التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٩

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٩

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0683-3
الصفحات: ٣٥٥

مفرد جاء بصيغة الجمع ، أو جمع لا واحد له ، أو جمع شدة ـ كأنعم ونعمة ـ.

قال الآلوسى : «والجملة علة لنخرجكم ، وهي معطوفة على علة أخرى مناسبة لها.

كأنه قيل : ثم نخرجكم لتكبروا شيئا فشيئا ثم لتبلغوا أشدكم ، أى كمالكم في القوة والعقل والتمييز .. وقيل : علة لمحذوف. والتقدير : ثم نمهلكم لتبلغوا أشدكم ...

وتقديم التبيين «لنبين لكم» على ما بعده ، مع أن حصوله بالفعل بعد الكل ، للإيذان بأنه غاية الغايات ومقصود بالذات.

وإعادة اللام في «لتبلغوا» مع تجريد «نقر ، ونخرج» عنها ، للإشعار بأصالة البلوغ بالنسبة إلى الإقرار والإخراج إذ عليه يدور التكليف المؤدى إلى السعادة والشقاوة» (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) بيان للطور السابع والأخير.

أى : منكم ـ أيها الناس ـ من يبلغ أشده في هذه الحياة ، ومنكم من يموت قبل ذلك ، ومنكم من يعيش إلى أرذل العمر أى : أخسه وأدونه ، فيصير من بعد علمه بالأشياء وفهمه لها ، لا علم له ولا فهم ، شأنه في ذلك شأن الأطفال.

قال ـ تعالى ـ : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ* ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) فالآية الكريمة تصور أطوار خلق الإنسان ومراحل حياته أكمل تصوير ، للتنبيه على مظاهر قدرة الله ـ تعالى ـ وعلى أن البعث حق وصدق.

وبعد إقامة هذا الدليل من نفس الإنسان وتطور خلقه على صحة البعث ، ساق ـ سبحانه ـ الدليل الثاني عن طريق مشاهدة الأرض وتنقلها من حال إلى حال ، فقال ـ تعالى ـ (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ).

وقوله : (هامِدَةً) أى : يابسة ، يقال : همدت الأرض تهمد ـ بضم الميم ـ همودا ، إذا يبست.

ومعنى : «اهتزت» : تحركت ، يقال : هز فلان الشيء فاهتز ، إذا حركه فتحرك.

ومعنى : «ربت» زادت بسبب تداخل الماء والنبات فيها ، يقال : ربا الشيء يربو ربوا ، إذا زاد ونما ، ومنه الربا والربوة.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٧ ص ١١٧.

٢٨١

أى : وترى ـ أيها العاقل ـ ببصرك الأرض يابسة لا نبات فيها ، فإذا ما أنزلنا عليها بقدرتنا الماء ، تحركت بسبب خروج النبات منها ، وانتفخت بسبب ما يتخللها من الماء والنبات ، وأنبتت بعد ذلك من كل صنف بهيج نضر حسن المنظر.

وشبيه بهذه الآية في أن إحياء الأرض بعد موتها دليل على إحياء الناس بعد موتهم ، بقدرة الله ـ تعالى ـ وإرادته ، قوله ـ عزوجل ـ : (وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ، إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك ما يدل على وحدانيته وقدرته فقال : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ ، وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى ، وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

واسم الإشارة يعود إلى المذكور من خلق الإنسان وإحياء الأرض بعد موتها ..

أى : ذلك الذي ذكرناه لكم دليل واضح ، وبرهان قاطع ، على أن الله ـ تعالى ـ هو الإله الحق ، الذي يجب أن تخلصوا له العبادة والطاعة ، لأنه هو وحده الخالق لكل شيء ، ولأنه هو وحده الذي يعيد الموتى إلى الحياة ، ولأنه هو وحده الذي لا يعجزه شيء.

وخص ـ سبحانه ـ إحياء الموتى بالذكر ، مع أنه من جملة الأشياء المقدور عليها. للتصريح بما هو محل النزاع وهو البعث ، ولدحض شبه المنكرين له.

ثم أكد ـ سبحانه ـ ذلك تأكيدا دامغا فقال : (وَأَنَّ السَّاعَةَ) وما تشتمل عليه من حساب وثواب وعقاب (آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها) أى : لا ريب ولا شك في إتيانها في الوقت الذي يريده الله ـ تعالى ـ.

(وَأَنَّ اللهَ) ـ تعالى ـ وحده (يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) ليحاسبهم على أعمالهم.

وبذلك نرى الآيات الكريمة قد أقامت أعظم الأدلة وأوضحها على وحدانية الله ـ تعالى ـ وقدرته ، وعلى أن البعث حق وصدق وأنه آت لا ريب فيه.

ثم ساقت السورة الكريمة بعد ذلك نموذجين لصنفين من الناس ، أحدهما : متكبر مغرور ، والآخر مذبذب لا ثبات له في عقيدة فقال ـ تعالى ـ :

__________________

(١) سورة فصلت الآية ٣٩.

٢٨٢

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٨) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (٩) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٠) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١١) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٢) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ)(١٣)

قال ابن كثير ـ رحمه‌الله ـ : «لما ذكر ـ تعالى ـ حال الضلال الجهال المقلدين لغيرهم في الآية الثالثة من هذه السورة وهي قوله ـ سبحانه ـ : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ) ، ذكر في هذه حال الدعاة إلى الضلال من رءوس الكفر والبدع ، فقال : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) أى : بلا عقل صحيح. ولا نقل صحيح صريح بل بمجرد الرأى والهوى» (١).

ولعل مما يؤيد ما ذهب إليه ابن كثير من أن الآية الثالثة من هذه السورة في شأن المقلدين لغيرهم ، أنه ـ سبحانه ـ قال فيها في شأنهم : (وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ).

أما في هذه الآية فقد قال في شأن هذا النوع من الناس : (ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ...) أى : ليضل غيره ويصرفه عن طاعة الله ـ تعالى ـ واتباع طريقه الحق.

وقد نفت الآية الكريمة عن هذا المجادل ، استناده إلى أى دليل أو ما يشبه الدليل ، فهو يجادل في ذات الله ـ تعالى ـ وفي صفاته «بغير علم» يستند إليه وبغير «هدى» يهديه

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ٣٩٤.

٢٨٣

ويرشده إلى الحق وبغير «كتاب منير» أى : وبغير وحى ينير عقله وقلبه ، ويوضح له سبيل الرشاد.

فأنت ترى أن الآية قد جردت هذا المجادل من أى مستند إليه في جداله سواء كان عقليا أم نقليا ، بل أثبتت له الجهالة من جميع الجهات.

ثم صورته السورة الكريمة بعد ذلك بتلك الصورة المزرية ، صورة الجاهل المغرور المتعجرف ، فقال ـ تعالى ـ : (ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ).

وقوله (ثانِيَ) من الثّنى بمعنى اللّىّ والميل عن الاستقامة. يقال : فلان ثنى الشيء إذا رد بعضه على بعض فانثنى أى : مال والتوى.

والعطف ـ بكسر العين ـ الجانب ، وهذا التعبير كناية عن غروره وصلفه مع جهله. أى : أنه مع جداله بدون علم ، متكبر معجب بنفسه ، معرض عن الحق ، مجتهد في إضلال غيره عن سبيل الله ـ تعالى ـ وعن الطريق الذي يوصل إلى الرشاد.

ثم بين ـ سبحانه ـ سوء عاقبة هذا الجاهل المغرور المضل لغيره فقال : و (لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) أى : هوان وذلة وصغار.

(وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ) أى : ونجعله يوم القيامة يدرك طعم العذاب المحرق. ويصطلى به جزاء غروره وشموخه في الدنيا بغير حق.

وتقول له ملائكتنا وهي تصب عليه ألوان العذاب (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ) أى : ذلك الذي تتذوقه من عذاب محرق سببه : جهلك وغرورك وإصرارك على الكفر ، وحرصك على إضلالك لغيرك.

وأسند ـ سبحانه ـ سبب ما نزل بهذا الكافر من خزي وعذاب إلى يديه ، لأنهما الجارحتان اللتان يزاول بهما أكثر الأعمال.

وقوله ـ سبحانه ـ (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) بيان لعدله ـ تعالى ـ مع عباده ، أى : وأن الله ـ تعالى ـ ليس بذي ظلم لعباده أصلا ، حتى يعذبهم بدون ذنب ، بل هو عادل رحيم بهم ، ومن مظاهر عدله ورحمته أنه يضاعف الحسنات ، ويعاقب على السيئات ، ويعفو عن كثير من ذنوب عباده.

ثم بين ـ سبحانه ـ نوعا آخر من الناس ، لا يقل جرما عن سابقه فقال ـ تعالى ـ : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ ، فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ ، وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ ..).

٢٨٤

قال صاحب الكشاف : «على حرف» أى : على طرف من الدين لا في وسطه وقلبه. وهذا مثل لكونهم على قلق واضطراب في دينهم : لا على سكون وطمأنينة ، كالذي يكون على طرف من العسكر ، فإن أحس بظفر وغنيمة قر واطمأن ، وإلا فر وطار على وجهه ...» (١).

وقد ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآية روايات منها : ما أخرجه البخاري عن ابن عباس قال : كان الرجل يقدم المدينة ، فإذا ولدت امرأته غلاما ، ونتجت خيله. قال : هذا دين صالح ، وإن لم تلد امرأته ، ولم تنتج خيله قال : هذا دين سوء ...» (٢).

والمتأمل في هذه الآية الكريمة يراها قد صورت المذبذبين في عقيدتهم أكمل تصوير ، فهم يقيسون العقيدة بميزان الصفقات التجارية ، إن ربحوا من ورائها فرحوا ، وإن خسروا فيها أصابهم الغم والحزن.

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ في شأن المنافقين : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ) (٣).

والتعبير بقوله ـ سبحانه ـ (عَلى حَرْفٍ) يصور هذا النوع من الناس ، وكأنه يترجح في عبادته كما يترجح من يكون على طرف الشيء. فهو معرض للسقوط في أية لحظة.

والمراد من الخير في قوله ـ تعالى ـ (فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ) الخير الدنيوي من صحة وغنى ومنافع دنيوية.

أى : فإن نزل بهذا المذبذب في عبادته خير دنيوى (اطْمَأَنَّ بِهِ) أى : ثبت على ما هو عليه من عبادة ثباتا ظاهريا ، وليس ثباتا قلبيا حقيقيا كما هو شأن المؤمنين الصادقين الذين لا يزحزحهم عن إيمانهم وعد أو وعيد.

(وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ) أى : مصيبة أو شر (انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ) أى : ارتد ورجع عن عبادته ودينه إلى الكفر والمعاصي.

وقوله ـ تعالى ـ : (خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) بيان لسوء عاقبة صنيعه.

أى : هذا الذي يعبد الله على حرف ، جمع على نفسه خسارتين ، خسارة الدنيا بسبب عدم حصوله على ما يريده منها ، وخسارة الآخرة بسبب ارتداده إلى الكفر وغشيان السيئات ،

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ١٤٦.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٧ ص ١٢٤.

(٣) سورة التوبة الآية ٥٨.

٢٨٥

وذلك الذي جمعه على نفسه هو الخسران الواضح ، الذي لا ينازع في شأنه عاقلان ، إذ لا خسران أشد وأظهر ، من الخسران الذي ضيع دنياه وآخرته.

ثم بين ـ سبحانه ـ مظاهر خسران هذا المذبذب ، وأحواله القبيحة فقال : (يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ..).

أى : يعبد سوى الله ـ تعالى ـ أوثانا وأصناما ، إن ترك عبادتها لا تستطيع أن تضره ، وإن عبدها فلن تستطيع أن تنفعه.

و (ذلِكَ) الذي يفعله هذا الشقي من عبادته لما لا يضر ولا ينفع (هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) بعدا شاسعا عن كل صواب ورشاد.

ثم أضاف ـ سبحانه ـ إلى تبكيت هذا المذبذب وتقريعه تقريعا آخر فقال : (يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ ، لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ).

والمولى : هو كل من انعقد بينك وبينه سبب ، يجعلك تواليه ويواليك ، وتناصره ويناصرك. والعشير : هو من يعاشرك ويخالطك في حياتك.

أى : يعبد هذا الإنسان الجاهل المضطرب ، معبودا ضرره أقرب من منفعته ، لبئس الناصر ولبئس الصاحب هذا المعبود.

فإن قيل : كيف نجمع بين هذه الآية التي جعلت المعبود الباطل ضرره أقرب من نفعه ، وبين الآية السابقة عليها والتي نفت الضر والنفع نفيا تاما.

وقد أجاب العلماء عن هذا التساؤل بإجابات منها : أن لفظ «يدعو» في الآية الثانية بمعنى يقول.

وقد صدر الآلوسى تفسيره للآية بهذا الرأى فقال ما ملخصه : «قوله ـ تعالى ـ (يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ). استئناف يبين مآل دعائه وعبادته غير الله ـ تعالى ـ ويقرر كون ذلك ضلالا بعيدا. فالدعاء هنا بمعنى القول.

أى : يقول الكافر يوم القيامة برفع صوت ، وصراخ حين يرى تضرره بمعبوده ودخوله النار بسببه ، ولا يرى منه أثرا مما كان يتوقعه منه من نفع أو دفع ضر : والله لبئس الذي يتخذ ناصرا ـ من دون الله ـ ولبئس الذي يعاشر ويخالط ، فكيف بما هو ضرر محض ، عار عن النفع بالكلية ، وفي هذا من المبالغة في تقبيح حال الصنم والإمعان في ذمه ما لا يخفى ...» (١).

ومنها ما ذكره الإمام القرطبي فقال : قوله ـ تعالى ـ (يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٨ ص ١٢٥.

٢٨٦

نَفْعِهِ) أى : هذا الذي انقلب على وجهه يدعو من ضره أدنى من نفعه ، أى : في الآخرة ، لأنه بعبادته دخل النار. ولم ير منه نفعا أصلا ، ولكنه قال : ضره أقرب من نفعه ، ترفيعا للكلام ، كقوله ـ تعالى ـ : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (١).

ومنها : ما ذكره بعض العلماء من أن الآية الأولى في شأن الذين يعبدون الأصنام ، إذ الأصنام لا تنفع من عبدها ، ولا تضر من كفر بها ، ولذا قال فيها : ما لا يضره وما لا ينفعه ، والقرينة على أن المراد بذلك الأصنام : التعبير بلفظة «ما» في قوله : (ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ) لأن لفظ «ما» يأتى ـ غالبا ـ لما لا يعقل. والأصنام لا تعقل.

أما الآية الثانية فهي في شأن من عبد بعض الطغاة من دون الله ، كفرعون القائل لقومه : «ما علمت لكم من إله غيرى» فإن فرعون وأمثاله من الطغاة المعبودين ، قد يغدقون نعم الدنيا على عابديهم. وهذا النفع الدنيوي بالنسبة لما سيلاقونه من عذاب لا شيء. فضر هذا المعبود بخلود عابده في النار. أقرب من نفعه بعرض قليل زائل من حطام الدنيا.

والقرينة على أن المراد بالمعبود الباطل في الآية الثانية بعض الطغاة الذين هم من جنس العقلاء : هي التعبير «بمن» التي تأتى ـ غالبا ـ لمن يعقل ، كما قال ـ تعالى ـ : (يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ ..) (٢).

ويبدو لنا أن هذا القول الأخير له وجه من القبول.

وبذلك نرى السورة الكريمة قد ساقت لنا نماذج من أحوال الناس في هذه الحياة. لكي يحذرهم المؤمنون ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة.

ثم بينت السورة الكريمة ما أعده الله ـ تعالى ـ للمؤمنين الصادقين من حسن الثواب ، بعد أن صرحت بما توعد به ـ سبحانه ـ المجادلين فيه بغير علم بسوء العقاب ، فقال ـ تعالى ـ :

(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ)(١٤)

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٢ ص ١٨.

(٢) أضواء البيان ج ٥ ص ٤٨ للمرحوم الشيخ محمد الأمين الشنقيطى.

٢٨٧

أى : إن الله ـ تعالى ـ بفضله وكرمه ، يدخل عباده «الذين آمنوا» إيمانا حقا ، «وعملوا» الأعمال «الصالحات جنات تجرى من» تحت أشجارها ، «الأنهار» إن الله ـ تعالى ـ يفعل ما يريد فعله على حسب ما تقتضيه حكمته ومشيئته دون أن ينازعه في ذلك منازع. أو يعارضه معارض ، فهو ـ سبحانه ـ لا يسأل عما يفعل.

ثم بين ـ سبحانه ـ أن نصره لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم آت لا شك فيه مهما كره ذلك الكارهون ، فقال ـ تعالى ـ :

(مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (١٥) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ) (١٦)

وللعلماء في تفسير الآية الأولى أقوال :

أولها أن الضمير في قوله (يَظُنُ) يعود إلى أعداء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي قوله (يَنْصُرَهُ) يعود إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمعنى : «من كان يظن» من الكافرين الكارهين للحق الذي جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أن لن ينصره الله». أى : أن لن ينصر الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم «في الدنيا والآخرة فليمدد» هذا الكافر «بسبب» أى : بحبل إلى السماء ، أى : سقف بيته ، لأن العرب تسمى كل ما علاك فهو سماء.

«ثم ليقطع» ثم ليختنق هذا الكافر بهذا الحبل ، بأن يشده حول عنقه ويتدلى من الحبل المعلق بالسقف حتى يموت.

«فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ» أى : فليتفكر هذا الكافر في أمره ، هل يزيل فعله هذا ما امتلأت به نفسه من غيظ لنصر الله ـ تعالى ـ لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟

كلا ، فإن ما يفعله بنفسه من الاختناق والغيظ ، لن يغير شيئا من نصر الله ـ تعالى ـ لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فليمت هذا الكافر بغيظه وكيده.

فالمقصود بالآية الكريمة : بيان أن ما قدره الله ـ تعالى ـ من نصر لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لن

٢٨٨

يحول بين تنفيذه حائل ، مهما فعل الكافرون ، وكره الكارهون ، فليموتوا بغيظهم ، فإن الله ـ تعالى ـ ناصر نبيه لا محالة.

وصح عود الضمير في قوله (أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ) إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع أنه لم يسبق له ذكر ، لأن الكلام دال عليه في الآيات السابقة ، إذ المراد بالإيمان في قوله ـ تعالى ـ في الآية السابقة (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ...) الإيمان بصدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما جاء به عند ربه ـ تعالى ـ.

وعبر ـ سبحانه ـ عن اختناق هذا الحاقد بالحبل بقوله : (ثُمَّ لْيَقْطَعْ) لأن قطع الشيء يؤدى إلى انتهائه وهلاكه ، والمفعول محذوف. والتقدير : ثم ليقطع نفسه أو حياته.

وقد صدر صاحب الكشاف تفسيره للآية بهذا القول فقال : هذا كلام قد دخله اختصار.

والمعنى : إن الله ناصر رسوله في الدنيا والآخرة ، فمن كان يظن من حاسديه وأعاديه أن الله يفعل خلاف ذلك .. فليستقص وسعه ، وليستفرغ مجهوده في إزالة ما يغيظه. بأن يفعل ما يفعله من بلغ به الغيظ كل مبلغ ، حتى مد حبلا إلى سماء بيته فاختنق ، فلينظر ـ هذا الحاسد ـ وليصور في نفسه أنه إن فعل ذلك هل يذهب نصر الله الذي يغيظه؟

وسمى ـ سبحانه ـ فعل هذا الكافر كيدا ، لأنه وضعه موضع الكيد ، حيث لم يقدر على غيره ، أو سماه كذلك على سبيل الاستهزاء ، لأنه لم يكد به محسوده ، إنما كاد نفسه.

والمراد : إنه ليس في يده إلا ما ليس بمذهب لما يغيظه ...» (١).

وثانيها : إن الضمير في قوله : (لَنْ يَنْصُرَهُ) يعود إلى «من» في قوله (مَنْ كانَ يَظُنُ) وأن النصر هنا بمعنى الرزق ..

فيكون المعنى : من كان من الناس يظن أن لن يرزقه الله في الدنيا والآخرة فليختنق ، وليقتل نفسه ، إذ لا خير في حياة ليس فيها رزق الله وعونه ، أو فليختنق ، فإن اختناقه لن يغير شيئا مما قضاه الله ـ تعالى ـ.

قال الآلوسى : واستظهر أبو حيان كون الضمير في «ينصره» عائدا على «من» لأنه المذكور ، وحق الضمير أن يعود على مذكور ... وفسر النصر بالرزق.

قال أبو عبيدة : وقف علينا سائل من بنى بكر فقال : من ينصرني نصره الله ـ أى : من يرزقني رزقه الله.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ١٤٨.

٢٨٩

والمعنى : أن الأرزاق بيد الله ـ تعالى ـ لا تنال إلا بمشيئته ، فمن ظن أن الله ـ تعالى ـ غير رازقه ، ولم يصبر ولم يستسلم فليختنق ، فإن ذلك لا يقلب القسمة ولا يرده مرزوقا.

والغرض : الحث على الرضا بما قسمه الله ـ تعالى ـ لا كمن يعبده على حرف ... (١).

وثالثها : أن الآية في قوم من المسلمين استبطئوا نصر الله ـ تعالى ـ لاستعجالهم وشدة غيظهم وحنقهم على المشركين ، فنزلت الآية لبيان أن كل شيء عند الله بمقدار.

ويكون المعنى : من كان من الناس يظن أن لن ينصره الله ، واستبطأ حدوث ذلك ، فليمت غيظا. لأن للنصر على المشركين وقتا لا يقع إلا فيه بإذن الله ومشيئته.

ويبدو أن أقرب الأقوال إلى الصواب ، القول الأول ، وعليه جمهور المفسرين ، ويؤيده قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ : (... وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ ، قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٣).

ثم مدح ـ سبحانه ـ القرآن الكريم فقال : (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ ...) أى : ومثل ذلك الإنزال البليغ الواضح ، أنزلنا القرآن آيات بينات الدلالة على معانيها الحكيمة ، وتوجيهاتها السديدة.

وأن الله ـ تعالى ـ يهدى من يريد هدايته إلى صراطه المستقيم ، فهو الهادي الذي ليس هناك من هاد سواه.

ثم بين ـ سبحانه ـ أن مرد الفصل بين الفرق المختلفة إليه وحده. إذ هو العليم بكل ما عليه كل فرقة من حق أو باطل ، فقال ـ تعالى ـ :

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)(١٧)

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٧ ص ١٢٧.

(٢) سورة غافر الآية ٥١.

(٣) سورة آل عمران الآية ١١٩.

٢٩٠

ففي هذه الآية الكريمة حدثنا القرآن عن ست فرق من الناس : أما الفرقة الأولى ، فهي : فرقة الذين آمنوا ، والمراد بهم : الذين آمنوا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصدقوه واتبعوه.

وابتدأ القرآن بهم ، للإشعار بأن دين الإسلام هو الدين الحق ، القائم على أساس أن الفوز برضا الله ـ تعالى ـ لا ينال إلا بالإيمان والعمل الصالح ، ولا فضل لأمة على أمة إلا بذلك ، كما قال ـ تعالى ـ : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ).

وأما الفرقة الثانية فهي فرقة الذين هادوا أى : صاروا يهودا. يقال : هاد فلان وتهود أى : دخل في اليهودية.

وسموا يهودا نسبة إلى «يهوذا» أحد أولاد يعقوب ـ عليه‌السلام ـ ، وقلبت الذال دال عند التعريب. أو سموا يهودا حين تابوا من عبادة العجل مأخوذ من هاد يهود هودا بمعنى تاب. ومنه قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) أى : تبنا إليك.

والفرقة الثالثة هي فرقة «الصابئين» جمع صابئ ، وهو الخارج من دين إلى آخر.

يقال : صبأ الظّلف والناب والنجم ـ كمنع وكرم ـ إذا طلع.

والمراد بهم : الخارجون من الدين الحق إلى الدين الباطل. وهم قوم يعبدون الكواكب والملائكة ويزعمون أنهم على دين صابئ بن شيث بن آدم.

والفرقة الرابعة هي فرقة «النصارى» جمع نصران بمعنى نصراني كندامى وندمان. والياء في نصراني للمبالغة ، وهم قوم عيسى ـ عليه‌السلام ـ ، قيل : سموا بذلك لأنهم كانوا أنصارا له : وقيل : إن هذا الاسم مأخوذ من الناصرة ، وهي القرية التي كان عيسى قد نزل بها.

وأما الفرقة الخامسة فهي فرقة «المجوس» وهم قوم يعبدون الشمس والقمر والنار. وقيل : هم قوم أخذوا من دين النصارى شيئا ، ومن دين اليهود شيئا ، ويقولون : بأن للعالم أصلين : نورا وظلمة ..

وأما الفرقة السادسة والأخيرة فهي فرقة الذين أشركوا. والمشهور أنهم عبدة الأصنام والأوثان ، وقيل ما يشملهم ويشمل معهم كل من اتخذ مع الله ـ تعالى ـ إلها آخر.

وقوله ـ سبحانه ـ : (إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) بيان لما سيكون عليه حالهم جميعا يوم القيامة ، من حكم عادل سيحكم الله ـ تعالى ـ به عليهم.

أى : إن الله تعالى يحكم بين هؤلاء جميعا بحكمه العادل يوم القيامة ، إنه ـ سبحانه ـ على

٢٩١

كل شيء شهيد ، بحيث لا يخفى عليه شيء من أحوال خلقه.

قال الجمل ما ملخصه : ولهذه الآية قيل : الأديان ستة. واحد للرحمن وهو الإسلام. وخمسة للشيطان وهي ما عداه. وإنّ الثانية واسمها وخبرها في محل رفع خبر لإن الأولى.

وقوله : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) تعليل لقوله : (إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ ..) وكأن قائلا قال : أهذا الفصل عن علم أو لا؟ فقيل : إن الله على كل شيء شهيد. أى : علم به علم مشاهدة» (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ أن الكون كله يخضع لسلطانه ـ تعالى ـ ويسجد لوجهه فقال :

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ)(١٨)

والاستفهام في قوله (أَلَمْ تَرَ ...) للتقرير. والرؤية هنا بمعنى العلم وذلك لأن سجود هذه الكائنات لله ـ تعالى ـ آمنا به عن طريق الإخبار دون أن نرى كيفيته.

والسجود في اللغة : التذلل والخضوع مع انخفاض بانحناء وما يشبهه. وخص في الشرع بوضع الجبهة على الأرض بقصد العبادة.

والمراد به هنا : دخول الأشياء جميعها تحت قبضة الله ـ تعالى ـ وتسخيره وانقيادها لكل ما يريده منا انقيادا تاما ، وخضوعها له ـ عزوجل ـ بكيفية هو الذي يعلمها. فنحن نؤمن بأن هذه الكائنات تسجد لله ـ تعالى ـ ونفوض كيفية هذا السجود له ـ تعالى ـ.

والمعنى : لقد علمت ـ أيها العاقل ـ أن الله ـ تعالى ـ يسجد له ، ويخضع لسلطانه جميع من في السموات وجميع من في الأرض.

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ١٥٨.

٢٩٢

وقوله : (وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ) عطف خاص على قوله : (مَنْ فِي السَّماواتِ).

ونص ـ سبحانه ـ عليها مفردا إياها بالذكر ، لشهرتها ، ولاستبعاد بعضهم حدوث السجود منها ، ولأن آخرين كانوا يعبدون هذه الكواكب ، فبين ـ سبحانه ـ أنها عابدة وساجدة لله ، وليست معبودة.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُ) عطف خاص على (مَنْ فِي الْأَرْضِ) ونص ـ سبحانه ـ عليها ـ أيضا ـ لأن بعضهم كان يعبدها ، أو يعبد ما يؤخذ منها كالأصنام.

وقوله ـ تعالى ـ (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) بيان الذين اهتدوا إلى طريق الحق.

أى : ويسجد له ـ كذلك ـ كثير من الناس ، وهم الذين خلصت عقولهم من شوائب الشرك والكفر ، وطهرت نفوسهم من الأدناس والأوهام.

وقوله : (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) بيان لحال الذين استحبوا العمى على الهدى.

أى : وكثير من الناس حق وثبت عليهم العذاب ، بسبب إصرارهم على الكفر ، وإيثارهم الغي على الرشد.

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بما يدل على نفاذ قدرته ، وعموم مشيئته فقال : (وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ. إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ).

و «من» شرطية ، وجوابها : «فما له من مكرم» ومكرم اسم فاعل من أكرم.

أى : ومن يهنه الله ويخزه ، فما له من مكرم يكرمه ، أو منقذ ينقذه مما هو فيه من شقاء ، إن الله ـ تعالى ـ يفعل ما يشاء فعله بدون حسيب يحاسبه ، أو معقب يعقب على حكمه (١).

قال ـ تعالى ـ : (وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ).

* * *

ثم ساق ـ سبحانه ـ بعد ذلك صورة فيها ما فيها من وجوه المقارنات بين مصير الكافرين ومصير المؤمنين. لكي ينحاز كل ذي عقل سليم إلى فريق الإيمان لا الكفر ، فقال ـ تعالى ـ :

(هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ

__________________

(١) سورة الرعد الآية ٤١.

٢٩٣

مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (٢٠) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (٢١) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٢٢) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٢٣) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ)(٢٤)

ذكر المفسرون في سبب نزول قوله ـ تعالى ـ (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ...) روايات أشار الإمام ابن كثير إلى معظمها فقال : «ثبت في الصحيحين عن أبى ذر : أنه كان يقسم قسما أن هذه الآية (هذانِ خَصْمانِ) نزلت في حمزة وصاحبيه. وعتبة وصاحبيه ، يوم برزوا في بدر.

وعن قتادة قال : اختصم المسلمون وأهل الكتاب ، فقال أهل الكتاب : نبينا قبل نبيكم ، وكتابنا قبل كتابكم ، فنحن أولى بالله منكم ، وقال المسلمون : كتابنا يقضى على الكتب كلها ، ونبينا خاتم الأنبياء ، فنحن أولى بالله منكم ، فأفلج الله الإسلام على من ناوأه ـ أى فنصر الله الإسلام ـ ، وأنزل الآية.

وعن مجاهد في الآية : مثل الكافر والمؤمن اختصما في البعث.

وهذا القول يشمل الأقوال كلها ، وينتظم فيه قصة بدر وغيرها ، فإن المؤمنين يريدون نصرة دين الله ، والكافرون يريدون إطفاء نور الإيمان (١).

أى : هذان خصمان اختصموا في ذات ربهم وفي صفاته ، بأن اعتقد كل فريق منهم أنه على الحق ، وأن خصمه على الباطل.

قال الجمل : والخصم في الأصل مصدر ولذلك يوحد ويذكر غالبا ، وعليه قوله

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ٤٠١.

٢٩٤

ـ تعالى ـ : (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) (١) ويجوز أن يثنى ويؤنث ، ولما كان كل خصم فريقا يجمع طوائف قال : (اخْتَصَمُوا) بصيغة الجمع كقوله ـ تعالى ـ : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) فالجمع مراعاة للمعنى (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ : (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ ...) تفصيل وبيان لحال كل خصم وفريق.

أى : فالذين كفروا جزاؤهم أنهم قطع الله ـ تعالى ـ لهم من النار ثيابا ، وألبسهم إياها.

قال الآلوسى : أى أعد الله لهم ذلك ، وكأنه شبه إعداد النار المحيطة بهم بتقطيع ثياب وتفصيلها لهم على قدر جثثهم. ففي الكلام استعارة تمثيلية تهكمية ، وليس هناك تقطيع ثياب ولا ثياب حقيقة. وكأن جمع الثياب للإيذان بتراكم النار المحيطة بهم ، وكون بعضها فوق بعض .. وعبر بالماضي ، لأن الإعداد قد وقع ، فليس من التعبير بالماضي لتحققه .. (٣).

وقوله : (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ) زيادة في عذابهم ، أى : لم تقطع لهم ثياب من نار فحسب ، وإنما زيادة على ذلك يصب من فوق رءوسهم «الحميم» أى : الماء البالغ أقصى درجات الشدة في الحرارة.

وقوله : (يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ) بيان للآثار التي تترتب على هذا العذاب.

والفعل «يصهر» مأخوذ من الصهر بمعنى الإذابة. يقال : صهر فلان الشحم يصهره إذا أذابه.

أى : فذلك الحميم الذي يصب من فوق رءوسهم من آثاره أنه يذاب به ما في بطونهم من الشحوم والأحشاء. كما تذاب به جلودهم ـ أيضا ـ فقوله : (وَالْجُلُودُ) عطف على (ما) الموصولة في قوله (ما فِي بُطُونِهِمْ) أى : يذاب به الذي في بطونهم وتذاب به أيضا جلودهم.

وقيل : إن لفظ الجلود مرفوع بفعل محذوف معطوف على «يصهر».

والتقدير : يصهر به ما في بطونهم من أحشاء وشحوم ، وتحرق به الجلود. قالوا : وذلك لأن الجلود لا تذاب وإنما تنقبض وتنكمش إذا أصليت بالنار.

والضمير في قوله ـ سبحانه ـ : (وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ) يعود إلى الكفرة المعذبين بهذا الحميم الذي تصهر به البطون.

__________________

(١) سورة ص الآية ٢١.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ١٥٩.

(٣) تفسير الآلوسى ج ١٧ ص ١٣٤.

٢٩٥

والمقامع : جمع مقمعة ـ بكسر الميم وسكون القاف وفتح الميم الثانية ـ ، وهي آلة تستعمل في القمع عن الشيء ، والزجر عنه ، يقال : قمع فلان فلانا إذا قهره وأذله.

أى : وخصصت لهؤلاء الكافرين مضارب من حديد تضربهم بها الملائكة على رءوسهم زيادة في إذلالهم وقهرهم.

وقيل : إن الضمير في «لهم» يعود على خزنة النار. أى : ولخزنة النار مضارب من حديد يضربون بها هؤلاء الكافرين.

وعلى كلا القولين فالآية الكريمة تصور هوان هؤلاء الكافرين أكمل تصوير.

وقوله ـ سبحانه ـ : (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها) بيان لما يقابلون به عند ما يريدون التزحزح عن النار.

أى : كلما أراد هؤلاء الكافرون أن يخرجوا من النار ومن غمها وكربها وسعيرها : أعيدوا فيها مرة أخرى ، كما قال ـ تعالى ـ : (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) مقول لقول محذوف أى : أعيدوا فيها وقيل لهم على لسان خزنة النار : ذوقوا العذاب المحرق لأبدانكم.

هذا هو حال فريق الكافرين. وهو حال يزلزل القلوب ويرهب المشاعر ، ويفزع النفوس.

ولكن القرآن كعادته في قرن الترهيب بالترغيب. لا يترك النفوس في هذا الفزع ، بل يتبع ذلك بما يمسح عنها خوفها ورعبها عن طريق بيان حسن حال المؤمنين فيقول : (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ...).

وغير ـ سبحانه ـ الأسلوب فلم يقل : والذين آمنوا على سبيل العطف على الذين كفروا .. تعظيم لشأن المؤمنين ، وإشعار بمباينة حالهم لحال خصمائهم الكافرين.

أى : إن الله ـ تعالى ـ بفضله وإحسانه يدخل عباده الذين آمنوا وعملوا في دنياهم الأعمال الصالحات ، جنات عاليات تجرى من تحت أشجارها وثمارها الأنهار.

وقوله (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) بيان لما ينالون في تلك الجنات من خير وفير ، وعطاء جزيل.

__________________

(١) سورة المائدة الآية ٣٧.

٢٩٦

اى : يتزينون في تلك الجنات بأساور كائنة من الذهب الخالص ، ومن اللؤلؤ الثمين ، أما لباسهم الدائم فيها فهو من الحرير الناعم الفاخر.

قال الآلوسى : وقوله ـ تعالى ـ : (وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) غير الأسلوب حيث لم يقل ويلبسون فيها حريرا ، للإيذان بأن ثبوت اللباس لهم أمر محقق غنى عن البيان .. ثم إن الظاهر أن هذا الحكم عام في كل أهل الجنة ، وقيل هو باعتبار الأغلب ، لما أخرجه النسائي وابن حيان وغيرهما عن أبى سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة. وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه» (١).

قالوا : ومحله فيمن مات مصرا على ذلك.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ) بيان لحسن خاتمتهم ، ولعظم النعم التي أنعم الله بها عليهم.

أى : وهدى الله ـ تعالى ـ هؤلاء المؤمنين إلى القول الطيب الذي يرضى الله ـ تعالى ـ عنهم ، كأن يقولوا عند دخولهم الجنة : (... الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ* الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ) (٢).

وهداهم ـ أيضا ـ خالقهم إلى الصراط المحمود ، وهو صراط الذين أنعم الله عليهم بنعمة الإيمان والإسلام ، فصاروا بسبب هذه النعمة يقولون الأقوال الطيبة ، ويفعلون الأفعال الحميدة.

قال الشوكانى : قوله : (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ ...) أى : أرشدوا إليه. قيل : هو لا إله إلا الله. وقيل : القرآن. وقيل : هو ما يأتيهم من الله من بشارات. وقد ورد في القرآن ما يدل على هذا القول المجمل هنا ، وهو قوله ـ سبحانه ـ : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ .. الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا ... الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ..).

ومعنى : (وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ) أنهم أرشدوا إلى الصراط المحمود وهو طريق الجنة ، أو صراط الله الذي هو دينه القويم وهو الإسلام (٣).

وبعد هذا الحديث المؤثر عن الخصمين وعن عاقبة كل منهما .. جاء الحديث عن المسجد

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٧ ص ١٣٦.

(٢) سورة فاطر الآيتان ٣٤ ، ٣٥.

(٣) تفسير فتح القدير ج ٣ ص ٤٤٥.

٢٩٧

الحرام ، وعن مكانته ، وعن الأمر ببنائه ، وعن وجوب الحج إليه ، وعن المنافع التي تعود على الحجاج ، وعن سوء مصير من يصد الناس عن هذا المسجد ، جاء قوله ـ تعالى ـ :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٥) وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (٢٦) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (٢٨) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)(٢٩)

قال الإمام الرازي : اعلم أنه ـ تعالى ـ بعد أن فصل بين الكفار والمؤمنين ذكر عظم حرمة البيت ، وعظم كفر هؤلاء الكافرين فقال : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ).

قال ابن عباس : الآية نزلت في أبى سفيان بن حرب وأصحابه حين صدوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام الحديبية عن المسجد الحرام ، عن أن يحجوا ويعتمروا ، وينحروا الهدى. فكره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قتالهم ، وكان محرما بعمرة ، ثم صالحوه على أن يعود في العام القادم .. (١).

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٦ ص ١٥٤.

٢٩٨

وصح عطف المضارع وهو «يصدون» على الماضي وهو «كفروا» لأن المضارع هنا لم يقصد به زمن معين من حال أو استقبال ، وإنما المراد به مجرد الاستمرار ، كما في قولهم : فلان يحسن إلى الفقراء ، فإن المراد به استمرار وجود إحسانه.

ويجوز أن يكون قوله (وَيَصُدُّونَ ...) خبرا لمبتدأ محذوف ، أى : وهم يصدون عن المسجد الحرام. وخبر إن في قوله ـ سبحانه ـ : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ...) محذوف لدلالة آخر الآية عليه.

والمعنى : إن الذين أصروا على كفرهم بما أنزله الله ـ تعالى ـ على نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واستمروا على منع أهل الحق من أداء شعائر دين الله ـ تعالى ـ ، ومن زيارة المسجد الحرام .. هؤلاء الكافرون سوف نذيقهم عذابا أليما.

ويصح أن يكون الخبر محذوفا للتهويل والإرهاب. وكأن وصفهم بالكفر والصد كاف في معرفة مصيرهم المهين.

قال القرطبي : قوله ـ تعالى ـ : (وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) قيل إنه المسجد نفسه وهو ظاهر القرآن ، لأنه لم يذكر غيره ، وقيل الحرم كله ، لأن المشركين صدوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه عنه عام الحديبية ، فنزل خارجا عنه ... وهذا صحيح لكنه قصد هنا بالذكر المهم المقصود من ذلك (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ ..) تشريف لهذا المكان حيث جعل الله ـ تعالى ـ الناس تحت سقفه سواء ، وتشنيع على الكافرين الذين صدوا المؤمنين عنه.

ولفظ «سواء» قرأه جمهور القراء بالرفع على أنه خبر مقدم ، والعاكف : مبتدأ ، والباد معطوفة عليه أى : العاكف والباد سواء فيه. أى مستويان فيه.

وقرأه حفص عن عاصم بالنصب على أنه المفعول الثاني لقوله «جعلناه» بمعنى صيرناه. أى : جعلناه مستويا فيه العاكف والباد. ويصح أن يكون حالا من الهاء في (جَعَلْناهُ) أى : وضعناه للناس حال كونه سواء العاكف فيه والباد.

والمراد : بالعاكف فيه : المقيم فيه. يقال : عكف فلان على الشيء ، إذا لازمه ولم يفارقه. والباد : الطارئ عليه من مكان آخر. وأصله من يكون من أهل البوادي الذين يسكنون المضارب والخيام ، ويتنقلون من مكان إلى آخر.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١١ ص ٣٢.

٢٩٩

أى : جعلناه للناس على العموم ، يصلون فيه ، ويطوفون به ، ويحترمونه ويستوي تحت سقفه من كان مقيما في جواره ، وملازما للتردد عليه ، ومن كان زائرا له وطارئا عليه من أهل البوادي أو من أهل البلاد الأخرى سوى مكة.

فهذا المسجد الحرام يتساوى فيه عباد الله ، فلا يملكه أحد منهم ، ولا يمتاز فيه أحد منهم ، بل الكل فوق أرضه وتحت سقفه سواء.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) تهديد لكل من يحاول ارتكاب شيء نهى الله عنه في هذا المسجد الحرام.

والإلحاد الميل. يقال : ألحد فلان في دين الله ، أى : مال وحاد عنه.

و «من» شرطية وجوابها «نذقه» ومفعول «يرد» محذوف لقصد التعميم. أى : ومن يرد فيه مرادا بإلحاد ، ويصح أن يكون المفعول قوله (بِإِلْحادٍ) على أن الباء زائدة.

أى : ومن يرد في هذا المسجد الحرام إلحادا ، أى : ميلا وحيدة عن أحكام الشريعة وآدابها بسبب ظلمه وخروجه عن طاعتنا ، نذقه من عذاب أليم لا يقادر قدره ، ولا يكتنه كنهه.

وقد جاء هذا التهديد في أقصى درجاته لأن القرآن توعد بالعذاب الأليم كل من ينوى ويريد الميل فيه عن دين الله ، وإذا كان الأمر كذلك ، فمن ينوى ويفعل يكون عقابه أشد ، ومصيره أقبح.

ويدخل تحت هذا التهديد كل ميل عن الحق إلى الباطل ، أو عن الخير إلى الشر كالاحتقار ، والغش.

ولذا قال ابن جرير بعد أن ساق الأقوال في ذلك : وأولى الأقوال التي ذكرناها في تأويل ذلك بالصواب : القول الذي ذكرناه من أن المراد بالظلم في هذا الموضع ، كل معصية لله ، وذلك لأن الله عم بقوله : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ) ولم يخصص به ظلما دون ظلم في خبر ولا عقل ، فهو على عمومه ، فإذا كان ذلك كذلك فتأويل الكلام : ومن يرد في المسجد الحرام بأن يميل بظلم فيعصى الله فيه ، نذقه يوم القيامة من عذاب موجع له (١).

ثم تحدثت السورة بعد ذلك عن بناء البيت وتطهيره فقال ـ تعالى ـ : (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً ...).

وبوأنا من التبوؤ بمعنى النزول في المكان. يقال : بوأته منزلا أى : أنزلته فيه ، وهيأته له ، ومكنته منه.

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ١٧ ص ١٠٥.

٣٠٠