التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٩

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٩

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0683-3
الصفحات: ٣٥٥

وإبراهيم ـ عليه‌السلام ـ هو من أولى العزم من الرسل ، وهو الذي جعل الله في ذريته النبوة والكتاب ، وهو الذي وصفه الله ـ تعالى ـ بجملة من الصفات الكريمة ، منها قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ) (١).

أى : واذكر ـ أيها الرسول الكريم ـ للناس في هذا القرآن قصة أبيهم إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ ، لكي يعتبروا ويتعظوا ويقتدوا بهذا النبي الكريم في قوة إيمانه ، وصفاء يقينه وجميل أخلاقه.

وقوله : (إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا) استئناف مسوق لتعليل موجب الأمر في قوله : (وَاذْكُرْ).

والصديق : صيغة مبالغة من الصدق. أى : إنه كان ملازما للصدق في كل أقواله وأفعاله وأحواله ، كما كان نبيا من أولى العزم ، الذين فضلهم الله على غيرهم من الرسل الكرام.

ثم بين ـ سبحانه ـ مظاهر صدقه وإخلاصه لدعوة الحق فقال : (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً).

والظرف (إِذْ) بدل اشتمال من (إِبْراهِيمَ) وجملة (إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا) معترضة بين البدل والمبدل منه لتعظيم شأنه ـ عليه‌السلام ـ.

والتاء في قوله (يا أَبَتِ) عوض عن ياء المتكلم ، إذ الأصل با أبى ، وناداه بهذا الوصف دون أن يذكر اسمه : زيادة في احترامه واستمالة قلبه للحق.

أى : واذكر خبر إبراهيم وقت أن قال لأبيه آزر مستعطفا إياه : يا أبت لما ذا تعبد شيئا لا يسمع من يناديه. ولا يبصر من يقف أمامه ، ولا يغنى عنك شيئا من الإغناء ، لأنه لا يملك لنفسه ـ فضلا عن غيره ـ نفعا ولا ضرا.

ثم دعاه إلى اتباع الحق بألطف أسلوب فقال : (يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ) النافع الذي علمني الله ـ تعالى ـ إياه (ما لَمْ يَأْتِكَ) أنت ، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء ، (فَاتَّبِعْنِي) فيما أدعوك إليه (أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا) أى : أهدك إلى الطريق المستقيم الذي لا عوج فيه ولا اضطراب.

ثم نهاه عن عبادة الشيطان ، لأنها جهل وانحطاط في التفكير فقال : (يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ) فإن عبادتك لهذه الأصنام هي عبادة وطاعة للشيطان الذي هو عدو للإنسان.

ثم علل له هذا النهى بقوله : (إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا) أى : إن الشيطان

__________________

(١) سورة هود الآية ٧٥.

٤١

الذي أغراك بعبادة هذه الأصنام كان للرحمن عصيا ، أى : كثير العصيان ، لا يهدى الناس إلى طاعة الله ، وإنما يهديهم إلى مخالفته ومعصيته وموجبات غضبه.

ثم ختم هذا النداء بما يدل على حبه له ، وشفقته عليه فقال : (يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا).

أى : يا أبت إنى أشفق عليك من أن ينزل بك عذاب من الرحمن بسبب إصرارك على عبادة غيره ، وبذلك تصبح قرينا للشيطان في العذاب بالنار ، لأنك انقدت له ، وخالفت طريق الحق.

بهذا الأسلوب الحكيم الهادئ الرقيق ... خاطب إبراهيم أباه ، وهو يدعوه إلى عبادته ـ تعالى ـ وحده.

ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال ما ملخصه : انظر كيف رتب إبراهيم الكلام مع أبيه في أحسن اتساق ، وساقه أرشق مساق ، مع استعماله المجاملة واللطف والرفق واللين والأدب الجميل والخلق الحسن.

وذلك أنه طلب منه ـ أولا ـ العلة في خطئه. طلب منبه على تماديه ، موقظ لإفراطه وتناهيه ... حيث عبد ما ليس به حس ولا شعور.

ثم ثنى بدعوته إلى الحق مترفقا به متلطفا ، فلم يصف أباه بالجهل المفرط ، ولا نفسه بالعلم الفائق. ولكنه قال : إن معى طائفة من العلم وشيئا منه ليس معك .. ثم ثلث بتثبيطه ونهيه عما كان عليه ، بتصويره بصورة يستنكرها كل عاقل .. ثم ربع بتخويفه سوء العاقبة ، وما يجره ما هو فيه من الوبال.

ولم يخل ذلك من حسن الأدب ، حيث لم يصرح بأن العقاب لا حق له ، وأن العذاب لاصق به ، ولكنه قال : (إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ ...).

وصدر كل نصيحة من النصائح الأربع بقوله : (يا أَبَتِ) توسلا واستعطافا ... (١).

ولكن هذه النصيحة الحكيمة الغالية من إبراهيم لأبيه. لم تصادف أذنا واعية ولم تحظ من أبيه بالقبول بل قوبلت بالاستنكار والتهديد فقد قال الأب الكافر لابنه المؤمن : (أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ؟ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا).

والاستفهام في قوله (أَراغِبٌ) للإنكار والتهديد والرغبة عن الشيء : تركه عمدا زهدا فيه لعدم الحاجة إليه.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ١٩.

٤٢

ولفظ (راغِبٌ) مبتدأ ، و (أَنْتَ) فاعل سد مسد الخبر ، و (مَلِيًّا) أى : زمنا طويلا. مأخوذ من الملاوة ، وهي الفترة الطويلة من الزمان ، ويقال لليل والنهار : الملوان.

والمعنى : قال والد إبراهيم له على سبيل التهديد والوعيد ، أتارك أنت يا إبراهيم عبادة آلهتي ، وكاره لتقرب الناس إليها ، ومنفرهم منها لئن لم تنته عن هذا المسلك ، (لَأَرْجُمَنَّكَ) بالحجارة وبالكلام القبيح (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) بأن تغرب عن وجهى زمنا طويلا لا أحب أن أراك فيه.

وهكذا قابل الأب الكافر أدب ابنه المؤمن ، بالفظاظة والغلظة والتهديد والعناد والجهالة .. شأن القلب الذي أفسده الكفر.

ولكن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ لم يقابل فظاظة أبيه وتهديده بالغضب والضيق ، بل قابل ذلك بسعة الصدر. وجميل المنطق ، حيث قال له : (سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا).

أى : لك منى ـ يا أبت ـ السلام الذي لا يخالطه جدال أو أذى ، والوداع الذي أقابل فيه إساءتك إلى بالإحسان إليك. وفضلا عن ذلك فإنى (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) أى : بارّا بي ، كثير الإحسان إلى.

يقال : فلان حفى بفلان حفاوة ، إذا بالغ في إكرامه ، واهتم بشأنه.

وقد وفي إبراهيم بوعده ، حيث استمر على استغفاره لأبيه إلى أن تبين له أنه عدو لله ـ تعالى ـ فتبرأ منه كما قال ـ تعالى ـ : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ، إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (١).

ثم حكى ـ سبحانه ـ بعد ذلك أن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ عند ما رأى تصميم أبيه وقومه على الكفر والضلال ، قرر اعتزالهم والابتعاد عنهم فقال ـ تعالى ـ : (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا).

أى : وقال إبراهيم ـ أيضا ـ لأبيه : إنى بجانب استغفاري لك ، ودعوتي لك بالهداية ، فإنى سأعتزلك وأعتزل قومك ، وأعتزل عبادة أصنامكم التي تعبدونها من دون الله وأرتحل عنكم جميعا إلى أرض الله الواسعة ، وأخص ربي وخالقي بالعبادة والطاعة والدعاء ، فقد عودنى ـ سبحانه ـ أن لا يخيب دعائي وتضرعي إليه.

__________________

(١) سورة التوبة الآية ١١٤.

٤٣

وفي تصدير كلامه بلفظ (عَسى) دليل على تواضعه ، وعلى أدبه مع خالقه ـ تعالى ـ.

ثم بين ـ سبحانه ـ ما ترتب على اعتزال إبراهيم للشرك والمشركين فقال : (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ، وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا. وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا ، وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا).

أى : فحين اعتزل إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ أباه وقومه وآلهتهم الباطلة. لم نضيعه ، وإنما أكرمناه وتفضلنا عليه بأن وهبنا له إسحاق ويعقوب ليأنس بهما بعد أن فارق أباه وقومه من أجل إعلاء كلمتنا (وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا) أى : وكل واحد منهما جعلناه نبيا (وَوَهَبْنا لَهُمْ) أى : لإبراهيم وإسحاق ويعقوب (مِنْ رَحْمَتِنا) بأن جعلناهم أنبياء ومنحناهم الكثير من فضلنا وإحساننا ورزقنا.

وجعلنا لهم لسان صدق عليا ، بأن صيرنا الناس يثنون عليهم ويمدحونهم ويذكرونهم بالذكر الجميل ، لخصالهم الحميدة ، وأخلاقهم الكريمة.

وهكذا نرى أن اعتزال الشرك والمشركين ، والفسق والفاسقين ، يؤدى إلى السعادة الدينية والدنيوية ، وما أصدق قوله ـ تعالى ـ : (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا).

وخص ـ سبحانه ـ هنا اسحق ويعقوب بالذكر دون إسماعيل لأن إسماعيل سيذكر فضله بعد قليل.

ثم مدح الله ـ تعالى ـ موسى ـ عليه‌السلام ـ وهو واحد من أولى العزم من الرسل ، وينتهى نسبه إلى إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ فقال ـ تعالى ـ :

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥١) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (٥٢) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا)(٥٣)

ولفظ (مُخْلَصاً) فيه قراءتان سبعيتان ، إحداهما بفتح اللام ـ بصيغة اسم المفعول ـ أى : أخلصه الله ـ تعالى ـ لذاته ، واصطفاه ، كما قال ـ تعالى ـ : (قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي ..) (١).

__________________

(١) سورة الأعراف الآية ١٤٤.

٤٤

والثانية بكسر اللام ـ بصيغة اسم الفاعل ـ أى : كان مخلصا لنا في عبادته وطاعته.

والمعنى : واذكر ـ أيها الرسول الكريم ـ للناس خبر أخيك موسى ـ عليه‌السلام ـ إنه كان من الذين أخلصناهم واصطفيناهم لحمل رسالتنا ، وكان من الذين أخلصوا لنا وحدنا العبادة والطاعة ، وكان ـ أيضا ـ (رَسُولاً) من جهتنا لتبليغ ما أمرناه بتبليغه ، وكان كذلك (نَبِيًّا) رفيع القدر ، عالى المكانة والمنزلة ، فقد جمع الله ـ تعالى ـ له بين هاتين الصفتين الساميتين صفة الرسالة وصفة النبوة.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا) بيان لفضائل أخرى منحها الله ـ تعالى ـ لموسى ـ عليه‌السلام ـ.

والطور : جبل بين مصر وقرى مدين ، الأيمن : أى الذي يلي يمين موسى.

قال الآلوسى : «والأيمن» صفة لجانب ، لقوله ـ تعالى ـ في آية أخرى : (جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ) بالنصب. أى : ناديناه من ناحيته اليمنى ، من اليمين المقابل لليسار. والمراد به يمين موسى ، أى : الناحية التي تلى يمينه «إذ الجبل نفسه لا ميمنة له ولا ميسرة».

ويجوز أن يكون الأيمن من اليمن وهو البركة ، وهو صفة لجانب ـ أيضا ـ أى : من جانبه الميمون المبارك ...

والمراد من ندائه من ذلك الجانب : ظهور كلامه ـ تعالى ـ من تلك الجهة ، والظاهر أنه ـ عليه‌السلام ـ إنما سمع الكلام اللفظي ...» (١).

وقوله (وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا) أى : وقربناه تقريب تشريف وتكريم حالة مناجاته لنا ، حيث أسمعناه كلامنا ، واصطفيناه لحمل رسالتنا إلى الناس.

فقوله (نَجِيًّا) من المناجاة وهي المسارة بالكلام ، وهو حال من مفعول وقربناه ، أى : وقربنا موسى منا حال كونه مناجيا لنا.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا) بيان لمظهر آخر من مظاهر فضل الله ـ تعالى ـ على عبده موسى.

أى : ووهبنا لموسى من أجل رحمتنا له. وعطفنا عليه. أخاه هارون ليكون عونا له في أداء رسالته كما قال ـ تعالى ـ حكاية عنه (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي. هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي. وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ...).

وقوله : (نَبِيًّا) حال من هارون ، أى حال كونه نبيا من أنبياء الله ـ عزوجل ـ.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٦ ص ١٠٣.

٤٥

هذا ، وما ذكره الله ـ تعالى ـ هنا مجملا عن ندائه لموسى من جانب الطور الأيمن ، قد جاء مفصلا في مواطن أخرى منها قوله ـ تعالى ـ : (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ، فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ ، أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ ...) (١).

ثم ساق ـ سبحانه ـ جانبا من فضائل إسماعيل ـ عليه‌السلام ـ وهو الفرع الثاني من ذرية إبراهيم ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥٤) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا)(٥٥)

أى : واذكر في هذا الكتاب لقومك ـ أيها الرسول الكريم ـ خبر جدك إسماعيل بن إبراهيم ـ عليهما‌السلام ـ لكي يتأسوا به في صفاته الجليل ، (إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ) ويكفى للدلالة على صدق وعده ، وشدة وفائه ، أنه وعد أباه بصير على ذبحه فلم يخلف وعده. بل قال ـ كما حكى القرآن عنه ـ (يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ).

ووصف بصدق الوعد وإن كان غيره من النبيين كذلك تشريفا وتكريما له ، ولأن هذا الوصف من الأوصاف التي اكتملت شهرتها فيه.

وقد مدح الله ـ تعالى ـ الأوفياء بعهودهم في آيات كثيرة منها قوله ـ تعالى ـ (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا ، وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ، أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ).

وروى الإمام الطبراني عن ابن مسعود قال : لا يعد أحدكم صبيه ثم لا ينجز له فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «العدة دين» ...

وقال القرطبي : «والعرب تمتدح بالوفاء ، وتذم بالخلف والغدر ، وكذلك سائر الأمم ، ولقد أحسن القائل :

__________________

(١) سورة القصص الآيتان ٢٩ ، ٣٠.

٤٦

متى ما يقل حر لصاحب حاجة

نعم ، يقضها ، والحر للوعد ضامن

وقوله ـ تعالى ـ : (وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا) أى : وكان من رسلنا الذين أرسلناهم لتبليغ شريعتنا ، ومن أنبيائنا الذين رفعنا منزلتهم وأعلينا قدرهم.

قالوا : وكانت رسالته بشريعة أبيه إلى قبيلة جرهم من عرب اليمن ، الذين نزلوا على أمه هاجر بوادي مكة حين خلفها إبراهيم هي وابنها بذلك الوادي ، فسكنوا هناك حتى كبر إسماعيل وزوجوه منهم ، وأرسله الله ـ تعالى ـ إليهم» (١).

ثم وصفه الله ـ تعالى ـ بصفة كريمة ثالثة فقال : (وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ...).

أى : وكان بجانب حرصه على أداء هاتين الفريضتين ، يأمر أهله وأقرب الناس إليه بالحرص على أدائهما حتى يكون هو وأهله قدوة لغيرهم في العمل الصالح.

وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يفعل ذلك الذي أثنى الله به على نبيه إسماعيل استجابة لقوله ـ تعالى ـ : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها ..).

قال الإمام ابن كثير : «وقد جاء في الحديث عن أبى هريرة قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رحم الله رجلا قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته ، فإن أبت نضح في وجهها الماء رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها فإن أبى نضحت في وجهه الماء».

وعن أبى سعيد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا استيقظ الرجل من الليل وأيقظ امرأته فصليا ركعتين ، كتبا من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات».

ثم ختم ـ سبحانه ـ هذه الصفات الجميلة التي مدح بها نبيه إسماعيل فقال : (وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا).

أى : وكان إسماعيل عند ربه مرضى الخصال ، لاستقامته في أقواله وأفعاله ، وللصدق في وعده ، ولأمره أهله بالصلاة والزكاة ، ولا شك أن من جمع هذه المناقب كان ممن رضى الله عنهم ورضوا عنه.

ثم ختم الله هذا الحديث عن بعض الأنبياء ، بذكر جانب من قصة إدريس ـ عليه‌السلام ـ فقال :

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٥٦) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا)(٥٧)

__________________

(١) حاشية الجبل على الجلالين ج ٣ ص ٥٧.

٤٧

قال الآلوسى ما ملخصه : «وإدريس هو نبي قبل نوح وبينهما ألف سنة وهو أخنوخ ابن يرد .. بن شيث بن آدم. وهو أول من نظر في النجوم والحساب ، وأول رسول بعد آدم ...» (١).

أى : واذكر ـ أيضا ـ في الكتاب خبر إدريس ـ عليه‌السلام ـ. إنه كان ملازما للصدق ، وكان ممن شرفناهم بالنبوة.

وقوله : (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) قالوا : هو شرف النبوة والزلفى عند الله ـ تعالى ـ أو المراد برفعه إلى المكان العلى : إسكانه في الجنة ، إذ لا شرف أعلى من ذلك ..

وروى أن النابغة الجعدي لما أنشد قوله :

بلغنا السماء مجدنا وسناؤنا

وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا

قال له الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إلى أين المظهر يا أبا ليلى؟ قال : إلى الجنة. قال : أجل إن شاء الله ـ تعالى ـ.

وإلى هنا تكون السورة الكريمة قد حدثتنا عن طرف من قصص زكريا ويحيى وعيسى وإبراهيم وموسى وإسماعيل وإدريس ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وقد وصفتهم بما هم أهله من صفات كريمة ، ليتأسى الناس بهم في ذلك.

ثم تسوق السورة الكريمة بعد ذلك موازنة بين هؤلاء الأخيار ، وبين من جاءوا بعدهم من أقوامهم الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات ، وتفتح السورة باب التوبة ليدخله بصدق وإخلاص المخطئون ، حتى يكفر الله ـ تعالى ـ عنهم ما فرط منهم. قال ـ تعالى ـ :

(أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (٥٨) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (٥٩)

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٦ ص ١٠٥.

٤٨

إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (٦٠) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (٦١) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (٦٢) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا)(٦٣)

واسم الإشارة في قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ ...) يعود إلى الأنبياء المذكورين في هذه السورة. وهم عشرة أولهم في الذكر زكريا وآخرهم إدريس.

قال القرطبي : «قوله ـ تعالى ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ) يريد إدريس وحده (وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ) يريد إبراهيم وحده (وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ) يريد إسماعيل وإسحاق ويعقوب (وَ) من ذرية (إِسْرائِيلَ) يريد موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى فكان لإدريس ونوح شرف القرب من آدم ، ولإبراهيم شرف القرب من نوح ، ولإسماعيل وإسحاق ويعقوب ، شرف القرب من إبراهيم» (١).

وقوله : (وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا) معطوف على قوله (مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ) ومن للتبعيض.

أى : ومن جملة من أنعم الله عليهم ، أولئك الذين هديناهم إلى طريق الحق واجتبيناهم واخترناهم لحمل رسالتنا ووحينا.

فأنت ترى أن الله ـ تعالى ـ قد جمع لهؤلاء المنعم عليهم جملة من المزايا منها : أعمالهم الصالحة ، ومناقبهم الحميدة التي سبق الحديث عنها ، ومنها : كونهم من نسل هؤلاء المصطفين الأخيار ، ومنها أنهم ممن هداهم الله ـ تعالى ـ واصطفاهم لحمل رسالته.

وقد بين ـ سبحانه ـ في سورة النساء من أنعم عليهم بصورة أكثر شمولا فقال : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) (٢).

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١١ ص ١٢٠.

(٢) آية ٦٩.

٤٩

وقوله ـ تعالى ـ : (إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا) بيان لرقة مشاعرهم ، وشدة تأثرهم عند سماع آيات الله ـ تعالى ـ.

فالجملة الكريمة استئناف مسوق لبيان عظم خشيتهم من الله ـ تعالى ـ أو هي خبر لاسم الإشارة (أُولئِكَ) و (سُجَّداً وَبُكِيًّا) جمع ساجد وباك.

أى : أولئك الذين أنعم الله ـ تعالى ـ عليهم ، من صفاتهم أنهم إذا تتلى عليهم آيات الرحمن ، المتضمنة لتمجيده وتعظيمه وحججه .. خروا على جباههم ساجدين وباكين. وسقطوا خاضعين خاشعين خوفا ورجاء ، وتعظيما وتمجيدا لله رب العالمين.

وجمع ـ سبحانه ـ بين السجود والبكاء بالنسبة لهم ، للإشعار بأنهم مع تعظيمهم الشديد لمقام ربهم ، فهم أصحاب قلوب رقيقة ، وعواطف جياشة بالخوف من الله ـ تعالى ـ.

وفي معنى هذه الجملة الكريمة وردت آيات كثيرة ، منه قوله ـ تعالى ـ : (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً* وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً* وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ ، يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) (٢).

فهذه الآيات الكريمة تدل على أن من صفات المؤمنين الصادقين ، أنهم يتأثرون تأثرا عظيما عند سماعهم لكلام الله ـ تعالى ـ ، تأثرا يجعلهم يبكون ويسجدون وتقشعر جلودهم ، وتوجل قلوبهم ، وتلين نفوسهم.

قال ابن كثير ـ رحمه‌الله ـ : قوله ـ تعالى ـ : (إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا) أى : إذا سمعوا كلام الله المتضمن حججه ودلائله وبراهينه سجدوا لربهم خضوعا واستكانة وشكرا على ما هم فيه من نعم .. فلهذا أجمع العلماء على شرعية السجود هاهنا اقتداء بهم ، واتباعا لمنوالهم وقرأ عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ هذه الآية فسجد وقال : هذا السجود فأين البكاء» (٣).

ثم بين ـ سبحانه ـ ما حدث من الذين جاءوا بعد هؤلاء المنعم عليهم فقال : (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ ، أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا).

__________________

(١) سورة الإسراء الآيات من ١٠٧ ـ ١٠٩.

(٢) سورة المائدة الآية ٨٣.

(٣) تفسير ابن كثير ج ٣ ص ١٢٧.

٥٠

ولفظ الخلف بسكون اللام ـ الأولاد ، والواحد والجمع فيه سواء ، وأكثر ما يطلق على الأشرار والطالحين ، ومنه المثل السائر : «سكت ألفا ونطق خلفا» وقوله الشاعر :

ذهب الذين نعيش في أكنافهم

وبقيت في خلف كجلد الأجرب

والمراد بهذا اللفظ في الآية : اليهود والنصارى وغيرهم من المشركين الذين جاءوا بعد أنبيائهم ، ولكنهم خالفوا شريعتهم ، وأهملوا ما أمروهم به وما نهوهم عنه.

أما لفظ «الخلف» بفتح اللام ـ فيطلق على البدل ولدا كان أو غير ولد وأكثر استعمالاته في المدح ، ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ..».

والمعنى : فخلف من بعد أولئك الأخيار الذين أنعم الله عليهم ، خلف سوء وشر ، ومن الأدلة على سوئهم وفجورهم أنهم (أَضاعُوا الصَّلاةَ) بأن تركوها ، أو لم يؤدوها على وجهها المشروع (وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ) التي جعلتهم ينهمكون في المعاصي ، ويسارعون في اقتراف المنكرات.

وقوله (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) بيان لسوء عاقبتهم ، أى : فسوف يلقى هؤلاء المضيعون للصلاة ، المتبعون للشهوات ، خسرانا وشرا في دنياهم وآخرتهم ، بسبب ضلالهم وتنكبهم الصراط المستقيم.

فالمراد بالغىّ : الخسران والضلال. يقال : غوى فلان يغوى إذ ضل. والاسم الغواية.

وقيل : المراد بالغيّ هنا : واد في جهنم تستعيذ من حره أوديتها. وقيل : هو نهر في أسفل جهنم يسيل فيه صديد أهلها.

ثم فتح ـ سبحانه ـ للتائبين باب الرحمة فقال : (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ...).

أى : هذا العقاب الشديد للمضيعين للصلاة ، وللمتبعين للشهوات ، لكن من تاب منهم توبة نصوحا ، وآمن بالله ـ تعالى ـ حق الإيمان ، وعمل في دنياه الأعمال الصالحة.

(فَأُولئِكَ) المنعوتون بالتوبة والإيمان والعمل الصالح (يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) بفضله ـ تعالى ـ ورحمته (وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً) أى : ولا ينقصون من أجور أعمالهم شيئا.

وقوله (جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ). بدل من الجنة في قوله (فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ).

أى : هؤلاء التائبون المؤمنون العاملون للصالحات يدخلهم الله ـ تعالى ـ جنات عدن ، أى : الجنات الدائمة التي وعدهم الرحمن بدخولها ، وكان هذا الوعد في الدنيا قبل أن

٥١

يشاهدوها أو يروها.

فقوله : (بِالْغَيْبِ) حال من المفعول وهو (عِبادَهُ) أى : وعدهم بها حالة كونهم غائبين عنها ، لا يرونها ، وإنما آمنوا بوجودها بمجرد إخباره ـ سبحانه ـ لهم بذلك.

وقد أكد ـ سبحانه ـ هذا الوعد لهم في الدنيا بقوله : (إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا) أى : إنه ـ تعالى ـ كان وما زال ما وعد به عباده وهو الجنة (مَأْتِيًّا) أى : يأتيه ويصل إليه من وعده الله ـ تعالى ـ به ، لأنه ـ سبحانه ـ لا يخلف وعده.

فقوله : (مَأْتِيًّا) اسم مفعول من أتاه الشيء بمعنى جاءه ، وقيل : هو اسم مفعول بمعنى فاعل ، أى : إن وعده ـ سبحانه ـ لعباده كان آتيا لا ريب فيه.

ثم وصف ـ سبحانه ـ الجنات وأهلها بما يحمل العقلاء على العمل الصالح الذي يوصلهم إليها بفضله ـ تعالى ـ وكرمه فقال : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً ..).

واللغو : هو فضول الكلام ، وما لا قيمة له منه ، ويدخل فيه الكلام الباطل.

وقوله (إِلَّا سَلاماً) الظاهر فيه أنه استثناء منقطع ، لأن المستثنى ليس من جنس المستثنى منه.

أى : لا يسمعون فيها كلاما لغوا ، لكنهم يسمعون فيها سلاما. أى : تسليما من الملائكة عليهم ، كما قال ـ تعالى ـ : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ ..).

أو يسمعون فيها تسليما وتحية من بعضهم على بعض ، كما قال ـ تعالى ـ : (وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ).

قال الآلوسى : قوله إلا سلاما ، استثناء منقطع ، والسلام إما بمعناه المعروف.

أى : لكن يسمعون تسليم الملائكة عليهم ، أو تسليم بعضهم على بعض ، أو بمعنى الكلام السالم من العيب والنقص ، أى : لكن يسمعون كلاما سالما من العيب والنقص.

وجوز أن يكون استثناء متصلا ، وهو من تأكيد المدح بما يشبه الذم ، كما في قوله :

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

بهن فلول من قراع الكتائب

وهو يفيد نفى سماع اللغو بالطريق البرهاني الأقوى. والاتصال على هذا على طريق الفرض والتقدير ، ولو لا ذلك لم يقع موقعه من الحسن والمبالغة» (١).

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٦ ص ١١١.

٥٢

وقوله ـ تعالى ـ : (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) بيان لدوام رزقهم فيها بدون انقطاع ، إذ ليس في الجنة نهار ولا ليل ، ولا بكرة ولا عشى ...

قال القرطبي ما ملخصه قوله (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) أى : لهم ما يشتهون من المطاعم والمشارب بكرة وعشيا ، أى : في قدر هذين الوقتين ، إذ لا بكرة ثم ـ أى هناك ـ ولا عشيا .. وقيل : رزقهم فيها غير منقطع ...

وخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول من حديث أبان عن الحسن وأبى قلابة قالا : قال رجل يا رسول الله ، هل في الجنة من ليل؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وما هيجك على هذا»؟ قال : سمعت الله ـ تعالى ـ يذكر في الكتاب : (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) فقلت : الليل بين البكرة والعشى. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس هناك ليل وإنما هو ضوء ونور ، يرد الغدو على الرواح ، والرواح على الغدو ، وتأتيهم طرف الهدايا من الله لمواقيت الصلاة التي كانوا يصلون فيها في الدنيا ، وتسلم عليهم الملائكة».

ثم قال الإمام القرطبي : «وهذا في غاية البيان لمعنى الآية ...» (١).

ثم أضاف ـ سبحانه ـ إلى تعظيمه لشأن الجنة تعظيما آخر فقال : (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا).

فاسم الإشارة (تِلْكَ) يعود إلى ما تقدم من قوله : (فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ...) وقوله (جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ ..).

أى : تلك هي الجنة العظيمة الشأن ، العالية القدر ، التي نجعلها ميراثا للمؤمنين الصادقين المتقين من عبادنا ، كما قال ـ تعالى ـ : (أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ* الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ) وكما قال ـ سبحانه ـ : (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

قال صاحب الكشاف : قوله (نُورِثُ) .. أى : نبقى عليه الجنة كما نبقى على الوارث مال المورث ، ولأن الأتقياء يلقون ربهم يوم القيامة وقد انقضت أعمالهم وثمرتها باقية وهي الجنة ، فإذا أدخلهم ـ سبحانه ـ الجنة ، فقد أورثهم من تقواهم كما يورث الوارث المال من المتوفى ..» (٢).

ثم ساق ـ سبحانه ـ ما يدل على كمال قدرته ، وشمول علمه ، فقال ـ تعالى ـ :

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١١ ص ١٢٦.

(٢) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٢٨.

٥٣

(وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (٦٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا)(٦٥)

والتنزل : النزول على مهل. فإنه مطاوع نزل ـ بالتشديد ـ ، يقال : نزلته فتنزل ، إذا حدث النزول على مهل وتدرج. وقد يطلق التنزيل بمعنى النزول مطلقا ، إلا أن المناسب هنا هو المعنى الأول.

والآية الكريمة حكاية لما قاله جبريل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقد ذكر كثير من المفسرين أن الوحى احتبس عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لفترة من الوقت بعد أن سأله المشركون أسئلة تتعلق بأصحاب الكهف. وبذي القرنين وبالروح ، حتى قال المشركون : إن رب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد قلاه ـ أى : أبغضه وكرهه ـ فلما نزل جبريل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد فترة من غياب ـ قيل خمسة عشر يوما وقيل أكثر قال له : يا جبريل احتبست عنى حتى ساء ظني واشتقت إليك فقال له جبريل : إنى كنت أشوق ولكني عبد مأمور ، إذا بعثت جئت ، وإذا حبست احتبست ، وأنزل الله ـ تعالى ـ هذه الآية وسورة الضحى» (١).

وقال الآلوسى : «ولا يأبى ما تقدم في سبب النزول ما أخرجه أحمد ، والبخاري والترمذي ، والنسائي ، وجماعة ، في سببه عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لجبريل : ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا؟ فنزلت : (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ..) لجواز أن يكون صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ذلك في محاورته السابقة ـ أيضا ـ ، واقتصر في كل رواية على شيء مما وقع في المحاورة ...» (٢).

والمعنى : قال جبريل للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند ما سأله عن سبب احتباسه عنه لفترة من الوقت : يا محمد إنى ما أتنزل عليك وقتا بعد وقت ، إلا بأمر ربك وإرادته ، فأنا عبده الذي لا يعصى له أمرا ...

__________________

(١) راجع تفسير ابن جرير ج ١٦ ص ٨٧.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٦ ص ١١٤.

٥٤

(لَهُ) ـ سبحانه ـ (ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ) أى : له وحده جميع الجهات والأماكن ، وجميع الأزمان الحاضرة والماضية والمستقبلة ، وما بين ذلك ، فلا نقدر أن ننتقل من جهة إلى جهة ، أو من وقت إلى وقت إلا بأمر ربك ومشيئته.

فالجملة الكريمة مسوقة لبيان ملكية الله ـ تعالى ـ لكل شيء ، وقدرته على كل شيء وعلمه بكل شيء.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) مؤكد لما قبله من إثبات قدرة الله ـ تعالى ـ وعلمه.

أى : وما كان ربك ـ أيها الرسول الكريم ـ ناسيا أو تاركا لك أو مهملا لشأنك ، ولكنه ـ سبحانه ـ محيط بأحوالك وبأحوال جميع المخلوقات (لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ ، وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ).

قال ابن كثير : «قال ابن أبى حاتم : حدثنا يزيد بن محمد ... عن أبى الدرداء يرفعه قال : «ما أحل الله في كتابه فهو حلال ، وما حرمه فهو حرام ، وما حرمه فهو حرام ، وما سكت عنه فهو عافية ، فاقبلوا من الله عافيته ، فإن الله لم يكن لينسى شيئا» ثم تلا هذه الآية : (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) (١).

ثم قال ـ تعالى ـ : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) أى : هو رب السموات والأرض ورب ما بينهما ، وهو خالقهما وخالق كل شيء ، ومالكهما ومالك كل شيء.

وما دام الأمر كذلك : (فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ) أى : فأخلص له العبادة ووطن نفسك على أداء هذه العبادة بصبر وجلد وقوة احتمال ، فإن المداومة على طاعة الله تحتاج إلى عزيمة صادقة ، ومجاهدة للنفس الأمارة بالسوء.

والاستفهام في قوله : (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) للإنكار والنفي. والسمى بمعنى المسامى والمضاهي والنظير والشبيه.

أى : هل تعلم له نظيرا أو شبيها يستحق معه المشاركة في العبادة أو الطاعة؟ كلا ، إنك لا تعلم ذلك ، لأنه ـ سبحانه ـ هو وحده المستحق للعبادة والطاعة ، إذ هو الخالق لكل شيء والعليم بكل شيء ، والقادر على كل شيء ، وما سواه إنما هو مخلوق له ، وساجد له طوعا أو كرها ، ولا شبهة في صفة من صفاته ، فهو ـ سبحانه ـ (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٣ ص ١٣١.

٥٥

ثم ساقت السورة الكريمة بعد ذلك موقف المشركين من عقيدة البعث. فحكت أقوالهم الباطلة ، وردت عليهم بما يكبتهم وبينت أن يوم القيامة آت لا ريب فيه ، وأن النجاة في هذا اليوم للمتقين ، والعذاب والخسران للكافرين قال ـ تعالى ـ :

(وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (٦٦) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (٦٧) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (٦٨) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (٦٩) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (٧٠) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (٧١) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا)(٧٢)

ذكر كثير من المفسرين أن قوله ـ تعالى ـ : (وَيَقُولُ الْإِنْسانُ ...) نزل في أشخاص معينين.

فمنهم من يرى أن هذه الآية نزلت في «أبى بن خلف» فإنه أخذ عظما باليا ، فجعل يفتته بيده ، ويذريه في الريح ويقول : زعم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أننا نبعث بعد أن نموت ونصير مثل هذا العظم البالي ومنهم من يرى أنها نزلت في الوليد بن المغيرة ، أو في العاصي بن وائل ، أو في أبى جهل.

وعلى كل واحد من هذه الأقوال تكون أل في الإنسان للعهد ، والمراد بها أحد هؤلاء الأشخاص ، ويكون لفظ الإنسان من قبيل العام الذي أريد به الخصوص.

ومن الأساليب العربية المعروفة ، إسناد الفعل إلى المجموع ، مع أن فاعله بعضهم لا جميعهم كما يقال : بنو فلان قتلوا فلانا مع أن القاتل واحد منهم ، ومن هذا القبيل قول الفرزدق :

٥٦

فسيوف بنى عبس وقد ضربوا به

نبت بيدي ورقاء من رأس خالد

فقد أسند الضرب إلى بنى عبس ، مع أنه صرح بأن الضارب هو ورقاء الذي كان السيف بيده.

وقيل : المراد بالإنسان هنا : جماعة معينون وهم الكفرة المنكرون للبعث أو المراد : جنس الكافر المنكر للبعث.

و «إذا» في قوله : (أَإِذا ما مِتُ) منصوب بفعل مضمر دل عليه جزاء الشرط.

والمعنى : ويقول هذا الإنسان الجاهل الجحود ، المنكر للبعث والنشور ، أأعود للحياة مرة أخرى بعد موتى ، وبعد أن أكون كالعظام النخرة.

والاستفهام للإنكار والنفي ، وعبر ـ سبحانه ـ بالمضارع (يَقُولُ) لاستحضار تلك الصورة الغريبة ، وتلك الأقوال المنكرة التي صدرت عن هذا الكافر ، أو لإفادة أن هذا القول موجود ومستمر عند كثير من الكافرين.

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ حكاية عن هؤلاء الجاحدين : (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) (١).

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ. أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ) (٢).

وقد رد الله ـ تعالى ـ عليهم بما يبطل قولهم ، ويخرس ألسنتهم فقال : (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً).

والاستفهام للتوبيخ والتقريع ، والواو للعطف على مقدر.

والمعنى : أيقول هذا الإنسان ذلك القول الباطل ، ولا يتذكر أننا أوجدناه بقدرتنا من العدم ولم يكن شيئا مذكورا ، ومن المعروف عند العقلاء ، أن إعادة الإنسان إلى الحياة بعد وجوده ، أيسر من إيجاده من العدم.

فالآية الكريمة ترد على كل جاحد للبعث بدليل منطقي برهاني ، يهدى القلوب إلى الحق ، ويقنع العقول بأن البعث حق وصدق.

وفي معنى هذه الآية الكريمة جاءت آيات أخرى كثيرة منها قوله ـ تعالى ـ (وَضَرَبَ لَنا

__________________

(١) سورة ق الآية ٣.

(٢) سورة النازعات الآيات ١٠ إلى ١٢.

٥٧

مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ ، قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ..) (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) (٢).

قال الإمام ابن كثير : «وفي الحديث الصحيح ـ الذي يرويه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ربه : «يقول الله ـ تعالى ـ كذبني ابن آدم ولم يكن له أن يكذبني ، وآذاني ابن آدم ولم يكن له أن يؤذيني. أما تكذيبه لي فقوله : لن يعيدني كما بدأنى ، وليس أول الخلق أهون على من آخره.

وأما أذاه إياى فقوله : «إن لي ولدا وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد».

ثم عقب ـ سبحانه ـ على هذا التوبيخ والتقريع لهذا الإنسان الجاحد ، بقسم منه ـ سبحانه ـ على وقوع البعث والنشور ، فقال : (فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ، ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا).

والحشر : الجمع. يقال : حشر القائد جنده ، إذا جمعهم.

والمراد بالشياطين : أولئك الأشرار الذين كانوا في الدنيا يوسوسون لهم بإنكار البعث.

أى : أقسم لك بذاتى ـ أيها الرسول الكريم ـ أن هؤلاء المنكرين للبعث لنجمعنهم جميعا يوم القيامة للحساب والجزاء ، ولنجمعن معهم الشياطين الذين كانوا يضلونهم في الدنيا.

قالوا : وفائدة القسم أمران : أحدهما : أن العادة جارية بتأكيد الخبر باليمين ، والثاني : أن في إقسام الله ـ تعالى ـ باسمه ، مضافا إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم رفعا منه لشأنه ، كما رفع من شأن السموات والأرض في قوله ـ تعالى ـ : (فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) (٣).

وقوله : (ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا) تصوير حسى بليغ لسوء مصيرهم ، ونكد حالهم.

و (جِثِيًّا) جمع جاث وهو الجالس على ركبتيه. يقال : جثا فلان يجثو ويجثى جثوا وجثيا فهو جاث إذا جلس على ركبتيه ، أو قام على أطراف أصابعه. والعادة عند العرب أنهم إذا كانوا في موقف شديد ، وأمر ضنك جثوا على ركبهم.

__________________

(١) سورة يس الآيتان ٧٨ ، ٧٩.

(٢) سورة الواقعة الآية ٦٢.

(٣) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ٧٢.

٥٨

أى : فوربك لنحضرنهم يوم القيامة للحساب ومعهم شياطينهم ، ثم لنحضرنهم جميعا حول جهنم ، حالة كونهم باركين على الركب ، عجزا منهم عن القيام ، بسبب ما يصيبهم من هول يوم القيامة وشدته.

قال ـ تعالى ـ : (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً ، كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا ، الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ، هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ ، إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١).

ثم يخص ـ سبحانه ـ بالذكر المصير المفزع للمتكبرين من هؤلاء الكافرين فيقول : (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا).

والنزع : العزل والإخراج. يقال : نزع السلطان عامله ، إذا عزله وأخرجه من عمله ، والشيعة في الأصل : الجماعة من الناس يتعاونون فيما بينهم على أمر من الأمور ، يقال : تشايع القوم ، إذا تعاونوا فيما بينهم.

و (عِتِيًّا) أى : خروجا عن الطاعة والاستجابة للأمر ، يقال : عتا فلان يعتو عتوا ـ من باب قعد ـ فهو عات إذا استكبر وجاوز حدوده في العصيان والطغيان.

والمعنى : ثم لنستخرجن من كل طائفة تشايعت وتعاهدت على الكفر بالبعث ، والجحود للحق ، الذين هم أشد خروجا عن طاعتنا وامتثال أمرنا فنبدأ بتعذيبهم أولا ، لأنهم أشد من غيرهم في العتو والعناد والجحود والضلال.

قال الجمل ما ملخصه : «وأظهر الأعاريب في قوله : (أَيُّهُمْ أَشَدُّ) أن «أى» موصولة بمعنى الذي. وأن حركتها حركة بناء ـ أى هي مبنية على الضم ـ ، وأشد خبر مبتدأ مضمر.

والجملة صلة لأى. وأيهم وصلتها في محل نصب مفعولا به لننزعن. وعتيا تمييز محول عن المبتدأ المحذوف الذي هو أشد ، أى : جراءته على الرحمن أشد من جراءة غيره» (٢).

وقوله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا) بيان لشمول علمه ـ تعالى ـ بأحوال هؤلاء الجاحدين ، وبأحوال غيرهم.

و (صِلِيًّا) مصدر صلى النار ـ كرضى ـ يصلاها صليا ـ بكسر الصاد وضمها ـ إذا ذاق حرها ، واكتوى بها.

أى : ثم لنحن أعلم من كل أحد سوانا ، بالذين هم أحق بجهنم ، وباصطلاء نارها ، وبالاكتواء بحرها وسعيرها ، لأننا لا يخفى علينا شيء من أحوال خلقنا وسنجازى المتقين بما يستحقون من خير وثواب ، وسنجازى الجاحدين بما يستحقون من إهانة وعذاب.

__________________

(١) سورة الجاثية الآيتان ٢٨ ، ٢٩.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ٧٣.

٥٩

ثم بين ـ سبحانه ـ أن الجميع سيرد جهنم ، فقال : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا).

وللعلماء أقوال متعددة في المراد بقوله ـ تعالى ـ (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها).

فمنهم من يرى أن المراد بورودها : دخولها فجميع الناس مؤمنهم وكافرهم يدخلونها ، إلا أن النار تكون بردا وسلاما على المؤمنين عند دخولهم إياها ، وتكون لهيبا وسعيرا على غيرهم.

ومنهم من يرى أن المراد بورودها : رؤيتها والقرب منها والإشراف عليها دون دخولها. كما في قوله ـ تعالى ـ (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ) أى : أشرف عليه وقاربه.

ومنهم من يرى أن المراد بورودها ، خصوص الكافرين ، أى : أنهم وحدهم هم الذين يردون عليها ويدخلونها. أما المؤمنون فلا يردون عليها ولا يدخلونها.

ويبدو لنا أن المراد بالورود هنا : الدخول ، أى : دخول النار بالنسبة للناس جميعا إلا أنها تكون بردا وسلاما على المؤمنين ، وهناك أدلة على ذلك منها.

أن هناك آيات قرآنية جاء فيها الورود ، بمعنى الدخول ، ومن هذه الآيات قوله ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ. إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ. وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ. يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) (١).

ومعنى فأوردهم : فأدخلهم.

يضاف إلى ذلك أن قوله ـ تعالى ـ بعد هذه الآية : (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) قرينة قوية على أن المراد بقوله (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها ..) أى : داخلها سواء أكان مؤمنا أم كافرا ، إلا أنه ـ سبحانه ـ بفضله وكرمه ينجى الذين اتقوا من حرها ، ويترك الظالمين يصطلون بسعيرها.

كذلك مما يشهد بأن الورود بمعنى الدخول ، ما أخرجه الإمام أحمد وعبد بن حميد ؛ والترمذي ، وابن المنذر ، وابن أبى حاتم ، والحاكم ... عن أبى سمية قال : اختلفنا في الورود فقال بعضنا لا يدخلها مؤمن ، وقال آخرون يدخلونها جميعا ، ثم ينجى الله الذين اتقوا.

قال : فلقيت جابر بن عبد الله ـ رضى الله عنهما ـ فذكرت له ذلك فقال ـ وأهوى بإصبعه على أذنيه ـ صمّتا إن لم أكن سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لا يبقى بر

__________________

(١) سورة هود الآيات ص ٩٦ ، ٩٨.

٦٠