التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٩

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٩

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0683-3
الصفحات: ٣٥٥

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدّمة

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله ، ومن والاه.

أما بعد : فهذا تفسير لسورة «طه» يأتى في أعقاب تفاسير أخرى ، لسور أخرى ...

أسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه ، ونافعا لعباده. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

المؤلف

د. محمد سيد طنطاوى

٨١
٨٢

تعريف بسورة طه

١ ـ سورة «طه» من السور المكية. وكان ترتيبها في النزول بعد سورة مريم.

قال الآلوسى : «وتسمى ـ أيضا ـ بسورة الكليم .. وآياتها ـ كما قال الداني ـ مائة وأربعون آية عند الشاميين ومائة وخمس وثلاثون عند الكوفيين ، ومائة وأربع وثلاثون عند الحجازيين» (١).

وقال القرطبي : «سورة طه ـ عليه‌السلام ـ مكية في قول الجميع ، نزلت قبل إسلام عمر ـ رضى الله عنه ـ ، فقد قيل له : إن ختنك وأختك قد صبوا ـ أى : دخلا في الإسلام ـ فأتاهما وعندهما رجل من المهاجرين .. يقال له : خباب وكانوا يقرءون «طه» ..» (٢).

٢ ـ وقد افتتحت السورة الكريمة بخطاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وببيان وظيفته ، وببيان سمو منزلة القرآن الكريم : الذي أنزله عليه ربه الذي له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى.

قال ـ تعالى ـ : (طه. ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى. إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى. تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى. الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ...).

٣ ـ ثم فصلت السورة الكريمة الحديث عن قصة موسى ـ عليه‌السلام ـ فبدأت بنداء الله ـ تعالى ـ له ، وباختياره لحمل رسالته. ثم تحدثت عن تكليفه ـ سبحانه ـ لموسى ، بالذهاب إلى فرعون.

قال ـ تعالى ـ : (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي. وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي. يَفْقَهُوا قَوْلِي. وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي. هارُونَ أَخِي. اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي. وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي).

٤ ـ ثم حكت السورة ما دار بين موسى وبين فرعون من مناقشات ومجادلات ، وكذلك ما دار بين موسى وبين السحرة الذين جمعهم فرعون لمنازلة موسى ـ عليه‌السلام ـ وكيف أن السحرة انتهى أمرهم بالإيمان ، وبقولهم لفرعون : (لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٦ ص ١٤٧.

(٢) تفسير القرطبي ج ١١ ص ١٦٣.

٨٣

وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا. إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا ، وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ ، وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى).

٥ ـ ثم بينت السورة الكريمة ما فعله بنو إسرائيل في غيبة موسى عنهم ، وكيف أن السامري قد أضلهم بأن جعلهم يعبدون عجلا له خوار ... وكيف أن موسى رجع إليهم غضبان أسفا .. فحطم العجل وأحرقه وألقاه في اليم وهو يقول : (إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً).

٦ ـ وبعد أن فصلت السورة الكريمة الحديث عن قصة موسى ـ عليه‌السلام ـ عقبت على ذلك ببيان وظيفة القرآن الكريم ، وببيان جانب من أهوال يوم القيامة ، وسوء عاقبة الكافرين ، وحسن عاقبة المؤمنين.

قال ـ تعالى ـ : (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً. وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً).

٧ ـ ثم ساقت السورة في أواخرها جانبا من قصة آدم ، فذكرت سجود الملائكة له ، ونسيانه لأمر ربه ، وقبول الله ـ تعالى ـ لتوبة آدم بعد أن وسوس له الشيطان بما وسوس ..

قال ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً. وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى. فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى).

٨ ـ ثم ختمت السورة الكريمة بأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصبر وبالإكثار من ذكر الله ـ تعالى ـ وبعدم التطلع إلى زهرة الحياة الدنيا ، وبأمر أهله بالصلاة. وبالرد على مزاعم المشركين ، وبتهديدهم بسوء العاقبة إذا ما استمروا على ضلالهم ..

قال ـ تعالى ـ : (قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا ، فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى).

٩ ـ هذا عرض إجمالى لأهم المقاصد التي اشتملت عليها سورة طه. ومن هذا العرض نرى : أن القصة قد أخذت جانبا كبيرا منها. وكذلك الحديث عن القرآن الكريم وعن يوم القيامة ، وعن أحوال الناس فيه .. قد تكرر فيها بأسلوب يهدى للتي هي أقوم ..

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

٨٤

التفسير

قال الله ـ تعالى ـ :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(طه (١) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (٢) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (٣) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (٤) الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (٦) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (٧) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى)(٨)

افتتحت السورة الكريمة بلفظ (طه) ، وهذا اللفظ أظهر الأقوال فيه أنه من الحروف المقطعة التي افتتحت بها بعض سور القرآن الكريم.

وقد بينا بشيء من التفصيل عند تفسيرنا لسور : البقرة ، وآل عمران ، والأعراف ، ويونس ... آراء العلماء في المقصود بهذه الحروف.

وقلنا ما خلاصته : لعل أقرب الأقوال إلى الصواب ، أن هذه الحروف المقطعة قد وردت في افتتاح بعض سور القرآن الكريم ، على سبيل الإيقاظ والتنبيه والتعجيز لمن عارضوا في كون القرآن من عند الله ـ تعالى ـ ، أو في كونه معجزة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دالة على صدقه فيما يبلغه عن ربه.

وقيل : إن هذا اللفظ بمعنى يا رجل في لغة بعض قبائل العرب ...

وقيل : إنه اسم للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو للسورة .. إلى غير ذلك من الأقوال التي رأينا أن نضرب عنها صفحا لضعفها (١).

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٦ ص ١٤٨.

٨٥

وقوله ـ سبحانه ـ : (ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى. إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى).

استئناف مسوق لتسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما أصابه من المشركين ، والشقاء يأتى في اللغة بمعنى التعب والعناء ، ومنه المثل القائل «أشقى من رائض مهر» أى : أتعب. ومنه قول أبى الطيب المتنبي :

ذو العقل يشقى في النعيم بعقله

وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم

أى : ما أنزلنا عليك القرآن ـ أيها الرسول الكريم ـ لكي تتعب وتجهد نفسك هما وغما بسبب إعراض المشركين عن دعوتك ، كما قال ـ تعالى ـ : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً).

وإنما أنزلناه إليك لتسعد بنزوله ، ولتبلغ آياته ، ثم بعد ذلك من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ، فأنت عليك البلاغ ونحن علينا الحساب.

ومنهم من يرى أن المقصود بالآية النهى عن المغالاة في العبادة ، فقد أثر عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قام الليل حتى تورمت قدماه فيكون المعنى : ما أنزلنا عليك القرآن لكي تهلك نفسك بالعبادة ، وتذيقها ألوان المشقة والتعب ، فإن الله ـ تعالى ـ يريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ، وما جعل عليكم في الدين من حرج.

ومنهم من يرى أن الآية مسوقة للرد على المشركين ، الذين قالوا : ما أنزل هذا القران على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا ليشقى ، فيكون المراد بالشقاء ما هو ضد السعادة.

قال القرطبي ما ملخصه : «وأصل الشقاء في اللغة العناء والتعب ، أى : ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب ، بسبب فرط تأسفك عليهم وعلى كفرهم .. أى : ما عليك إلا أن تبلغ وتنذر ..

وروى أن أبا جهل والنضر بن الحارث قالا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنك لشقى لأنك تركت دين آبائك ، فأريد الرد على ذلك بأن دين الإسلام ، وهذا القرآن هو السلم إلى نيل كل فوز ، والسبب في درك كل سعادة ، وما فيه الكفرة هو الشقاوة بعينها.

وروى أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ صلى بالليل حتى اسمغدّت قدماه ـ أى : تورمت ـ فقال له جبريل : أبق على نفسك فإن لها عليك حقا ، أى : ما أنزلنا عليك القرآن لتنهك نفسك في العبادة ، وتذيقها المشقة الفادحة ، وما بعثت إلا بالحنيفية السمحة .. (١).

ويبدو لنا أن الآية الكريمة وإن كانت تتسع لهذه المعاني الثلاثة ، إلا أن المعنى الأول

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١١ ص ١٦٨.

٨٦

أظهرها ، وأقربها إلى سياق الآيات الكريمة ، فإن قوله ـ تعالى ـ بعد ذلك : (إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى) بيان للحكمة التي من أجلها أنزل الله ـ تعالى ـ هذا القرآن.

أى : ما أنزلنا عليك يا محمد هذا القرآن لتتعب من فرط تأسفك على كفر الكافرين ، وإنما أنزلناه من أجل أن يكون (تَذْكِرَةً) أى موعظة تلين لها قلوب من يخشى عقابنا ، ويخاف عذابنا ، ويرجو ثوابنا.

وما دام الأمر كذلك فامض في طريقك ، وبلغ رسالة ربك ، ثم بعد ذلك لا تتعب نفسك بسبب كفر الكافرين ، فإنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء.

وخص ـ سبحانه ـ التذكرة بمن يخشى دون غيره ، لأن الخائف من عذاب الله ـ تعالى ـ هو وحده الذي ينتفع بهدايات القرآن الكريم وآدابه وتوجيهاته وأحكامه ووعده ووعيده .. كما قال ـ تعالى ـ : (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) وكما قال ـ سبحانه ـ : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) أى : الساعة.

ثم بين ـ سبحانه ـ مصدر القرآن الذي أنزله ـ تعالى ـ للسعادة لا للشقاء فقال : (تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى).

وقوله (تَنْزِيلاً) منصوب بفعل مضمر دل عليه قوله (ما أَنْزَلْنا ..). أى : نزل هذا القرآن تنزيلا ممن خلق الأرض التي تعيشون عليها ، وممن خلق السموات العلى ، أى : المرتفعة. جمع العليا ككبرى وكبر ، وصغرى وصغر.

ثم مدح ـ سبحانه ـ ذاته بقوله : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) أى : الرحمن ـ عزوجل ـ استوى على عرش ملكه استواء يليق بذاته بلا كيف أو تشبيه ، أو تمثيل.

قال الإمام مالك : الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، والكيف غير معقول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة.

وقد ذكر لفظ العرش في إحدى وعشرين آية من آيات القرآن الكريم.

قال بعض العلماء : «أما الاستواء على العرش فذهب سلف الأمة ـ ومنهم الأئمة الأربعة ـ إلى أنه صفة لله ـ تعالى ـ بلا كيف ولا انحصار ولا تشبيه ولا تمثيل لاستحالة اتصافه ـ تعالى ـ بصفات المحدثين ، ولوجوب تنزيهه ـ تعالى ـ عما لا يليق به : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) وأنه يجب الإيمان بها كما وردت ، وتفويض العلم بحقيقتها إليه ـ تعالى ـ .. (١).

__________________

(١) تفسير صفوة البيان ج ١ ص ٢٩٣ لفضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف.

٨٧

ثم أكد ـ سبحانه ـ شمول ملكه وقدرته فقال : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) من كائنات وموجودات ملكا وتصرفا وإحياء وإماتة ، وله (ما بَيْنَهُما) من مخلوقات لا يعلمها إلا هو وله (ما تَحْتَ الثَّرى) والثرى : هو التراب الندى. يقال : ثريت الأرض ـ كرضيت ـ إذا نديت ولانت بعد أن كانت جدباء يابسة.

والمقصود : وله ـ سبحانه ـ بجانب ما في السموات وما في الأرض وما بينهما ، ما وراء الثرى وهو تخوم الأرض وطبقاتها إلى نهايتها.

وخص ـ سبحانه ـ ما تحت الثرى بالذكر ، مع أنه داخل في قوله : (وَما فِي الْأَرْضِ) لزيادة التقرير ، ولتأكيد شمول ملكيته ـ سبحانه ـ لكل شيء.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) بيان لشمول علمه بكل شيء ، بعد بيان شمول قدرته.

والجهر بالقول : رفع الصوت به. والسر : ما حدث به الإنسان غيره بصورة خفية. وأخفى أفعل تفضيل وتنكيره للمبالغة في الخفاء.

والمعنى : وإن تجهر ـ أيها الرسول ـ بالقول في دعائك أو في مخاطبتك لربك ، فربك ـ عزوجل ـ غنى عن ذلك ، فإنه يعلم ما يحدث به الإنسان غيره سرا ، ويعلم أيضا ما هو أخفى من ذلك وهو ما يحدث به الإنسان نفسه دون أن يطلع عليه أحد من الخلق.

قال ـ تعالى ـ : (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ. أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (١).

وقال ـ سبحانه ـ : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (٢).

ومنهم من يرى أن لفظ (أَخْفى) فعل ماض. فيكون المعنى : وإن تجهر بالقول في ذكر أو دعاء فلا تجهد نفسك بذلك فإنه ـ تعالى ـ يعلم السر الذي يكون بين اثنين ، ويعلم ما أخفاه ـ سبحانه ـ عن عباده من غيوب لا يعلمها إلا هو ، ويعلم ما سيفعله الإنسان من أعمال في المستقبل ، قبل أن يعلم هذا الإنسان أنه سيفعلها.

قال الجمل : وقوله : (أَخْفى) جوزوا فيه وجهين : أحدهما : أنه أفعل تفضيل. أى : وأخفى من السر. والثاني : أنه فعل ماض. أى : وأخفى الله من عباده غيبه ، كقوله :

__________________

(١) سورة الملك الآيتان ١٣ ، ١٤.

(٢) سورة ق الآية ١٦.

٨٨

(وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) (١).

ثم أثنى ـ سبحانه ـ على ذاته بما هو أهل له فقال : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى).

أى : هو الله ـ تعالى ـ وحده الذي يجب أن يخلص الخلق له العبادة والطاعة ولا أحد غيره يستحق ذلك ، وهو صاحب الأسماء (الْحُسْنى) أى : الفضلى والعظمى ، لدلالتها على معاني التقديس والتمجيد والتعظيم والنهاية في السمو والكمال.

وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن لله تسعة وتسعين اسما ، من أحصاها دخل الجنة».

قال ـ تعالى ـ : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها ، وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٢).

وقال ـ سبحانه ـ : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى ..) (٣).

ثم ساقت السورة الكريمة بشيء من التفصيل جانبا من قصة موسى ، التي تعتبر أكثر قصص الأنبياء ورودا في القرآن الكريم ، حيث جاء الحديث عنها في سور : البقرة ، والمائدة. والأعراف. ويونس. والإسراء ، والكهف ، والشعراء ، والقصص.

وقد بدأت السورة حديثها عن قصة موسى ببيان اختيار الله ـ تعالى ـ له لحمل رسالته ، وتبليغ دعوته قال ـ تعالى ـ :

(وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (٩) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (١٠) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (١١) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٢)

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ٨٢.

(٢) سورة الأعراف الآية ١٨٠.

(٣) سورة الإسراء الآية ١١٠.

٨٩

وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (١٣) إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (١٤) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (١٥) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى)(١٦)

قال ابن كثير ـ رحمه‌الله ـ : «من هاهنا شرع ـ تبارك وتعالى ـ في ذكر قصة موسى ، وكيف كان ابتداء الوحى إليه وتكليمه إياه ، وذلك بعد ما قضى موسى الأجل الذي كان بينه وبين صهره في رعاية الغنم وسار بأهله ، قيل : قاصدا بلاد مصر بعد ما طالت الغيبة عنها أكثر من عشر سنين ، ومعه زوجته فأضل الطريق ، وكانت ليلة شاتية ، ونزل منزلا بين شعاب وجبال ، في برد وشتاء ، وسحاب وظلال وضباب ، وجعل يقدح بزند معه ليورى نارا ، كما جرت العادة به ، فجعل لا يقدح شيئا ، ولا يخرج منه شرر ولا شيء ، فبينما هو كذلك ، إذ آنس من جانب الطور نارا.

أى : ظهرت له نار من جانب الجبل الذي هناك عن يمينه ، فقال لأهله يبشرهم : (... امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ) أى : شهاب من نار .. (١).

والاستفهام في قوله ـ سبحانه ـ : (وَهَلْ أَتاكَ ..) لتقرير الخبر وتثبيته ، وهذا أبلغ عن مجيئه بصورة الخبر المجرد. لأن في الاستفهام التقريرى تطلع واشتياق لمعرفة الخبر.

والجملة الكريمة مستأنفة لتأكيد ما سبق الحديث عنه من وحدانية الله ـ تعالى ـ ولتسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما أصابه من قومه. ببيان جانب من جهاد أخيه موسى ـ عليه‌السلام ـ.

والمعنى : لقد أتاك ـ أيها الرسول الكريم ـ خبر أخيك موسى ، وقت أن رأى نارا وهو عائد ليلا من مدين إلى مصر (فَقالَ لِأَهْلِهِ) أى لامرأته ومن معها (امْكُثُوا) أى : أقيموا في مكانكم ولا تبرحوه حتى أعود إليكم.

وجملة (إِنِّي آنَسْتُ ناراً) تعليل للأمر بالمكوث ، وآنست من الإيناس بمعنى الإبصار

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ٢٧٠ طبعة دار الشعب.

٩٠

الواضح الجلى. أى : إنى أبصرت إبصارا بينا لا شبهة فيه نارا على مقربة منى ، فامكثوا في أماكنكم (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ).

والقبس : الشعلة التي تؤخذ من النار في طرف عود أو نحوه. ووزنه فعل ـ بفتح العين ـ بمعنى مفعول أى : لعلى آتيكم من هذه النار بشعلة مقتبسة منها ، ومأخوذة عنها.

وقوله : (أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً) معطوف على ما قبله.

أى : امكثوا في مكانكم حتى أذهب إلى النار التي شاهدتها ، لعلى آتيكم منها بشعلة ، أو أجد عندها هاديا يهديني الى الطريق الذي أسلكه لكي أصل إلى المكان الذي أريده.

فقوله (هُدىً) مصدر بمعنى اسم الفاعل أى : هاديا.

وقد دلت آية أخرى على أن موسى قد ذهب إلى النار ليأتى منها بما يدفئ أهله من البرد.

وهذه الآية هي قوله ـ تعالى ـ : (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً. قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً ، لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ ما حدث لموسى بعد أن اقترب من النار فقال : (فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً).

أى : فلما أتى موسى ـ عليه‌السلام ـ إلى النار ، واقترب منها .. (نُودِيَ) من قبل الله ـ عزوجل ـ (يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) الذي خلقك فسواك فعدلك .. (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) تعظيما لأمرنا. وتأدبا في حضرتنا.

وقوله (إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) تعليل للأمر بخلع النعل ، أى : أزل نعليك من رجليك لأنك الآن موجود بالوادي (الْمُقَدَّسِ) أى : المطهر المبارك ، المسمى طوى : فهو عطف بيان من الوادي.

(وَأَنَا اخْتَرْتُكَ) أى : اصطفيتك من بين أفراد قومك لحمل رسالتي ، وتبليغ دعوتي (فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى) إليك منى ، ونفذ ما آمرك به.

(إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) مستحق للعبادة والطاعة والخضوع (فَاعْبُدْنِي) عبادة خالصة لوجهي.

(وَأَقِمِ الصَّلاةَ) التي هي من أشرف العبادات ، وأفضل الطاعات (لِذِكْرِي) أى :

__________________

(١) سورة القصص الآية ٢٩.

٩١

وأدم إقامة الصلاة بخشوع وإخلاص ، ليشتد تذكرك لي. واتصالك بي ، وذلك لأن الصلاة مشتملة على الكثير من الأذكار التي فيها الثناء على ذاتى وصفاتي.

أو المعنى : وأدم الصلاة لذكرى خاصة ، بحيث تكون خالصة لوجهي ، ولا رياء فيها لأحد.

قال الآلوسى ما ملخصه : قوله : (لِذِكْرِي) الظاهر أنه متعلق بأقم ، أى : أقم الصلاة لذكرى فيها لاشتمالها على الأذكار. وقيل : المراد أقم الصلاة لذكرى خاصة لا ترائى بها ولا تشوبها بذكر غيرى .. أو لكي أذكرك بالثناء وأثيبك بها. أو لذكرى إياها في الكتب السماوية وأمرى بها. أو لأوقات ذكرى وهي مواقيت الصلاة. فاللام وقتية بمعنى عند ؛ مثلها في قوله ـ تعالى ـ (يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي).

ومن الناس من حمل الذكر على ذكر الصلاة بعد نسيانها. والمراد : أقم الصلاة عند تذكرها ..

ففي الحديث الصحيح : «من نام عن صلاة أو نسيها. فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها ، لا كفارة لها إلا ذلك ..» (١).

وخص ـ سبحانه ـ الصلاة بالذكر مع أنها داخلة في العبادة المأمور بها في قوله (فَاعْبُدْنِي) على سبيل التشريف والتكريم ، إذ الصلاة أكمل وسيلة توصل الإنسان إلى مداومة ذكر الله ـ تعالى ـ وخشيته ، لاشتمالها على ألوان متعددة من صور العبادة والطاعة ، إذ فيها قراءة للقرآن الكريم ، وفيها الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفيها تسبيح الله وتمجيده.

ثم بين ـ سبحانه ـ أن الساعة آتية لا ريب فيها فقال : (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى * فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى).

أى : إن الساعة التي هي وقت البعث والحساب والثواب والعقاب ، آتية أى : كائنة وحاصلة لا شك فيها.

وقوله (أَكادُ أُخْفِيها) أى : أقرب أن أخفى وقتها ولا أظهره لا إجمالا ولا تفصيلا ، ولو لا أن في إطلاع أصفيائى على بعض علاماتها فائدة ، لما تحدثت عنها.

قالوا : «والحكمة في إخفاء الساعة وإخفاء وقت الموت ، أن الله ـ تعالى ـ وعد بعدم قبول التوبة عند قربهما ، فلو عرف وقت الموت لاشتغل الإنسان بالمعصية إلى قرب ذلك الوقت ثم يتوب ، فيتخلص من عقاب المعصية فتعريف الموت كالإغراء بفعل المعصية ، وهو لا

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٦ ص ١٧١.

٩٢

يجوز (١).

قال الآلوسى ما ملخصه : وقوله : (أَكادُ أُخْفِيها) أقرب أن أخفى الساعة ولا أظهرها ، بأن أقول إنها آتية .. أو أريد إخفاء وقتها المعين وعدم إظهاره .. فكاد بمعنى أراد ، وإلى هذا ذهب الأخفش وغيره .. وروى عن ابن عباس أن المعنى : أكاد أخفيها من نفسي ، فكيف أظهركم عليها .. وهذا محمول على ما جرت به عادة العرب من أن أحدهم إذا أراد المبالغة في كتمان الشيء قال : كدت أخفيه عن نفسي.

وقال أبو على : المعنى أكاد أظهرها بأن أوقعها ، وهذا بناء على أن أخفيها من ألفاظ السلب بمعنى أزيل خفاءها .. (٢).

ويبدو لنا أن الإخفاء هنا على حقيقته ، وأن المقصود من الآية الكريمة إخفاء وقت مجيء الساعة عن الناس. حتى يكونوا على استعداد لمجيئها عن طريق العمل الصالح الذي ينفعهم يوم القيامة.

فحكمة الله ـ تعالى ـ اقتضت إخفاء وقت الساعة ، وعدم إطلاع أحد عليها إلا بالمقدار الذي يأذن الله ـ تعالى ـ به لرسله.

قال الإمام ابن جرير ما ملخصه : «والذي هو أولى بتأويل الآية من القول : قول من قال معناه : أكاد أخفيها من نفسي .. لأن المعروف من معنى الإخفاء في كلام العرب : الستر. يقال : قد أخفيت الشيء إذا سترته .. وإنما اخترنا هذا القول على غيره لموافقته أقوال أهل العلم من الصحابة والتابعين .. (٣).

وقوله : (لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) متعلق بآتية ، وجملة (أَكادُ أُخْفِيها) معترضة بينهما.

أى : إن الساعة آنية لا ريب فيها ، لكي تجزى كل نفس على حسب سعيها وعملها في الدنيا.

قال ـ تعالى ـ : (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) (٤).

وقال ـ سبحانه ـ : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ).

ثم حذر ـ سبحانه ـ من عدم الاستعداد للساعة. ومن الشك في إتيانها فقال :

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ٨٥.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٦ ص ١٧٢.

(٣) تفسير ابن جرير ج ١٦ ص ١١٤.

(٤) سورة الإسراء الآية ١٩.

٩٣

(فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها) أى : فلا يصرفنك عن الإيمان بها ، وعن العمل الصالح الذي ينفعك عند مجيئها (مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها) من الكافرين والفاسقين (وَاتَّبَعَ هَواهُ) في إنكارها وفي تكذيب ما يكون فيها من ثواب أو عقاب (فَتَرْدى) أى : فتهلك ، إن أنت أطعت هذا الذي لا يؤمن بها. يقال : ردى فلان ـ كرضى ـ إذا هلك ، وأرداه غيره إذا أهلكه.

فالآية الكريمة تحذير شديد من اتباع المنكرين لقيام الساعة والمعرضين عن الاستعداد لها ، بعد أن أكد ـ سبحانه ـ في آيات كثيرة أن الساعة آتية لا ريب فيها.

قال ـ تعالى ـ : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ ، وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى ، وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها ، وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) (١).

وبذلك نرى هذه الآيات الكريمة قد أثبتت وحدانية الله ـ تعالى ـ كما في قوله : (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) كما أثبتت وجوب التوجه إليه وحده بالعبادة كما في قوله ـ سبحانه ـ : (فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي). كما أثبتت أن يوم القيامة لا شك في إتيانه في الوقت الذي يريده الله ـ تعالى ـ كما قال ـ عزوجل ـ : (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ ...).

ثم بين ـ سبحانه ـ بعض التوجيهات والأوامر التي وجهها ـ عزوجل ـ إلى نبيه موسى ـ عليه‌السلام ـ كما حكى ما التمسه موسى من خالقه ـ تعالى ـ فقال :

(وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (١٧) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (١٨) قالَ أَلْقِها يا مُوسى (١٩) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (٢٠) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (٢١) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (٢٢) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (٢٣) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٢٤) قالَ

__________________

(١) سورة الحج الآيتان ٦ ، ٧.

٩٤

رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٨) وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (٢٩) هارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٣٢) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (٣٣) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (٣٤) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً)(٣٥)

الاستفهام في قوله ـ تعالى ـ : (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى) للتقرير ، لأن الله ـ تعالى ـ عالم بما في يمين موسى ، فالمقصود من هذا السؤال اعتراف موسى وإقراره بأن ما في يده إنما هي عصا فيزداد بعد ذلك يقينه بقدرة الله ـ تعالى ـ عند ما يرى العصا التي بيمينه قد انقلبت حية تسعى.

قال صاحب الكشاف : إنما سأله ـ سبحانه ـ ليريه عظم ما يخترعه ـ عز وعلا ـ في الخشبة اليابسة من قلبها حية نضاضة ـ أى تحرك لسانها في فمها ـ ، وليقرر في نفسه المباينة البعيدة بين المقلوب عنه ، والمقلوب إليه ، وينبهه على قدرته الباهرة. ونظيره أن يريك الزراد زبرة من حديد ـ أى قطعة من حديد ـ ويقول لك : ما هي؟ فتقول : زبرة حديد. ثم يريك بعد أيام لبوسا مسردا فيقول لك : هي تلك الزبرة صيرتها إلى ما ترى من عجيب الصنعة ، وأنيق السرد .. (١).

والآية الكريمة : شروع في بيان ما كلف الله ـ تعالى ـ به عبده موسى ـ عليه‌السلام ـ من الأمور المتعلقة بالخلق ، إثر حكاية ما أمر ـ سبحانه ـ به موسى من إخلاص العبادة له ، والإيمان بالساعة وما فيها من حساب وثواب وعقاب.

والمعنى : وأى شيء بيدك اليمنى يا موسى؟ فأجاب موسى بقوله ـ كما حكى القرآن عنه (قالَ هِيَ عَصايَ) أى : الشيء الذي بيميني هو عصاي .. ونسبها إلى نفسه لزيادة التحقق والتثبت من أنها خاصة به وكائنة بيده اليمنى.

ثم بين وظيفتها فقال : (أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها) أى : أعتمد عليها لتساعدنى في حال السير (وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي) أى : وأضرب بها الشجر اليابس ليسقط ، ورقة فترعاه أغنامى. يقال هش فلان الشجرة بالعصا ـ من باب رد ـ فهو يهشها هشا ، إذا ضربها بعصاه أو بما يشبهها ليتساقط ورقها. ومفعول أهش محذوف. أى : وأهش بها الشجر والورق.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٥٧.

٩٥

(وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى) والمآرب : جمع مأربة ـ بتثليث الراء ـ بمعنى حاجة. تقول : لا أرب لي في هذا الشيء ، أى : لا حاجة لي فيه.

أى : ولي في هذه العصا حاجات أخرى ، ومنافع غير التي ذكرتها.

وقد كان يكفى موسى ـ عليه‌السلام ـ في الجواب أن يقول : هي عصاي ، ولكنه أضاف إلى ذلك أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي .. لأن المقام يستدعى البسط والإطالة في الكلام ، إذ هو مقام حديث العبد مع خالقه ، والحبيب مع حبيبه.

وأجمل في قوله : (وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى) إما حياء من الله ـ تعالى ـ لطول الكلام في الجواب ، وإما رجاء أن يسأل عن هذه المآرب المجملة ، فيجيب عنها بالتفصيل تلذذا في الخطاب.

قال القرطبي : وفي هذه الآية دليل على جواب السؤال بأكثر مما سئل ، لأنه لما قال : (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى) ذكر معاني أربعة وهي : إضافة العصا إليه ، وكان حقه أن يقول عصا ، والتوكؤ ، والهش ، والمآرب المطلقة. فذكر موسى من منافع عصاه معظمها.

وفي الحديث : سئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ماء البحر فقال : «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» وسألته امرأة عن الصغير حين رفعته إليه فقالت : ألهذا حج؟ قال : «نعم ولك أجر» (١).

وقال الإمام ابن كثير عند تفسيره لقوله (وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى) : وقد تكلف بعضهم لذكر شيء من تلك المآرب التي أبهمت ، فقيل : كانت تضيء له بالليل ، وتحرس له الغنم إذا نام ، ويغرسها فتصير شجرة تظلله ، وغير ذلك من الأمور الخارقة للعادة.

والظاهر أنها لم تكن كذلك ، ولو كانت كذلك لما استنكر موسى صيرورتها ثعبانا ، ولما فر منها هاربا ، ولكن كل ذلك من الأخبار الإسرائيلية (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ : (قالَ أَلْقِها يا مُوسى) جملة مستأنفة جواب عن سؤال مقدر ، كأنه قيل : فماذا قال الله ـ تعالى ـ لموسى بعد ذلك؟.

فكان الجواب : قال ـ سبحانه ـ لموسى : اطرح يا موسى هذه العصا التي بيمينك لترى ما يكون بعد ذلك. (فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى).

أى : فامتثل موسى أمر ربه ، فألقاها على الأرض ، ونظر إليها فإذا هي قد تحولت بقدرة الله ـ تعالى ـ إلى «حية» ـ أى ثعبان عظيم ـ «تسعى» ، أى : تمشى على الأرض

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١١ ص ١٨٦ وقد تعرض لمنافع العصا فليرجع إليها من شاء.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ٢٧٣.

٩٦

بسرعة وخفة حركة ووصفها ـ سبحانه ـ هنا بأنها (حَيَّةٌ تَسْعى) ، ووصفها في سورة الشعراء بأنها (ثُعْبانٌ مُبِينٌ) (١) ووصفها في سورة النمل بأنها (تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ) (٢).

ولا تنافى بين هذه الأوصاف ، لأن الحية اسم جنس يطلق على الصغير والكبير ، والذكر والأنثى ، والثعبان : هو العظيم منها ، والجان : هو الحية الصغيرة الجسم ، السريعة الحركة.

وقد صرحت بعض الآيات أن موسى ـ عليه‌السلام ـ عند ما رأى عصاه قد تحولت إلى ذلك ، ولى مدبرا ولم يعقب. قال ـ تعالى ـ : (وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ ..).

ولكن الله ـ تعالى ـ ثبت فؤاده ، وطمأن نفسه : (قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ) أى : خذ هذه الحية التي تحولت عصاك إليها ولا تخف منها ، كما هو الشأن في الطبائع البشرية ، فإنا (سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى) أى : سنعيد هذه الحية إلى هيئتها الأولى التي كانت عليها قبل أن تصير حية تسعى ، وهي أن نعيدها بقدرتنا التي لا بعجزها شيء إلى عصا كما كانت من قبل.

فالجملة الكريمة مسوقة لتعليل وجوب الامتثال للأمر وعدم الخوف ، أى : خذها ولا تخف منها ، فإن هذه الحية سنرجعها عصا كما كانت من قبل.

وقوله ـ تعالى ـ (سِيرَتَهَا) فعلة من السّير ، وهي الحالة والهيئة التي يكون عليها الإنسان ، وهو منصوب بنزع الخافض. أى : سنعيدها إلى هيئتها وحالتها الأولى.

قالوا : ومن الحكم التي من أجلها حول الله ـ تعالى ـ العصا إلى حية تسعى : توطين قلب موسى ـ عليه‌السلام ـ على ذلك ، حتى لا يضطرب إذا ما تحولت إلى ثعبان عظيم عند ما يلقيها أمام فرعون وقومه.

فقد جرت عادة الإنسان أن يقل اضطرابه من الشيء العجيب الغريب بعد رؤيته له لأول مرة.

ثم وجه ـ سبحانه ـ أمرا آخر إلى عبده موسى فقال : (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى).

والضم : الجمع. يقال : ضم فلان أصابعه إذا جمعها. والجناح ، يطلق على العضد وعلى الجنب ، وعلى الإبط. وأصله جناح الطائر وسمى بذلك لأنه يجنحه ، أى : يميله عند الطيران ، ثم توسع فيه فأطلق على العضد وغيره.

__________________

(١) الآية ٣٢.

(٢) الآية ١٠.

٩٧

والمراد باليد هنا : كف يده اليمنى.

والسوء : الرديء والقبيح من كل شيء ، وكنى به هنا عن البرص لشدة قبحه.

والمعنى : واضمم ـ يا موسى ـ يدك اليمنى الى عضد يدك اليسرى بأن تجعلها تحته عند الإبط. ثم أخرجها فإنها تخرج (بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أى : تخرج منيرة مشرقة واضحة البياض دون أن يعلق بها أى سوء من برص أو مرض أو غيرهما ، وإنما يكون بياضها بياضا مشرقا بقدرة الله ـ تعالى ـ وإرادته.

قال الحسن البصري : أخرجها ـ والله ـ كأنها مصباح ، فعلم موسى أنه قد لقى ربه ـ تعالى ـ.

وقوله : (تَخْرُجْ بَيْضاءَ ...) جواب الأمر وهو قوله : (وَاضْمُمْ يَدَكَ).

وقوله : (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) احتراس لدفع توهم أن يكون بياضها بسبب مرض أو أذى ، وهو متعلق بتخرج.

وقوله : (آيَةً أُخْرى) أى : معجزة أخرى غير معجزة العصا التي سبق أن منحناها لك.

كما قال ـ تعالى : (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) (١).

وقوله : (لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى) ، تعليل لمحذوف ، أى : فعلنا ما فعلنا من إعطائك معجزة العصا ومعجزة اليد ، لنريك بهاتين المعجزتين بعض معجزاتنا الكبرى ، الدالة على عظيم قدرتنا ، وانفرادنا بالربوبية والأولوهية.

ثم صرح ـ سبحانه ـ بالمقصود من إعطاء موسى هاتين المعجزتين العظيمتين فقال : (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) أى : اذهب يا موسى ومعك هاتان المعجزتان ، فادعه إلى عبادتي وحدي ، ومره فليحسن إلى بنى إسرائيل ولا يعذبهم ، وانهه عن التجبر والظلم ، فإنه قد طغى وبغى وتجاوز حدود الحق والعدل ، وزعم للناس أنه ربهم الأعلى.

وهنا التمس موسى ـ عليه‌السلام ـ العون من خالقه ، لكي يتسنى له أداء ما كلفه به فقال : (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) أى : أسألك يا إلهى أن توسع صدري بنور الإيمان والنبوة ، وأن تجعله يتقبل تكاليفك بسرور وارتياح.

(وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) أى : وسهل لي ما أمرتنى به ، فإنك إن لم تحطنى بهذا التيسير ، فلا

__________________

(١) سورة القصص الآية ٣٢.

٩٨

طاقة لي بحمل أعباء هذه الرسالة.

قال صاحب الكشاف : «لما أمره بالذهاب إلى فرعون الطاغي ـ لعنه الله ـ عرف أنه كلف أمرا عظيما ، وخطبا جسيما يحتاج معه إلى احتمال مالا يحتمله إلا ذو جأش رابط ، وصدر فسيح ، فاستوهب ربه أن يشرح صدره ، ويفسح قلبه ، ويجعله حليما حمولا يستقبل ما عسى يرد عليه من الشدائد التي يذهب معها صبر الصابر .. وأن يسهل عليه في الجملة أمره الذي هو خلافة الله في أرضه ، وما يصحبها من مزاولة معاظم الشئون ، ومقاساة جلائل الخطوب. (١).

وقوله : (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي* يَفْقَهُوا قَوْلِي) دعاء ثالث تضرع به إلى خالقه ـ تعالى ـ أى : وأسألك يا رب أن تحل عقدة من لساني حتى يفهم الناس قولي لهم ، وحديثي معهم ، فهما يتأتى منه المقصود ، فمن للتبعيض ، أى : واحلل عقده كائنة من عقده.

وقد روى أنه كان بلسانه حبسة ، والأرجح أن هذا هو الذي عناه ، ويؤيده قوله ـ تعالى ـ في آية أخرى : (وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي ، إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) (٢).

قال ابن كثير : «ذلك لما كان أصابه من اللثغ ، حين عرض عليه ـ فرعون ـ التمرة والجمرة ، فأخذ الجمرة فوضعها على لسانه .. وما سأل أن يزول ذلك بالكلية ، بل حيث يزول العي ، ويحصل لهم فهم ما يريد منه وهو قدر الحاجة ولو سأل الجميع لزال ، ولكن الأنبياء لا يسألون إلا بقدر الحاجة ، ولهذا بقيت بقية.

قال الحسن البصري : سأل موسى ربه أن يحل عقدة واحدة من لسانه ، ولو سأل أكثر من ذلك لأعطى (٣).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي* هارُونَ أَخِي* اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي* وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) دعاء آخر تضرع به إلى ربه في أمر خارجى عنه ، بعد أن دعاه في أمر يتعلق بصدره ولسانه.

وقوله : (وَزِيراً) من الموازرة وهي المعاونة. يقال : وازرت فلانا موازرة ، إذا أعنته على أمره. أو من الوزر ـ بفتح الواو والزاى ـ وهو الملجأ الذي يعتصم به الإنسان لينجو من الهلاك.

أى : وأسألك ـ يا إلهى ـ أن تجعل لي «وزيرا» أى : معينا وظهيرا من أهلى في إبلاغ

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٦٠.

(٢) سورة القصص الآية ٣٤.

(٣) راجع تفسير ابن كثير ج ٥ ص ٢٧٦.

٩٩

رسالتك ، وهذا الوزير والمعين هو أخى هارون ، الذي أسألك أن تقوى به ظهري ، وأن تجعله شريكا لي في تبليغ رسالتك ، حتى نؤديها على الوجه الأكمل وكأن موسى ـ عليه‌السلام ـ قد علم من نفسه حدة الطبع ، وسرعة الانفعال ، فالتجأ إلى ربه لكي يعينه بأخيه هارون ، ليقويه ويتشاور معه في الأمر الجليل الذي هو مقدم عليه ، وهو تبليغ رسالة الله إلى فرعون الذي طغى وبغى وقال لقومه أنا ربكم الأعلى.

قال ابن عباس : نبئ هارون ساعتئذ حين نبئ موسى.

وقوله : (كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً* وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً* إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً) تعليل للدعوات الصالحات التي تضرع بها موسى إلى ربه ـ تعالى ـ.

أى : أجب ـ يا إلهى ـ دعائي بأن تشرح صدري .. وتشد بأخى هارون أزرى ، كي نسبحك تسبيحا كثيرا ، ونذكرك ذكرا كثيرا ، إنك ـ سبحانك ـ كنت وما زلت بنا بصيرا ، لا يخفى عليك شيء من أمرنا أو من أمر خلقك ، فأنت المطلع على حالنا وعلى ضعفنا ، وأنت العليم بحاجتنا إليك وإلى عونك ورعايتك.

بهذه الدعوات الخاشعات ابتهل موسى إلى ربه ، وأطال الابتهال في بسط حاجته ، وكشف ضعفه .. فماذا كانت النتيجة؟.

لقد كانت النتيجة أن أجاب الله له دعاءه ، وحقق له مطالبه ، وذكره ببعض مننه عليه فقال ـ تعالى ـ :.

(قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (٣٦) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (٣٧) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (٣٨) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (٣٩) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً

١٠٠