتولون عملية المراقبة لأعمال الإنسان ، وذلك بقرينة الآيات التي تردُ بعدها ، فتقول : (يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ)(٢).

وفي الآية (١٨) من سورة (ق) يقول تعالى : (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ).

وفوق هذا وذاك ، فإنّ الله تعالى مِن ورائهم محيط بكلّ شيء ، وفي الآية (١) من سورة النساء ، نقرأ : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً).

وكذلك في سورة الأحزاب ، الآية (٥٢) : (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً).

وفي الآية (١٤) من سورة العلق : (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى).

والآية (٢١) من سورة سَبأ : (وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ).

ولكن المحلّقين في أجواء التّقوى وتهذيب النّفس ، يراقبون أفعالهم وسلوكياتهم ، قبل مراقبة الله تعالى لهم ، ويعيشون الوَجَلَ والخَوف من أعمالهم وفعالهم ، وفي مُراقبةٍ دائمةٍ ، لِئَلّا يصدر منهم ما يسلب تلك النّعمة ، والحالة العرفانيّة التي يعيشونها مع الله تعالى شأنه.

أو بعبارةٍ اخرى : الرّقيب الباطني يعيش معهم وعلى يقظةٍ دائماً ، بالإضافة إلى الرّقابة الخارجيّة ، وخوف الله تعالى.

وفي الحقيقة ، فإنّ الإنسان في هذه الدنيا ، حاله حالَ الذي يمتلك جوهرةً ثمينةً ، يريد أن يقايضها بمتاع له ولعيالِه ، ومن حَوالَيهِ السرّاق وقطاعُ الطّريق ، ويخاف عليها من السّرقة أو البيع بِثَمنٍ بَخْسٍ ، وإن غفل عنها لِلَحظةٍ فسيُضَيّعها ، وتذهب نفسه عليها حَسراتٍ.

__________________

١ ـ سورة الإنفطار ، الآية ١٠.

٢ ـ سورة الإنفطار ، الآية ١٢.

٢١٦

والسّائر في خطّ التّوبة والمراقبة ، يعيش الحالة هذه أيضاً ، فإنّ الشّياطين من الجِنّ والإنس مُترصّدون لِغوايته ، هذا بالإضافة إلى النّفس الأمّارة ، وهوى النّفس ، فإذا لم يُراقب نفسه وأعماله ، فلا يأمن معها ، مِنْ أن تسرق جوهرة الإيمان والتّقوى ، وينتقل من هذه الدنيا ، خالي الوفاض وصفَر اليدين ، وفي الآيات والرّوايات إشاراتٌ كثيرةٌ ، وتلميحاتٌ متنوعةٌ حول هذه المرحلة ، ومنها :

١ ـ الآية (١٤) من سورة العَلَق : (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى).

فهي إشارةٌ إلى مراقبة الله تعالى لَه ، وعليه مُراقبة أعماله أيضاً.

وَوَجَّه في آيَةٍ اخرى الخطاب لِلمؤمنين : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ)(١).

فَجُملة : (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ ...) ، تبيّن لنا في الحقيقة مفهوم المراقبة للنفس ، على مستوى السّلوك والعمل.

وَوَرَد نفس المعنى ، ولكن بشكلٍ مُقتضبٍ ، في سورة عَبَس ، الآية (٢٤) : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ) ، (من الحلال والحرام) (٢).

٢ ـ ورد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، في تفسير الإحسان في الآية : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) ، فقال : «الإحسانُ أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَراهُ فَإِنْ لَم تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَراكَ» (٣).

ومن الطّبيعي فإنّ المُعايشة مع هذه الحقيقة ، وهي أنّ البّاري تعالى معنا أينما كُنّا ، والرّقيب علينا ، من شأنه أن يخلق فينا روح الرّقابة ، ونكون معها دائبين على الإنسجام ، مع خطّ الرّسالة من موقع الإلتزام.

٣ ـ ورد حديثٌ عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، أنّه قال : «يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مُهَيمِناً عَلى

__________________

١ ـ سورة الحشر ، الآية ١٨.

٢ ـ هذا على ما جاء في بعض التّفاسير ، وقد جاء في تفاسير اخرى ، أنّ المقصود هو النّظر والإعتبار بخلقة الله تعالى ، لإنكشاف الآيات والملاحظات التّوحيدية عند الإنسان ، ولا تنافي بين التّفسيرين.

٣ ـ كنز العمّال ، ج ٣ ، ص ٢٢ ، ح ٥٢٥٤ ؛ بحار الأنوار ، ج ٢٥ ، ص ٢٠٤.

٢١٧

نَفْسِهِ مُراقِبَاً قَلْبَهُ ، حافِظاً لِسانَهُ» (١).

٤ ـ جاء عن الإمام الصادق عليه‌السلام : «مَنْ رعى قَلْبَهُ عَنِ الغَفلَةِ وَنَفْسَهُ عَنِ الشّهْوَةِ وَعَقْلَهُ عَنِ الجَهْلِ ، فَقَدْ دَخَلَ في دِيوانِ المتَنَبِّهينَ ثُمَّ مَنْ رعى عَمَلَهُ عَنِ الهوى ، وَدِيْنَهُ عَنِ البِدعَةِ وَمالَهُ عَنِ الحَرامِ ؛ فَهُوَ مِنْ جُملَةِ الصَّالِحِينَ» (٢).

٥ ـ ما ورد في الحديث القُدسي : «بُؤساً لِلقانِطِينَ مِنْ رَحْمَتِي وَيا بُؤساً لَمَنْ عصاني وَلمْ يُراقِبُني» (٣).

٦ ـ جاء في إحدى خطب أمير المؤمنين عليه‌السلام ، أنّه قال : «فَرَحِمَ اللهُ إمرءاً رَاقَبَ رَبَّهُ وَتَنكَّبَ ذَنْبَهُ ، وَكابَرَ هَواهُ ، وَكَذَّبَ مُناهُ» (٤).

٧ ـ وقد ورد في نهج البلاغة أيضاً : «فإتَّقُوا اللهَ عِبادَ اللهِ تَقِيَّةَ ذِي لُبٍّ شَغَلَ التَّفَكُّرَ قَلْبَهُ ... وَرَاقَبَ فِي يَومِهِ غَدَهُ» (٥).

نعم فإنّ «الرقابة» على النفس أو المُراقبة لله تعالى ، أو ليوم القيامة ، كلّها تعكس حقيقةً واحدةً ، ألا وهي النّظارة والرّقابة الفاحصة الدّقيقة الشّديدة للإنسان على أعماله ، في كلّ حالٍ وزمانٍ ومكانٍ.

وخلاصة القول : إنّ السّائر إلى الله تعالى ، وبعد «المشارطة» مع نفسه وربّه ، وبعد تهذيب النفس وتربيتها على طاعة الله وعبوديّته ، عليه المراقبة والمداومة على العهد الذي قطعه على نفسه في خطّ التوبة ، كالّدائن الذي يطلب من مدينه وفاء ديونه ، فأيّ غفلة عن مخاطر المسير ، ستعود عليه بالضّرر الفاحش ، وتؤخره عن الرّكب كثيراً.

الخطوة الرّابعة : المحاسبة

رابع خطوة ذكرها العلماء والسالكون في هذا المجال ، هي : «المحاسبة» للنفس ، في

__________________

١ ـ غُرر الحِكَم.

٢ ـ بحار الأنوار ، ج ٩٧ ، ص ٦٨.

٣ ـ المصدر السابق ، ج ٧٤ ، ص ٣٤٩.

٤ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٦٧.

٥ ـ نهج البلاغة ، الخطبة ٨٣ ، «الخطبة الغرّاء».

٢١٨

كلّ يوم أو كلّ شهر أو كلّ سنة ، فَلْينظر الإنسان ما ذا قدّم من أعمالٍ حسنةٍ ، أو إرتكب من أعمالٍ قبيحةٍ ، ويُفكر في ما بَدَر منه ، من طاعةٍ أو عصيانٍ لله تعالى ، أو لهوى النّفس. فيحاسب نفسه حساباً عسيراً ، كالتّاجر الذي يحسب فوائده وعوائده من تجارته التي إتّجر بها ، وهل عادت عليه بالنّفع أم الضرر؟. فكذلك السّائر إلى الله تعالى في خطّ الإيمان والتوبة ، عليه أن يُحاسب نفسه بأدقّ ممّا يفعله التاجر مع أمواله وتجارته.

والُمحاسبة للدين أو للدنيا ، لا تخلو من فائدتين : إذا بيّنت الفاتورة ، الرّبح الوفير ، فَهو دليلٌ على صحّةِ العمل والدّوام عليه ، وإذا ما بيّنت العكس ، فهو الدّليل على الخطأ والخطر ، فربّما تلاعب أحد موظّفيه ، أو خانه بالإختلاس وما شابهها من الامور ، فعليه الإسراع في التثبّت والتّفحص والإصلاح.

وتخبرنا الآيات الكريمة ، عن وجود النّظم والحسابات الدقيقة في عالم الوجود ، وتدعو الإنسان للتّفكر فيها جيّداً ، ومنها : (وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ* أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ)(١).

ونقرأ في آيةٍ اخرى : (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ)(٢).

وكذلك : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ)(٣).

ومن جهةٍ اخرى ، نجد أنّ القرآن الكريم ، قد أخبر في آياتٍ متعددةٍ ، عن وجود حسابٍ دقيقٍ في يوم القيامة ، كما ذكر على لسان لُقمان الحكيم لإبنه : (يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ)(٤).

وكذلك : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ)(٥).

__________________

١ ـ سورة الرّحمن ، الآية ٧ و ٨.

٢ ـ سورة الرّعد ، الآية ٨.

٣ ـ سورة الحِجْر ، الآية ٢١.

٤ ـ سورة لقمان ، الآية ١٦.

٥ ـ سورة البقرة ، الآية ٢٨٢.

٢١٩

ومسألة الحساب هذه مهمّةٌ ، لدرجة أنّ أحد أسماء يوم القيامةِ ، هو : «يوم الحِساب» : (إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ)(١).

ويكون الإنسان هو الحَسيب على نفسه : (اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً)(٢).

وبالنّظر لهذه الامور والظّروف ، فإنّ كلّ شيءٍ في الدنيا والآخرة يكون بِحساب ، فكيف يمكن لإنسان أن يغفل عن مُحاسبة نفسه ، ومن وراءه يومٌ ثقيلٌ ، وكلّ شيءٍ بميزانٍ ومقدارٍ : ومن يعمل مثقالَ ذرّةٍ خيراً يَرَه ، ومن يعمل مثقال ذرّةٍ شراً يَره) فكلّ ما ذكر آنفاً ، يحمل إلينا رسالةً ودعوة ، لإثارة عناصر الإنتباه وعدم الغفلة عن الحساب والمحاسبة ، فأنت إذا أردت أن تكون مُخفّاً في يوم الحساب ، عليك الإسراع بمحاسبة نفسك هنا في الدنيا ، قبل أن تحاسب في الاخرى ، ويقال فيها : ولاتَ حينَ مناصٍ.

أمّا الروايات ، فقد أشبعت الأمر بحثاً ، ومنها :

١ ـ ما ورد عن الرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، في حديثه المعروف : «حاسِبُوا أَنْفُسَكُم قَبلَ أَنْ تُحاسَبُوا ، وَزِنوها قَبْلَ أَنْ تُوزَنوا وَتَجَهَّزُوا للعَرضِ الأَكْبَرِ» (٣).

٢ ـ وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله مخاطباً أبا ذر رحمه‌الله : «يا أَباذَر حاسِبْ نَفْسَكَ قَبْلَ أَنْ تُحاسَبُ فَإِنَّهُ أَهونُ لِحِسابِكَ غَداً وَزِن نَفْسَكَ قَبْلَ أَنْ تُوزَنُ» (٤).

٣ ـ وَوَرد عن علي عليه‌السلام أنّه قال : «ما أَحَقُّ للإنسانِ أَنْ تَكُونَ لَهُ ساعَةٌ لا يَشْغُلُهُ شاغِلٌ يُحاسِبُ فِيها نَفْسَهُ ، فَيَنظُرِ فِيما إكْتَسَبَ لَها وَعَلَيها في لَيلِها وَنَهارِها» (٥).

فهذا الحديث يبيّن لنا بوضوح ، مسألة المحاسبة في ساعات الفراغ ، وهي من الامور الجديرة بالإنسان الكامل ، الذي يعيش همّ المسؤوليّة ، في دائرة حركته المنفتحة على الله تعالى.

٤ ـ ما ورد عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، بنفس المعنى ولكن بشكلٍ آخر ، فيقول عليه‌السلام : «حَقٌ عَلى

__________________

١ ـ سورة ص ، الآية ٢٦.

٢ ـ سورة الإسراء ، الآية ١٤.

٣ ـ بحار الأنوار ، ج ٩٧ ، ص ٧٣.

٤ ـ أمالي الطوسي ، (مطابقاً لما نقل عن ميران الحكمة) ج ٨ ، ص ٦٠٩.

٥ ـ مستدرك الوسائل ، ج ١٢ ، ص ١٥٤.

٢٢٠