الأخلاق في القرآن - ج ١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأخلاق في القرآن - ج ١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : الأخلاق
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8139-05-9
ISBN الدورة:
964-8139-27-X

الصفحات: ٣٥٢

منزلقات الخطيئة ، والإنحدار في هاوية الرذائل الأخلاقية ، ومنها :

١ ـ (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)(١).

٢ ـ (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ»)(٢).

٣ ـ (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ* قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ)(٣).

٤ ـ (وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) (٤).

٥ ـ (وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ)(٥).

٦ ـ (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ* يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ)(٦).

٧ ـ (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ)(٧).

تفسير وإستنتاج :

ما نستوحيه من الآيات الكريمة محلّ البحث ، هو أنّ ثقافة الأقوام والامم السّالفة ، لها دورٌ

__________________

١ ـ سورة الأعراف ، الآية ٢٨.

٢ ـ سورة البقرة ، الآية ١٧٠.

٣ ـ سورة الأنبياء ، الآية ٥٢ و ٥٣.

٤ ـ سورة الزخرف ، الآية ٢٣.

٥ ـ سورة الأعراف ، الآية ٨٢.

٦ ـ سورة النّحل ، الآية ٥٨ و ٥٩.

٧ ـ سورة الفتح ، الآية ٢٩.

١٦١

فاعل في تربية ونمو الصفات الأخلاقيّة ، أيّاً كانت ، فإذا كانت الثّقافة السّائدة بمستوى مرموق ، فمن شأنها أن تفرز لنا أفراداً ذوي صفاتٍ حميدةٍ وأخلاقٍ عاليةٍ ، والعكس صحيح ، والآيات الكريمة السّابقة الذّكر ، تُشير إلى المعنيين أعلاه.

ففي «الآية الاولى» : نقرأ قول الأقوام السّالفة ، الّذين يعيشون الإنحراف ، ويمارسون الخطيئة من موقع الوضوح في الرؤية ، فإذا سُئلوا عن الدّافع لمثل هذه التصرفات الشائنة ، والسلوكيات المنحرفة ، قالوا بلغة التّبرير : (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا ...).

ولم يكتفوا بذلك بل تعدّوا الحدود ، وقالوا : (وَاللهُ أَمَرَنا بِها).

بناءً على ذلك ، فإنّهم إتخذوا سُنّة الّذين مَضوا من قبلهم دليلاً على حسن أعمالهم ، ولم يخجلوا من أفعالهم القبيحة ، على مستوى النّدم والإحساس بالمسؤوليّة ، بل كانوا يعطوها الصّبغة الشرعيّة أيضاً.

«الآية الثّانية» : طرحت نفس المعنى ولكن بشكل آخر ، فعند ما كان الأنبياء يدعون أقوامهم إلى الشريعة الإلهيّة النّازلة من عند الله تعالى ، كانوا يتحرّكون في المقابل من موقع العناد والتكبّر ، ويقولون بِغرور : (سنتّبع سنّة آبائنا).

ولم يكن سبب ذلك ، إلّا لأنّهم وجدوا آبائهم يؤمنون بها ويتّبعونها ، وبذلك لبست ثياب القداسة وإعتبروها ديناً في حركة الحياة والواقع ، فهي عندهم أفضل من آيات القرآن الكريم ، وشرائع الباري تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا) ، وعليه ، فلما ذا فضّلوا العمل بسنّة الجهلاء ، على إتّباع آيات الوحي الإلهي؟.

ويضيف القرآن الكريم قائلاً : (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ).

وَوَرد في «الآية الثّالثة» : الكلام عن السّنن وعادات الأقوام أيضاً ، ودور الثّقافة الخاطئة في صياغة الأعمال المتقاطعة مع الأخلاق ، ففي بيان يشابه الآيات الماضية ، نقرأ قصّة إبراهيم

١٦٢

وعبدة الأصنام في بابل ، فعند ما كان يلومهم إبراهيم عليه‌السلام لعبادتهم الأصنام التي لا تضرّ ولا تنفع ، كانوا يقولون بصراحة : وجدنا آباءنا لها عاكفين : (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ* قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ).

فأجابهم إبراهيم عليه‌السلام بأشدّ الكلام وأغلظه ، بقوله : (قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ).

ولكن وللأسف الشديد ، إنتقل هذا الضّلال المبين إلى الأجيال ، جيلاً بعد جيل ، فأصبح جزءاً من ثقافتهم ، وأكسبه توالي الزّمن عليه مسوح القداسة ، فلم يمح قبحه فحسب ، بل أصبح من إفتخاراتهم على المستوى الحضاري والدّيني.

«الآية الرابعة» : توحي لنا نفس المعنى ، ولكن بشكلٍ آخر ، ففي معرض جوابهم على السّؤال القائل : لماذا تعبدون هذه الأصنام رغم أنّكم تعيشون سلامة العقل؟ ، تقول الآية على لسانهم : (بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ).

فليس أنّهم لم يعتبروا هذه الحماقة ، ضلالةً فحسب ، بل إعتبروها هدايةً وفلاحاً ، ورثوه عن آبائهم الماضين ، وذكرت «الآية التي بعدها» أنّ هذا هو طريق ومنطق كلّ المترفين على طول التاريخ ، وقالت : (وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ).

ومن البديهي أنّ ذلك التقليد الأعمى ، الذي كان يظهر جميلاً في ظلّ تلك القبائح ، له أسبابٌ كثيرةٌ وأهمّها تبدّل ذلك القُبح إلى سُنّةٍ وثقافةٍ بمرور الزّمن.

وورد نفس هذا المعنى في الآية (١٠٣ و ١٠٤) من سورة المائدة ، فقد إبتدع عرب الجاهليّة بدَعاً ما أنزل الله بها من سلطان ، فكانوا يحلّون الطعام الحرام ويحرّمون الطعام الحلال ، وكانوا يتمسكون بالخرافات والعادات السيئة ، ولا يقلعون عنها أبداً ، ويقولون : (حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا).

ويتبيّن ممّا تقدم من الآيات الكريمة ، تأثير العادات الخاطئة والسّنن البائدة ، في قلب

١٦٣

الامور رأساً على عقب ، بحيث يضحى الخطأ صواباً في الواقع الأخلاقي والفكري لدى النّاس.

وفي «الآية الخامسة» : يوجد موضوع جديد بالنّسبة لِدَور العادات والسّنن في تحول القيم الأخلاقيّة ، وهو : أنّ قوم لوط الذين سوّدوا وجه التّأريخ بأفعالهم الشّنيعة ، (ولِلأسف الشّديد ، نرى في عصرنا الحاضر ، أنّ الحضارة الغربيّة أقرّت تلك الأفعال على مستوى القانون أيضاً) ، فعند ما دعاهم لوط عليه‌السلام ، والقلّة من أصحابه ، إلى التّحلي بالتّقوى والطّهارة في ممارساتهم وأفعالهم ، تقول الآية أنّهم إغتاظوا من ذلك بشدّةٍ : (وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ).

فالبيئة الملوّثة ، والسّنن الخاطئة والثّقافة المنحطّة أثّرت فيهم تأثيراً سلبياً ، ممّا حدى بهم إلى إعتبار الطّهارة والتّقوى جنايةً ، والرّذيلة والقبائح من عناصر العزّة والإفتخار ، ومن الطّبيعي ، فإنّ الرذائل تنتشر بسرعةٍ في مثل هذه البيئة ، التي تعيش أجواء الإنحطاط والخطيئة ، وتندرس فيها الفضائل كذلك.

«الآية السادسة» : تقصّ علينا قصّة وأدِ البنات الُمريعة في العصر الجاهلي ، ولم يكن سبب ذلك سوى تحكيم الخُرافات والسّنن الخاطئة في واقع الفكر والسلوك لدى الأفراد ، فقد كانت ولادة البنت في الجاهليّة عاراً على المرء ، وإذا ما بُشّر أحدهم بالانثى يظلّ وجهه مسودّاً من فرط الألم ، والخجل ، على حدّ تعبير القرآن الكريم (١) : (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ* يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ).

ولا شكّ أنّ القتل من أقبح الجرائم ، وخصوصاً إذا كان القتيل طفلاً وليداً جديداً ، ولكن

__________________

١ ـ قال بعض المفسّرين : بناءً على العلاقة الوثيقة بين القلب والوجه ، فإذا ما فرح الإنسان ، يتحرك الدّم الشّفاف نحو الوجه ويصبح الوجه مضيئاً ونورانياً ، وعند ما يهتم ويغتم الإنسان فإنّ الدورة الدموية تقل سرعتها ويصفّر الوجه ويسود ، وتعتبر هذه الظاهرة ، علامةً للفرح أو الحُزن : (تفسير روح المعاني ... ذيل الآية الشريفة).

١٦٤

السّنن الخاطئة والتقاليد الزائفة ، التي كانوا عليها مَحَقت القُبح من هذه الجريمة النّكراء ، وجعلت منها فضيلةً.

وبالنّسبة لوأد البنات الفضيع ، جاء في بعض التّفاسير : أنّ البعض من هؤلاء الجاهلين ، كانوا يستخدمون اسلوب الدّفن للبنات ، وبعض يغرقونهن ، والبعض الآخر كانوا يفضّلون رميهنّ من أعلى الجبل ، وقسم آخر كانوا يذبحون بناتهم (١) ، وأمّا بالنسبة لظهور هذا الأمر عند العرب ، وتأريخه والدافع الأصلي له ، فقد وردت أبحاثٌ مفصّلة لا يسع المقام لذكرها الآن (٢).

والكلام في كيفيّة تمهيد الطريق للرذائل الأخلاقيّة ، من خلال تلك السّنن الخاطئة ، والعادات الزّائفة ، وكيف تحلّ الرذائل مكان الفضائل ، هو دليلٌ وشاهدٌ آخر على أنّ الثّقافة تُعتبر من الدّواعي المهمّة لتفعيل عناصر الفضيلة ، أو تقوية قوى الإنحراف والرذيلة ، في واقع الإنسان ، وبالتّالي فإنّ أوّل ما يتوجب على المصلحين ، في حركتهم الإصلاحية ، هو إصلاح ثقافة المجتمع والسير بها في خط العقل والدّين.

ونرى في عصرنا الحاضر ثقافات زائفة ، لا تتحرك بعيداً عمّا كان في عهد الجاهليّة ، حيث أضحت مصدراً لأنواع الرذائل الأخلاقيّة في حركة الحياة الإجتماعية ، وقد إنعقد في السّنوات الأخيرة مؤتمراً عالمياً في بكين عاصمة الصين ، وشارك فيه أغلب دول العالم ، ونادى فيه المشاركون بالعمل لتثبيت ثلاثة اصول ، وأصرّوا عليها من موقع إحترام حقّ الإنسان وهي :

١ ـ حريّة العلاقات الجنسيّة للمرأة.

٢ ـ الجنسيّة المثليّة.

٣ ـ حرّية إسقاط الجنين.

وقد واجهت هذه الامور معارضةً شديدةً من قبل بعض الدول الإسلامية ، ومنها الجمهورية الإسلامية.

ومن الطبيعي ، عند ما يُدافع نواب الدّول المتحضّرة عن مثل هذه الامور الشنيعة ، تحت

__________________

١ ـ تفسير روح المعاني ، ج ١٤ ، ص ١٥٤ ، في ذيل الآية المبحوثة.

٢ ـ تفسير الأمثل ، ذيل الآية ٥٨ من سورة النحل.

١٦٥

ذريعة الدفاع عن حقوق المرأة ، فأيّة ثقافةٍ سوف تظهر للوجود؟ ، وأيّة رذائل ستنتشر في المجتمع؟ ، الرذائل التي لا تضرّ بالمسائل الأخلاقيّة للناس فحسب ، بل وستؤثر أيضاً على حياتهم الإجتماعيّة والإقتصاديّة ، من موقع إهتزاز المبادىء الإنسانيّة في منظومة القيم.

«الآية السابعة» : تستعرض علاقة الفضائل بثقافة المحيط والبيئة ، فما وردنا من أحاديث عن الرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، تبيّن مدى الرّقي الأخلاقي الذي حصل في المجتمع المظلم آنذاك ، نتيجة النّهضة الفكريّة والأخلاقيّة التي جاء بها الإسلام إلى ذلك المجتمع ، فيقول القرآن الكريم :

(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ).

وعبارة : «فالذين معه» ، لا تحصر هذه المعيّة في زمانِ خاصٍّ ، ومكانٍ معيّنٍ ، بل تمتد إلى المعيّة في القيم الأخلاقيّة ، والأفكار الأنسانيّة ، فكلّ من يقبل تلك الثّقافة الإلهيّة المحمديّة يكون من مصاديق الآية.

علاقة الآداب والسّنن بالأخلاق في الرّوايات الإسلاميّة :

أعطى الإسلام أهميةً كبيرةً لهذه المسألة ، ألا وهي ، سنّ السنن الصّالحة ، والإبتعاد عن السنن السّيئة ، وللمسألة إنعكاساتٌ وأصداءٌ كبيرةٌ في الأحاديث الإسلامية ، ويستفاد من مجموع تلك الأحاديث ، أنّ الهدف هو سنّ العادات الصّالحة ، كي تتهيّأ الأرضية اللّازمة للتحلّي بالأخلاق الحميدة ، وإزالة الرذائل الأخلاقية من واقع النفس والسّلوك ، ومنها :

١ ـ ما ورد عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «خَمْسٌ لا أَدَعُهُنَّ حَتّى المَماتِ الأَكْلُ عَلَى الحضِيضِ مَعَ العَبِيدِ ... ، وحَلْبُ العَنزِ بِيَدي وَلَبْسُ الصُّوفِ وَالتَّسلْيمُ عَلَى الصِّبيانِ ، لَتَكُونَ سُنَّةً مِنْ بَعدِي» (١).

__________________

١ ـ بحار الأنوار ، ج ٧٣ ، ص ٦٦.

١٦٦

والهدف من كلّ ذلك ، هو إيجاد روح التّواضع عند الناس من خلال الإقتداء بالرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، في حركة السّلوك الإجتماعي.

٢ ـ وجاء في حديثٍ آخر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله. أنّه قال :

«مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً عُمِلَ بِها مِنْ بَعْدِهِ كانَ لَهُ أَجْرَهُ وَمِثلَ اجُورِهِمْ مِنْ غَيرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ اجُورِهِمْ شَيئَاً ، ومَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيَّئَةً فَعُمِلَ بِها مِنْ بَعْدِهِ كانَ عَلَيهِ وِزْرَهُ وِمثلَ أَوزارِهِم مِنْ غَيرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوزَارِهِمْ شَيئاً» (١).

وورد في بحارالأنوار نفس هذا المضمون.

ونقل هذا الحديث بتعابير مختلفةٍ عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والإمام الباقر والإمام الصّادق عليهما‌السلام ، وهو يُبيّن أهمية الّتمهيد للأعمال الأخلاقيّة ، وأنّ التّابع والمتبوع هما شريكان في الثواب والعقاب ، والهداية والضّلال.

٣ ـ ولذلك أكّد الإمام علي عليه‌السلام ، على مالك الأشتر هذا المفهوم أيضاً ، لحفظ السنن الصالحة ، والوقوف في وجه من يريد أن يكسر حرمتها ، فيقول :

«لا تَنْقُضْ سُنَّةً صالِحَةً عَمِلَ بِها صُدُورُ هذِهِ الامَّةِ وإجتَمَعَتْ بِها الالفَةُ وَصَلُحَتْ عَلَيها الرَّعِيَّةٌ ، ولا تُحْدِثَنَّ سُنَّةً تَضُرُّ بِشيءٍ مِنْ ماضِي تِلكَ السُّنَنِ فَيَكُونُ الأَجرُ لِمَنْ سَنَّها وَالوِزرُ عَلَيكَ بِما نَقَضَتْ مِنْها» (٢).

وبما أنّ السّنن الحسنة تساعد على تعميق عناصر الخير ، ونشر الفضائل الأخلاقيّة في واقع المجتمع ، فهي تدخل في مصاديق الإعانة على الخير ونشر السّنن الحميدة ، وأمّا إحياء السّنن القبيحة والرذائل الأخلاقية ، فتدخل في مصاديق الإعانة على الإثم والعدوان ، ونعلم أنّ فاعل الخير والدّال عليه شريكان في الأجر ، وكذلك فاعل الشّر والدّال عليه شريكان في العقاب أيضاً ، من دون أن يقل من ثواب العاملين ، أو عقابهم شيء.

والسّنة الحسنة بدرجةٍ من الأهمية ، بحيث قال الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، في الرواية المعروفة في

__________________

١ ـ كنز العمال ، ح ٤٣٠٧٩ ، ج ١٥ ، ص ٧٨٠.

٢ ـ نهج البلاغة ، رسالة ٥٣.

١٦٧

حقّ جدّه الكريم :

«كَانَتْ لِعَبدِ المُطَّلِبِ خَمساً مِنَ السُّنَنِ أَجراها اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الإِسلامِ : حِرَّمَ نَساءَ الآباءِ عَلَى الأبناءِ ، وَسَنَّ الدِّيَةَ فِي القَتْلَ مأَةٍ مِنَ الإبلَ ، وَكَانَ يَطُوفُ بِالبَيتِ سَبَعَةَ أَشواطٍ ، وَوَجَدَ كَنزاً فَأَخْرَجَ مِنْهُ الخُمسَ ، وَسَمّى زَمزَمَ حِينَ حَفَرَها سِقايَةَ الحاجِّ».

ويستخلص من مجموع ما تقدم أنّ الآداب والسّنن والعادات ، لها معطياتٌ مهمّةٌ ، على مستوى إيجاد الفضائل أو تكريس الرّذائل على حدّ سواء ، ولذلك أكّد عليها الإسلام تأكيداً شديداً وجعل الثّواب لمن يسنّ السّنن الصالحة ، والعقاب لمن يسنّ السّنن الرّذيلة ، وإعتبرها من الذنوب الكبيرة.

٦ ـ علاقة العمل بالأخلاق

صحيح أنّ أعمال الإنسان تتبع أخلاقه الظاهريّة والباطنيّة ، بحيث يمكن القول أنّ الإنسان يتأثر في سلوكه العملي ، بأخلاقه الباطنية الكامنة في عالم اللّاشعور ، ولكن من جهةٍ اخرى ، يمكن لأعمال الشّخص أن تؤُثر في أخلاقه ، من خلال صياغة المضمون للصّفات الأخلاقيّة في واقع الإنسان ومحتواه الباطني ، ومعناه أنّ عمليّة الممارسة المستمرة ، لعملٍ ما حسناً كان أو قبيحاً ، سيؤثر في نفسيّة الإنسان ، ويحوّل ذلك العمل إلى حالةٍ باطنيّةٍ ، وبالإستمرار يصبح من ملكات الإنسان الأخلاقيّة الحسنة ، أو القبيحة ، وبناءً عليه فإنّ من الطرق المؤثرة لتهذيب النّفوس ، هو تهذيب الأعمال في حركة الواقع الخارجي ، فمن مارس الأعمال القبيحة ، فسوف تتحول على أثر التّكرار إلى ملكةٍ سيّئةٍ في أعماق روحه ، وتكون السّبب في ظهور الرّذائل الأخلاقيّة في دائرة السّلوك والممارسة.

وبناءً على ذلك نرى التأكيد في الرّوايات على أنّ يستغفر الناس بسرعةٍ عند الخطأ ، ويغسلوا تلك الآثار بماء التوبة ، كي لا تخلّف آثارها السّلبية على القلب ، وتتحول إلى ملكاتٍ أخلاقيّةٍ قبيحةٍ.

وبعكسها نجد التأكيد على تكرار الأعمال الصّالحة ، بشكلٍ مستمرٍ كي تصبح عادةً عند

١٦٨

الإنسان ، في واقعه النفسي والروحي.

بعد هذه الإشارة نعود إلى القرآن الكريم ، ونستعرض الآيات الشّريفة التي تشير إلى هذا المعنى :

١ ـ «(كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ»)(١).

٢ ـ (كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)(٢).

٣ ـ (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً)(٣).

٤ ـ (وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ»)(٤).

٥ ـ (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً* الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً)(٥).

٦ ـ (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً)(٦).

٧ ـ (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها)(٧).

تفسير وإستِنْتاجٌ :

في «الآية الاولى» : نجد إشارةً إلى معطيات الذّنوب السّلبية على قلب روح الإنسان ، فهي تسلب الصّفاء والنّورانية منه ، وتحلُّ الظّلمة مكانه ، فيقول الله تعالى في القرآن الكريم : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ).

فجملة : (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) ، جاءت بصيغة الفعل المضارع ، الذي يدلّ على الإستمرار ،

__________________

١ ـ سورة المطففّين ، الآية ١٤.

٢ ـ سورة يونس ، الآية ١٢.

٣ ـ سورة فاطر ، الآية ٨.

٤ ـ سورة النمل ، الآية ٢٤.

٥ ـ سورة الكهف ، الآية ١٠٣.

٦ ـ سورة النساء ، الآية ١٧.

٧ ـ سورة التوبة ، الآية ١٠٢

١٦٩

بمعنى أنّ الأعمال القبيحة ، بإمكانها أن توجد تغييرات وتحولات كبيرة ، في قلب الإنسان وروحه ، فهي كالصّدأ الذي يحجب نورانيّة وصفاء المرآة ويكدّرها.

فالرّذيلة تُقسّي القلب وتسلبه الحَياء ، في مقابل الذّنب ، فيغلب عليه الشّقاء والظّلمة ، أمّا «الرّين» على وزن «عين» ، فهو الصّدأ يعلو على الأشياء الثمينة ، نتيجةً لرطوبة الجوّ ، فيكوّن طبقةً حمراء تُغطّي ذلك الشّيء ، وهو علامة على فساد ذلك الفِلِز.

فإختيار هذا التعبير هو إختيار مُناسب جدّاً ، حيث أكدت عليه الرّوايات الإسلامية ، مراراً وتكراراً ، وبحثنا الآتي سيكون حول هذا الموضوع.

وفي «الآية الثانية» : تعدّت مرحلة الرّين وأشارت إلى مرحلة «التّزيين» ، وبناءً عليه فالتكرار لعملٍ ما ، يبعث على تزيينه في عين الإنسان ونظره ، وتتوافق معه النفس الإنسانية ، لدرجةٍ يعتبره الإنسان من المواهب والإفتخارات التي يتميز بها على الآخرين ، فيقول الله تعالى : (كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).

فجملة : (عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) ، وكذلك «المسرفين» ، هي دليلٌ واضحٌ على تكرارِ الذّنب من قبلهم ، فالتّكرار لها ، لا يمحو قُبحها فقط ، بل وبالتّدريج ستتحول الخطيئة إلى فضيلةٍ في نظرهم ، وهذا يعني في الحقيقة المسخ لشخصيّة الإنسان ، وهو من النتائج المشؤومة لتكرار الذّنوب.

وهناك خلافٌ حول الفاعل ، الذي يزيّن لهؤلاء الأفراد أعمالهم القبيحة ...

فقد ورد في بعض الآيات الكريمة ، إنتساب ذلك الفعل إلى الباري تعالى ، وإعتبره كعقابٍ لهم ، لأنّهم أصرّوا على الذّنوب ، فالتّزيين هو إستدراج لهم ، وليذوقوا وبال أعمالهم فقال الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ)(١).

وفي الآية (٤٣) من سورة الأنعام ، نسب ذلك الفعل للشّيطان الرّجيم ، فيقول عن الكفّار

__________________

١ ـ سورة النمل ، الآية ٤.

١٧٠

المعاندين ، الذين لا يحبون النّاصحين :

(وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).

ومرةً اخرى نسب ذلك الفعل للأصنام ، فيقول الله تعالى : (وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ)(١).

واخرى (وكما ورد في الآية التي هي مورد بحثنا الآن) ، ورد بصورة الفعل المبني للمجهول :

(أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً).

وبنظرةٍ فاحصةٍ نرى ، أنّ هذه التّعابير لا تتقاطع فيما بينها ، بل أحدها يكمّل الآخر ، فمرةً تكون الزّينة عاملاً على تكرار العمل ، فالتّكرار يُقلّل من قبح العمل ، ويصل إلى مرحلةٍ لا يحسّ معها بالذّنب ، وبالإستمرار يحسُن في نظر صاحبه ، فيُقيّده ولا يستطيع التّحرر من ذلك الفخ ، الذي نُصب له ، وهي حقيقةٌ يمكن للإنسان أن يلمسها ، بالتتّبع والنّظر لحال المجرمين.

وفي موارد اخرى ، فإنّ الوساوس الشّيطانية الخارجيّة ، والوساوس الباطنيّة النفسيّة ، تزيّن للإنسان سوء عمله ، ويصل الأمر به إلى إرتكاب الكبائر ، بحجة أنّه يؤدّي واجبه الدّيني فيغتاب شخصاً ما ، بدون ذنبٍ وهو يتصور أنّه على حقٍّ ، ولكن الحسد في الواقع هو الذي يدفعه الى ذلك ، والتأريخ مليءٌ بمثل هذه الجنايات الفظيعة ، فوساوس النّفس والشّيطان لا تعمل على التّستر على قبح العمل فقط ، بل تجعله من إفتخاراته.

وربّما يعاقب الباري تعالى ، أشخاصاً لعنادهم ، وعدم قبولهم النّصحية ، ولا يكون العقاب إلّا بتزيين سوء عمل الإنسان ، لتشتدّ عقوبته ويفتضح أكثر فأكثر.

ويجب التّنويه ، إلى أنّه وطبقاً للتّوحيد الأفعالي ، فإنّ كلّ عملٍ وأثرٍ موجودٍ في هذا العالم ، يمكن أن يُنسب إلى الله تعالى ، لأنّ ذاته المقدّسة هي علّةٌ العلل ، ولا يعني هذا الأمر أنّ الأفراد قد اجبروا على أفعالهم ، فالحمد لله الذي جعل القوّة والقدرة على الفعل ومنَحها لِعباده ، واللعنة على الذين يستعملون تلك القوّة في دائرة الشر والذّنوب.

وربّما تقتضي طبيعة الأشياء ، التّزيين والزخرفة ، فنقرأ في الآيه (١٤) من سورة آل عمران :

__________________

١ ـ سورة الأنعام ، الآية ١٣٧.

١٧١

(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ...).

وإحدى العوامل لتزيين الأعمال القبيحة في نظر الشّخص ، التّكرار لها ، فهو يُؤثر في نفس وروح الإنسان ، ويغيّر أخلاقه ، والعكس صحيحٌ ، فإنّ تكرار الأعمال الحسنة يصبح ملكةً بالتدريج عند الإنسان ، ويبدّله إلى أخلاقٍ فاضلةٍ ، ولذلك ولأجل تهذيب النّفوس ونمو الفضائل الأخلاقيّة ، نوصي السّالكين في هذا الطّريق ، بالإستعانة بتكرار الأعمال الصّالحة ، وأن يحذروا من تكرار الأعمال السيئة ، فالأوّل هو المعين الناصح للإنسان ، والثاني عدوّ غدّار.

و «الآية الثالثة» : تتحدث عن تزيين سوء أعمال الإنسان أيضاً ، فيقول تعالى : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً).

فكما جاء في تفسير الآية السّابقة : فإنّ من العوامل لتزيين سوء الأعمال هو التّكرار ، والتّطبيع عليها ، والتّدريج يؤدّي إلى أن يفقد الإنسان ، الإحساس بِقُبحها ، وسوف يولع بها ويفتخر أيضاً.

واللّطيف أنّ القرآن الكريم ، عند ما يسأل ذلك السّؤال ، لا يذكر النّقطة المقابلة لها ، بصورةٍ مباشرةٍ ، ويفسح المجال للسّامع ، أن يتصور النّقطة المقابلة بنفسه ، ويتفهمها أكثر ، فهو يريد أن يقول : هل أنّ هذا الفرد ، يتساوى مع من يميّز الحق من الباطل في حركة الحياة؟ ، أو هل أنّ هؤلاء الأفراد ، يشبهون الأفراد من ذوي القلوب الطّاهرة ، الذين يعيشون حالة الإهتمام بمحاسبة أنفسهم ، والبعد عن القبائح ...؟.

ويجب الإنتباه ، الى أنّ الله تعالى يقول ، في ذيل الآية مخاطباً رسوله الكريم :

(فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ).

وهو في الحقيقة عقابٌ للّذين يفعلون القبائح ، فيجب أن تكون عاقبتهم كذلك.

وقد جاء في تفسير ، «في ظلال القرآن» : أنّ الباري تعالى إذا أراد أن يهدي الإنسان للخير ، «بسبب نيّته وعمله» ، فيجد في قلبه الحساسيّة والتّوجه الخاص لسوء الأعمال ، فهو دائماً على حذرٍ من الشّيطان والخطأ والزّيغ ولا يأمن الإختبار ، وينتظر المَدد الإلهي دائماً ، وهنا يكون

١٧٢

الفصل بين طريق الهداية والفلاح ، وبين خطّ الضّلال والهلاك (١).

وقد ورد ، أنّ أحد أصحاب الإمام الكاظم عليه‌السلام ، (او أحد أصحاب الإمام الرضا عليه‌السلام) ، قال : سألت الإمام عليه‌السلام ما هو العجب الذي يبطل عمل الإنسان؟

فقال عليه‌السلام : «العُجبُ دَرَجاتٌ مِنْها أَنْ يُزَيَّنَ لِلعَبْدِ سُوءُ عَمَلِهِ فَيَراهُ حَسَناً فَيُعْجِبُهُ وَيَحْسَبُ أَنَّهُ يُحْسِنُ صُنعاً» (٢).

و «الآية الرابعة» : تتحدث عن مَلِكَة سَبأ ، وعاقبتها والأخبار التي جاء بها الهدهد لسليمان عليه‌السلام ، من تلك الأرض واولئك القوم :

«وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ».

فالشّمس مع نورها الوهّاج ، وعظمتها وفائدتها ؛ لكنّ طلوعها وغروبها ، وإنحجابها بالغيوم ، تبيّن أنّها هي بدورها أيضاً تابعة لقوانين الكون ، ولا إرادة لها أبداً ، ولا تستحق التقدير. ولكنّ الآباء علّمت الأبناء ، والتربية الخاطئة والسُنّة الضّالة ، وتكرار العمل ، حَدَت بالنّاس لتصوّر القبيح في صورةٍ حسنةٍ ، وفي بعض البلدان ، يعبدون البقر ، ويؤدّون الطّقوس أمامها ، وهو مدعاةٌ للسّخريّة والضَّحِك ، ولكنهم يفتخرون بذلك. ومن العوامل المهمّة لذلك ، هو التّكرار لذلك العمل الذي عوّد الإنسان على القبيح وجعله حسناً.

وقد يُنسب هذا الفعل للشّيطان ، ولكن في الحقيقة ، الشّيطان له وسائل متعدّدة للغواية ، ومنها التّكرار للقبيح والتعوّد عليه.

«الآية الخامسة» : لها نفس المحتوى الوارد في الآيات السابقة ، ولكن بتعبيراتٍ جديدةٍ ، حيث قال تعالى ، مخاطباً رسوله الكريم : (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً* الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً).

__________________

١ ـ تفسير في ظلال القرآن ، ج ٦ ، ص ٦٧٥.

٢ ـ نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ٣٥١ ، ح ٣٠.

١٧٣

فالكلام عن المتضرّر الأوّل في المعركة ، وهو الذي يصرف عمره وفكره وطاقته في الطّريق الغلط ، وهو يحسب أنّه يُحسن صُنعاً ، وهو فرحٌ ومسرورٌ ويفتخر بذلك.

فلما ذا يُبتلى الإنسان بهذه المصائب؟ ، ليس ذلك إلّا لأنّه تعوّد على القبائح ، وإتّباع هوى النّفس ، والأنانية والعجب ، فتجعل الحُجب على قلبه وعقله ، فلا يرى الحقيقة واضحةً صائبةً كما هي.

والنتيجة لهذا الأمر ، جاءت في الآية التي بعدها فقال تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ).

وفسرت الروايات الإسلاميّة ، هذه الآية بتفسيرٍ وتعبيراتٍ متعددةٍ ، وكلٌّ منها هو في الحقيقة مصداقٌ للآية ، فبعضها فسّرت الآية بالمنكرين لولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وبعضها فسّرت الآية بالرّهبان المسيحيين ، فهم الذين يتركون الدنيا بالكامل ولذائذها ، وهم في الحقيقة مخطئون ، ويتحرّكون في دائرة الفكر والعمل في الطّريق المنحرف.

والبعض الآخر من الروايات ، ذكرت في تفسيرها أنّهم أهل البدع من المسلمين ؛ واخرى فسّروها ، بخوارج النّهروان ، وقال آخرون : أنّها نزلت في أهل البدع من اليهود والنّصارى ، فكلّ هؤلاء الأشخاص على خطأ وأعمالهم مليئةٌ بالإجرام والظّلم ، ولكنهم كانوا يحسبون أنّهم على صواب.

وتجدر الإشارة إلى أنّ ، جملة : «حبطت أعمالهم» ، التي جاءت في ذيل الآية ، هي من مادة «حبط ،» ومن معانيها المعروفة هو البعير أو حيوان آخر ، يأكل العلف بشراهةٍ ، حتى العلف السّام والضار بحيث يؤدي إلى إنتفاخ بطنه ، وقد يؤدّي به في بعض الأحيان للموت ، فالبعض يتصور أنّ ذلك هو دليل على قوته وقدرته ، ولكنّ الحقيقة هي غير ذلك ، بل هو المرض بعينه ، أو مقدمةٌ لموته ، ولكن الجهّال يعتبرونها من القوّة والقدرة.

وقسمٌ من النّاس يبتلون بمثل هذه العاقبة ، فيكون كلّ سعيهم وقوتهم لهلاك أنفسهم ، وهم يتصورون أنّهم سلكوا طريق السّعادة والرفاه.

١٧٤

«الآية السادسة» : تتناول مسألة قبول التّوبة من قبل الله تعالى ، لمن تتوفر فيهم بعض الشّرائط :

١ ـ الّذين يعملون السّوء بجهالةٍ ولا يعرفون عواقب الذّنوب على نحو الحقيقة.

٢ ـ الّذين تابوا بسرعةٍ من أعمالهم القبيحة ، فاولئك الّذين تشملهم الرّحمة الإلهيَّة ، ويقبل الله تعالى توبتهم ، فقال :

(إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً).

والمراد من كلمة «الجهالة» ، التي وردت في الآيه ، ليس هو الجهل المطلق الذي يوجب العذر ؛ لأنّ العمل في حالات الجهل المطلق ، لا يعتبر من الذنب ، بل هو الجهل النّسبي الذي لا يعلم معه عواقب ومعطيات الذّنوب في حركة الواقع والحياة.

وأمّا جملة : (يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) ، فقال البعض أنّها قبل الموت ، ولكن إطلاق كلمة «قريب» ، على فترة ما قبل الموت ، التي ربّما تستغرق (٥٠) سنة أو أكثر ، لا تكون مناسبة لهذا النوع من التّفسير ، وإستدل مؤيّدوا هذه النظريّة ، برواياتٍ لا تشير إلى هذا التفسير ، ولكنّها بيانٌ مستقلٌ ومنفصلٌ عنه.

وقال البعض الآخر ، إنّها الزّمان القريب لإرتكاب الذّنب ، حتى تمسح التوبة الآثار السّيئة للذنب في روح ونفس الإنسان ، وفي غير هذه الصّورة ، فستبقى الآثار في القلب ، وهو ما يناسب كلمة القريب عُرفاً ولغةً.

«الآية السابعة» : تناولت مسألة الزكاة ومعطياتها ، فجاء الأمر للرّسول الكريم : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً)».

ويتحدث القرآن الكريم عن الزّكاة ، وبيان معطياتها الأخلاقيّة والمعنويّة ، في خطّ التربية ، ويقول : (تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها)».

نعم ، فإنّ دفع الزكاة يحدّ من الرّكون إلى الدنيا وزخارفها ، ويقمع البخل في واقع النفس

١٧٥

البشريّة ، ويحث الإنسان على مراعاة حقوق الآخرين ، ويغرس فيه حبّ السّخاء والإنسانيّة.

وعلاوةً على ذلك ، فإن دفع الزّكاة يقف بوجه المفاسد النّاشئة عن الفقر والحرمان ، وبأداء تلك الفريضة الإلهيّة ، نكون قد شاركنا في إزالتها نهائياً ، من واقع المجتمع ، لذلك فإنّ الزّكاة تسهم في رفع الرّذيلة والفقر في حركة الإنسان والحياة ، وتُحلّي الإنسان بالفضائل الأخلاقيّة ، وهذا الأخير هو موضوع بحثنا ، وهو دور العمل الصّالح والطّالح ، في تحريك عناصر الخير والشّر ، والفضائل والرذائل الأخلاقية ، في واقع الإنسان والمجتمع.

وجاء نفس هذا التعيبر بشكلٍ آخر في آية الحجاب فيقول تعال : (إِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ)(١).

فهذه الآية الشّريفة ، تبيّن بوضوح أنّ التعفف في العمل يبعث على طهارة ونظافة القلب ، وبالعكس فإنّ الجرأة على إرتكاب المنكر وعدم الحياء ، يلوّث روح وقلب الإنسان ، ويعمّق في نفسه الميل إلى الرذائل الأخلاقيّة.

النّتيجة :

كان الهدف من شرح الآيات الآنفة الذّكر ، هو معرفة تأثير الأعمال في الأخلاق ، وبلورتها لروح الإنسان ، فلأجل بناء الذّات وتهذيب النّفس ، يتوجب مراقبة أعمالنا من موقع الحذر والإنضباط والمسؤوليّة ، لأنّ تكرار الذّنب والإثم يذهب بقبحه من جهة ، ومن جهة اخرَى يمنح الإنسان التعوّد عليه ، وبالتدريج يصبح ذلك العمل ملكةً لديه ، ولا يزعجه فقط ، بل ويتحول إلى عنصر فخرٍ من إفتخاراته.

__________________

١ ـ سورة الأحزاب ، الآية ٥٣.

١٧٦

كيفيّة تأثير «العمل» ، في «الأخلاق» في الرّوايات الإسلاميّة :

تعكس الأحاديث الإسلامية بوضوح ، ما تقدّم من علاقة العمل بالأخلاق في الآيات الكريمة ، ذلك المطلب بوضوح ، ومن تلك الأحاديث :

١ ـ نقرأ في حديث عن الإمام الصّادق عليه‌السلام أنّه قال :

«ما مِنْ عَبْدٍ إلّا وَفِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ بَيضاءٌ فَإذَا أَذْنَبَ ذَنْباً خَرَجَ في النُّكْتَةِ نِكْتَةٌ سَوداءٌ فَإنْ تابَ ذَهَبَ ذَلِكَ السَّوادُ ، وإنْ تَمادَى فِي الذُّنُوبِ زَادَ ذَلِكَ السَّوادُ حتَّى يُغَطِّي البَياضَ ، فَإذَا غَطّى البَياضَ لَمْ يَرْجِعْ صاحِبُهُ إلَى خَيرٍ أَبَداً ، وَهُوَ قَولُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ : «بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ» (١).

فهذه الرواية ، تُبيّن بوضوح ، أنّ تراكم الذّنوب يُفضي إلى ظهور الرذائل في سلوكيات الإنسان ، ويدفعه بإتجاه الإبتعاد عن الفضائل ، ممّا يورّث النّفس الإنسانيّة الغرق في الظّلام الكامل ، وعندها لا يجد الإنسان فرصةً للرجوع إلى طريق الخير ، والانفتاح على الله والإيمان.

٢ ـ الوصيّة المعروفة عن أمير المؤمنين عليه‌السلام لابنه الحسن عليه‌السلام ، حيث قال له : «إنَّ الخَيرَ عادَةٌ» (٢).

وورد نفس هذا المضمون ، في كنز العمّال ، في حديثٍ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنّه قال : «الخَيرُ عادَةٌ والشَّرُ لَجاجَةٌ» (٣).

وأيضاً نقل نفس هذا الحديث ، وبشكل آخر ، عن الإمام السجّاد عليه‌السلام ، أنّه قال :

«أُحِبُّ لِمَنْ عَوَّدَ مِنْكُمْ نَفْسَهُ عادَةً مِنَ الخَيرِ أَنْ يَدُومَ عَلَيها» (٤).

فيستفاد من هذه الروايات ، أنّ تكرار العمل ، سواء كان صالحاً أم طالحاً ، يسبّب في وجود حالة الخير أو الشر عند الإنسان ، فإذا كان خيراً فسيشكل مباديء الخير في نفسه ، وإن كان شرّاً فكذلك ، وبكلمةٍ واحدةٍ هو التأثير المتقابل للأعمال ، والأخلاق في حركة الحياة ، و

__________________

١ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٢٧٣ ، ح ٢٠.

٢ ـ بحار الأنوار ، ج ٧٤ ، ص ٢٣٢.

٣ ـ كنز العمّال ، ح ٢٨٧٢٢.

٤ ـ بحار الأنوار ، ج ٤٦ ، ص ٩٩.

١٧٧

الواقع النّفسي للإنسان.

٣ ـ ورد في حديثٍ آخر ، عن علي عليه‌السلام في وصيّته المعروفة ، للإمام الحسن عليه‌السلام :

«وَعَوّدْ نَفْسَكَ التَّصَبُّرَ عَلَى المَكْرُوهِ ، وَنِعْمَ الخُلُقُ التَّصَبُّرُ في الحَقِّ» (١)

ويتبيّن هنا أيضاً ، أنّ «العادة» هي وليدة ، التكرار ، للعمل مع الصّبر على صعوبات الحياة ، من موقع الحقّ والمسؤوليّة.

٤ ـ ورد في الرّوايات ، التّعجيل بالتّوبة وعدم التّسويف ، لئلّا تبقى آثار الذّنوب فاعلةً في القلب ، ممّا يؤدّي إلى تحولها إلى ملكةٍ أخلاقيّةٍ راسخةٍ في النفس ، فنقرأ في حديثٍ عن الإمام الجواد عليه‌السلام ، أنّه قال :

«تَأَخِيرُ التَّوبَةِ إِغتِرارٌ ، وَطُولُ التَّسْوِيفِ حَيرَةٌ ... وَالإِصرارِ عَلَى الذَّنبِ آمن لِمَكْرِ اللهِ» (٢).

وجاء في النّبوي الشّريف حديث آخر ، لطيف عن التّوبة وتأثيرها الإيجابي ، في تلاشي الذّنوب من واقع النّفس ، فقال :

«مَنْ تابَ تَابَ اللهُ عَلَيهِ وَأُمِرَتْ جَوَارِحَهُ أَنْ تَسْتُرَ عَلَيهِ ، وَبِقاعُ الأرْضِ أَنْ تَكْتُمَ عَلَيهِ وَأُنْسيَتِ الحَفَظَةُ ما كانَتْ تَكْتُبُ عَلَيهِ» (٣).

فهذا الحديث يبيّن أنّ التوبة ، تغسل الذّنوب وتعيد الصّفاء والقداسة الأخلاقيّة للإنسان.

وجاء هذا المعنى بصورة أوضح ، في الحديث عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : «التَّوبَةُ تُطَهِّرُ القُلُوبَ وَتَغْسِلُ الذُّنُوبَ» (٤).

فهذا الحديث يبيّن أنّ الذنب يترك آثاره في القلب ، في عمليّة تطبيع نفسي لعناصر المزاج ، ولكن التّوبة تزيل هذه الآثار ، ولا تفسح المجال لتشكّل تلك الأخلاق السلبية ، في المحتوى الداخلي للفرد.

وورد في التعيبر عن التّوبة بأنّها «طهور» ، في رواياتٍ عديدةٍ ، وهو يحكي عن علاقة

__________________

١ ـ نهج البلاغة ، رسالة ٣١.

٢ ـ بحار الأنوار ، ج ٦ ، ص ٣٠.

٣ ـ كنز العمّال ، ج ١٠ ، ص ٧٩.

٤ ـ غُرر الحِكم ، ح ٣٨٣٧.

١٧٨

الذّنب بظهور الحالات الباطنيّة القبيحة (١).

وورد في المناجاة : الخمسة عشر ، المعروفة للإمام السجاد عليه‌السلام ، في القسم الأول منها ، وهي مناجاة التّائبين :

«وَأَماتَ قَلْبِي عَظِيمَ جِنايَتِي فأَحْيهِ بِتَوبَةٍ مِنْكَ يا أَمَلِي وَبُغْيتَي» (٢).

نعم! فإنّ الذّنب يكدّر القلب ويلوث النفس الإنسانية ، وبتكرار الذنب فإنّ القلب يذبل ويموت ، ولكنّ التوبة بإمكانها ، أن تعيد النّشاط والحياة للقلوب ، لتعيش جو الإيمان والطُّهر.

وبناءً عليه ، فإنّه يتوجب على السائرين إلى الله تعالى ، تحكيم دعائم الفضائل الأخلاقيّة ، في وجدانهم وسلوكياتهم ، ولينتبهوا لمعطيّات وتبعات أعمالهم الإيجابيّة والسّلبية ، فكلّ واحدٍ من تلك الأعمال سيؤثر في القلب ، فإنّ كان خيراً فخَير ، وإن كان شَرّاً فشرّ.

٧ ـ علاقة «الأخلاق» و «التّغذية»

ربّما سيتعجب البعض من هذا العنوان ، وما هي علاقة الأخلاق والروحيّات والملكات النّفسية بالغذاء ، فالأولى للرّوح والثّانية للجسم ، ولكن بالنّظر للعلاقة الوثيقة ، بين الجسم والروح في حركة الحياة والواقع ، فلن يبقى مجالاً للتعجب ، فكثيراً ما تسبّب الأزمات الرّوحية في الإصابة بأمراضٍ جسديّةٍ ، تضعف جسم الإنسان وتشل عناصر القوّة فيه ، فيبيض الشّعر ، وتظلم العين ، وتخور القوى عند الإنسان والعكس صحيح أيضاً ، فإنّ الفرح وحالات الرّاحة التي يمرّ بها الإنسان ، تنمي جسمه وتقوّي فكره ، وقديماً توجّه العلماء لتأثير الغذاء على روحيّة الإنسان وسلوكه المعنوي ، وتغلغَلت هذه المسألة في ثقافات الناس ، على مستوى الموروث الفكري والوعي الاجتماعي ، فمثلاً شِرب الدّم يبعث على قساوة القلب ، والعقيدة السّائدة هي أنّ العقل السّليم في الجسم السّليم.

ولدينا آياتٌ وروايات تشير إلى هذا المعنى ، ومنها الآية (٤١) من سورة المائدة ، فقد

__________________

١ ـ بحار الانوار ، ج ٩٦ ، ص ١٢١ ، وج ٩١ ، ص ١٣٢.

٢ ـ المصدر السابق ، ج ٩١ ، ص ١٤٢.

١٧٩

أشارت إلى فئةٍ من اليهود الذين مارسوا أنواعاً كثيرةً من الجرائم بحقّ الإسلام والمسلمين من قبيل التّجسس وتحريف الحقائق الواردة في الكتب السّماويّة ، فقال الباري تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ).

ويعقّب مباشرةً قائلاً : (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ).

وهذا التعبير يبيّن أنّ عدم طهارة قلوبهم ، إنّما كان نتيجة لأعمالهم ، الّتي منها تكذيب الرّسول والآيات الإلهيّة ، وأكلهم للحرام بصورةٍ دائمةٍ ، ومن البعيد في خطّ البّلاغة والفصاحة ، أن يأتي بأوصاف لا علاقة لها بجملة : (لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ).

ومنها يعلم أنّ أكل السّحت يسوّد القلب ويُميته ، ويكون سبباً لنفوذ عناصر الرّذيلة ، والزيغ ، والإبتعاد عن الخير والفضائل.

وفي الآية (٩١) من سورة المائدة ، ورد الحديث عن شرب الخمر ولعب القمار ، فقال عزّ من قائل : (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ).

ولا شك فإنّ العداوة والبغضاء ، هي من الحالات الباطنيّة ، التي ترتبط برابطةٍ وثيقةٍ مع شرب الخمر ولعب القمار ، كما ورد في الآية الشريفة ، وهو دليل على أنّ أكل السّحت والشّراب الحرام يساعد على بروز الرذائل الأخلاقية ، وتكريس حالات العداء والخصومة بين الأفراد ، في خط الشيطان.

ونقرأ في الآية (٥١) من سورة المؤمنون ، قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً).

ويعتقد بعض المفسّرين أنّ تقارن ذكر هذين الأمرين : وهما «أكل الطّيبات والعمل الصالح» ، هو خير دليلٍ على وثاقة العلاقة بينهما ، وهي إشارةٌ إلى أنّ إختلاف وتنوّع الأكلات والأطعمة ، له معطيات أخلاقية مختلفة ومتنوّعة أيضاً ، فأكل الطيّبات ، يطيّب الرّوح ويصلح العمل ، وبالعكس فإنّ الأكل الحرام يُظلم الرّوح ، ويخبّث العمل (١).

وقد إستدلّ في تفسير «روح البيان» ، وبعد إشارته لعلاقة العمل الصّالح بأكل الطيّبات ،

__________________

١ ـ يرجى الرجوع إلى تفسير الأمثل ، ذيل الآية ٥١ ، من سورة المؤمنون.

١٨٠