التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٩

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٩

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0683-3
الصفحات: ٣٥٥

والمعنى : واذكر أيها العاقل لتعتبر وتتعظ وقت أن هيأنا لنبينا إبراهيم مكان بيتنا الحرام ، وأرشدناه إليه ، لكي يبنيه بأمرنا ، ليكون مثابة للناس وأمنا.

قال بعض العلماء : والمفسرون يقولون بوأه له ، وأراه إياه ، بسبب ريح تسمى الخجوج ، كنست ما فوق الأساس : حتى ظهر الأساس الأول الذي كان مندرسا ، فبناه إبراهيم وإسماعيل عليه ... وأن محل البيت كان مربض غنم لرجل من جرهم.

وغاية ما دل عليه القرآن : أن الله بوأ مكانه لإبراهيم ، فهيأه له ، وعرفه إياه ليبنيه في محله ، وذهبت جماعة من أهل العلم إلى أن أول من بناه إبراهيم ولم يبن قبله.

وظاهر قوله ـ تعالى ـ على لسان إبراهيم : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ...) يدل على أنه كان مبنيا واندرس كما يدل عليه ـ أيضا ـ قوله هنا (مَكانَ الْبَيْتِ) لأنه يدل على أن له مكانا سابقا كان معروفا (١).

و «أن» في قوله ـ تعالى ـ : (أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً) مفسرة ، والتفسير ـ كما يقول الآلوسى ـ باعتبار أن التبوئة من أجل العبادة ، فكأنه قيل : أمرنا إبراهيم بالعبادة ، وذلك فيه معنى القول دون حروفه ، أو لأن بوأناه بمعنى قلنا له تبوأ.

والمعنى : واذكر ـ أيها المخاطب ـ وقت أن هيأنا لإبراهيم ـ عليه‌السلام ـ مكان بيتنا الحرام ، وأوصيناه بعدم الإشراك بنا ، وبإخلاص العبادة لنا ، كما أوصيناه ـ أيضا ـ بأن يطهر هذا البيت من الأرجاس الحسية والمعنوية الشاملة للكفر والبدع والضلالات والنجاسات ، وأن يجعله مهيأ للطائفين به ، وللقائمين فيه لأداء فريضة الصلاة.

قال الشوكانى : والمراد بالقائمين في قوله : (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ) المصلون ..

وذكر (الرُّكَّعِ السُّجُودِ) بعده ، لبيان أركان الصلاة دلالة على عظم شأن هذه العبادة ، وقرن الطواف بالصلاة ، لأنهما لا يشرعان إلا في البيت ، فالطواف عنده والصلاة إليه (٢).

وقد أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة ، أنه لا يجوز أن يترك عند بيت الله الحرام ، قذر من الأقذار ولا نجس من الأنجاس المعنوية ولا الحسية ، فلا يترك فيه أحد يرتكب مالا يرضى الله ، ولا أحد يلوثه بقذر من النجاسات.

ثم ذكر ـ سبحانه ـ ما أمر به نبيه إبراهيم بعد أن بوأه مكان البيت فقال : (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ ، يَأْتُوكَ رِجالاً. وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ).

__________________

(١) تفسير أضواء البيان ج ٥ ص ٦٢.

(٢) تفسير فتح القدير للشوكانى ج ٣ ص ٤٤٨.

٣٠١

والآذان : الإعلام. و «رجالا» أى : مشاة على أرجلهم ، جمع راجل.

يقال : رجل بزنة فرح فلان يرجل فهو راجل إذا لم يكن معه ما يركبه.

والضامر : البعير المهزول من طول السفر ، وهو اسم فاعل من ضمر ـ بزنة قعد ـ يضمر ضمورا فهو ضامر ، إذا أصابه الهزال والتعب.

وجملة «يأتين من كل فج عميق» صفة لقوله «كل» ، والجمع باعتبار المعنى. كأنه قيل : وركبانا على ضوامر من كل طريق بعيد ..

والفج في الأصل : الفجوة بين جبلين ، ويستعمل في الطريق المتسع. والمراد به هنا : مطلق الطريق وجمعه فجاج.

والعميق : البعيد ، مأخوذ من العمق بمعنى البعد ، ومنه قولهم : بئر عميقة ، أى : بعيدة الغور.

والمعنى : وأعلم يا إبراهيم الناس بفريضة الحج يأتوك مسرعين مشاة على أقدامهم ، ويأتوك راكبين على دوابهم المهزولة ، من كل مكان بعيد.

قال ابن كثير : أى : ناد ـ يا إبراهيم ـ في الناس داعيا إياهم إلى الحج الى هذا البيت الذي أمرناك ببنائه ، فذكر أنه قال : يا رب ، وكيف أبلغ الناس وصوتي لا يصل إليهم؟ فقيل : ناد وعلينا البلاغ ، فقام على مقامه ، وقيل : على الحجر ، وقيل : على الصفا ، وقيل : على أبى قبيس ، وقال : يا أيها الناس ، إن ربكم قد اتخذ بيتا فحجوه فيقال : إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض ، وأجابه كل شيء سمعه من حجر ومدر وشجر ، ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة : «لبيك اللهم لبيك» (١).

وقيل : إن الخطاب في قوله ـ تعالى ـ : (وَأَذِّنْ ...) للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأن الكلام عن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ قد انتهى عند قوله ـ تعالى ـ : (وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ).

وجمهور المفسرين على أن الخطاب لإبراهيم ـ عليه‌السلام ـ لأن سياق الآيات يدل عليه ، ولأن التوافد على هذا البيت موجود منذ عهد إبراهيم.

وما يزال وعد الله يتحقق منذ هذا العهد الى اليوم وإلى الغد ، وما تزال أفئدة ملايين الناس تهوى إليه ، وقلوبهم تنشرح لرؤيته ، وتسعد بالطواف من حوله ...

وقوله ـ سبحانه ـ : (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ) متعلق بقوله : (يَأْتُوكَ).

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ٤١٠.

٣٠٢

أى : يأتيك الناس راجلين وراكبين من كل مكان بعيد ، ليشهدوا وليحصلوا منافع عظيمة لهم في دينهم وفي دنياهم.

ومن مظاهر منافعهم الدينية : غفران ذنوبهم ، وإجابة دعائهم ، ورضا الله ـ تعالى ـ عنهم.

ومن مظاهر منافعهم الدنيوية : اجتماعهم في هذا المكان الطاهر ، وتعارفهم وتعاونهم على البر والتقوى ، وتبادلهم المنافع فيما بينهم عن طريق البيع والشراء وغير ذلك من أنواع المعاملات التي أحلها الله ـ تعالى ـ.

وجاء لفظ «منافع» بصيغة التنكير ، للتعميم والتعظيم والتكثير. أى : منافع عظيمة وشاملة لأمور الدين والدنيا ، وليس في الإمكان تحديدها لكثرتها ، وقوله (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) معطوف على قوله (لِيَشْهَدُوا).

والمراد بالأيام المعلومات : الأيام العشر الأولى من شهر ذي الحجة ، أو هي أيام النحر ، أو يوم العيد وأيام التشريق.

والمراد ببهيمة الأنعام : الإبل والبقر والغنم.

أى : ليشهدوا منافع لهم ، وليكثروا من ذكر الله ومن طاعته في تلك الأيام المباركة. وليشكروه على ما رزقهم من بهيمة الأنعام التي يتقربون إليه ـ سبحانه ـ عن طريق ذبحها وإراقة دمائها ، واستجابة لأمره ـ عزوجل ـ.

وقوله ـ سبحانه ـ : (فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ) إرشاد منه ـ تعالى ـ إلى كيفية التصرف فيها بعد ذبحها.

أى : فكلوا من هذه البهيمة بعد ذبحها ، وأطعموا منها الإنسان البائس ، أى : الذي أصابه بؤس ومكروه بجانب فقره واحتياجه.

قال الآلوسى : والأمر في قوله (فَكُلُوا مِنْها ...) للإباحة بناء على أن الأكل كان منهيا عنه شرعا ، وقد قالوا : إن الأمر بعد المنع يقتضى الإباحة ويدل على سبق النهى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كنت نهيتكم عن أكل لحوم الأضاحى فكلوا منها وادخروا».

وقيل : لأن أهل الجاهلية كانوا يتحرجون فيه ، أو للندب على مواساة الفقراء ومساواتهم في الأكل منها (١).

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٧ ص ١٤٦.

٣٠٣

ثم بين ـ سبحانه ـ ما يفعلونه بعد حلهم وخروجهم من الإحرام فقال : (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ ، وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ).

والمراد بالقضاء هنا : الإزالة ، وأصله القطع والفصل ، فأريد به الإزالة على سبيل المجاز.

والتفث : الوسخ والقذر ، كطول الشعر والأظفار يقال : تفث فلان ـ كفرح ـ يتفث تفثا فهو تفث ، إذا ترك الاغتسال والتطيب والتنظيف فأصابته الأوساخ.

والمراد بالطواف هنا : طواف الإفاضة ، الذي هو أحد أركان الحج ، وبه يتم التحلل.

والعتيق : القديم حيث إنه أول بيت وضع لعبادة الله في الأرض ، وقيل سمى بالعتيق لأن الله ـ تعالى ـ أعتقه من أن يتسلط عليه جبار فيهدمه أو يخربه.

والمعنى : ثم بعد حلهم وبعد الإتيان بما عليهم من مناسك. فليزيلوا عنهم أدرانهم وأوساخهم ، وليوفوا نذورهم التي نذروها لله ـ تعالى ـ في حجهم ، وليطوفوا طواف الإفاضة ، بهذا البيت القديم الذي جعله الله ـ تعالى ـ أول بيت لعبادته ، وصانه من اعتداء كل جبار أثيم.

وبذلك نرى الآيات الكريمة قد توعدت كل من يصد الناس عن هذا البيت بأشد ألوان الوعيد ، وبينت أن الناس فيه سواء ، وتحدثت عن جانب من فضله ـ سبحانه ـ على نبيه إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ حيث أرشده إلى مكان هذا البناء ، وشرفه بتهيئته ليكون أول مكان لعبادته ـ تعالى ـ ، وأمره بأن ينادى في الناس بالحج إليه ، ليشهدوا منافع عظيمة لهم.

* * *

ثم انتقلت السورة الكريمة بعد ذلك الى الحديث عن الذين يعظمون حرمات الله ، وعما أحله الله لعباده من الأنعام ، وعن سوء عاقبة من يشرك بالله ، فقال ـ تعالى ـ :

(ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (٣٠) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ

٣٠٤

السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (٣١) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (٣٢) لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ)(٣٣)

واسم الإشارة (ذلِكَ) في قوله : (ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ ...) يؤتى به في مثل هذا التركيب للفصل بين كلامين ، والمشهور في مثل هذا التركيب الإتيان بلفظ «هذا» كما في قوله ـ تعالى ـ : (هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ) (١).

وجيء هنا بلفظ ذلك للإشعار بتعظيم شأن المتحدث عنه ، وعلو منزلته ، وهو يعود إلى المذكور من تهيئة مكان البيت لإبراهيم ، وأمره بتطهيره ... إلخ.

قال صاحب الكشاف : قوله (ذلِكَ) خبر مبتدأ محذوف أى : الأمر والشأن ذلك ، كما يقدم الكاتب جملة من كتابه في بعض المعاني ، ثم إذا أراد الخوض في معنى آخر قال : هذا ، وقد كان كذا (٢).

والحرمات : جمع حرمة. والحرمة كل ما أمر الله ـ تعالى ـ باحترامه ، ونهى عن قوله أو فعله ، ويدخل في ذلك دخولا أوليا ما يتعلق بمناسك الحج كتحريم الرفث والفسوق والجدال والصيد ، وتعظيم هذه الحرمات يكون بالعلم بوجوب مراعاتها ، وبالعمل بمقتضى هذا العلم.

والمعنى : ذلك الذي ذكرناه لكم عن البيت الحرام وعن مناسك الحج ، هو جانب من أحكام الله ـ تعالى ـ في هذا الشأن فاتبعوها ، والحال أن من يعظم حرمات الله ـ تعالى ـ بأن يترك ملابستها واقترافها ، فهو أى : هذا التعظيم ، خير له عند ربه. إذ بسبب هذا التعظيم لتلك الحرمات ينال رضا ربه وثوابه.

وقد جاء النهى في هذه الجملة عن فعل هذه الحرمات بأبلغ أسلوب حيث عبر عن اجتنابها بالتعظيم وبأفعل التفضيل وهو لفظ «خير» وبإضافتها إلى ذاته.

فكأنه ـ سبحانه ـ يقول : إذا كان ترك هذا التعظيم لحرمات الله يؤدى إلى حصولكم على شيء من المتاع الدنيوي الزائل ، فإن الاستمساك بهذا التعظيم أفضل من ذلك بكثير عند ربكم وخالقكم ، فكونوا عقلاء ولا تستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير.

__________________

(١) سورة ص الآية ٤٩.

(٢) تفسير الكشاف ج ٣ ص ١٥٤.

٣٠٥

ثم بين ـ سبحانه ـ بعض الأحكام التي تتعلق بالأنعام وهي الإبل والبقر والغنم فقال : (وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ).

أى : وأحل الله ـ تعالى ـ لكم فضلا منه ورحمة ذبح الأنعام وأكلها إلا ما يتلى عليكم تحريم ذبحه وأكله فاجتنبوه.

وهذا الإجمال هنا ، قد جاء ما فصله قبل ذلك في سورة الأنعام في قوله ـ تعالى ـ : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ).

قال بعض العلماء : ثم إنه ليس المقصود بما يتلى ، ما ينزل في المستقبل ، كما يعطيه ظاهر الفعل المضارع ، بل المراد ما سبق نزوله مما يدل على حرمة الميتة وما أهل لغير الله به. أو ما يدل على حرمة الصيد في الحرم أو حالة الإحرام.

وعلى هذا يكون السر في التعبير بالمضارع ، التنبيه إلى أن ذلك المتلو ينبغي استحضاره والالتفات إليه .. والجملة معترضة لدفع ما عساه يقع في الوهم من أن تعظيم حرمات الله في الحج قد يقضى باجتناب الأنعام ، كما قضى باجتناب الصيد (١).

ثم أمرهم ـ سبحانه ـ باجتناب ما يغضبه ، وحضهم على الثبات على الدين الحق فقال ـ تعالى ـ : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ. حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ) والفاء في قوله : (فَاجْتَنِبُوا) هي الفصيحة. والرجس : الشيء المستقذر الذي تعافه النفوس. و (مَنْ) في قوله (مِنَ الْأَوْثانِ) بيانية ، والأوثان : الأصنام. يدخل في حكمها ومعناها عبادة كل معبود من دون الله ـ تعالى ـ كائنا من كان.

وسماها ـ سبحانه ـ رجسا ، زيادة في تقبيحها وفي التنفير منها.

والزور : الكذب والباطل وكل قول مائل عن الحق فهو زور ، لأن أصل المادة التي هي الزور من الازورار بمعنى الميل والاعوجاج ، ومنه قوله ـ تعالى ـ : (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ) أى : تميل.

وقوله (حُنَفاءَ) جمع حنيف وهو المائل عن الأديان الباطلة الى الدين الحق.

والمعنى : مادام الأمر كما ذكرت لكم ، فاجتنبوا ـ أيها الناس عبادة الأوثان أو تعظيمها ، واجتنبوا ـ أيضا ـ القول المائل عن الحق ، وليكن شأنكم وحالكم الثبات على الدين الحق ، وعلى إخلاص العبادة لله ـ تعالى ـ الذي خلقكم ، وخلق كل شيء.

__________________

(١) تفسير آيات الأحكام ج ٣ ص ٧٢ لفضيلة الشيخ محمد على السائس.

٣٠٦

وهذه الجملة الكريمة مؤكدة لما سبق من وجوب تعظيم حرمات الله ، ومن وجوب التمسك بما أحله الله والبعد عما حرمه.

قال الآلوسى : قوله ـ تعالى ـ : (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) تعميم بعد تخصيص ، فإن عبادة الأوثان رأس الزور ، لما فيها من ادعاء الاستحقاق ، كأنه ـ تعالى ـ لما حث على تعظيم الحرمات ، أتبع ذلك بما فيه رد لما كانت الكفرة عليه من تحريم البحائر والسوائب ونحوهما ، والافتراء على الله ـ تعالى ـ بأنه حكم بذلك. ولم يعطف قول الزور على الرجس ، بل أعاد العامل لمزيد الاعتناء. والإضافة بيانية .. (١).

وجملة (حُنَفاءَ لِلَّهِ) وجملة (غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ) حالان مؤكدتان لما قبلهما من وجوب اجتناب عبادة الأوثان ، واجتناب قول الزور.

أى : اجتنبوا ما أمرناكم باجتنابه حال كونكم ثابتين على الدين الحق ، مخلصين لله العبادة.

ثم صور ـ سبحانه ـ حال من يشرك بالله تصويرا تنخلع له القلوب ، ويحمل كل عاقل على اجتناب هذا الرجس فقال : (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ ، أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ).

أى : ومن يشرك بالله ـ تعالى ـ في عبادته ، ومات على ذلك ، فكأنما سقط من السماء إلى الأرض ، فاختطفته جوارح الطير بسرعة فمزقت أوصاله ، أو تسقطه الريح في مكان بعيد أشد البعد بحيث لا يعثر له على أثر.

والمقصود من هذه الجملة تقبيح حال الشرك والمشركين ، وبيان أن الوقوع في الشرك يؤدى إلى الهلاك الذي لا نجاة معه بحال ، لأن من يسقط من السماء فتتمزق أوصاله ، وتتخطفه الطير أو تلقى به الريح في مكان بعيد لا يطمع له في نجاة ، بل هو هالك لا محالة.

فالجملة الكريمة مقررة لوجوب اجتناب الشرك بأبلغ صورة.

قال صاحب الكشاف : يجوز في هذا التشبيه أن يكون من المركب والمفرق ، فإن كان تشبيها مركبا فكأنه قال : من أشرك بالله فقد أهلك نفسه إهلاكا ليس بعده نهاية ، بأن صور حاله بصورة حال من خر من السماء فاختطفته الطير فتفرق مزعا ـ أى قطعا ـ في حواصلها ، أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المطاوح ـ أى المقاذف ـ البعيدة.

وإن كان مفرقا فقد شبه الإيمان في علوه بالسماء ، والذي ترك الإيمان وأشرك بالله بالساقط

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٧ ص ١٤٨.

٣٠٧

من السماء ، والأهواء التي تتوزع أفكاره بالطير المختطفة ، والشيطان الذي يطوح به في وادي الضلالة ، بالريح التي تهوى بما عصفت به في بعض المهاوى المتلفة (١).

ثم أمر ـ سبحانه ـ بتعظيم شعائره بعد أن أمر بتعظيم حرماته فقال : (ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ).

قال القرطبي : والشعائر : جمع شعيرة ، وهي كل شيء لله ـ تعالى ـ فيه أمر أشعر به وأعلم. ومنه شعار القوم في الحرب ، أى : علامتهم التي يتعارفون بها. ومنه إشعار البدنة وهو الطعن في جانبها الأيمن حتى يسيل الدم فيكون علامة لها .. فشعائر الله : إعلان دينه لا سيما ما يتعلق بالمناسك. وقال قوم : المراد هنا تسمين البدن. والاهتمام بأمرها .. (٢).

والمعنى : ذلك الذي أمرناكم به أو نهيناكم عنه عليكم امتثاله وطاعته ، والحال أن من يعظم شعائر الله ، التي من بينها الذبائح التي يتقرب بها إليه ـ تعالى ـ يكون تعظيمه إياها عن طريق تسمينها ، وحسن اختيارها يكون دليلا على تقوى القلوب ، وحسن صلتها بالله ـ سبحانه ـ وخشيتها منه ، وحرصها على رضاه ـ عزوجل ـ.

قال الآلوسى : وتعظيمها أن تختار حسانا سمانا غالية الأثمان. روى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهدى مائة بدنة فيها جمل لأبى جهل في أنفه برة ـ أى حلقة ـ من ذهب. وعن عمر أنه أهدى نجيبة طلبت منه بثلاثمائة دينار ، فسأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يبيعها ويشترى بثمنها بدنا فنهاه عن ذلك ، وقال له : بل أهدها .. (٣).

وفي إضافة هذه الشعائر إلى الله ـ تعالى ـ : حض على الاهتمام بها وفعل ما يرضى الله ـ تعالى ـ بالنسبة لها.

والضمير المؤنث في قوله (فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) يعود على الفعلة التي يتضمنها الكلام ، أو إلى الشعائر بحذف المضاف ، أى : فإن تعظيمها أى الشعائر من تقوى القلوب ، فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه.

وقوله ـ سبحانه ـ : (لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) بيان لبعض مظاهر نعم الله ـ تعالى ـ عليهم في هذه الأنعام.

أى : لكم ـ أيها المؤمنون ـ في تلك الأنعام التي تقدمونها قربة لله ـ تعالى ـ «منافع» تصل إليكم عن طريق ركوبها ولبنها ونسلها .. وهذه المنافع موقوتة إلى وقت معين ، هو وقت

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ١٥٥.

(٢) تفسير القرطبي ج ١٢ ص ٥٦.

(٣) تفسير الآلوسى ج ١٧ ص ١٥٠.

٣٠٨

ذبحها أو وقت تعيبنها وتسميتها هديا ، أما بعد ذلك فاتركوا الانتفاع بها للفقراء والمحتاجين ، فهذا أكثر ثوابا لكم عند الله ـ تعالى ـ.

وقوله ـ سبحانه ـ (ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) بيان لمكان ذبحها.

والمحل مأخوذ من حل الشيء يحل ـ بالكسر ـ حلولا إذا وجب أو انتهى أجله. والمراد به في الآية مكان الحلول ، أى : المكان الذي ينتهى فيه أجل تلك الأنعام ، أو المكان الذي يجب ذبحها فيه.

والمعنى : لكم في تلك الانعام منافع إلى أجل مسمى ثم المكان الذي تذبح فيه منته إلى البيت العتيق. ومتصل به.

والمقصود بهذا المحل الحرم كله ، لأن البيت ليس مكانا للذبح.

وبعضهم يرى أن المراد بالمحل في قوله : (ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) : تحلل الحجاج من إحرامهم بعد أداء شعائر الحج المعبر عنها بقوله ـ تعالى ـ : (ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ ...).

قال القرطبي : قوله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) يريد أنها تنتهي إلى البيت ، وهو الطواف فقوله : (مَحِلُّها) مأخوذ من إحلال المحرم.

والمعنى : أن شعائر الحج كلها من الوقوف بعرفة ورمى الجمار والسعى ينتهى إلى طواف الإفاضة بالبيت العتيق. فالبيت على هذا التأويل مراد بنفسه .. (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ أنه قد شرع لكل أمة الذبائح التي ينتفعون بها ، لكي يذكروه ـ سبحانه ـ ويشكروه ويخلصوا له العبادة ، ولكي يطعموا منها السائل والمحتاج ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (٣٤) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٢ ص ٥٦.

٣٠٩

رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٥) وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٣٦) لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ)(٣٧)

والمنسك ـ بفتح السين وكسرها ـ مأخوذ من النسك بمعنى العبادة ، فيجوز أن يراد به النسك نفسه ، ويجوز أن يراد به مكانه أو زمانه.

ويبدو أن المراد به هنا عبادة خاصة وهي الذبح تقربا إلى الله ـ تعالى ـ.

قال الآلوسى : والمنسك موضع النسك إذا كان اسم مكان ، أو النسك إذا كان مصدرا. وفسره مجاهد هنا بالذبح وإراقة الدماء على وجه التقرب إليه ـ تعالى ـ فجعله مصدرا ، وحمل النسك على عبادة خاصة ، وهو أحد استعمالاته وإن كان في الأصل بمعنى العبادة مطلقا ، وشاع في أعمال الحج .. (١).

وجملة (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ ...) معطوفة على قوله ـ تعالى ـ قبل ذلك : (لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى).

والمعنى : جعلنا لكم ـ أيها المؤمنون ـ منافع كثيرة في هذه الأنعام الى وقت معين ، ثم تكون نهايتها وذبحها عند البيت الحرام ، كما جعلنا وشرعنا لمن قبلكم من الأمم شعيرة الذبح ليتقربوا بها إلينا ، وأرشدناهم إلى المكان الذي يذبحون فيه ، وإلى أفضل الطرق التي تجعل ، ذبائحهم مقبولة عندنا.

وفي هذه الجملة الكريمة (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً) ، تحريك لنفوسهم نحو الإقدام على إراقة الدم تقربا إلى الله ، لأن هذه الذبائح ليست من شعائر هذه الأمة وحدها ، وإنما هي من شعائرها ومن شعائر الأمم التي سبقتها.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٧ ص ١٥٣.

٣١٠

وقوله ـ تعالى ـ : (لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) بيان للعلة التي من أجلها شرعت تلك الذبائح.

أى : شرعناها لكم وللأمم السابقة عليكم للإكثار من ذكر الله عند ذبحها فهو ـ سبحانه ـ الذي رزقكم إياها بفضله وإحسانه ، فعليكم أن تكثروا من ذكره وشكره ، ليزيدكم من خيره ورزقه.

وفي هذه الجملة الكريمة تقريع وتوبيخ لمن يذكرون غير اسم الله ـ تعالى ـ عند الذبح ، وتأكيد لوجوب ذكر اسمه ـ تعالى ـ ، حتى لكأن المقصود الأعظم من وراء ذبح هذه الأنعام ، هو المداومة على ذكر اسم الله ـ عزوجل ـ وعلى شكره ـ سبحانه ـ على نعمه ، أما ما سوى ذلك كالأكل منها ، والانتفاع بها .. فهي مقاصد فرعية.

ثم عقب ـ سبحانه ـ على ذلك بتقرير وحدانيته ، وبوجوب إسلام الوجه إليه ، فقال : (فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا).

أى : شرعنا لكم ذلك لأن إلهكم إله واحد لا شريك له لا في ذاته ولا في صفاته ، فله وحده أسلموا وجوهكم ، وأخلصوها لعبادته وطاعته.

فجملة (فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) بمثابة العلة لما قبلها من تخصيص اسمه الكريم بالذكر عند الذبح ، لأن تفرده ـ سبحانه ـ بالألوهية يستلزم هذا التخصيص.

وقوله ـ تعالى ـ : (فَلَهُ أَسْلِمُوا) مرتب على ما قبله ، لأنه متى ثبت أن المستحق للعبادة والطاعة هو الله الواحد الأحد ، فعليهم أن يسلموا وجوههم إليه.

ثم أمر الله ـ تعالى ـ نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يبشر المخبتين برضاه ـ سبحانه ـ وبمثوبته فقال : (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) أى : المتواضعين لله ـ تعالى ـ المطمئنين إلى عدالة قضائه فيهم ، ولفظ (الْمُخْبِتِينَ) من الإخبات. وهو في الأصل نزول الخبت ـ بفتح الخاء وسكون الباء.

أى : المكان المنخفض ، ثم استعمل في اللين والتواضع. يقال : فلان مخبت ، أى : متواضع خاشع لله رب العالمين.

وحذف ـ سبحانه ـ المبشر به لتهويله وتعظيمه ، أى : وبشر ـ أيها الرسول الكريم ـ هؤلاء المتواضعين لله ـ تعالى ـ بالثواب العظيم ، والأجر الكبير الذي لا تحيط بوصفه عبارة.

ثم مدحهم ـ سبحانه ـ بأربع صفات فقال : (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ..).

أى : بشر هؤلاء المخبتين الذين من صفاتهم أنهم إذا سمعوا ذكر الله ـ تعالى ـ وصفاته ،

٣١١

وحسابه لعباده يوم القيامة ، خافت قلوبهم ، وحذرت معصيته ـ تعالى ـ.

والذين من صفاتهم كذلك : الصبر على ما يصيبهم من مصائب ومحن في هذه الحياة ، والمداومة على أداء الصلاة في مواقيتها بإخلاص وخشوع ، والإنفاق مما رزقهم الله ـ تعالى ـ على الفقراء والمحتاجين.

فإن قيل : كيف نجمع بين هذه الآية التي وصفت المؤمنين الصادقين بأنهم إذا ذكر الله وجلت قلوبهم. وبين قوله ـ تعالى ـ في آية أخرى : (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ).

فالجواب : أنه لا تنافى بين الآيتين ، لأن من شأن المؤمن الصادق أنه إذا استحضر وعيد الله وحسابه لعباده يوم القيامة ، امتلأ قلبه بالخشية والخوف والوجل.

فإذا ما استحضر بعد ذلك رحمته ـ سبحانه ـ وسعة عفوه ، اطمأن قلبه وسكن روعه ، وثبت يقينه ، وانشرح صدره ، واستسلم لقضاء الله وقدره بدون تردد أو تشكك أو جزع.

فالوجل والاطمئنان أمران يجدهما المؤمن في قلبه ، في وقتين مختلفين. وفي حالتين متمايزتين.

ويؤخذ من هاتين الآيتين : أن التواضع لله ـ تعالى ـ ، والمراقبة له ـ سبحانه ـ والصبر على بلائه ، والمحافظة على فرائضه .. كل ذلك يؤدى إلى رضاه ـ عزوجل ـ ، وإلى السعادة الدنيوية والأخروية.

ثم أكد سبحانه ـ ما سبق الحديث عنه من وجوب ذكر اسمه ـ تعالى ـ عند الذبح ، ومن وجوب شكره على نعمه فقال : (وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ).

والبدن : جمع بدنة. وهي الإبل خاصة التي تهدى إلى البيت الحرام للتقرب بها إلى الله ـ تعالى ـ وقيل : البدن تطلق على الإبل والبقر.

وسميت بهذا الاسم لبدانتها وضخامتها. يقال : بدن الرجل ـ بوزن كرم ـ إذا كثر لحمه ، وضخم جسمه.

أى : وشرعنا لكم ـ أيها المؤمنون ـ التقرب إلينا بالإبل البدينة السمينة وجعلنا ذلك شعيرة من شعائر ديننا ، وعلامة من العلامات الدالة على قوة إيمان من ينفذ هذه الشعيرة بتواضع وإخلاص.

وقوله ـ تعالى ـ (لَكُمْ فِيها خَيْرٌ) جملة مستأنفة مقررة لما قبلها. أى : لكم فيه خير في الدنيا عن طريق الانتفاع بألبانها ووبرها .. ولكم فيها خير في الآخرة عن طريق الثواب الجزيل الذي تنالونه من خالقكم بسبب استجابتكم لما أرشدكم إليه.

٣١٢

وقوله ـ تعالى ـ : (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَ) إرشاد لما يقوله الذابح عند ذبحها.

وصواف : جمع صافة. أى : قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن استعدادا للذبح!.

أى : إذا ما هيأتم هذه الإبل للذبح ، فاذكروا اسم الله عليها ، بأن تقولوا عند نحرها : بسم الله والله أكبر ، اللهم منك وإليك.

وقوله ـ سبحانه ـ : (فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) بيان لما ينبغي عليهم فعله بعد ذبحها.

ووجبت بمعنى سقطت : وهو كناية عن موتها. يقال : وجب الجدار إذا سقط ، ووجبت الشمس إذا غابت.

والقانع : هو الراضي بما قدره الله ـ تعالى ـ له ، فلا يتعرض لسؤال الناس مأخوذ من قنع يقنع ـ كرضى يرضى ـ وزنا ومعنى.

والمعتر : هو الذي يسأل غيره ليعطيه. يقال : فلان يعترى الأغنياء ، أى : يذهب إليهم طالبا عطاءهم.

وقيل : القانع هو الطامع الذي يسأل غيره ، والمعتر : هو الذي يتعرض للعطاء من غير سؤال وطلب.

أى : فإذا ما سقطت جنوب هذه الإبل على الأرض ، وأعددتموها للأكل فكلوا منها ، وأطعموا الفقير القانع الذي لا يسألكم ، والفقير المعتر الذي يتعرض لكم بالسؤال والطلب.

ثم بين ـ سبحانه ـ مظاهر فضله عليهم ، حيث ذلل هذه الأنعام لهم فقال : (كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

وقوله (كَذلِكَ) نعت لمصدر محذوف. أى : مثل ذلك التسخير البديع سخرنا لكم هذه الأنعام ، وذللناها لكم ، وجعلناها منقادة لأمركم ، لعلكم بعد أن شاهدتم هذه النعم ، وانتفعتم بها ، تكونون من الشاكرين لنا ، والمستجيبين لتوجيهاتنا وإرشادنا.

قال صاحب الكشاف : منّ الله على عباده واستحمد إليهم ، بأن سخر لهم البدن مثل التسخير الذي رأوا وعلموا. يأخذونها منقادة للأخذ طيعة ، فيعقلونها ويحبسونها صافة قوائمها ، ثم يطعنون في لبانها. ولو لا تسخير الله لم تطعن ، ولم تكن بأعجز من بعض الوحوش التي هي أصغر منها جرما ، وأقل قوة ، وكفى بما يتأبد من الإبل شاهدا على ذلك (١).

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ١٥٩.

٣١٣

ثم ختم ـ سبحانه ـ الحديث عن شعائر الحج ، بتوجيه عباده إلى وجوب الإخلاص له ، والاستجابة لأمره ، وشكره على نعمه ، فقال ـ تعالى ـ : (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ ...).

أى : لن يصل إلى الله ـ تعالى ـ لحم هذه الأنعام ودماؤها ، من حيث هي لحوم ودماء ، ولكن الذي يصل إليه ـ سبحانه ـ ويثيبكم عليه ، هو تقواكم ومراقبتكم له ـ سبحانه ـ وخوفكم منه ، واستقامتكم على أمره وإخلاصكم العبادة له.

قالوا : وفي هذا إشارة إلى قبح ما كان يفعله المشركون ، من تقطيعهم للحوم الأنعام ، ونشرها حول الكعبة ، وتلطيخها بالدماء ، وتحذير للمسلمين من أن يفعلوا فعل هؤلاء الجهلاء ، إذ رضا الله ـ تعالى ـ لا ينال بذلك ، وإنما ينال بتقوى القلوب.

ثم كرر ـ سبحانه ـ تذكيره إياهم بنعمه ، ليكون أدعى إلى شكره وطاعته فقال : (كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ ، لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ).

أى : كهذا التسخير العجيب الذي ترونه سخرنا لكم هذه الأنعام لكي تكبروا الله وتعظموه وتقدسوه بسبب هدايته لكم إلى الإيمان.

وبشر ـ أيها الرسول الكريم ـ المحسنين لأقوالهم وأفعالهم ، بثوابنا الجزيل وبعطائنا الواسع.

وبذلك ترى أن سورة الحج قد سبحت بنا سبحا طويلا في حديثها عن البيت الحرام ، وعن آداب الحج ومناسكه وأحكامه ، وعن الجزاء الحسن الذي أعده ـ تعالى ـ للمستجيبين لأمره.

وبعد هذا الحديث عن الشعائر والمناسك ، أذن ـ سبحانه ـ للمؤمنين بالقتال في سبيله ، للدفاع عن دينه وشعائره ، ووعدهم ـ عزوجل ـ بالنصر متى نصروه وحافظوا على فرائضه ... فقال ـ تعالى ـ :.

(إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (٣٨) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ

٣١٤

يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٤٠) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ)(٤١)

قال الفخر الرازي : اعلم أنه ـ تعالى ـ لما بين ما يلزم في الحج ومناسكه وما فيه من منافع الدنيا والآخرة ، وما كان من صد الكفار عنه ، أتبع ذلك ببيان ما يزيل الصد. ويؤمن معه التمكن من الحج فقال ـ تعالى ـ (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ..) (١).

ومفعول «يدافع» محذوف. وجاء التعبير بقوله ـ تعالى ـ (يُدافِعُ) بصيغة المفاعلة ، للمبالغة في الدفاع والدفع ، أو للدلالة على أن ذلك حاصل للمؤمنين كلما حصل من الكافرين عدوان عليهم.

أى : إن الله ـ تعالى ـ بفضله وكرمه يدافع عن المؤمنين أعداءهم وخصومهم ، فيرد كيدهم في نحورهم.

ويصح أن يكون (يُدافِعُ) بمعنى يدفع ، ويؤيده قراءة ابن كثير وأبى عمرو. أى : أن الله ـ تعالى ـ يدفع السوء عن عباده المؤمنين الصادقين ، ويجعل العاقبة لهم على أعداءهم.

فالجملة الكريمة بشارة للمؤمنين ، وتقوية لعزائمهم حتى يقبلوا على ما شرعه الله لهم من جهاد أعدائهم ، بثبات لا تردد معه ، وبأمل عظيم في نصر الله وتأييده.

وقوله ـ سبحانه ـ : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) تعليل لوعده ـ سبحانه ـ للمؤمنين بالدفاع عنهم ، وبجعل العاقبة لهم.

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٦ ص ١٦٢.

٣١٥

والخوان : هو الشديد الخيانة ، والكفور : هو المبالغ في كفره وجحوده ، فاللفظان كلاهما صيغة مبالغة.

قال الآلوسى : وصيغة المبالغة فيهما لبيان أن المشركين كذلك ، لا للتقييد المشعر بمحبة الخائن والكافر ... (١).

أى : إن الله ـ تعالى ـ يدافع عن المؤمنين لمحبته لهم ، ويبغض هؤلاء الكافرين الذين بلغوا في الخيانة والكفر أقصى الدركات.

وأوثر التعبير بقوله ـ تعالى ـ (لا يُحِبُ) على قوله : يبغض أو يكره ، للإشعار بأن المؤمنين هم أحباء الله ـ تعالى ـ ، وللتعريض بهؤلاء الكافرين الذين تجاوزوا كل حد في كراهيتهم لأهل الحق.

ثم رخص ـ سبحانه ـ للمؤمنين بأن يقاتلوا في سبيله فقال : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ...).

وقوله ـ تعالى ـ (أُذِنَ) فعل ماض مبنى للمجهول مأخوذ من الإذن بمعنى الإباحة والرخصة. والمقصود إباحة مشروعية القتال ، وقد قالوا : بأن هذه الآيات أول ما نزل في شأن مشروعية القتال.

أخرج الإمام أحمد والترمذي عن ابن عباس قال : لما خرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكة قال أبو بكر : أخرجوا نبيهم ليهلكن ، فنزلت هذه الآيات.

وقرأ ابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي (أُذِنَ) بالبناء الفاعل. والمأذون لهم فيه هو القتال ، وهو محذوف في قوة المذكور بدليل قوله (يُقاتَلُونَ) والباء في قوله (بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) للسببية.

أى : أذن الله ـ تعالى ـ للمؤمنين ، ورخص لهم ، بأن يقاتلوا أعداءهم الذين ظلموهم ، وآذوهم ، واعتدوا عليه ، بعد أن صبر هؤلاء المؤمنون على أذى أعدائهم صبرا طويلا.

قال الآلوسى : والمراد بالموصول أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذين في مكة ، فقد نقل الواحدي وغيره ، أن المشركين كانوا يؤذونهم ، وكانوا يأتون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين مضروب ومشجوج ويتظلمون إليه فيقول لهم : اصبروا فإنى لم أومر بالقتال حتى هاجر صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٧ ص ١٦١.

٣١٦

هذه الآية. وهي أول آية نزلت في القتال بعد ما نهى عنه في نيف وسبعين آية (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) وعد منه ـ سبحانه ـ للمؤمنين بالنصر وحض لهم على الإقدام على الجهاد في سبيله بدون تردد أو وهن.

أى : وإن الله ـ تعالى ـ لقادر على أن ينصر عباده المؤمنين. وعلى أن يمكن لهم في الأرض ، وعلى أن يجعلهم الوارثين لأعدائهم الكافرين.

قال الإمام ابن كثير ما ملخصه : قوله : (وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) أى : هو قادر على نصر عباده المؤمنين من غير قتال ، ولكنه يريد من عباده أن يبلوا جهدهم في طاعته ، كما قال ـ تعالى ـ : (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ ، حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ، ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ ، وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ..) (٢).

وإنما شرع ـ سبحانه ـ الجهاد في الوقت الأليق به ، لأنهم لما كانوا بمكة ، كان المشركون أكثر عددا. فلو أمر المسلمون بالقتال لشق ذلك عليهم ...

فلما استقروا بالمدينة. وصارت لهم دار إسلام ، ومعقلا يلجئون إليه شرع الله جهاد الأعداء ، فكانت هذه الآية أول ما نزل في ذلك .. (٣).

وقوله ـ سبحانه ـ : (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ ..) بيان لبعض الأسباب التي من أجلها شرع الله الجهاد في سبيله.

أى : إن الله ـ تعالى ـ لقدير على نصر المؤمنين الذين أخرجهم الكافرون من ديارهم بغير حق ، وبغير أى سبب من الأسباب ، سوى أنهم كانوا يقولون ربنا الله ـ تعالى ـ وحده ، ولن نعبد من دونه إلها آخر.

أى : ليس هناك ما يوجب إخراجهم ـ في زعم المشركين ـ سوى قولهم ربنا الله.

ثم حرض ـ سبحانه ـ المؤمنين على القتال في سبيله ، بأن بين لهم أن هذا القتال يقتضيه نظام هذا العالم وصلاحه ، فقال ـ تعالى ـ : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً).

والمراد بالدفع : إذن الله المؤمنين في قتال المشركين. والمراد بقوله : (بَعْضَهُمْ)

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٧ ص ١٦٢.

(٢) سورة محمد الآية ٤.

(٣) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ٤٣١.

٣١٧

الكافرون. وبقوله : (بِبَعْضٍ) المؤمنون.

والصوامع : جمع صومعة ، وهي بناء مرتفع يتخذه الرهبان معابد لهم.

والبيع : جمع بيعة ـ بكسر الباء ـ وهي كنائس النصارى التي لا تختص بالرهبان.

والصلوات : أماكن العبادة لليهود.

أى : ولو لا أن الله ـ تعالى ـ أباح للمؤمنين قتال المشركين ، لعاث المشركون في الأرض فسادا ، ولهدموا في زمن موسى وعيسى أماكن العبادة الخاصة بأتباعهما ، ولهدموا في زمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم المساجد التي تقام فيها الصلاة.

قال القرطبي : قوله ـ تعالى ـ : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ...) أى : ولو لا ما شرعه الله ـ تعالى ـ للأنبياء والمؤمنين من قتال الأعداء لاستولى أهل الشرك. وعطلوا ما بناه أهل الديانات من مواضع العبادات ولكنه دفع بأن أوجب القتال ليتفرغ أهل الدين للعبادة. فالجهاد أمر متقدم في الأمم. وبه صلحت الشرائع ، واجتمعت المتعبدات ، فكأنه قال : أذن في القتال فليقاتل المؤمنون. ثم قوى هذا الأمر في القتال بقوله : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ ...) الآية أى : لو لا الجهاد والقتال لتغلب أهل الباطل على أهل الحق في كل أمة ... (١).

فالآية الكريمة تفيد أن الله ـ تعالى ـ قد شرع القتال لإعلاء الحق وإزهاق الباطل ، ولو لا ذلك لاختل هذا العالم ، وانتشر فيه الفساد.

والتعبير بقوله ـ تعالى ـ : (لَهُدِّمَتْ) بالتشديد للإشعار بأن عدم مشروعية القتال ، يؤدى إلى فساد ذريع ، وإلى تحطيم شديد لأماكن العبادة والطاعة لله ـ عزوجل ـ.

وقدم الصوامع والبيع والصلوات على المساجد ، باعتبار أنها أقدم منها في الوجود ، أو للانتقال من الشريف إلى الأشرف.

ثم ساق ـ سبحانه ـ بأسلوب مؤكد سنة من سننه التي لا تتخلف فقال : (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ).

أى : والله لينصرن ـ سبحانه ـ من ينصر دينه وأولياءه ، لأنه ـ تعالى ـ هو القوى على كل فعل يريده ، العزيز الذي لا يغالبه مغالب ، ولا ينازعه منازع.

وقد أنجز ـ سبحانه ـ وعده وسنته ، فسلط عباده المؤمنين من المهاجرين والأنصار ، على

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٢ ص ٧٠.

٣١٨

أعدائه ، فأذلوا الشرك والمشركين وحطموا دولتي الأكاسرة والقياصرة ، وأورثهم أرضهم وديارهم.

ثم وصف ـ سبحانه ـ هؤلاء المؤمنين الذين وعدهم بنصره بأكرم الصفات ليميزهم عن غيرهم فقال : (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ ، وَآتَوُا الزَّكاةَ ، وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ ، وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ).

أى : ولينصرن الله ـ تعالى ـ هؤلاء المؤمنين الصادقين الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق ، والذين من صفاتهم أنهم إذا ما مكنا لهم في الأرض ، ونصرناهم على أعدائهم ، شكروا لنا ما أكرمناهم به ، فأقاموا الصلاة في مواقيتها بخشوع وإخلاص ، وقدموا زكاة أموالهم للمحتاجين ، وأمروا غيرهم بالمعروف ونهوه عن المنكر ، ولله ـ تعالى ـ وحده عاقبة الأمور ومردها ومرجعها في الآخرة ، فيجازى كل إنسان بما يستحقه من ثواب أو عقاب.

فالآية الكريمة تبين أن أولى الناس بنصر الله ، هم هؤلاء المؤمنون الصادقون ، الذين أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ...

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ ..) (٢).

وبعد أن أذن الله ـ تعالى ـ لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللمؤمنين في القتال ، وبشرهم بالنصر .. أتبع ذلك بتسليته صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما أصابه من حزن بسبب تكذيب المشركين له ووبخ ـ سبحانه ـ أولئك المشركين على عدم اعتبارهم بمن سبقهم فقال ـ تعالى ـ :

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (٤٢) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (٤٣) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٤) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها

__________________

(١) سورة غافر الآية ٥١.

(٢) سورة محمد الآية ٧.

٣١٩

وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (٤٥) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٤٦) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٤٧) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (٤٨) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٤٩) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٥٠) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ)(٥١)

والمعنى : لا تحزن ـ أيها الرسول الكريم ـ لأن هؤلاء المشركين قد كذبوك فيما جئتهم به من عند ربك ، وأعرضوا عنه ، فإن قوم نوح ، وقوم هود. وقوم صالح ، وقوم إبراهيم ، وقوم لوط ، وقوم شعيب ، وقوم موسى ، قد كذبوا هؤلاء الأنبياء الكرام ، وما يقال لك من هؤلاء المشركين ، قد قيل للرسل من قبلك.

قال ـ تعالى ـ : (كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ* أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ* فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ* وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) (١).

واستغنى في عاد وثمود عن ذكر القوم ، لاشتهارهم بهذا الاسم الذي يدل دلالة واضحة على هؤلاء الظالمين.

وقال ـ سبحانه ـ : (وَأَصْحابُ مَدْيَنَ) ولم يقل وقوم شعيب ، لأنهم هم الأسبق في التكذيب له ـ عليه‌السلام ـ على أصحاب الأيكة ، ولأنهم هم أهله أما أصحاب الأيكة فكانوا غرباء عنه.

__________________

(١) سورة الذاريات الآيات من ٥٢ ـ ٥٥.

٣٢٠