الأخلاق في القرآن - ج ١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأخلاق في القرآن - ج ١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : الأخلاق
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8139-05-9
ISBN الدورة:
964-8139-27-X

الصفحات: ٣٥٢

١ ـ من جملة الامور الّتي توصل إليها علماء النّفس ، هو وجود روح الُمحاكاة في الإنسان ، يعني أنّ الأفراد ينطلقون في حركة الحياة ، من موقع الشّعور أو اللّأشعور ، بمُحاكاة أصدقائهم وأقاربهم ، فالأشخاص الّذين يعيشون حالة الفرح والسرور ، ينشدون الفرحة والحُبور من حواليهم ، والعكس صحيح.

فالأفراد المُتشائمين ، الذين يعيشون اليأس وسوء الظن ، يؤثرون على أصحابهم ، ويجعلونهم يعيشون حالة سوءِ الظّن ، وهذا الأمر يبين لنا السّبب في تأثير الأصدقاء بعضهم بالبعض الآخر بسرعةٍ.

٢ ـ مَشاهدة القبائح وتكرارها ، يُقلّل من قبحها في نظر المشاهد ، وبالتدريج تصبح أمراً عاديّاً ، ونحن نعلم أنّ إحدى العوامل المؤثّرة في ترك الذنوب والقبائح ، هو الإحساس بقبحها في الواقع النّفسي للإنسان.

٣ ـ تأثير التّلقين في الإنسان غير قابل للإنكار ، وأصدقاء السّوء يؤثرون دائماً على رفقائهم في دائرة الفكر والسّلوك من خلال عمليّة التلقين والايحاء ، فيقلبون عناصر الشرّ في إعتقادهم إلى عناصر الخير ، ويغيّرون حسّ التّشخيص لديهم لعناصر الخير والشرّ في منظومة القيم ، فتختلط عليهم الامور ، في خطّ المستقبل وكيفيّة التعامل مع الغير.

٤ ـ المُعاشرة لرفاق السّوء ، يشدّد سوء الظن في الإنسان مع الجميع ، وتفضي به هذه الحالة النّفسية السلبيّة إلى السّقوط في وادي الذّنوب والفساد الأخلاقي ، فنقرأ في حديث عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : «مُجالَسَةُ الأَشرارِ تُورِثُ سُوءَ الظَّنِّ بالأَخيارِ» (١).

وجاء في حديث آخر عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنّ معاشرة رفاق السّوء تميت القلب ، فقال :

«أَربَعٌ يُمِتنَ القَلبَ ... وَمُجالَسَةُ المَوتى ؛ فَقِيلَ لَهُ يا رَسُولَ اللهِ وَمَا المَوتى؟ ، قَالَ صلى‌الله‌عليه‌وآله : كُلُّ غَنِيٍّ مُسْرِفٍ» (٢).

وهذا الموضوع ، يعني سريان الحُسن والقُبح الأخلاقي بين الأصدقاء ، في أجواء المُعاشرة إلى درجةٍ من الوضوح ، ممّا حدى بالشّعراء إلى نظم الشعر في هذا المضمار ، من قبيل قولهم :

__________________

١ ـ صفات الشيعة ، الصدوق نقلاً عن بحارالأنوار ، ج ٧١ ، ص ١٩٧.

٢ ـ الخصال ، (طبقاً لنقل بحار الأنوار ، ج ٧١ ، ص ١٩٥).

١٤١

عن المرء لا تسلْ وسلْ عن قرينه

فكلّ قرينٍ بالمقارن يقتدي

٣ ـ تأثير الاسرة والوراثة في الأخلاق

من المعلوم أنّ أوّل مدرسةٍ لتعليم القيم الأخلاقيّة ، يدخلها الإنسان هي الاسرة ، فكثيرٌ من اسس الأخلاق ، تنمو في واقع الإنسان هناك ، فالمحيط السّليم أو الملّوث للُاسرة ، له الأثر العميق في صياغة السّلوك الأخلاقي ، لأفراد الاسرة ، إنّ على مستوى الأخلاق الحسنة أو السيئة ، فالحجر الأساس للأخلاق في واقع الإنسان يوضع هناك.

وتتبيّن أهميّة الموضوع ، عند ما يتّضح أنّ الطفل في حركته التكامليّة ، ومسيرته في خط التّربية :

أولاً : يتقبّل ويتأثر بالمحيط بسرعةٍ كبيرةٍ.

ثانياً : إنّ ما يتعلمه الطّفل في صغره ، سوف ينفذ إلى أعماق نفسه وروحه ، وقد سمعنا الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، يقول فيه :

«العِلمُ فِي الصِّغَرِ كالنَّقشِ فِي الحَجَرِ» (١).

فالطفل يستلهم كثيراً من سجايا أبيه وامّه واخوته وأخواته ، فالشّجاعة والسّخاء والصّدق والوفاء ، وغيرها من الصّفات والسّجايا الأخلاقيّة الحميدة ، يأخذها ويكسبها الطّفل من الكبار بسهولةٍ ، وكذلك الحال في الرّذائل ، حيث يكسبها الطّفل من الكبار بسهولةٍ أيضاً.

وبالإضافة إلى ذلك ، فإنّ الطّفل يكسب الصّفات من أبويه عن طريقٍ آخر ، وهو الوراثة ، فالكر وموسومات لا تنقل الصفات الجسمانية فحسب ، بل تنقل الصفات الأخلاقيّة أيضاً ، ولكن من دون تدخل عنصر الإجبار ، حيث تكون هذه الصّفات قابلةٌ للتغيير ، ولا تسلب المسؤوليّة من الأولاد أيضاً.

وبعبارةٍ اخرى ، أنّ الأبوين يؤثران على الطّفل أخلاقياً من طريقين ، طريق التّكوين ، و

__________________

١ ـ بحار الأنوار ، ج ١ ، ص ٢٢٤.

١٤٢

طريق التّشريع ، والمراد من التّكوين هو الصفات والسّجايا المزاجيّة والأخلاقيّة المتوفرة في الكروموسومات والجينات ، والّتي تنتقل لا إرادياً للطفل في عمليّة الوراثة.

والطريق التشريعي يتمثل في إرشاد الأبناء ، من خلال أساليب التّعليم والتّربية للصفات الأخلاقيّة ، التي يكتسبها الطفل من الأبوين بوعي وشعور.

ومن المعلوم أنّ أيّاً من هذين الطّريقين ، لا يكون على مستوى الإجبار ، بل كلّ منهما يُهيّىء الأرضيّة لنمو ورشد الأخلاق في واقع الإنسان ، ورأينا في كثيرٍ من الحالات أفراداً صالحين وطاهرين ، لأنّ بيئتهم كانت طاهرةً وسليمةً ، والعكس صحيح أيضاً. ولا شك من وجود إستثناءات في الحالتين تبيّن أنّ تأثير هذين العاملين ، وهي : «التربية والوراثة» ، لا يكون تأثيراً على مستوى جَبر ، بل يخضع لأدوات التّغيير وعنصر الإختيار.

ونعود بعد هذه الإشارة إلى أجواء القرآن الكريم ، لنستوحي من آياته الكريمة ما يرشدنا إلى الحقيقة :

١ ـ «إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً» (١).

٢ ـ (فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا)(٢).

٣ ـ (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ* ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(٣).

٤ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ)(٤).

٥ ـ (يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا)(٥)

تفسير واستنتاج :

«الآية الاولى» : تتحدث عن نوح ودعائه على قومه بالهلاك ، حيث إستدلّ على ذلك

__________________

١ ـ سورة نوح ، الآية ٢٧.

٢ ـ سورة آل عمران ، الآية ٣٧.

٣ ـ سورة آل عمران ، الآية ٣٣ و ٣٤.

٤ ـ سورة التحريم ، الآية ٦.

٥ ـ سورة مريم ، الآية ٢٨.

١٤٣

بقوله : (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً).

فهذا الكلام يدلّ على أنّ الفجار والمنحرفين ، لا يلدون إلّا الفجّار والمنحرفين ، ولا يستحقون الحياة الكريمة من موقع الرّحمة ، بل يجب أن ينزل عليهم العذاب أينما وجدوا وحلّوا ، والحقيقة أنّ البيئة ، وتربية الاسرة وكذلك الوراثة ، كلّها عوامل تؤثر في الأخلاق والعقيدة ، في حركة الحياة والإنسان ، والمهم في الأمر أنّ نوحاً عليه‌السلام ، قطع بكفر وفساد أولادهم اللّاحقين ، لأنّ الفساد إنتشر في المجتمع بصورةٍ كبيرةٍ جدّاً ، فلا يمكن لأحدٍ أن يفلت منه بسهولةٍ ، وطبعاً وجود مثل هذه العوامل ، لا يعني سلب الإرادة من الإنسان ، وقد ذهب البعض إلى أنّ نوح عليه‌السلام ، توجّه لهذه الملاحظة عن طريق الوحي الإلهي ، عند ما قال له الباري تعالى : (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ)(١).

ومن الواضح ، أنّ هذه الآية لا تشمل الأجيال القادمة ، لكنّه لا يُستبعد أنّه عليه‌السلام حكم عليهم بالإعتماد على الامور الثلاثة السّابقة الذّكر ، وهي : (البيئة ، وتربية الاسرة ، وعامل الوراثة).

وقد ورد في بعض الرّوايات أنّ الكفّار من القوم ، كانوا يأتون بصبيانهم المميزين عند نوح عليه‌السلام ، ويقول الأب لإبنه ؛ أترى هذا الشّيخ يا بُني؟ إنّه شيخٌ كذّاب ، فلا تقترب منه ، هكذا أوصاني أبي ، «وافعل أنت ذلك مع إبنك أيضاً».

وظلّ الأمر على هذا المنوال على تعاقب الأجيال (٢).

وفي «الآية الثانية» : يحدثنا القرآن الكريم عن السيّدة مريم عليها‌السلام ، والتي تعتبر من أهم وأبرز الشخصيات النسائية في العالم ، وقد ورد في النّصوص الدينيّة ، ما يبيّن أنّ مسألة التربية والوراثة والبيئة ، لها أهميّة كبيرةٌ في رسم وصياغة شخصيّة الإنسان ، في خطّ الحقّ أو الباطل ، ولأجل تربية أفرادٍ صالحين ، يجب علينا التّوجه لتلك الامور.

ومن جملتها ، حالة الام في زمان الحَمل ، فترى أنّ امّ مريم كانت تستعيذ بالله تعالى من

__________________

١ ـ سورة هود ، الآية ٣٦.

٢ ـ تفسير الفَخر الرازي ، والمُراغي ، للآية مَورد بحثنا.

١٤٤

الشّيطان الرجيم ، وكانت تتمنى دائماً أن يكون من خُدّام بيت الله ، بل نذرت أن يكون وليدها كذلك.

فتقول الآية الكريمة : (فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً).

تشبيه الإنسان الطّاهر بالنبات الحَسن ، هو في الحقيقة إشارةٌ إلى أنّ الإنسان كالنبات ، يجب ملاحظته ملاحظةً دقيقةً ، فالنبات ولأجل أن ينبت نباتاً حسناً مثمراً ، يجب في بادىء الأمر الإستفادة من البذور الصّالحة ، والإعتناء به من قبل الفلّاح في كل مراحل رشده ، إلى أن يصبح شجرةً مثمرةً ، فكذلك الطفل في عَمليّة التربية ، حيث ينبغي التّعامل معه من منطلق الرّعاية والعناية ، وتربيته تربيةً صحيحةً ، لأنّ عامل الوراثة يؤثر في نفسه وروحه ، والاسرة التي يعيش فيها ، وكذلك البيئة والمحيط الذي يَتعايش معه ، كلّها تمثل عناصر ضاغطة في واقعه النّفساني والمزاجي.

والجدير بالذّكر ، أنّ الله سبحانه جاء بجملة : (وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا) في ذيل الآية ، وهي الكفالة لمريم عليها‌السلام (١) ، ومعلوم حال من يتربى على يد نبيٍّ من أنبياء الله تعالى ، بل الله تعالى هو الذي إختاره لكفالتها ورعايتها.

فلا غرابة والحال هذه ، أن تصل مريم عليها‌السلام لدرجاتٍ ساميةٍ ، من الإيمان والتّقوى ، والأخلاق والتربية ، ففي ذيل هذه الآية ، يقول القرآن الكريم :

(كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ).

نعم فإنّ التربية الإلهيّة : تُثمر الأخلاق الإلهيّة ، والرزق من الله في طريق التّكامل المعنوي للإنسان.

وقد ورد في «الآية الثالثة» : مقدّمةٌ لقضية مريم عليها‌السلام ، وكفالة زكريّا عليه‌السلام لها ، وفيها الكلام عن تأثير العامل الوراثي ، وعامل التربية في تكريس الطهارة والتقوى والفضيلة ، في مضمون

__________________

١ ـ يجب التنويه إلى أنّ «كفل» ، إذا قُرىء بدون التّشديد ، يعنى : التّعهد بالإدارة والكفالة ، وا ذا قُرىء بالتّشديد بمعنى : إختيار الكفيل لآخر ، وبناءً على ذلك فإنّ الله تعالى إختار زكريّا عليه‌السلام لتربية مريم عليها‌السلام ، «وكفّل» : أخذ مفعولين ، أحدهما : (هاء) ، يعود إلى مريم عليها‌السلام ، والآخر إلى : زكريا عليه‌السلام.

١٤٥

الإنسان ومحتواه الداخلي ، فقال تعالى : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ* ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

فالذرّية التي بعضها من بعضٍ ، إشارة لعامل الوراثة أو التربية الاسريّة ، أو كلاهما وهو شاهد حيٌّ يؤيد مُدّعانا من تأثير عناصر الوراثة والتربية ، في الشّخصيّة ومعطياتها في خط التّقوى والفضيلة.

وأشارت الرّوايات التي نُقلت في ذيل هذه الآية ، لذلك المعنى (١) أيضاً ، وعلى كل حال ، فإنّ الآيات الآنفة الذّكر ، تدلّ على مدى تأثير معطيات التربية والبيئة والوراثة ، في نفسية الإنسان ، وأثرها العميق في صياغة قابليّاته ، والإرتفاع به للتّصدي لمقام الرئاسة المعنويّة على الخلق ، ولا يمكن إنكار تلك المَعطيات ، ولا يمكن أبداً مُقايسة هؤلاء الأطهار الذين عاشوا أجواءَ الفضيلة ، بالّذين ورثوا الكفر والفساد والنّفاق من آبائهم وأجدادهم.

وفي «الآية الرابعة» : خاطب الباري تعالى المؤمنين وقال لهم : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ).

وقد تَلت هذه الآية ، الآيات الّتي جاءت في بداية سورة التّحريم ، والتي حذّرت فيها نساء النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من أعمالهنّ ، وبعدها ذكر المطلب بصورة حكمٍ عامٍّ شمل كلّ المؤمنين.

ومن المعلوم أنّ المقصود من هذه النار ، هي نار الآخرة ، ولا يمكن الإتقاء من تلك النار ، إلّا بالإهتمام بعمليّة التعليم والتربية السّليمة في واقع الاسرة ، والتي بدورها توجب ترك المعاصي ، والإقبال على الطّاعة وتقوى الله تعالى. وبناءً على ذلك فإنّ هذه الآية تعيّن وتبيّن وظيفة ربّ الاسرة ، ودوره في التّربية والتعليم ، وكذلك تبيّن أهميّة وتأثير عنصر التربية والتعليم ، في ترشيد الفضائل والأخلاق الحميدة ، والسيّرة الحسنة.

ويجب الإهتمام في ترجمة هذا البرنامج ، إلى عالم الممارسة والتطبيق ، من أوّل لبنةٍ توضع في بناء الاسرة ، أي منذ إجراء عقد الزّواج والرّباط المُقدس ، ويجب الإهتمام بإسلوب التربية ، من أوّل لحظةٍ يولد فيها الطّفل ، ويستمر البرنامج التّربوي في كلّ المراحل التي تعقبها.

__________________

١ ـ يرجى الرجوع إلى نور الثقلين : (ج ١ ، ص ٣٣١).

١٤٦

فنقرأ في حديثٍ عن الرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنّه عند ما نزلت هذه الآية الشّريفة ، سأله أحد أصحابه ، عن كيفيّة الوقاية من النار ، له ولعياله ، فقال له الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله :

«تَأمُرُهُم بِما أَمَرَ اللهُ وَتَنهاهُم عَمّا نَهاهُم اللهُ إنْ أَطاعُوكَ كنْتَ قَدْ وَقَيتَهُم وَإِنْ عَصَوكَ كُنْتَ قَدْ قَضَيتَ ما عَلَيكَ» (١).

ويجب أن يكون معلوماً ، أنّ الأمر بالمعروف يعدّ من الوسائل الناجعة لوقاية الاسرة من الإنحراف والسّقوط في هاوية الجحيم ، ولأجل الوصول إلى هذا الهدف ، علينا الإستعانة بكلّ الوسائل المتاحة لدينا ، وكذلك الإستعانة بالجوانب العملية والنفسية والكلامية ، ولا يُستبعد شمول الآية لمسألة الوارثة ، فمثلاً أكل لقمة الحلال عند إنعقاد النّطفة وذكر الله ، يُؤثر إيجابياً في تكوين النّطفة ، وتنشئة الطّفل وحركته في المستقبل في خطّ الإيمان.

«الآية الخامسة والأخيرة» : تشير إلى قصّة مريم عليها‌السلام وولادتها للمسيح عليه‌السلام ، الذي وُلد من دون أب ، وتعجّب قومها من ذلك الأمر الفظيع بنظرهم! ، فقال الباري تعالى على لسان قومها : (يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا).

فهذا التعبير ، (وخصوصاً نقل القرآن الكريم من موقع الإمضاء والتأييد) ، إن دل على شيء فهو يدلّ على معطيات عوامل الوراثة من الأب والام ، وكذلك تربية الاسرة وتأثيرها في أخلاق الطفل ، وكلّ الناس لمسوا هذه الأمر بالتجربة ، فإذا شاهدوا أمراً مُخالفاً للمعهود ، إستغربوا وتعجّبوا.

ومن مجموع ما تقدم ، يمكننا أن نستوحي هذه الحقيقة ، وهي أنّ الوراثة والتربية ، من العوامل المهمّة ، في رسم وغرس القيم الأخلاقيّة في حركة الواقع النفسي للإنسان ، إن على مستوى الأخلاق الحسنة أو السيئة.

__________________

١ ـ نور الثقلين : (ج ٥ ، ص ٣٧٢).

١٤٧

الأخلاق والتربية في الأحاديث الإسلاميّة :

لا شكّ أنّ المدرسة الأولى للإنسان ، هي واقع الاسرة ، فمنها يتعلم الإنسان الدّروس الاولى للفضيلة أو الرذيلة. وإذا ما تناولنا مفهوم التربية بشكله العام : «التكوين والتشريع» ، فإنّ أوّل مدرسةٍ يدخلها الإنسان ، هي رحم الام وصلب الأب ، والّتي تؤتي معطيّاتها بصورةٍ غير مباشرةٍ على الطفل ، وتهيىء الأرضيّة للفضيلة ، أو الرّذيلة في حركته المستقبليّة.

وقد ورد في الأحاديث الإسلاميّة ، تعبيراتٌ لطيفةٌ ودقيقةٌ جدّاً في هذا المجال ، نشير إلى قسم منها :

١ ـ قال عليٌّ عليه‌السلام : «حُسْنُ الأَخلاق بُرهانُ كَرَمِ الأَعراقِ» (١).

وبناءً عليه فإنّ الاسر الفاضلة ، غالباً ما تقدّم للمجتمع أفراداً متمّيزين على مستوى الأخلاق الحسنة ، وبالعكس فإنّ الأفراد الطالحين ، ينشؤون غالباً من عوائل فاسدة.

٢ ـ ورد في حديث آخر عن الإمام علي عليه‌السلام أنّه قال :

«عَلَيكُم فِي طَلبِ الحَوائِجِ بأشراف النُّفُوسِ وَذَوي الاصُولِ الطَّيِّبَةِ ، فإِنَّها عِنْدَهُم أَقضى ، وَهِي لَدَيهِم أَزكَى» (٢).

٣ ـ وفي عهد الإمام علي عليه‌السلام لمالك الأشتر رحمه‌الله ، ووصاياه له في إختيار الضّباط للجيش الإسلامي ، قال له :

«ثُمَّ الصَقْ بِذَوي المُروُءاتِ والأَحسابِ وَأَهلِ البُيُوتاتِ الصَّالِحَةِ والسَّوابِقِ الحَسَنَةِ ثُمَّ أَهْلِ النَّجدَةِ وَالشَّجَاعَةِ والسَّخاءِ وَالسَّمَاحَةِ فإِنَّهُم جِماعُ مِنَ الكَرَمِ وَشُعَبٌ مِنَ العُرفِ» (٣).

٤ ـ وورد عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، حديث يُبيّن تأثير الآباء الفاسدين على شخصية الأطفالِ وسلوكهم الأخلاقي ، فقال : «أَيَّما إِمرَأَةٍ أَطاعَتْ زَوجَها وَهُوَ شارِبٌ لِلخَمْرِ ، كَانَ لَها مِنَ الخَطايا بِعَدَدِ نُجُومِ السَّماءِ وَكُلُّ مَولُودٍ يُولَدُ مِنْهُ فَهُوَ نَجِسٌ» (٤).

__________________

١ ـ غُرر الحِكم.

٢ ـ المصدر السابق.

٣ ـ نهج البلاغة.

٤ ـ لئالي الأخبار.

١٤٨

وقد ورد النّهي الأكيد ، في رواياتٍ اخرى كثيرةٍ عن تزويج الشّارب للخمر ، والسّيء الأخلاق (١).

٥ ـ وقد ورد في الحديث النبوي المشهور ، بالنّسبة إلى تأثير تربية الأب والام على الأولاد ، أنّه قال :

«كُلُّ مَولُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ حتى يَكُونَ أَبواهُ هُمَا اللَّذانِ يُهِوِّدانِهِ وَيُنَصِّرانِهِ» (٢).

فالتربية التي تعمل على تغيير إيمان وعقيدة الطّفل ، كيف لا تعمل على تغيير سلوكه الأخلاقي في الدّائرة الإجتماعية؟

٦ ـ وهذا الأمر جعل مسألة التربية الصّالحة ، من أهم حقوق الطّفل على الوالدين ، فنقرأ في الحديث النبوي الشّريف :

«حَقُّ الوَلَدِ عَلى الوَالِدِ أَنْ يُحْسِنَ إسمَهُ وَيُحْسِنَ أَدَبَهُ» (٣).

فمن الواضح أنّ مداليل الأسماء ، لها أثرها الأكيد على نفسيّة وروحيّة الطّفل ، فأسماء الشّخصيات الكبيرة من أهل التّقوى والفضيلة ، تجذب الإنسان المُسمّى بأسمائهم إليهم ، وتدعوه للتّقرب إليهم ، وبالعكس ، فإنّ أسماء الفسقة والكفّار ، تقرّب من يتسمى بأسمائهم منهم أيضاً (٤).

٧ ـ ونقرأ في النبوي الشريف أيضاً : «ما نَحَلَ وَالِدٌ وَلَدَهُ أَفضَلَ مِنْ أَدبٍ حَسَنٍ» (٥).

٨ ـ وقال الإمام السجّاد عليه‌السلام ، بتعبيرٍ أوضح :

«وَإِنَّكَ مَسؤولٌ عَمَّا وَلِّيتَهُ بِهِ مِنْ حَسَنِ الأَدبِ وَالدَّلالَةِ عَلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالمَعُونَةَ لَهُ عَلَى طَاعَتِهِ» (٦).

٩ ـ وقال الإمام علي عليه‌السلام ، بأنّ أخلاق الأبوين ، هي عبارةٌ عن ميراث الأبناء منهما ،

__________________

١ ـ وسائل الشيعة ، ج ١٤ ، ص ٥٣ و ٥٤.

٢ ـ تفسير مجمع البيان ، ذيل الآية ٣٠ من سورة الروم.

٣ ـ كنز العمّال ، ٤٥١٩٢.

٤ ـ وسائل الشيعة ، ج ١٥ ، ص ١٢٢ و ١٣٢.

٥ ـ كنز العمّال ، ح ٤٥٤١١.

٦ ـ بحار الأنوار ، ج ٧١ ، ص ٦ (جوامع الحقوق).

١٤٩

فيقول عليه‌السلام : «خَيرُ ما وَرَّثَ الآباءُ الأَبناءَ الأَدَبَ» (١).

١٠ ـ ونختم هذا البحث بحديثٍ آخر عن الإمام على عليه‌السلام ، حيث بيّن الإمام عليه‌السلام ، شخصيته للجهّال الذين يقيسونه بغيره ، فقال :

«وَقَدْ عَلِمْتُم مَوضِعي مِنْ رَسُولِ اللهِ بِالقَرابَةِ القَريبَةِ وَالمَنزِلَةِ الخَصِيَّةِ ، وَضَعَنِي فِي حِجْرِهِ وَأَنا وَلِيدٌ يَضُمُّنِي إِلَى صَدرِهِ ... يَرفَعُ لِي كُلَّ يَومٍ عَلَماً مِنْ أَخلاقِهِ وَيَأَمُرُنِي بِالإِقتِداءِ ..».

واللطيف في الأمر ، أنّ الإمام عليه‌السلام وفي أثناء حديثه ، بيّن قسماً من أخلاق الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال :

«وَلَقَدْ قَرَنَ اللهُ بِهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله مِن لَدُنْ أَن كانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مَنْ مَلائِكَتِهِ يَسلُكُ بِهِ طَرِيقَ المَكارِمِ وَمَحَاسِنَ أَخلاقِ العالَمِ لَيلَهُ ونَهارَهُ» (٢).

وصحيح أنّ الصفات النفسية والأخلاقيّة ، سواء كانت سيئة أم حسنة ، فهي تنبع من باطن الإنسان وإرادته ، ولكن لا يمكن إنكار معطيات البيئة وأجواء المحيط ، في تكوين وترشيد الأخلاق الحسنة والسّيئة ، وكذلك عنصر الوراثة من الوالدين والاسرة بصورة أعم ، وتوجد شواهد عينيّة كثيرة ، وأدلة قطعيّة على ذلك ، ترفع الشّك والترديد في المسألة.

وبناءً على ذلك ، ولأجل بناء مجتمعٍ صالحٍ وأفرادٍ سالمين ، علينا الإهتمام بتربية الطّفل تربيةً سليمةً ، والإنتباه لعوامل الوراثة وأخذها بنظر الإعتبار ، في واقع الحياة الفرديّة والإجتماعيّة.

٤ ـ معطيّات العلم والمعرفة في التربية

ومن العوامل الاخرى ، في عمليّة تهذيب الأخلاق وترشيدها ، هو الصعود بالمستوى

__________________

١ ـ غُرر الحِكم.

٢ ـ نهج البلاغة ، الخطبة ١٩٢ ، (الخطبة القاصعة).

١٥٠

العلمي والمعرفي للأفراد ، فإنّ التجربة أثبتت أنّ الإنسان ، كلّما إرتقى مستواه في دائرة العلوم والمعارف الإلهيّة ، أينعت سجاياه الإنسانيّة ، وتفتحت فضائله الأخلاقيّة ، والعكس صحيح ، فإنّ الجهل وفقدان المعارف الإلهيّة ، يؤثر تأثيراً شديداً على دعامات واسس الفضيلة ، ويهبط بالمستوى الأخلاقي للفرد ، في خطّ الإنحراف والباطل.

وفي بداية هذا الكتاب ، في مبحث علاقة العلم بالإخلاق ، ذكرنا أبحاثاً مختصرةً عن الأواصر الحاكمة بين هذين العاملين ، وأشرنا إلى أنّ بعض الفلاسفة والعلماء ، بالغوا في الأمر وإدعوا أنّ : «العلم يساوي الأخلاق».

وبعبارة اخرى : أنّ العلم أو الحكمة والمعرفة ، هي المنبع الرّئيسي للأخلاق ، «كما نُقل عن سقراط الحكيم» ، وأنّ الرّذائل الأخلاقيّة سببها الجهل.

فمثلاً المتكبّر والحاسد ، إنّما إبتلى بهذين الرذيلتين ، بسبب عدم علمه بواقع الحال ، فلا توجد عنده صورةٌ واضحةٌ عن أضرارهما وتبعاتهما السلبيّة ، على واقع الإنسان الدّاخلي ، ويقولون أنّه لا يوجد إنسان يخطو خطوةً نحو القبائح عن وعيٍ وعلمٍ بها.

وبناءً على ذلك ، إذا تمّ الصّعود بالمستوى العلمي لدى أفراد المجتمع ، فإنّ ذلك بإمكانه ، أن يكون عاملاً مساعداً ، لتشييد صرح الهيكل الأخلاقي السّليم في المجتمع.

وبالطّبع فإنّ هذا الكلام فيه نوع من المُغالاة والمُبالغة ، ويُنظر للمسألة من زوايةٍ خاصّةٍ ، رغم أننا لا ننكر أنّ العلم يُعدّ من العوامل المهمّة لتهيئة الأرضيّة ، وخَلقِ الأجواء الملائمة لِسيادة الأخلاق ، بناءً على ذلك فإنّ الأفراد الاميّين والجهلة ، يكونون أقرب إلى منحدر الضّلالة والخطيئة ، وأمّا العلماء الواعون ، فيكونون على بصيرةٍ من أمرهم ويبتعدون عن الرّذيلة ، من موقع الوضوح في الرّؤية ، ولا ننسى أنّ لكلّ قاعدةٍ شَواذ.

وقد ورد في القرآن الكريم هذا المعنى ، في بيان الهدف من البعثة : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(١).

__________________

١ ـ سورة الجمعة ، الآية ٢.

١٥١

وبناءً على ذلك ، فإنّ النّجاة من الضّلال المبين ، والطّهارة من الأخلاق الرّذيلة والذنوب ، تأتي بعد تلاوة الكتاب المجيد ، وتعليم الكتاب والحكمة ، وهو دليلٌ واضحٌ على وجود العلاقة والإرتباط بين الإثنين.

وقد أوردنا في الجزء الأوّل من الدّورة الاولى من نفحات القرآن الكريم ، شواهد حيّةً وكثيرةً من الآيات القرآنية ، حول علاقة العِلم والمعرفة بالفضائل الأخلاقيّة ، وكذلك علاقة الجهل بالرذائل الأخلاقيّة ، ونشير هنا بشكل مختصرٌ إلى عشرة نماذج منها :

١ ـ الجهل مصدرٌ للفساد والإنحراف

نقرأ في الآية (٥٥) من سورة الّنمل :

(أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ).

فقرن هنا الجهل ، بالإنحراف الجنسي والفساد الأخلاقي.

٢ ـ الجهل سبب للإنفلات والتّحلل الجنسي

ورد في الآية (٣٣) من سورة يوسف على لسان يوسف عليه‌السلام ، في أنّ الجهل قرينٌ للتحلل الجنسي ، فقال تعالى : (قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ).

٣ ـ الجهل أحد عوامل الحسد

ورد في الآية (٨٩) من سورة يوسف عليه‌السلام ، أنّه عند ما جلس يوسف عليه‌السلام على عرش مصر ، وتحدّث مع إخوانه الذين جاءوا من كنعان إلى مصر ، لإستلام الحنطة منه ، فقال :

(قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ).

أي أنّ جهلكم هو السبب في وقوعكم في أسر الحسد ، الذي دفعكم إلى تعذيبه ، والسّعي لقتله ، والقائه في البئر.

١٥٢

٤ ـ الجهل مصدر التّعصب والعناد واللؤم

في الآية (٢٦) من سورة الفتح ، نرى أنّ تعصّب مشركي العرب في الجاهلية ، كان بسبب جهلهم وضلالهم :

(إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ).

٥ ـ علاقة الجهل بالذرائع

تاريخ الأنبياء مليءٌ بمظاهر التبرير ، وخلق الذّرائع من قبل الأقوام السّالفة ، في مواجهة أنبيائهم ، وقد أشار القرآن الكريم مراراً إلى هذه الظاهرة ، ومرًّة اخرى يشير إلى علاقة الجهل بها ، فنقرأ في الآية (١١٨) من سورة البقرة :

(وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ).

فالتأكيد هنا على أنّ عدم العلم أو الجهل ، هو الذي يتولى خلق الأرضيّة للتذرع ، وتبيّن الآية الكريمة ، العلاقة الوثيقة بين هذا الإنحراف الأخلاقي مع الجهل ، وكما أثبتته التجارب أيضاً.

٦ ـ علاقة سوء الظنّ مع الجهل

ورد في الآية (١٥٤) من سورة آل عمران ، الكلام عن مُقاتلي احد :

(ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ».)

ولا شك في أنّ سوء الظّن ، هو من المفاسد الأخلاقيّة ، ومصدر لكثير من الرذائل الفردية والإجتماعيّة في حركة الواقع والحياة ، وهذه الآية تبيّن علاقة الظّن بالجهل بصورةٍ واضحةٍ.

٧ ـ الجهل مصدر لسوء الأدب

ورد في الآية (٤) من سورة الحجرات ، إشارةً للّذين لا يحترمون مقام النبوة ، وقال إنّهم قوم لا يعقلون :

١٥٣

(إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ).

فقد كانوا يزاحمون الرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، في أوقات الرّاحة ، وفي بيوت أزواجه ، ويُنادونه بأعلى أصواتهم قائلين : يا مُحَمِّد! يا مُحَمِّد! اخرُجُ إلَينا.

فكان الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ينزعج كثيراً من سوء أدبهم وقلّة حيائهم ، ولكن حياؤه يمنعه من البوح لهم ، وبقي كذلك يتعامل معهم من موقع الحياء ، حتى نزلت الآية ، ونبّهتهم لضرورة التأدّب أمام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وشرحت لهم كيف يتعاملون معه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، من موقع الأدب والإحترام.

وفي تعبير : (أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) ، إشارة لطيفة للسّبب الكامن وراء سوء تعاملهم ، وقلّة أدبهم وجسارتهم ، وهو في الغالب عبارةٌ عن هُبوط المستوى العلمي ، والوعي الثقافي لدى الأفراد.

٨ ـ أصحاب النّار لا يفقهون

لا شك أنّ أصحاب النّار هم أصحاب الرذائل ، والملوّثين بألوان القبائح ، وقد نوّه إليهم القرآن الكريم ، وعرّفهم بالجُهّال ، وعدم التّفقه ، ويتّضح منه العلاقة بين الجهل وإرتكاب القبائح ، فنقرأ في الآية (١٧٩) من سورة الأعراف :

(وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ).

فقد بيّنت هذه الآية وآيات كثيرةٌ اخرى ، العلاقة الوطيدة بين الجهل ، وبين أعمال السوء وإرتكاب الرذائل.

٩ ـ الصبر من معطيات العلم

الآية (٦٥) من سورة الأنفال ، تنبّه المسلمين على أنّ الصّبر الذي يقوم على أساس الإيمان والمعرفة ، بإمكانه أن يمنح المسلمين قوّة للوقوف بوجه الكفّار ، الذين يفوقون المسلمين عدداً وعدّةً ، تقول الآية :

١٥٤

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ).

نعم فإنّ جهل الكافرين ، هو السبب في عدم إستطاعتهم في الصّمود بوجه المؤمنين ، وفي مقابل ذلك فإنّ وعي المؤمنين هو السّبب في صمودهم ، بحيث يُعادل كلّ واحدٍ منهم عشرة أنفارٍ من جيش الكفّار.

١٠ ـ النّفاق والفرقة ينشآن من الجهل

أشار القرآن الكريم في الآية (١٤) من سورة الحشر إلى يهود (بني النضير) ، الذين عجزوا عن مُقاومة المسلمين ، لأنّهم كانوا مُختلفين ومُتفرقين ، رغم أنّ ظاهرهم يحكي الوحدة والإتفاق ، فقال :

(لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ).

وبناءً على ذلك فإنّ النّفاق والفرقة والتشتت ، وغيرها من الرذايل الأخلاقيّة ، الناشئة من جهلهم وعدم إطّلاعهم على حقائق الامور.

النتيجة :

تبيّن ممّا جاء في أجواء تلك العناوين العشرة السّابقة ، التي وردت في سياق بعض الآيات القرآنية ، علاقة الفضيلة بالعلم من جهة وعلاقة الرذيلة بالجهل ، من جهةٍ اخرى ، وقد ثبت لنا بالتجربة ومن خلال المشاهدة ، أنّ أشخاصاً كانوا منحرفين بسبب جهلهم ، وكانوا يرتكبون القبيح ويمارسون الرّذيلة في السّابق ، ولكنّهم إستقاموا بعد أن وقفوا على خطئهم ، وتنبّهوا إلى جهلهم ، وأقلعوا عن فعل القبائح والرذائل ، أو قلّلوها إلى أدنى حدٍّ.

والدّليل المنطقي لهذا الأمر واضح جدّاً ، وذلك لأنّ حركة الإنسان نحو التّحلي بالصّفات والكمالات الإلهيّة ، يحتاج إلى دافعٍ وقصدٍ ، وأفضل الدّوافع هو العلم بفوائد الأعمال الصّالحة ومضار القبائح ، وكذلك الإطّلاع والتعرّف على المبدأ والمعاد ، وسلوكيات الأنبياء والأولياء

١٥٥

ومذاهبهم الأخلاقية ، فكلّ ذلك بإمكانه أن يكون عاملاً مساعداً ، يسوق الإنسان للصّلاح والفلاح ، والإبتعاد عن الفساد والباطل في حركة الحياة والواقع.

وبالطّبع المراد من العلم هنا ، ليس هو الفنون والعلوم الماديّة ، لأنّه يوجد الكثير من العلماء في دائرة العلوم الدنيويّة ، ولكنّهم فاسدين ومفسدين ويتحركون في خط الباطل والإنحراف ، ولكن المقصود هو العلم والاطّلاع على القيم الإنسانية ، والتعاليم والمعارف الإلهيّة العالية ، التي تصعد بالإنسان في مدارج الكمال المعنوي والأخلاقي ، في مسيرته المعنوية.

علاقة «العلم» و «الأخلاق» في الأحاديث الإسلاميّة :

الأحاديث الإسلاميّة من جهتها ، مشحونة بالعبارات الحكيمة الّتي تبيّن العلاقة الوثيقة بين العلم والمعرفة من جهةٍ ، وبين الفضائل الأخلاقيّة من جهةٍ اخرى ، وكذلك علاقة الجهل بالرّذائل أيضاً. وهنا نستعرض بعضاً منها :

١ ـ بيّن الإمام علي عليه‌السلام علاقة المعرفة بالزهد ، الذي يُعدّ من أهمّ الفضائل الأخلاقيّة ، فقال :

«ثَمَرةُ المَعرِفَةِ العُزُوفُ عِنْ الدُّنيا» (١).

٢ ـ وَوَرد في حديثٍ آخر عنه عليه‌السلام ، قال :

«يَسيرُ المَعرِفةِ يُوجِبُ الزُّهدَ فِي الدُّنيا» (٢).

والمعرفة هنا يمكن أن تكون إشارةً لمعرفة الباري تعالى ، فكلّ شيء في مقابل ذاته المقدّسة لا قيمة له ، فما قيمة القَطرة بالنسبة للبحر ، ونفس هذا المعنى يمثّل أحد أسباب الزهد في الدنيا وزبرجها ، أو هو إشارةٌ لعدم ثبات الحياة في الدّنيا ، وفناء الأقوام السّابقة ، وهذا المعنى أيضاً يحثّ الإنسان على التّحرك في سلوكه وأفكاره ، من موقع الزّهد ، ويوجّهه نحو الآخرة والنّعيم المقيم ، أو هو إشارةٌ لجميع ما ذُكر آنفاً.

__________________

١ ـ غرر الحكم.

٢ ـ المصدر السابق.

١٥٦

٣ ـ وَوَرد عنه عليه‌السلام في حديث آخر ، بيان علاقة الغِنى الذّاتي ، وترك الحرص على الامور الدنيوية ، بالعلم والمعرفة ، فقال :

«مَنْ سَكَنَ قلْبَهُ العِلْمُ بِاللهِ سُبحانَهُ سَكَنَهُ الغِنى عَنْ الخَلْقِ» (١).

ومن الواضح أنّ الذي يعيش المعرفة ، بالصّفات الجماليّة والجلاليّة للباري تعالى ، ويرى أنّ العالم كلّه ، هو إنعكاسةٌ أو ومضةٌ ، من شمس ذاته الأزليّة الغنيّة بالذات ، فيتوكل عليه فقط ، ويرى نفسه غنيّاً عن الناس أجمعين ، في إطار هذا التوكّل والاعتماد المطلق على الله تعالى.

٤ ـ وجاء في حديث عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حول معرفة الله وعلاقتها بحفظ اللّسان من الكلام البذيء ، والبطن من الحرام ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله :

«مَنْ عَرَفَ اللهَ وَعَظَمَتَهُ مَنَعَ فاهُ مِنْ الكَلامِ وَبَطْنَهُ مِنَ الحَرامِ» (٢).

٥ ـ وَرَد عن الإمام الصّادق عليه‌السلام ، علاقة المعرفة بالخوف منه تبارك وتعالى ، الذي هو بدوره مصدر لكلّ أنواع الفضائل ، فقال :

«مَنْ عَرَفَ اللهَ خافَ اللهَ وَمَنْ خافَ اللهَ سَخَتَ نَفْسَهُ عَنِ الدُّنيا» (٣).

٦ ـ بالنّسبة للعفو وقبول العذر من الناس ، قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «أَعْرَفُ النَّاسِ بِاللهِ أَعْذَرَهُم لِلنّاسِ وإِنْ لَمْ يَجِدْ لَهُم عُذراً» (٤). (ومن البديهي أنّ هذا الحديث ناظرٌ إلى المسائل الشخصيّة ، لا المسائل الإجتماعيّة).

٧ ـ حول معرفة الله وترك التكبّر ، قال عليه‌السلام :

«وَإِنَّهُ لا يَنبَغِي لَمَنْ عَرَفَ عَظَمَةَ اللهِ أنْ يَتَعَظَّمُ» (٥).

٨ ـ حول العلم والعمل ، قال عليه‌السلام :

«لَن يُزَّكى العَمَلُ حتّى يُقارِنَهُ العِلْمُ» (٦).

__________________

١ ـ غرر الحكم.

٢ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٢٣٧.

٣ ـ المصدر السابق ، ص ٦٨ ، ح ٤.

٤ ـ غُرر الحِكم.

٥ ـ نهج البلاغة ، الخطبة ١٤٧.

٦ ـ غُرر الحِكم.

١٥٧

ومن المعلوم أنّ طهارة العمل لا تنفكّ عن طهارة الأخلاق.

٩ ـ ونقرأ في حديثٍ آخر عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حول هذا الموضوع :

«بِالعِلمِ يُطاعُ اللهُ وَيُعبَدُ وَبالعِلمِ يُعْرَفُ اللهُ وَيُوَحَّدُ وَبِهِ تُوصَلُ الأَرحامُ وَيُعْرَفُ الحَلالُ وَالحَرامُ وَالعِلمُ إِمامُ العَمَلِ». (١)

ففي هذا الحديث ، إعتبر كثيراً من السّلوكيّات الأخلاقيّة الإيجابيّة ، هي ثمرةٌ من ثمار العلم والمعرفة.

١٠ ـ ورد نفس هذا المعنى بصراحةٍ أقوى عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، أنّه قال :

«ثَمَرَةُ العَقلِ مُداراةُ النَّاسِ» (٢).

وفي مقابل الأحاديث التي تتحدث عن العلم والمعرفة ، وعلاقتها بالفضائل الأخلاقيّة توجد أحاديث شريفة اخرى ، وردت في المصادر الإسلاميّة حول علاقة الجهل بالرذائل ، وهي تأكيد آخر لموضوع بحثنا هذا ومنها :

١ ـ في حديثٍ عن علي عليه‌السلام قال : «الجَهلُ أَصلُ كُلِّ شرٍّ» (٣).

٢ ـ وورد أيضاً عنه عليه‌السلام : «الحِرصُ وَالشَّرَهُ والبُخلُ نَتِيجَةُ الجَهلِ» (٤).

لأنّ الحريص أو الطّماع ، غالباً ما يتحرك في طلب امورٍ زائدةٍ عن إحتياجه ، وفي الحقيقة فإنّ ولعه بالمال والثّروة والمواهب الماديّة ، ولعٌ غير منطقي وغير عقلائي ، وهكذا حال البخيل أيضاً فبِبُخله يحرص ، ويحافظ على أشياء لن يستفيد منها في حياته ، بل يتركها لغيره بعد موته.

٣ ـ ونقل عنه عليه‌السلام في تعبيرٍ جميلٍ :

«الجَاهِلُ صَخْرَةٌ لا يَنْفَجِرُ مائُها! وَشَجَرَةٌ لا يَخْضَرُّ عُودُها! وَأَرْضٌ لا يَظهَرُ عُشْبُها!» (٥).

__________________

١ ـ تحف العقول ، ص ٢١.

٢ ـ غُرر الحِكم.

٣ ـ المصدر السابق.

٤ ـ المصدر السابق.

٥ ـ المصدر السابق.

١٥٨

٤ ـ وَوَرد عنه عليه‌السلام أيضاً ، في إشارةٍ إلى أنّ الجاهل يعيش دائماً في حالة إفراطٍ أو تفريطٍ ، فقال :

«لا تَرى الجَاهِلَ إلّا مُفْرِطاً أو مُفَرِّطاً» (١).

فطبقاً للرأي المعروف عن علماء الأخلاق ، أنّ الفضائل الأخلاقيّة هي الحد الأوسط بين الإفراط والتفريط ، الذي ينتهي إلى السّقوط في الرذائل ، ويُستفاد من الحديث أعلاه ، أنّ العلاقة بين الجهل من جهة والرذائل الأخلاقيّة ، من جهةٍ اخرى ، هي علاقةٌ وطيدةٌ جدّاً.

٥ ـ يقول كثير من علماء الأخلاق ، أنّ الخُطوة الاولى لإصلاح الأخلاق ، وتهذيب النّفس ، هي المحافظة على اللّسان والإهتمام بإصلاحه ، وقد ورد في الأحاديث الإسلاميّة ، تأكيد على علاقة الجهل ببذاءة اللّسان ، فنقرأ في حديثٍ عن الإمام الهادي عليه‌السلام : «الجَاهِلُ أَسِيرُ لِسانِهِ» (٢).

وخُلاصة القول ، أنّ الرّوايات الإسلاميّة الكثيرة أكدت على علاقة العلم بالأخلاق الحسنة ، والجهل بالأخلاق السيّئة ، وكلّها تؤيد هذه الحقيقة ، وهي أنّ إحدى الطّرق المؤثرة لتهذيب النّفوس ، هو الصّعود بالمستوى العلمي والمعرفي لِلأفراد ، ومعرفة المبدأ والمعاد ، والعلم بمعطيات الفضائل والرذائل الأخلاقية ، في واقع الإنسان والمجتمع.

هذا الصعود بالمستوى العلمي للأفراد على نحوين :

النحو الأول : زيادة المعرفة بسلبيات السّلوك المنحرف ، والإطّلاع على أضرار الرذائل الأخلاقية بالنسبة للفرد والمجتمع ، فمثلاً عند ما يُحيط الإنسان علماً ، بأضرار المواد المخدّرة أو المشروبات الكحولية ، وأنّ أضرارها لا يمكن اصلاحها على المستوى القريب ، فذلك العلم سيهيّىء الأرضيّة في روح الإنسان ، للإقلاع عن تلك السلوكيّات المضرّة ، وبناءً عليه فكما أنّه يجب تعريف النّاس بمضرّات المخدرات ، والمشروبات الكحولية ، وعلينا تعريف النّاس بطرق مُحاربة الرّذائل وإحصاء عُيوبها ، وأساليب تنمية الفضائل ، وإستجلاء محاسنها ، ورغم أنّ ذلك لا يُمثّل العلّة التّامة لإحداث حالة التغيير ، والتّحول في الإنسان ، ولكّنه بلا شك يمهّد

__________________

١ ـ نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الرقم ٧٠.

٢ ـ بحار الانوار ، ج ٧٥ ، ص ٣٦٨.

١٥٩

ويهيّئ الأرضيّة المساعدة لذلك.

القسم الثاني : الصّعود بالمستوى العلمي بصورةٍ عامّةٍ ، فعند ما يطّلع الإنسان على المعارف الإلهيّة ، ومنها المبدأ والمعاد ، وأقوال الأنبياء والأولياء ، وما شابه ذلك ، فإنّ الإنسان سيجد في نفسه ميلاً نحو الفضائل ، ورغبةً في الإبتعاد عن الرّذائل.

وبعبارةٍ اخرى : إنّ تدنّي المستوى العلمي بالامور العقائدية ، كفيل بخلق محيطٍ مناسب لنمو الرذائل ، والعكس صحيحٌ فإنّ زيادة المعرفة تبعث في روح الإنسان الرّغبة والشّوق نحو ممارسة الفضيلة.

٥ ـ دور الثّقافة الإجتماعيّة في تربية الفضائل والرذائل :

الثّقافة عبارة عن مجموعةٍ من الامور ، التي تبني فكر وروح الإنسان ، وتمنحه الدّافع الأصلي للتحرك نحو المسائل المختلفة.

وعلى مستوى المِصداق ، تمثّل الثّقافة مجموعةً من العقائد ، والتاريخ والأدب والفن ، والآداب والرّسوم لمجتمعٍ ما.

وقد تكلمنا في السّابق عن بعض معطيات البيئة والمحيط والمعرفة ، ودورها في إيجاد الفضائل والرّذائل ، ونتطرّق الآن لباقي أقسام الثّقافة الإجتماعيّة ، ودورها في تحكيم وتقوية عناصر الخير ، ودعامات الفضائل في واقع النّفس ، أو تعميق عناصر الرّذيلة فيها.

وأحد هذه الامور ، العادات والتقاليد والسّنن لقومٍ من الأقوام ، فإذا إستوحت مقوّماتها من الفضائل ، فستكون مؤثّرة في خلق الأجواء المناسبة لتربية وتهذيب النّفوس ، وأمّا لو إسترفدت قوتها وحياتها من الرّذائل الأخلاقيّة ، فستكون البيئة مهيّئة لتقبل أنواع القبائح أيضاً.

وَوَرد في القرآن الكريم إشاراتٌ واضحةٌ في هذا المجال ، تبيّن كيفيّة إنحراف الأقوام السّابقة ، بسبب الثّقافة المنحرفة والتقاليد والأعراف المنحطة لديهم ، والّتي أدّت بهم إلى السّقوط في

١٦٠