التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٩

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٩

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0683-3
الصفحات: ٣٥٥

وقال ـ سبحانه ـ : (وَكُذِّبَ مُوسى) لأنه لم يكذّب من جميع قومه وهم بنو إسرائيل. وإنما كان المكذب له هو فرعون وملأه ، وللإشارة إلى أن موسى ـ عليه‌السلام ـ قد جاء إلى الناس بآيات واضحات تدل على صدقه ، ومع ذلك فقد قوبل بالتكذيب من فرعون وملئه.

ثم بين ـ سبحانه ـ ما حل بهؤلاء من عقوبات فقال : (فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ).

والإملاء : الإمهال وفي الصحيحين عن أبى موسى الأشعرى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله ليملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته».

والنكير : اسم مصدر بمعنى الإنكار ، يقال : أنكرت على فلان فعله ، إذا ردعته وزجرته عنه.

أى : هؤلاء الأقوام الذين كذبوا أنبياءهم ، لم أعاجلهم بالعقوبة ، بل أمهلتهم وأمليت لهم ، ثم أخذتهم أخذ عزيز مقتدر ، فانظر ـ أيها العاقل ـ كيف كان إنكارى عليهم؟ لقد كان إنكارا مخيفا مهلكا (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً. وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا ، وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ ، وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (١).

وقال ـ سبحانه ـ (فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ) بالإظهار دون الإضمار ، لزيادة التشنيع عليهم والاستفهام في قوله ـ تعالى ـ : (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) للتهويل والتعجيب. أى : لقد كان إنكارا فظيعا حول حياتهم إلى موت ، وعمرانهم إلى خراب ، وغرورهم إلى ذلة وهوان .. فعلى مشركي قريش أن يعتبروا بذلك ويتعظوا .. وإلا فالعاقبة معروفة لهم.

وبعد هذا البيان المشتمل على سوء عاقبة هذه الأمم التي كذبت رسلها .. أتبع ذلك ـ سبحانه ـ ببيان مصير كثير من الأمم الظالمة فقال : (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ ، فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ ، وَقَصْرٍ مَشِيدٍ).

وكلمة «كأين» مركبة من كاف التشبيه ، ومن أى الاستفهامية المنونة ، ثم هجر معنى جزأيها وصارت كلمة واحدة بمعنى كم الخبرية المفيدة للتكثير ، ويكنى بها عن عدد مبهم فتفتقر إلى تمييز بعدها. ومميزها غالبا ما يجر بمن كما في الآية وفي غيرها. قال ـ تعالى ـ : (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ ...) (٢) ، (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) (٣).

__________________

(١) سورة العنكبوت الآية ٤٠.

(٢) سورة آل عمران الآية ١٤٦.

(٣) سورة يوسف الآية ١٠٥.

٣٢١

قال الآلوسى : وقوله : (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) منصوب بمضمر يفسره قوله ـ تعالى ـ : (أَهْلَكْناها) أى : فأهلكنا كثيرا من القرى أهلكناها .. أو مرفوع على الابتداء ، وجملة (أَهْلَكْناها) خبره.

أى : فكثير من القرى أهلكناها .. وقوله : (وَهِيَ ظالِمَةٌ) جملة حالية من مفعول أهلكنا .. (١).

ولفظ (خاوِيَةٌ) بمعنى ساقطة أو خالية. يقال خوى البيت يخوى إذا سقط أو خلا ممن يسكنه.

والعروش : جمع عرش وهو سقف البيت ، ويسمى العريش : وكل ما يهيأ ليستظل به فهو عريش.

وبئر معطلة أى : مهجورة لهلاك أهلها ، يقال : بأر فلان الأرض إذا حفرها ليستخرج منها الماء.

والمشيد : المجصص بالشّيد وهو الجصّ. يقال : شاد فلان بيته يشيده ، إذا طلاه بالشّيد.

والمعنى : وكثير من القوى أهلكناها بسبب ظلمهم وكفرهم ، فإذا ما نظرت إليها وجدتها خالية من أهلها ، وقد سقطت سقوفها على جدرانها. وكثير من الآبار التي كانت تتفجر بالماء عطلناها وصارت مهجورة ، وكثير ـ أيضا ـ من القصور المشيدة الفخمة أخليناها من أهلها. وذلك لأنهم كذبوا رسلنا ، وجحدوا نعمنا ، فدمرناهم تدميرا. وجعلنا مساكنهم من بعدهم أثرا بعد عين.

فأنت ترى أن هذه الآية الكريمة قد اشتملت على أشد ألوان الوعيد والتهديد لكفار قريش الذين كذبوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأعرضوا عن دعوته.

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً* فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً) (٢).

ثم ينتقل القرآن الكريم من هذا التهديد الشديد ، إلى التوبيخ والتقريع لهؤلاء المشركين ، الذين لا يعتبرون ولا يتعظون فيقول : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها ، أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها ..).

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٧ ص ١٦٦.

(٢) سورة الطلاق الآيتان ٨ ، ٩.

٣٢٢

والاستفهام للتوبيخ والإنكار ، والفاء للعطف على مقدر يستدعيه المقام.

والمعنى : إن مصارع الغابرين وديارهم ، يمر بها كفار قريش ، ويعرفونها ، فهم يرون في طريقهم إلى الشام قرى صالح وقرى قوم لوط .. قال ـ تعالى ـ : (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ* وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (١).

والشأن في هذه الرؤية أن تجعل صاحبها يعتبر ويتعظ ، متى كان عنده قلب يعقل ما يجب فهمه ، أو أذن تسمع ما يجب سماعه وتنفيذه ، ولكن هؤلاء الجاهلين يرون مصارع الغابرين فلا يعقلون ، ولا يعتبرون ، ويسمعون الأحاديث عن تلك الآبار المعطلة ، والقصور الخالية من سكانها ، والمنازل المهدمة ، فلا يتعظون.

وقوله ـ تعالى ـ : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) بيان لسبب انطماس بصائرهم ، وقسوة قلوبهم.

والضمير في قوله (فَإِنَّها) للقصة. أى : فإن الحال أنه لا يعتد بعمى الأبصار ، ولكن الذي يعتد به هو عمى القلوب التي في الصدور ، وهؤلاء المشركون قد أصيبوا بالعمى الذي هو أشنع عمى وأقبحه. وهو عمى القلوب عن الفهم وقبول الحق.

وذكر ـ سبحانه ـ أن مواضع القلوب في الصدور ، لزيادة التأكيد ، ولزيادة إثبات العمى لتلك القلوب التي حدد ـ سبحانه ـ موضعها تحديدا دقيقا.

قال الآلوسى : فالكلام تذييل لتهويل ما نزل بهم من عدم فقه القلب ، وأنه العمى الذي لا عمى بعده ، بل لا عمى إلا هو ، أو المعنى : إن أبصارهم صحيحة سالمة لا عمى بها. وإن العمى بقلوبهم ، فكأنه قيل : أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب ذات بصائر ، فإن الآفة ببصائر قلوبهم لا بأبصار عيونهم ، وهي الآفة التي كل آفة دونها. كأنه يحثهم على إزالة المرض وينعى عليهم تقاعدهم عنها (٢).

ثم أكد ـ سبحانه ـ انطماس بصائرهم ، حيث بين أنهم بدل أن يتوبوا إلى الله ويستغفروه ، استعجلوا العذاب فقال : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ ، وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ. وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ).

أى : أن هؤلاء الطغاة بدل أن يسيروا في الأرض فيعتبروا ويتعظوا ، أخذوا يطلبون منك ـ أيها الرسول الكريم ـ نزول العذاب عاجلا ، على سبيل الاستهزاء بك والاستخفاف بما هددناهم به ، ويقولون لك : متى هو؟.

__________________

(١) سورة الصافات الآيتان ١٣٧ ، ١٣٨.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٧ ص ١٦٧.

٣٢٣

فالجملة الكريمة (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) خبرية في اللفظ ، استفهامية في المعنى.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ) جملة حالية جيء بها لتهديدهم على استعجالهم العذاب ، أى : والحال أن الله ـ تعالى ـ لن يخلف ما وعدهم به من العذاب ، بل هو منجزه في الوقت الذي يريده هو وليس الذي يريدونه هم.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) جملة مستأنفة سيقت لبيان أن حساب الأزمان في تقدير الله ـ تعالى ـ يخالف ما يقدره البشر.

أى : دعهم ـ أيها الرسول الكريم ـ يستعجلون العذاب ، فذلك دأب الظالمين في كل حين ، وسبيل الجاهلين في كل زمان ، وأعلمهم أن الله ـ تعالى ـ لن يخلف وعده إياهم به في الوقت المحدد لذلك ، وإن يوما عنده ـ تعالى ـ كألف سنة مما يعده هؤلاء في دنياهم ، وسيأتيهم هذا اليوم الذي يطول عليهم طولا شديدا ، لما يرون فيه من عذاب مهين.

قال القرطبي : قوله ـ تعالى ـ : (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) قال ابن عباس ومجاهد : يعنى من الأيام التي خلق فيها السموات والأرض. وقال عكرمة : يعنى من أيام الآخرة ، أعلمهم الله إذ استعجلوه بالعذاب في أيام قصيرة أنه يأتيهم به في أيام طويلة. وقال الفراء : هذا وعيد لهم بامتداد عذابهم في الآخرة.

وقيل المعنى : وإن يوما في الخوف والشدة في الآخرة كألف سنة من سنى الدنيا فيها خوف وشدة .. (١).

ثم أكد ـ سبحانه ـ أن إملاءه للظالمين ، سيعقبه العذاب الأليم ، فقال : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ).

أى : وكثير من القرى الظالمة أمهلت عقوبة أهلها إلى أجل مسمى ، ثم أخذتها بعد ذلك أخذا شديدا ، جعلهم في قراهم جاثمين كأن لم يغنوا فيها ، وسيرجعون إلينا فيجدون عذابا أشد وأبقى ، إذ أن مصيرهم إلىّ لا إلى غيرى.

وبعد هذا العرض لمصارع الغابرين وبيان سنة الله ـ تعالى ـ في المكذبين ، يأمر ـ سبحانه ـ نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يرشد الناس إلى مصيرهم فيقول : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ).

أى : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ للناس ، إن وظيفتي أن أنذركم وأخوفكم من عذاب الله ، بدون التباس أو غموض.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٢ ص ٧٨.

٣٢٤

(فَالَّذِينَ آمَنُوا) وعملوا الأعمال الصالحات لهم من ربهم مغفرة واسعة ، ورزق كريم ، لا انقطاع معه ولا امتناع.

(وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ) أى : والذين بذلوا كل جهودهم في إبطال آياتنا الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا وصدق رسلنا ، وأسرعوا في تكذيبها وغالبوا المؤمنين وعارضوهم ليظهروهم بمظهر العاجز عن الدفاع عن دينهم وعن عقيدتهم.

(أُولئِكَ) الموصوفون بهذا السعى الأثيم (أَصْحابُ الْجَحِيمِ) أى : الملازمون للنار المتأججة ملازمة المالك لما يملكه.

ثم انتقلت السورة الكريمة بعد ذلك الى الحديث عن فضل الله ـ تعالى ـ على أنبيائه ورسله حيث عصمهم من كيد الشيطان ووسوسته وحفظ دعوتهم من تكذيب المكذبين ، وعبث العابثين .. فقال ـ تعالى ـ :

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٢) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)(٥٤)

قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآيات : قد ذكر كثير من المفسرين ها هنا قصة الغرانيق (١) ، وما كان من رجوع كثير من المهاجرين إلى أرض الحبشة ، ظنا منهم أن مشركي

__________________

(١) الغرانيق : المراد بها هنا الأصنام. وهي في الأصل تطلق على الذكور من طير الماء ، واحدها : غرنوق ـ بضم فسكون فضم ـ سمى به الطائر لبياضه. وقد كان المشركون يزعمون أن الأصنام تشفع لهم عند الله ـ تعالى ـ فسموها بالغرانيق تشبيها لها بالطيور التي ترتفع نحو السماء.

٣٢٥

قريش قد أسلموا.

ولكنها من طرق كلها مرسلة ، ولم أرها مسندة من وجه صحيح.

ثم قال ـ رحمه‌الله ـ : قال ابن أبى حاتم : حدثنا يونس بن حبيب ، حدثنا أبو داود ، حدثنا شعبة ، عن أبى بشر ، عن سعيد بن جبير قال : قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة سورة النجم ، فلما بلغ هذا الموضع : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى. وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى).

قال : فألقى الشيطان على لسانه : «تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن ترتجى».

قالوا : ـ أى المشركون ـ : ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم ، فسجد وسجدوا ، فأنزل الله ـ تعالى ـ هذه الآية (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ..) (١).

وجمع ـ سبحانه ـ بين الرسول والنبي ، لأن المقصود بالرسول من بعث بكتاب ، وبالنبي من بعث بغير كتاب ، أو المقصود بالرسول من بعث بشرع جديد ، وبالنبي من بعث لتقرير شرع من قبله.

ولفظة (تَمَنَّى) هنا : فسره العلماء بتفسيرين :

أولهما : أنه من التّمنّى ، بمعنى محبة الشيء ، وشدة الرغبة في الحصول عليه ، ومفعول «ألقى» محذوف والمراد بإلقاء الشيطان في أمنيته : محاولته صرف الناس عن دعوة الحق ، عن طريق إلقاء الأباطيل في نفوسهم ، وتثبيتهم على ما هم فيه من ضلال.

والمعنى : وما أرسلنا من قبلك ـ يا محمد ـ من رسول ولا نبي ، إلا إذا تمنى هداية قومه إلى الدين الحق الذي جاءهم به من عند ربه ، ألقى الشيطان الوساوس والشبهات في طريق أمنيته لكي لا تتحقق هذه الأمنية ، بأن يوهم الشيطان الناس بأن هذا الرسول أو النبي ساحر أو مجنون ، أو غير ذلك من الصفات القبيحة التي برأ الله ـ تعالى ـ منها رسله وأنبياءه.

قال ـ تعالى ـ : (كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ* أتَواصَوْا بِهِ ، بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) (٢).

والآية الكريمة على هذا التفسير واضحة المعنى ، ويؤيدها الواقع ، إذ أن كل رسول أو نبي بعثه الله ـ تعالى ـ كان حريصا على هداية قومه ، وكان يتمنى أن يؤمنوا جميعا ، بل إن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كاد يهلك نفسه هما وغما بسبب إصرار قومه على الكفر.

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٥ ص ٤٢٨ طبعة دار الشعب.

(٢) سورة الذاريات الآيتان ٥٢ ، ٥٣.

٣٢٦

قال ـ تعالى ـ : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) (١).

إلا أن قوم كل رسول أو نبي منهم من آمن به. ومنهم من أعرض عنه بسبب إغراء الشيطان لهم ، وإيهامهم بأن ما هم عليه من ضلال هو عين الهدى.

وإلى هذا التفسير أشار صاحب الكشاف بقوله : «قوله ـ تعالى ـ : (مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍ) دليل بين على تغاير الرسول والنبي. والفرق بينهما أن الرسول من الأنبياء : من جمع إلى المعجزة الكتاب المنزل عليه والنبي غير الرسول : من لم ينزل عليه كتاب وإنما أمر أن يدعو الناس إلى شريعة من قبله.

والسبب في نزول هذه الآية أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أعرض عنه قومه وشاقوه ، وخالفته عشيرته ولم يشايعوه على ما جاء به : تمنى لفرط ضجره من إعراضهم ، ولحرصه وتهالكه على إسلامهم أن لا ينزل عليه ما ينفرهم ، لعله يتخذ ذلك طريقا إلى استمالتهم واستنزالهم عن غيهم وعنادهم (٢).

أما التفسير الثاني للفظ (تَمَنَّى) فهو أنه بمعنى قرأ وتلا. ومنه قول حسان بن ثابت ، في رثاء عثمان بن عفان رضى الله عنه :

تمنى كتاب الله أول ليله

وآخره لاقى حمام المقادر

أى : قرأ وتلا كتاب الله في أول الليل. وفي آخر الليل وافاه أجله.

ومفعول (أَلْقَى) على هذا المعنى محذوف ـ أيضا ـ والمراد بما يلقيه الشيطان في قراءته : ما يلقيه في معناها من أكاذيب وأباطيل ، ليصد الناس عن اتباع ما يقرؤه الرسول وما يتلوه ، وليس المراد أنه يلقى فيها ما ليس منها بالزيادة أو بالنقص ، فإن ذلك محال بالنسبة لكتاب الله ـ تعالى ـ الذي تكفل ـ سبحانه ـ بحفظه فقال : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (٣).

والمعنى : وما أرسلنا من قبلك ـ أيها الرسول الكريم ـ من رسول ولا نبي إلا إذا قرأ شيئا مما أنزلناه عليه ، ألقى الشيطان في معنى قراءته الشبه والأباطيل ، ليصد الناس عن اتباع ما يتلوه عليهم هذا الرسول أو النبي.

قال الآلوسى ـ رحمه‌الله ـ : والمعنى : وما أرسلنا من قبلك رسولا ولا نبيا ، إلا وحاله أنه

__________________

(١) سورة الكهف الآية ٦.

(٢) تفسير الكشاف ج ٣ ص ١٦٤.

(٣) سورة الحجر الآية ٩.

٣٢٧

إذا قرأ شيئا من الآيات ، ألقى الشيطان الشبه والتخيلات فيما يقرؤه على أوليائه ، ليجادلوه بالباطل ، ويردوا ما جاء به ، كما قال ـ تعالى ـ (... وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ ...) (١). وقال ـ سبحانه ـ : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً ..) (٢).

وهذا كقولهم عند سماع قراءة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ) : إن محمدا يحل ذبيحة نفسه ويحرم ما ذبحه الله. وكقولهم عند سماع قراءته لقوله ـ تعالى ـ (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ. حَصَبُ جَهَنَّمَ ..) (٣) إن عيسى قد عبد من دون الله ، وكذلك الملائكة قد عبدوا من دون الله. (٤).

والآية الكريمة (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) على هذا التفسير ـ أيضا ـ واضحة المعنى ، إذ المراد بما يلقيه الشيطان في قراءة الرسول أو النبي ، تلك الشبه والأباطيل التي يلقيها في عقول الضالين ، فيجعلهم يؤولونها تأويلا سقيما ويفهمونها فهما خاطئا.

وقوله ـ تعالى ـ : (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) بيان لسنته ـ سبحانه ـ التي لا تتخلف في إحقاق الحق. وإبطال الباطل.

وقوله (فَيَنْسَخُ) من النسخ بمعنى الإزالة. يقال : نسخت الشمس الظل إذا أزالته.

أى : فيزيل ـ سبحانه ـ بمقتضى قدرته وحكمته ما ألقاه الشيطان في القلوب التي شاء الله ـ تعالى ـ لها الإيمان والثبات على الحق ثم يحكم ـ سبحانه ـ آياته بأن يجعلها متقنة ، لا تقبل الرد ، ولا تحتمل الشك في كونها من عنده ـ عزوجل ـ والله عليم بجميع شئون خلقه ، حكيم في كل أقواله وأفعاله وتصرفاته.

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك أن الحكمة في إلقاء الشيطان لشبهه وضلالته هي امتحان الناس فقال : (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ ...).

أى : فعل ما فعل ـ سبحانه ـ ليجعل ما يلقيه الشيطان من تلك الشبه في القلوب فتنة واختبارا وامتحانا ، للذين في قلوبهم مرض ، أى : شك وارتياب ، وهم المنافقون ، وللذين قست قلوبهم ، وهم الكافرون المجاهرون بالجحود والعناد.

فقوله ـ تعالى ـ : (لِيَجْعَلَ ..) متعلق ب (أَلْقَى) أى : ألقى الشيطان في أمنية الرسل والأنبياء ليجعل الله ـ تعالى ـ ذلك الإلقاء فتنة للذين في قلوبهم مرض.

__________________

(١) سورة الأنعام الآية ١٢١.

(٢) سورة الأنعام الآية ١١٢.

(٣) سورة الأنبياء الآية ٩٨.

(٤) تفسير الآلوسى ج ١٧ ص ١٧٣.

٣٢٨

ومعنى كونه فتنة لهم : أنه سبب لتماديهم في الضلال ، وفي إصرارهم على الفسوق والعصيان.

ثم بين ـ سبحانه ـ سوء عاقبة الفريقين فقال : (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ) ، وهم من في قلوبهم مرض ، ومن قست قلوبهم (لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) أى لفي خلاف للحق شديد. بسبب نفاقهم وكفرهم.

ثم بين ـ سبحانه ـ حكمة أخرى لما فعله الشيطان من إلقاء الشبه والوساوس في القلوب فقال :

(وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ ، فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ).

والضمير في (أَنَّهُ) يعود إلى ما جاء به الرسل والأنبياء من عند ربهم.

أى : وفعل ما فعل ـ سبحانه ـ أيضا ، ليعلم العلماء من عباده ، الذين حبب ـ سبحانه ـ إليهم الإيمان ، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان ، أن ما جاء به الرسل والأنبياء هو الحق الثابت من ربك ، فيزدادوا إيمانا به (فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ) أى : فتخضع وتسكن وتطمئن إليه نفوسهم.

و (وَإِنَّ اللهَ) ـ تعالى ـ (لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا) به وصدقوا أنبياءه ورسله (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) يوصلهم إلى السعادة في الدنيا والآخرة.

هذا ، وقد أبطل العلماء ـ قديما وحديثا ـ قصة الغرانيق ، ومن العلماء القدماء الذين تصدوا لهذا الإبطال الإمام الفخر الرازي ، فقد قال ما ملخصه : قصة الغرانيق باطلة عند أهل التحقيق ، واستدلوا على بطلانها بالقرآن والسنة والمعقول.

أما القرآن فمن وجوه منها قوله ـ تعالى ـ : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ* لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ* ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) (١) وقوله ـ سبحانه ـ : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (٢) ، وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي ، إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ ..) (٣).

وأما السنة ، فقد قال الإمام البيهقي : هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل وأيضا فقد روى البخاري في صحيحه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ سورة «والنجم» وسجد فيها المسلمون والمشركون والإنس والجن ، وليس فيه حديث الغرانيق. وروى هذا الحديث من طرق كثيرة وليس فيها ألبتة حديث الغرانيق.

__________________

(١) سورة الحاقة الآيات ٤٤ ـ ٤٦.

(٢) سورة النجم الآيتان ٣ ، ٤.

(٣) سورة يونس الآية ١٥.

٣٢٩

وأما المعقول فمن وجوه منها : أن من جوز على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعظيم الأوثان فقد كفر ، لأن من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان نفى الأوثان.

ومنها : أننا لو جوزنا ذلك لارتفع الأمان عن شرعه .. فإنه لا فرق في العقل بين النقصان عن الوحى وبين الزيادة فيه.

فبهذه الوجوه عرفنا على سبيل الإجمال أن هذه القصة موضوعة. أكثر ما في الباب أن جمعا من المفسرين ذكرها. لكنهم ما بلغوا حد التواتر. وخبر الواحد لا يعارض الدلائل النقلية والعقلية المتواترة (١).

وقال بعض العلماء ما ملخصه : اعلم أن مسألة الغرانيق مع استحالتها شرعا ، ودلالة القرآن على بطلانها ، لم تثبت من طريق صالح للاحتجاج به ، وصرح بعد ثبوتها خلق كثير من علماء الحديث كما هو الصواب.

والحاصل : أن القرآن دل على بطلانها ، ولم تثبت من جهة النقل ، مع استحالة الإلقاء على لسانه صلى‌الله‌عليه‌وسلم شرعا ولو على سبيل السهو.

والذي يظهر لنا أنه الصواب : هو أن ما يلقيه الشيطان في قراءة النبي : الشكوك والوساوس المانعة من تصديقها وقبولها ، كإلقائه عليهم أنها سحر أو شعر أو أساطير الأولين ..

والدليل على هذا المعنى : أن الله ـ تعالى ـ بين أن الحكمة في الإلقاء المذكور امتحان الخلق ، لأنه قال : (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ ...) ثم قال : (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ...) فهذا يدل على أن الشيطان يلقى عليهم ، أن الذي يقرؤه النبي ليس بحق ، فيصدقه الأشقياء ، ويكذبه المؤمنون الذين أوتوا العلم ، ويعلمون أنه الحق لا الكذب ، كما يزعم لهم الشيطان في إلقائه ...» (٢).

ثم بين ـ سبحانه ـ أن الكافرين سيستمرون على شكهم في القرآن حتى تأتيهم الساعة ، وأنه ـ تعالى ـ سيحكم بين الناس يوم القيامة ، فيجازى الذين أساءوا بما عملوا. ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى. فقال ـ عزوجل ـ :

(وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ(٥٥)

__________________

(١) راجع تفسير الفخر الرازي ج ٦ ص ١٦٧.

(٢) تفسير أضواء البيان ج ٥ ص ٧٣١ لفضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطى وراجع تفسير الآلوسى ج ١٧ ص ١٧٥.

٣٣٠

الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٥٦) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٥٧) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٥٨) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ)(٥٩)

قال الجمل : «لما ذكر ـ سبحانه ـ حال الكافرين أولا ، ثم حال المؤمنين ثانيا ، عاد إلى شرح حال الكافرين ، فهو رجوع لقوله : (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) والمرية بالكسر والضم. لغتان مشهورتان (١).

والضمير في قوله : (مِنْهُ) يعود إلى القرآن الكريم ، أو إلى ما جاء به الرسول من عند ربه ، وقيل إلى ما ألقاه الشيطان.

وقد رجح ابن جرير كونه للقرآن فقال : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : هي كناية من ذكر القرآن الذي أحكم الله آياته وذلك أن لك من ذكر قوله : (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ..) أقرب منه من ذكر قوله (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ..) (٢).

والمعنى ولا يزال الذين كفروا في شك وريب مما أوحاه الله إليك من قرآن ، بسبب قسوة قلوبهم ، واستيلاء الجحود والعناد على نفوسهم.

وسيستمرون على هذه الحال (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ) أى : القيامة (بَغْتَةً) أى : فجأة (أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) أى : لا مثل له في هوله وشدة عذابه ولا يوم بعده ، إذ كل يوم يلد ما بعده عن الأيام إلا هذا اليوم وهو يوم القيامة فإنه لا يوم بعده.

قال ابن كثير : «وقوله : (أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) قال مجاهد : قال أبى بن كعب : هو يوم بدر.

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ١٧٦.

(٢) تفسير ابن جرير ج ١٧ ص ١٣٥.

٣٣١

وكذا قال عكرمة وسعيد بن جبير وقتادة وغير واحد واختاره ابن جرير.

وفي رواية عن عكرمة ومجاهد هو يوم القيامة لا ليلة له ، وكذا قال الضحاك والحسن.

وهذا القول هو الصحيح ، وإن كان يوم بدر من جملة ما أو عدوا به ، لكن هذا هو المراد ، ولهذا قال : (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) كقوله : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ مظاهر قدرته ، وشمول قهره لغيره فقال : (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ ..) والتنوين في قوله (يَوْمَئِذٍ) عوض عن جملة.

أى : السلطان القاهر ، والتصرف الكامل ، يوم تأتيهم الساعة بغتة ، أو يوم يأتيهم عذابها يكون لله ـ تعالى ـ وحده ، كما أن الحكم بين الناس جميعا يكون له وحده ـ سبحانه ـ (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا) الأعمال (الصَّالِحاتِ) يكونون في هذا اليوم (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) التي جاءتهم بها رسلنا (فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) أى : لهم عذاب ينالون بسببه ما ينالون من هوان وذل.

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا) من ديارهم (فِي سَبِيلِ) إعلاء كلمة الله ونصرة دينه (ثُمَّ قُتِلُوا) أى : قتلهم الكفار في الجهاد (أَوْ ماتُوا) أى : على فراشهم.

هؤلاء وهؤلاء (لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ) ـ تعالى ـ بفضله وكرمه (رِزْقاً حَسَناً) يرضيهم ويسرهم يوم يلقونه. حيث يبوئهم جنته.

قال ـ تعالى ـ : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ..) (٢).

وقال ـ سبحانه ـ (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ) (٣).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) تذييل قصد به بيان أن عطاءه ـ سبحانه ـ فوق كل عطاء ، لأنه يرزق من يشاء بغير حساب ، ويعطى من يشاء دون أن ينازعه منازع ، أو يعارضه معارض ، أو ينقص مما عنده شيء.

وقوله ـ تعالى ـ : (لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ ..) استئناف مقرر لما قبله.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ٤٤٢.

(٢) سورة آل عمران الآية ١٦٩.

(٣) سورة النساء آية ١٠٠.

٣٣٢

و «مدخلا» أى : إدخالا ، من أدخل يدخل ـ بضم الياء ـ وهو مصدر ميمى للفعل الذي قبله ، والمفعول محذوف.

أى : ليدخلنهم الجنة إدخالا يرضونه.

وقرأ نافع (مُدْخَلاً) ـ بفتح الميم ـ على أنه اسم مكان أريد به الجنة ، أى : ليدخلنهم مكانا يرضونه وهو الجنة.

(وَإِنَّ اللهَ) ـ تعالى ـ (لَعَلِيمٌ) بالذي يرضيهم ، وبالذي يستحقه كل إنسان من خير أو شر (حَلِيمٌ) فلا يعاجل بالعقوبة ، بل يستر ويعفو عن كثير.

ثم بشر ـ سبحانه ـ عباده الذين يقع عليهم العدوان بالنصر على من ظلمهم ، فقال ـ تعالى ـ :

(ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٦٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٦١) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ)(٦٢)

واسم الإشارة ذلك ، في قوله ـ تعالى ـ (ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ).

يعود إلى ما ذكره ـ سبحانه ـ قبل ذلك من أن الملك له يوم القيامة ، ومن الرزق الحسن الذي منحه للمهاجرين في سبيله ثم قتلوا أو ماتوا.

والعقاب : مأخوذ من التعاقب ، وهو مجيء الشيء بعد غيره. والمراد به هنا : مجازاة الظالم بمثل ظلمه.

قال القرطبي : قال مقاتل : نزلت هذه الآية في قوم من مشركي مكة. لقوا قوما من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم : فقالوا : إن أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكرهون القتال في الشهر الحرام فاحملوا عليهم فناشدهم المسلمون أن لا يقاتلوهم في الشهر الحرام. فأبى

٣٣٣

المشركون إلا القتال ، فحملوا عليهم فثبت المسلمون ونصرهم الله على المشركين ، وحصل في أنفس المسلمين شيء من القتال في الشهر الحرام ، فأنزل الله الآية.

فمعنى (مَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ) أى : من جازى الظالم بمثل ما ظلمه ، فسمى جزاء العقوبة عقوبة لاستواء الفعلين في الصورة فهي مثل : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) (١).

وقوله (ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ) أى : أن الظالم المبتدئ بالظلم عاد مرة أخرى فبغى على المظلوم وآذاه.

وقوله (لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ) وعد مؤكد منه ـ سبحانه ـ بنصرة المظلوم ، والجملة جواب قسم محذوف. أى والله لينصرن ـ سبحانه ـ المظلوم على الظالم في الحال أو المآل.

قوله : (إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) تعليل للنصرة ، وبيان بأن المظلوم عند ما ترك العفو عن الظالم ، لا يؤاخذه ـ سبحانه ـ على ذلك ، مادام لم يتجاوز في رد العدوان الحدود المشروعة ، وهي الانتصار على القصاص بالمثل.

أى : إن الله ـ تعالى ـ لكثير العفو عن عباده ، وكثير المغفرة لذنوبهم وخطاياهم.

ثم بين ـ سبحانه ـ أن نصره للمظلوم مرجعه إلى شمول قدرته على كل شيء ، فقال ـ تعالى ـ : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ).

ومعنى : يولج : يدخل. يقال : ولج فلان منزله ، إذا دخله.

أى : ذلك الذين فعلناه من نصرة المبغى عليه على الباغي ، كائن بسبب أن قدرتنا لا يعجزها شيء ، ومن مظاهر ذلك أننا ندخل جزءا من الليل في النهار فيقصر الليل ويزيد النهار ، وندخل جزءا من النهار في الليل فيحصل العكس. وأنتم ترون ذلك بأعينكم ، وتشاهدون كيف يسيران بهذا النظام البديع.

(وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) أى : وأن الله ـ تعالى ـ سميع لكل المسموعات ، بصير بكل المبصرات ، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.

وقوله ـ سبحانه ـ : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ ..) بيان لحقيته ـ عزوجل ـ للعبادة والطاعة والخضوع التام.

واسم الإشارة يعود إلى ما وصف به نفسه قبل ذلك من صفات القدرة الباهرة والعلم التام.

أى : ذلك الذي تراه ـ أيها العاقل ـ في هذا الكون من مخلوقات ، ومن نصر للمظلوم ، ومن إدخال الليل في النهار وإدخال النهار في الليل ، سببه أن الله ـ تعالى ـ هو الإله الحق

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٢ ص ٩٠.

٣٣٤

الذي يجب أن تعنو له الوجوه. وأن ما عداه من معبودات آلهة باطلة ما أنزل الله بها من سلطان.

(وَأَنَّ اللهَ) ـ تعالى ـ وحده (هُوَ الْعَلِيُ) أى : العالي على جميع الكائنات بقدرته ، وكل شيء دونه (الْكَبِيرُ) أى : العظيم الذي لا يدانيه في عظمته أحد.

فأنت ترى أن هذه الآيات الكريمة ، قد وصفت الله ـ تعالى ـ بما هو أهل له من صفات الجلال والكمال.

ثم ساق ـ سبحانه ـ بعد ذلك ما يدل على سعة فضله ورحمته بعباده فقال :

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (٦٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٦٥) وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ)(٦٦)

والاستفهام في قوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً ..) للتقرير.

وقوله : (مُخْضَرَّةً) أى : ذات خضرة بسبب النبات الذي ينبته الله فيها بعد نزول المطر عليها.

والمعنى : لقد رأيت ببصرك وعلمت ببصيرتك أيها المخاطب أن الله ـ تعالى ـ قد أنزل من السماء ماء ، فتصير الأرض بسببه ذات خضرة ، وفي ذلك أعظم الأدلة على كمال قدرته ، وعظيم رحمته بعباده.

وقال ـ سبحانه ـ (فَتُصْبِحُ) بصيغة المضارع ، لاستحضار صورة الاخضرار ، الذي

٣٣٥

اتصفت به الأرض بعد نزول المطر عليها ، وصيغة الماضي لا تفيد دوام استحضارها ، لأن الفعل الماضي يفيد انقطاع الشيء.

ولم ينصب هذا الفعل المضارع في جواب الاستفهام ، لأن الاستفهام تقريرى فهو في معنى الخبر ، والخبر لا جواب له ، فكأنه قيل : لقد رأيت ، ولأن السببية هنا غير متحققة ، إذ الرؤية لا يتسبب عنها اخضرار الأرض ، وإنما اخضرارها يكون بسبب نزول المطر.

وقد أشار صاحب الكشاف إلى ذلك فقال : فإن قلت : هلا قيل : فأصبحت؟ ولم صرف إلى لفظ المضارع؟.

قلت : لنكتة فيه وهي إفادة بقاء أثر المطر زمانا بعد زمان ، كما تقول : أنعم علىّ فلان عام كذا ، فأروح وأغدو شاكرا له. ولو قلت : فرحت وغدوت لم يقع ذلك الموقع. فإن قلت : فما له رفع ولم ينصب جوابا للاستفهام؟.

قلت : لو نصب لأعطى ما هو عكس الغرض ، لأن معناه إثبات الاخضرار فينقلب بالنصب إلى نفى الاخضرار. مثاله أن تقول لصاحبك ألم تر أنى أنعمت عليك فتشكر. إن نصبته فأنت ناف لشكره. شاك تفريطه فيه ، وإن رفعته فأنت مثبت للشكر وهذا وأمثاله مما يجب أن يرغب له من اتسم بالعلم في علم الإعراب وتوقير أهله. (١).

وقال بعض العلماء ما ملخصه : فإن قيل : كيف قال فتصبح مع أن اخضرار الأرض قد يتأخر عن صبيحة المطر.

فالجواب : أن تصبح هنا بمعنى تصير ، والعرب تقول : فلان أصبح غنيا ، أى : صار غنيا ، أو أن الفاء للتعقيب ، وتعقيب كل شيء بحسبه ، كقوله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً ، فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً ، فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً ...) (٢) مع أن بين كل شيئين أربعين يوما ، كما جاء في الحديث الصحيح .. (٣).

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية بقوله : (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) أى : إن الله ـ تعالى ـ لطيف بعباده.

ومن مظاهر لطفه بهم ، إنزاله المطر على الأرض للانتفاع بما تنبته من كل زوج بهيج ، وهو ـ تعالى ـ خبير بأحوال عباده ، لا يعزب عن علمه مثقال ذرة من هذه الأحوال.

فإنه ـ سبحانه ـ (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) خلقا وملكا وتصرفا (وَإِنَّ اللهَ

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ١٦٨.

(٢) سورة المؤمنين الآية ١٤.

(٣) تفسير أضواء البيان ج ٥ ص ٧٤٢.

٣٣٦

لَهُوَ الْغَنِيُ) عن كل ما سواه (الْحَمِيدُ) أى : المستوجب للحمد من كل خلقه.

وقوله ـ تعالى ـ : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ ، وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ، وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ ...) بيان لألوان أخرى من النعم التي أنعم بها على بنى آدم.

أى : لقد علمت ـ أيضا ـ أيها العاقل ، أن الله ـ تعالى ـ سخر لكم يا بنى آدم ـ ما في الأرض من دواب وشجر وأنهار ، وغير ذلك مما تحتاجونه لحياتكم ، وسخر لمنفعتكم السفن التي تجرى في البحر بتقديره وإرادته وإذنه.

وهو ـ سبحانه ـ الذي يمسك السماء ويمنعها من أن تقع على الأرض ، فتهلك من فيها ، ولو شاء لأذن لها في الوقوع فسقطت على الأرض فأهلكت من عليها.

قال الجمل : وقوله : (إِلَّا بِإِذْنِهِ) : الظاهر أنه استثناء مفرغ من أعم الأحوال ، وهو لا يقع إلا في الكلام الموجب إلا أن قوله : (وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ) في قوة النفي. أى : لا يتركها تقع في حالة من الأحوال إلا في حالة كونها ملتبسة بمشيئة الله ـ تعالى ـ فالباء للملابسة (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) أى : لكثير الرأفة والرحمة بهم ، ومن علامات ذلك أنه سخر لهم ما في الأرض وسخر لهم الفلك ، وأمسك السماء عنهم ، ولم يسقطها عليهم.

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ ، إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) (٢).

ثم ختم ـ سبحانه ـ هذه النعم بما هو أجلها وأعظمها فقال : (وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ) أى : بعد أن كنتم أمواتا في بطون أمهاتكم ، وقبل أن ينفخ بقدرته الروح فيكم. (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) أى : بعد انقضاء آجالكم في هذه الحياة (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) أى : عند البعث والحساب.

(إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ) أى : لكثير الجحود والكفران لنعم ربه التي لا تحصى.

فأنت ترى أن هذه الآيات الكريمة قد ذكرت أنواعا متعددة من الأدلة على قدرته ـ سبحانه ـ ، كما ذكرت ألوانا من نعمه على عباده ، ومن ذلك إنزال الماء من السماء فتصبح

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ١٧٨.

(٢) سورة فاطر الآية ٤١.

٣٣٧

الأرض مخضرة بعد أن كانت يابسة. وتسخير ما في الأرض للإنسان ، وتسخير الفلك لخدمته ومنفعته ، وإمساك السماء أن تقع على الأرض إلا بمشيئته ـ تعالى ـ وإيجادنا من العدم بقدرته ورحمته.

وبعد أن عرضت السورة الكريمة دلائل قدرة الله ـ تعالى ـ ورحمته بعباده أتبعت ذلك ببيان أنه ـ سبحانه ـ قد جعل لكل أمة شرعة ومنهاجا ، وأمرت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يمضى في طريقه لتبليغ رسالة الله ـ تعالى ـ دون أن يلتفت إلى ممارات المشركين له ، وأن يفوض الحكم فيهم إليه ـ سبحانه ـ فهو العليم بكل شيء ، فقال ـ تعالى ـ :

(لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (٦٧) وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (٦٨) اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٦٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) (٧٠)

قال الآلوسى : قوله ـ تعالى ـ : (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ ...) كلام مستأنف جيء به لزجر معاصريه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أهل الأديان السماوية عن منازعته ، ببيان حال ما تمسكوا به من الشرائع ، وإظهار خطئهم (١).

والمراد بالأمة هنا : القوم الذين يدينون بشريعة معينة. والمراد بالمنسك المنهج والشريعة التي يتبعونها في عقيدتهم وفي معاملاتهم ...

أى : شرعنا لكل أمة من الأمم السابقة منهجا يسيرون عليه في اعتقادهم وفي طريقة حياتهم ، فالأمة التي وجدت من مبعث موسى الى مبعث عيسى ـ عليهما‌السلام ـ شريعتها التوراة ، والأمة التي وجدت من مبعث عيسى حتى مبعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم شريعتها الإنجيل ، والأمة التي وجدت منذ مبعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى يوم القيامة شريعتها القرآن.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٧ ص ١٩٥.

٣٣٨

وعلى كل أمة أدركت بعثة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن تتبعه فيما جاء به من عند ربه ، لأن شريعته هي الشريعة الناسخة لما قبلها ، والمهيمنة عليها.

ويرى بعضهم أن المراد بالمنسك هنا : المكان الذي يذبحون فيه ذبائحهم تقربا إلى الله ـ تعالى ـ.

وقد رجح الإمام ابن جرير ذلك فقال ما ملخصه : وأصل المنسك في كلام العرب : الموضع المعتاد الذي يعتاده الرجل ويألفه لخير أو شر. يقال : إن لفلان منسكا يعتاده ، يراد مكانا يغشاه ويألفه لخير أو شر. وقد اختلف أهل التأويل في معنى المنسك هنا ، فقيل : عيد ، وقيل : إراقة الدم .. والصواب من القول في ذلك أن يقال : عنى بذلك إراقة الدم أيام النحر بمنى ، لأن المناسك التي كان المشركون جادلوا فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت إراقة الدم في هذه الأيام ... ولذلك قلنا : عنى بالمنسك في هذا الموضع : الذبح .. (١).

ويبدو لنا أن القول الأول ، وهو تفسير المنسك بالشريعة الخاصة أقرب إلى الصواب لشموله للذبح وغيره.

والضمير في قوله : (هُمْ ناسِكُوهُ) يعود لكل أمة.

أى : جعلنا لكل أمة شريعة تسير على تعاليمها ، وتنهج على نهجها ..

والفاء في قوله ـ تعالى ـ : (فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ) لترتيب النهى على ما قبلها.

والمنازعة : المجادلة والمخاصمة. والمراد بالأمر : ما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من عند ربه ـ تعالى ـ من تشريعات وأحكام.

أى : قد جعلنا لكل أمة من الأمم السابقة شريعة تتبع تعاليمها ، وما دام الأمر كذلك ، فاسلك أنت وأتباعك ـ أيها الرسول الكريم ـ الشريعة التي أوحيناها إليك ، وأمرناك باتباعها ، ولا تلتفت إلى مخاصمة من ينازعك في ذلك من اليهود أو النصارى أو غيرهم ، فإن منازعتهم لك فيما جئت به من عند ربك ، يدل على جهلهم وسوء تفكيرهم ، لأن ما جئت به من عند ربك مصدق لشريعتهم ، ومهيمن عليها وناسخ لها.

ثم أرشده ـ سبحانه ـ إلى ما يجب عليه نحو دينه فقال : (وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ).

أى : وادع هؤلاء الذين ينازعونك فيما جئتهم به من الحق ، وأدع غيرهم معهم إلى ترك التنازع والتخاصم ، وإلى الدخول في دين الإسلام : فإنك أنت على الصراط المستقيم ، الذي

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ١٧ ص ١٣٨.

٣٣٩

لا اعوجاج فيه ولا التباس.

ثم بين له ـ سبحانه ـ ما يفعله إذا ما لجّوا في منازعتهم له فقال : (وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ).

أى : وإن أبوا إلا مجادلتك بعد أن ظهر الحق ، ولزمتهم الحجة ، فقل لهم ـ أيها الرسول الكريم ـ أمرى وأمركم إلى الله ـ تعالى ـ ، فهو الذي يتولى الحكم بيني وبينكم يوم القيامة ، لأنه ـ سبحانه ـ هو العليم بحالي وحالكم.

وهذه الجملة الكريمة قد تضمنت تهديدهم على استمرارهم في جدالهم بعد أن تبين لهم الحق ، كما تضمنت وجوب إعراض الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنهم.

ثم أكد ـ سبحانه ـ هذا التهديد والإعراض فقال : (اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) أيها المسلمون وبين هؤلاء الكافرين (يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ) في الدنيا (تَخْتَلِفُونَ) من أمرنا هذا الدين ، وحينئذ يتبين من هو على الحق ومن هو على الباطل ، وسيجازى ـ سبحانه ـ كل فريق بما يستحقه من ثواب أو عقاب.

ثم ختم ـ سبحانه ـ هذه الآيات بتأكيد علمه بكل شيء فقال : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ ..).

أى : لقد علمت ـ أيها الرسول الكريم ـ وتيقنت ، أن الله ـ تعالى ـ لا يعزب عن علمه مثقال ذرة مما يحصل في السموات والأرض من أقوال أو أفعال.

(إِنَّ ذلِكَ) الذي يجرى في السموات والأرض كائن وثابت (فِي كِتابٍ) هو اللوح المحفوظ المشتمل على جميع أحوال الخلق.

(إِنَّ ذلِكَ) الذي ذكرناه لك من الحكم بين الناس ، ومن العلم بأحوالهم ومن تسجيل أعمالهم (عَلَى اللهِ) ـ تعالى ـ (يَسِيرٌ) وهين ، لأنه ـ سبحانه ـ له الخلق والأمر ، تبارك الله رب العالمين.

ثم وبخ ـ سبحانه ـ الكافرين على جهلهم ، حيث عبدوا من دونه مالا ينفعهم ولا يضرهم ، وحيث كرهوا الحق وأصحابه ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ(٧١) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي

٣٤٠