التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٩

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٩

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0683-3
الصفحات: ٣٥٥

ليس بعده أدب من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع الله ـ عزوجل ـ.

ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة الكريمة بقوله : (قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ ، وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) أى : قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد أن بلغ الرسالة وأدى الأمانة وهو يتضرع إلى ربه : رب احكم بيني وبين هؤلاء الذين آذنتهم على سواء بالحق (وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ) أى : الكثير الرحمة على عباده (الْمُسْتَعانُ) أى : المطلوب منه العون (عَلى ما تَصِفُونَ) أى : على ما تصفونه بألسنتكم من أنواع الكذب والزور والبهتان.

وقرأ أكثر القراء السبعة قل رب احكم بالحق ... بصيغة الأمر. وهذه القراءة تدل على أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أمره الله ـ تعالى ـ أن يقول ذلك.

وصيغة «قال ..» تدل على أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد امتثل أمر ربه ، فقال ما أمره بقوله.

وبعد : فهذا تفسير لسورة الأنبياء ، عليهم الصلاة والسلام ـ نسأل الله تعالى ـ أن يجعله خالصا لوجهه ، ونافعا لعباده.

وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم

د. محمد سيد طنطاوى

٢٦١
٢٦٢

تفسير

سورة الحجّ

٢٦٣
٢٦٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدّمة

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله ، ومن والاه.

أما بعد : فهذا تفسير لسورة «الحج» نسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعله خالصا لوجهه ، ونافعا لعباده ، إنه ـ سبحانه ـ أكرم مسئول ، وأعظم مأمول.

وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.

المؤلف

د / محمد سيد طنطاوى

٢٦٥
٢٦٦

تعريف بسورة الحج

١ ـ سورة الحج هي السورة الثانية والعشرون في ترتيب المصحف ، وعدد آياتها ثمان وتسعون آية في المصحف الكوفي ، وسبع وتسعون في المكي وخمس وتسعون في البصري ، وأربع وتسعون في الشامي.

وسميت بسورة الحج ، لحديثها بشيء من التفصيل عن أحكام الحج.

٢ ـ ومن العلماء من يرى أنها من السور المكية ، ومنهم من يرى أنها من السور المدنية.

والحق أن سورة الحج من السور التي فيها آيات مكية ، وفيها آيات مدنية فمثلا : الآيات التي تتحدث عن الإذن بالقتال ، من الواضح أنها آيات مدنية ، لأن القتال شرعه الله ـ تعالى ـ بالمدينة ، وكذلك الآيات التي تتحدث عن أحكام الحج ، لأن الحج فرض بعد الهجرة.

قال الآلوسى بعد أن ذكر أقوال العلماء في ذلك : «والأصح أن سورة الحج مختلطة» فيها آيات مدنية ، وفيها آيات مكية ، وإن اختلف في التعيين ، وهو قول الجمهور» (١).

وقال بعض العلماء : «والذي يغلب على السورة هو موضوعات السور المكية وجو السور المكية. فموضوعات التوحيد ، والتخويف من الساعة ، وإثبات البعث ، وإنكار الشرك ، ومشاهد القيامة. وآيات الله المبثوثة في صفحات الكون .. بارزة في السورة. وإلى جوارها الموضوعات المدنية من الإذن بالقتال ، وحماية الشعائر ، والوعد بنصر الله لمن يقع عليه البغي وهو يرد العدوان ، والأمر بالجهاد في سبيل الله» (٢).

٣ ـ وقد افتتحت السورة الكريمة افتتاحا ترتجف له النفوس ، حيث تحدثت عن أهوال يوم القيامة ، وعن أحوال الناس فيه ...

قال ـ تعالى ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ. يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ ، وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها ، وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) ..

٤ ـ وبعد أن ساقت السورة الكريمة نماذج متنوعة لأحوال الناس في هذه الحياة ، وأقامت

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٧ ص ١١٠.

(٢) في ظلال القرآن ج ١٧ ص ٥٧٥.

٢٦٧

الأدلة على أن البعث حق ... أتبعت ذلك ببشارة المؤمنين بما يشرح صدورهم.

قال ـ تعالى ـ (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ، إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ).

ثم بينت السورة الكريمة أن كل شيء في هذا الكون يسجد لله ـ تعالى ـ وأن كثيرا من الناس ينال الثواب بسبب إيمانه وعمله الصالح ، وكثيرا منهم يصيبه العقاب بسبب كفره وفسوقه.

قال ـ تعالى ـ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ ، وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ، وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ ، وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ ، إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ).

٥ ـ وبعد أن عقدت السورة الكريمة مقارنة بين خصمين اختصموا في ربهم ، وبينت عاقبة كل منهما ... أتبعت ذلك بحديث مفصل عن فريضة الحج. فذكرت سوء عاقبة الكافرين الذين يصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام ، كما بينت أن الله ـ تعالى ـ قد أمر نبيه إبراهيم بأن يؤذن للناس بالحج ، لكي يشهدوا منافع لهم ، ويذكروا اسم الله في أيام معلومات ، كما بشرت الذين يعظمون حرمات الله بالخير وحسن الثواب ، ووصفت من يشرك بالله (فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ).

ثم ختمت حديثها عن فريضة الحج ببيان أن الهدى الذي يقدمه الحجاج هو من شعائر الله ، فعليهم أن يقدموه بإخلاص وسخاء ، وأن يشكروا الله ـ تعالى ـ على نعمه.

قال ـ تعالى ـ : (وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ ، فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَّ ، فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ، كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ* لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ ، كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ).

٦ ـ ثم بينت السورة أن الله ـ تعالى ـ قد شرع لعباده المؤمنين الجهاد في سبيله ، وبشرهم بأنه معهم يدافع عنهم ، ويجعل العاقبة لهم. فقال ـ تعالى ـ (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ، إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ* أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ).

ثم أخذت السورة الكريمة في تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما أصابه من قومه ...

قال ـ تعالى ـ : (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ* وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ

٢٦٨

وَقَوْمُ لُوطٍ* وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى ، فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ، ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ).

ثم أمر الله ـ تعالى ـ رسوله بأن يمضى في طريقه دون أن يهتم بأذى المشركين. وأن يجابههم بكلمة الحق بدون خوف أو وجل ، فقال ـ تعالى ـ (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ* فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ* وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ).

٧ ـ وبعد أن بين ـ سبحانه ـ مظاهر حكمته في هداية من اهتدى ، وفي ضلال من ضل ، أتبع ذلك بحديث مستفيض عن ألوان نعمه على خلقه ، فقال ـ تعالى ـ :

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً ، إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ ، وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ، وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ ، إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ* وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ، إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ).

٨ ـ ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة الكريمة ، بنداءين : أحدهما : وجهه إلى الناس جميعا ، وبين لهم فيه ، أن الذين يعبدونهم من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له.

والثاني : وجهه ـ سبحانه ـ إلى المؤمنين ، وأمرهم فيه بمداومة الركوع والسجود والعبادة له ـ عزوجل ـ وبالمواظبة على فعل الخير وعلى الجهاد في سبيله.

قال ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ. مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ ، وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ، فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى ، وَنِعْمَ النَّصِيرُ).

٩ ـ هذا : والمتأمل في هذه السورة الكريمة ، يرى أن من أبرز ما اهتمت بالحديث عنه ما يأتى :

(ا) بيان أنواع الناس في هذه الحياة ، وعاقبة كل نوع ، ترى ذلك واضحا في قوله ـ تعالى ـ :

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ، وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ).

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ ، فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ ، وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ

٢٦٩

انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ ، خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ...).

(ب) إقامة الأدلة على وحدانية الله ـ تعالى ـ وعلى أن البعث حق بأسلوب منطقي واضح. يقنع العقول ويهدى القلوب.

ترى ذلك في قوله ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ، ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ، ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ، لِنُبَيِّنَ لَكُمْ ، وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ، ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ، ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ، وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى ، وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً ، فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ، وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ* ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ ، وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى ، وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ).

(ج) الحديث المفصل عن فريضة الحج ، وما اشتملت عليه هذه الفريضة من منافع وآداب وأحكام.

(د) المقارنة بين مصير المؤمنين ومصير الكافرين ، نرى ذلك في آيات كثيرة ، منها قوله ـ تعالى ـ : (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ. فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ).

(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ).

(ه) بيان سنن الله في خلقه ، والتي من أعظمها : دفاعه عن المؤمنين ، ونصره لهم ، ترى ذلك في مثل قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ، إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ).

والتي من أعظمها ـ أيضا ـ عدم إخلاف وعده ، قال ـ تعالى ـ : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ ، وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ* وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ).

(و) يمتاز أسلوب السورة ـ في مجموعه ـ بالقوة والعنف ، والشدة والرهبة ، والإنذار والتحذير ، وغرس التقوى في القلوب بأسلوب تخشع له النفوس ..

نرى ذلك في كثير من آياتها ، ومن ذلك ، قوله ـ تعالى ـ :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ* يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا

٢٧٠

أَرْضَعَتْ ، وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها ، وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) ..

وقوله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ).

وقوله ـ تعالى ـ : (... فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ* يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ* وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ) ..

وقوله ـ سبحانه ـ : (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ. فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ* أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها ، أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها ، فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) ..

وبجانب هذه الشدة في الأسلوب ، نرى في السورة ـ أيضا ـ أسلوبا آخر فيه من اللين والرقة والبشارة للمؤمنين ما فيه ، ويكفيك قوله ـ تعالى ـ :

(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ، يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ* وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ ، وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ).

نسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعلنا من عباده المؤمنين الصادقين ، وأن يحشرنا معهم.

وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.

كتبه الراجي عفو ربه

د / محمد سيد طنطاوى

٢٧١

التفسير

قال الله تعالى :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ)(٢)

افتتحت سورة الحج بهذا النداء الموجه من الخالق ـ عزوجل ـ إلى الناس جميعا ، يأمرهم فيه بامتثال أمره ، وباجتناب نهيه ، حتى يفوزوا برضاه يوم القيامة.

وقوله ـ سبحانه ـ : (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) تعليل للأمر بالتقوى.

قال القرطبي : الزلزلة شدة الحركة ، ومنه قوله ـ تعالى ـ : (... وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ ...) (١) وأصل الكلمة من زل فلان عن الموضع ، أى : زال عنه وتحرك ، وزلزل الله قدمه ، أى : حركها وهذه اللفظة تستعمل في تهويل الشيء» (٢).

وقال الآلوسى : «والزلزلة : التحريك الشديد ، والإزعاج العنيف ، بطريق التكرير ، بحيث يزيل الأشياء من مقارها ، ويخرجها عن مراكزها.

وإضافتها إلى الساعة ، من إضافة المصدر إلى فاعله ، لكن على سبيل المجاز في النسبة كما في قوله ـ تعالى ـ : (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) (٣) ؛ لأن المحرك حقيقة هو الله ـ تعالى ـ ، والمفعول الأرض أو الناس ، أو من إضافته إلى المفعول ، لكن على إجرائه مجرى المفعول به اتساعا كما في قوله : «يا سارق الليلة أهل الدار ...» (٤).

__________________

(١) سورة البقرة الآية ٢١٤.

(٢) تفسير القرطبي ج ١٢ ص ٣.

(٣) سورة سبأ الآية ٣٣.

(٤) تفسير الآلوسى ج ١٧ ص ١١٠.

٢٧٢

والمعنى : يا أيها الناس اتقوا ربكم اتقاء تاما ، بأن تصونوا أنفسكم عن كل ما لا يرضيه ، وبأن تسارعوا إلى فعل ما يحبه ، لأن ما يحدث في هذا الكون عند قيام الساعة ، شيء عظيم ، ترتجف لهوله القلوب ، وتخشع له النفوس.

وقال ـ سبحانه ـ : (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) بصيغة الإجمال والإبهام لهذا الشيء العظيم ، لزيادة التهويل والتخويف.

ثم فصل ـ سبحانه ـ هذا الشيء العظيم تفصيلا يزيد في وجل القلوب فقال : (يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ ...).

والضمير في «ترونها» ، يعود إلى الزلزلة لأنها هي المتحدث عنها والظرف «يوم» منصوب بالفعل تذهل ، والرؤية بصرية لأنهم يرون ذلك بأعينهم.

والذهول : الذهاب عن الأمر والانشغال عنه مع دهشة وحيرة وخوف ، ومنه قول عبد الله ابن رواحة ـ رضى الله عنه ـ :

ضربا يزيل الهام عن مقيله

ويذهل الخليل عن خليله

أى : أن هذه الزلزلة من مظاهر شدتها ورهبتها ، أنكم ترون الأم بسببها تنسى وتترك وليدها الذي ألقمته ثديها. وكأنها لا تراه ولا تحس به من شدة الفزع.

قال صاحب الكشاف : «فإن قلت : لم قيل (مُرْضِعَةٍ) دون مرضع؟ قلت : المرضعة التي هي في حال الإرضاع ملقمة ثديها الصبى ، والمرضع : التي من شأنها أن ترضع وإن لم تباشر الإرضاع في حال وصفها به ، فقيل : مرضعة ، ليدل على أن ذلك الهول إذا فوجئت به هذه ، وقد ألقمت الرضيع ثديها نزعته عن فيه لما يلحقها من الدهشة (عَمَّا أَرْضَعَتْ) عن إرضاعها : أو عن الذي أرضعته وهو الطفل ...» (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها) بيان لحالة ثانية تدل على شدة الزلزلة وعلى عنف آثارها.

أى : وترونها ـ أيضا ـ تجعل كل حامل تضع حملها قبل تمامه من شدة الفزع.

ثم بين ـ سبحانه ـ حالة ثالثة للآثار التي تدل على شدة هذه الزلزلة فقال : (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ).

أى : وترى ـ أيها المخاطب ـ الناس في هذا الوقت العصيب ، هيئتهم كهيئة السكارى

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ١٤٢.

٢٧٣

من قوة الرعب والفزع. وما هم على الحقيقة بسكارى ، لأنهم لم يشربوا ما يسكرهم ولكن عذاب الله شديد. أى : ولكن شدة عذابه ـ سبحانه ـ هي التي جعلتهم بهذه الحالة التي تشبه حالة السكارى في الذهول والاضطراب.

وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذا المعنى فقال : «وتراهم سكارى على التشبيه ، وما هم بسكارى على التحقيق ، ولكن ما رهقهم من خوف عذاب الله ، هو الذي أذهب عقولهم ، وطير تمييزهم ، وردهم في نحو حال من يذهب السكر بعقله وتمييزه ...».

وقد علق صاحب الانتصاف على عبارة صاحب الكشاف هذه فقال : قال أحمد : والعلماء يقولون : إن من أدلة المجاز صدق نقيضه ، كقولك : زيد حمار ، إذا وصفته بالبلادة ، ثم يصدق أن تقول : وما هو بحمار ، فتنفى عنه الحقيقة ، فكذلك الآية ، بعد أن أثبت السكر المجازى نفى الحقيقة أبلغ نفى مؤكد بالباء ، والسر في تأكيده : التنبيه على أن هذا السكر الذي هو بهم في تلك الحالة ليس من المعهود في شيء ، وإنما هو أمر لم يعهدوا مثله من قبل. والاستدراك بقوله (وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) راجع إلى قوله : (وَما هُمْ بِسُكارى) وكأنه تعليل لإثبات السكر المجازى ، فكأنه قيل : إذا لم يكونوا سكارى من الخمر فما هذا السكر الغريب وما سببه؟ فقال : شدة عذاب الله ـ تعالى ـ» (١).

هذا ، وقد اختلف العلماء في وقت هذه الزلزلة المذكورة هنا ، فمنهم من يرى أنها تكون في آخر عمر الدنيا ، وأول أحوال الساعة ومنهم من يرى أنها تكون يوم القيامة ، بعد خروج الناس من قبورهم للحساب.

وقد وفي هذه المسألة حقها الإمام ابن كثير فقال ما ملخصه : «قال قائلون : هذه الزلزلة كائنة في آخر عمر الدنيا. وأول أحوال الساعة.

وقال آخرون : بل ذلك هول وفزع وزلزال وبلبال ، كائن يوم القيامة في العرصات ، بعد القيام من القبور.

ثم ساق ـ رحمه‌الله ـ سبعة أحاديث استدل بها أصحاب الرأى الثاني.

ومن هذه الأحاديث ما رواه الشيخان عن أبى سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يقول الله ـ تعالى ـ يوم القيامة : يا آدم. فيقول : لبيك ربنا وسعديك. فينادى بصوت : إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار ، قال : يا رب ، وما بعث النار؟ قال : من كل ألف ـ أراه قال ـ تسعمائة وتسعة وتسعين ، فحينئذ تضع الحامل حملها ويشيب

__________________

(١) تفسير الكشاف وحاشية ج ٣ ص ١٤٢.

٢٧٤

الوليد ، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد». فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعين ومنكم واحد ، ثم أنتم في الناس كالشعرة البيضاء في الثور الأسود ، وإنى لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة ـ فكبرنا ـ ثم قال : ثلث أهل الجنة ـ فكبرنا ـ ثم قال : شطر أهل الجنة فكبرنا» (١).

وعلى الرأى الأول تكون الزلزلة بمعناها الحقيقي ، بأن تتزلزل الأرض وتضطرب ، ويعقبها طلوع الشمس من مغربها ، ثم تقوم الساعة.

وعلى الرأى الثاني تكون الزلزلة المقصود بها شدة الخوف والفزع ، كما في قوله ـ تعالى ـ في شأن المؤمنين بعد أن أحاطت بهم جيوش الأحزاب : (هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً) (٢) فالمقصود : أصيبوا بالفزع والخوف ، وليس المقصود أن الأرض تحركت واضطربت من تحتهم.

وبعد هذا الافتتاح الذي يغرس الخوف في النفوس ، ويحملها على تقوى الله وخشيته ، ساقت السورة حال نوع من الناس يجادل بالباطل ، ويتبع خطوات الشيطان ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (٣) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ)(٤)

و (مِنَ) في قوله (وَمِنَ النَّاسِ) للتبعيض. وقوله (يُجادِلُ) من الجدال بمعنى المفاوضة على سبيل المنازعة والمخاصمة والمغالبة ، مأخوذ من جدلت الحبل. أى : أحكمت فتله ، كأن المتجادلين يحاول كل واحد منهما أن يقوى رأيه ، ويضعف رأى صاحبه.

والمراد بالمجادلة في الله : المجادلة في ذاته وصفاته وتشريعاته.

وقوله : (بِغَيْرِ عِلْمٍ) حال من الفاعل في يجادل. وهي حال موضحة لما تشعر به المجادلة هنا من الجهل والعناد.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ٣٨٦ طبعة دار الشعب.

(٢) سورة الأحزاب الآية ١١.

٢٧٥

أى : ومن الناس قوم استولى عليهم الجهل والعناد ، لأنهم يجادلون وينازعون في ذات الله وصفاته ، وفي وحيه وفي أحكامه بغير مستند من علم عقلي أو نقلي ، وبغير دليل أو ما يشبه الدليل.

وقوله ـ سبحانه ـ (وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ) معطوف على ما قبله. والمريد والمتمرد : البالغ أقصى الغاية في الشر والفساد ، يقال : مرد فلان على كذا ـ من باب نصر وظرف ـ إذا عتا وتجبر واستمر على ذلك.

وأصل المادة للملاسة والتجرد ، ومنه قولهم : شجرة مرداء ، أى ملساء لا ورق لها. وغلام أمرد. أى : لم ينبت في ذقنه شعر ..

أى : يجادل في ذات الله وصفاته بغير علم يعلمه ، ويتبع في جداله وتطاوله وعناده ، كل شيطان عاد عن الخير ، متجرد للفساد ، لا يعرف الحق أو الصلاح ، ولا هما يعرفانه ، وإنما هو خالص للشر والغي والمنكر من القول والفعل.

وتقييد الجدال بكونه بغير علم ، يفهم منه أن الجدال بعلم لإحقاق الحق وإبطال الباطل ، سائغ محمود ، ولذا قال الإمام الفخر الرازي : «هذه الآية بمفهومها تدل على جواز المجادلة الحقة ، لأن تخصيص المجادلة مع عدم العلم بالدلائل ، يدل على أن المجادلة مع العلم جائزة» ، فالمجادلة الباطلة : هي المرادة من قوله ـ تعالى ـ : (ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً ..) (١) والمجادلة الحقة هي المرادة من قوله : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ..) (٢).

ثم بين ـ سبحانه ـ سوء عاقبة هذا المجادل بالباطل ، والمتبع لكل شيطان مريد ، فقال : (كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ).

أى : كتب على هذا الشيطان ، وقضى عليه «أنه من تولاه» أى اتخذه وليا وقدوة له «فأنه يضله» أى : فشأن هذا الشيطان أن يضل تابعه عن كل خير «ويهديه إلى عذاب السعير» أى : وأن شأن هذا الشيطان ـ أيضا ـ أن يهدى متبعه إلى طريق النار المستعرة ، وفي التعبير بقوله : (وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) تهكم بمن يتبع هذا الشيطان ، إذ سمى ـ سبحانه ـ قيادة الشيطان لأتباعه هداية ..

وقد ذكر كثير من المفسرين أن هاتين الآيتين نزلنا في شأن النضر بن الحارث أو العاص بن وائل ، أو أبى جهل .. وكانوا يجادلون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالباطل.

ومن المعروف أن نزول هاتين الآيتين في شأن هؤلاء الأشخاص ، لا يمنع من عمومهما في

__________________

(١) سورة الزخرف الآية ٥٨.

(٢) تفسير الفخر الرازي ج ٦ ص ١٤٣.

٢٧٦

شأن كل من كان على شاكلة هؤلاء الأشقياء ، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

ولذا قال صاحب الكشاف : «وهي عامة في كل من تعاطى الجدال فيما يجوز على الله وما لا يجوز ، من الصفات والأفعال. ولا يرجع إلى علم. ولا يعض فيه بضرس قاطع ، وليس فيه اتباع للبرهان ، ولا نزول على النصفة ، فهو يخبط خبط عشواء ، غير فارق بين الحق والباطل» (١).

ثم ساق ـ سبحانه ـ أهم القضايا التي جادل فيها المشركون بغير علم ، واتبعوا في جدالهم خطوات الشيطان ، وهي قضية البعث ، وأقام الأدلة على صحتها ، وعلى أن البعث حق وواقع فقال ـ تعالى ـ :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ)(٧)

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ١٤٣.

٢٧٧

قال أبو حيان في البحر : لما ذكر ـ سبحانه ـ من يجادل في قدرة الله بغير علم ، وكان جدالهم في الحشر والمعاد ، ذكر دليلين واضحين على ذلك. أحدهما : في نفس الإنسان وابتداء خلقه. وتطوره في أطوار سبعة ، وهي : التراب ، والنطفة ، والعلقة ، والمضغة ، والإخراج طفلا ، وبلوغ الأشد ، والتوفي أو الرد إلى أرذل العمر.

والدليل الثاني : في الأرض التي يشاهد تنقلها من حال إلى حال فإذا اعتبر العاقل ذلك ثبت عنده جوازه عقلا ، فإذا ورد الشرع بوقوعه ، وجب التصديق به ، وأنه واقع لا محالة (١).

والمراد بالناس هنا : المشركون وكل من كان على شاكلتهم في إنكار أمر البعث واستبعاده ، لأن المؤمنين يعترفون بأن البعث حق ، وأنه واقع بلا أدنى شك أو ريب.

والمعنى : يا أيها الناس إن كنتم في شك من أمر إعادتكم الى الحياة مرة أخرى للحساب يوم القيامة ، فانظروا وتفكروا في مبدأ خلقكم ، فإن هذا التفكر من شأنه أن يزيل هذا الشك ، لأن الذي أوجدكم الإيجاد الأول. وخلقكم من التراب ، قادر على إعادتكم إلى الحياة مرة أخرى ، إذ الإعادة ـ كما يعرف كل عاقل ـ أيسر من ابتداء الفعل.

وقد قرب ـ سبحانه ـ هذا المعنى في أذهانكم في آيات كثيرة ، منها قوله ـ تعالى ـ : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ، وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢).

وأتى ـ سبحانه ـ بأن المفيدة للشك فقال : (إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ) مع أن كونهم في ريب أمر محقق تنزيلا للمحقق منزلة المشكوك فيه ، وتنزيها لموضوع البعث عن أن يتحقق الشك فيه من أى عاقل ، وتوبيخا لهم لوضعهم الأمور في غير مواضعها.

ووجه الإتيان بفي الدالة على الظرفية ، للإشارة إلى أنهم قد امتلكهم الريب وأحاط بهم إحاطة الظرف بالمظروف.

قال الآلوسى : «وقوله (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) دليل جواب الشرط ، أو هو الجواب بتأويل ، أى : إن كنتم في ريب من البعث ، فانظروا إلى مبدأ خلقكم ليزول ريبكم ، فإنا خلقناكم من تراب ، وخلقهم من تراب في ضمن خلق أبيهم آدم منه ...» (٣).

وقال بعض العلماء ما ملخصه : والتحقيق في معنى قوله ـ تعالى ـ (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ

__________________

(١) تفسير البحر المحيط لأبى حيان ج ٦ ص ٣٥١.

(٢) سورة الروم الآية ٢٧.

(٣) تفسير الآلوسى ج ١٧ ص ١١٦.

٢٧٨

تُرابٍ) : أنه ـ سبحانه ـ خلق أباهم آدم منه ، ثم خلق من آدم زوجه حواء ، ثم خلق الناس منهما عن طريق التناسل.

فلما كان أصلهم الأول من تراب ، أطلق عليهم أنه خلقهم من تراب ؛ لأن الفروع تتبع الأصل. وعلى ذلك يكون خلقهم من تراب هو الطور الأول ..» (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ الطور الثاني من أطوار خلق الإنسان فقال : (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) وهذا اللفظ مأخوذ من النطف ـ بفتح النون مع التشديد وإسكان الطاء ـ بمعنى السيلان والتقاطر. يقال : نطفت القربة ، إذا تقاطر الماء منها بقلة.

والنطفة تطلق في اللغة : على الماء القليل ، والمراد بها هنا : الماء المختلط من الرجل والمرأة عند الجماع ، والمعبر عنه بالمنى.

وقوله (ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) هو الطور الثالث. والعلقة جمعها علق ، وهي قطعة من الدم جامدة ، تتحول إليها النطفة.

وقوله (ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ) هو الطور الرابع ، والمضغة قطعة صغيرة من اللحم تتحول إليها العلقة.

وقوله ـ سبحانه ـ (مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) صفة للمضغة.

والمراد بالمخلقة : التامة الخلقة ، السالمة من العيوب ، والمراد بغير المخلقة : ما ليست كذلك كأن تكون ناقصة الخلقة.

وقد اكتفى بهذا المعنى صاحب الكشاف فقال : «والمخلقة» المستواة الملساء من النقصان والعيب : يقال : خلق السواك والعود ، إذا سواه وملسه ، من قولهم : صخرة خلقاء ، إذا كانت ملساء. كأن الله ـ تعالى ـ يخلق المضغ متفاوتة. منها. ما هو كامل الخلقة أملس من العيوب ، ومنها ما هو على عكس ذلك ، فيتبع ذلك التفاوت ، تفاوت الناس في خلقهم وصورهم وطولهم وقصرهم وتمامهم ونقصانهم ...» (٢).

وقيل : «مخلقة» أى : مستبينة الخلق ، ظاهرة التصوير. «وغير مخلقة» أى : لم يستبن خلقها ولا ظهر تصويرها كالسقط الذي هو مضغة ولم تظهر صورته الإنسانية بعد.

وقيل : «مخلقة» أى : نفخ فيها الروح. «وغير مخلقة» أى : لم ينفخ فيها الروح.

ويبدو لنا أن ما ذهب إليه صاحب الكشاف واكتفى به أولى بالقبول ، لأنه هو المشهور من

__________________

(١) أضواء البيان ج ٥ ص ٢٠ للشيخ محمد الأمين الشنقيطى ـ رحمه‌الله.

(٢) تفسير الكشاف ج ٣ ص ١٤٤.

٢٧٩

كلام العرب. فهم يقولون : حجر أخلق أى : أملس مصمت لا يؤثر فيه شيء ، وصخرة خلقاء ، أى : ليس بها تشويه أو كسر.

وقوله ـ تعالى ـ : (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) متعلق بقوله : (خَلَقْناكُمْ) أى : خلقناكم على هذا النحو العجيب ، وفي تلك الأطوار البديعة. لنبين لكم كمال قدرتنا ، وبليغ حكمتنا. وأننا لا يعجزنا إعادة كل حي إلى الحياة بعد موته.

وحذف مفعول «نبين» للإشعار بأن أفعاله ـ تعالى ـ الدالة على كمال قدرته ، لا يحيط بها وصف ، ولا تمدها عبارة ..

أى : لنبين لكم عن طريق المشاهدة ، ما يدل على كمال قدرتنا دلالة يعجز الوصف عن الإحاطة بها.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) كلام مستأنف مسوق لبيان أحوال الناس بعد تمام خلقهم ، وتوارد تلك الأطوار عليهم.

أى : ونقر ونثبت في أرحام الأمهات ما نشاء إقراره وثبوته فيها من الأجنة والأحمال ، إلى أجل معلوم عندنا. وهو الوقت المحدد للولادة والوضع ، وما لم نشأ إقراره من الحمل لفظته الأرحام وأسقطته ، إذ كل شيء بمشيئتنا وإرادتنا.

وقوله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) بيان للطور الخامس من أطوار خلق الإنسان.

أى : ثم نخرجكم من أرحام أمهاتكم بعد استقراركم فيها إلى الوقت الذي حددناه ، طفلا صغيرا. أى : أطفالا صغارا ، وإنما جاء مفردا باعتبار إرادة الجنس الشامل للواحد والمتعدد ، أو باعتبار كل واحد منهم ، وهو حال من ضمير المخاطبين.

ومن الأساليب العربية المعهودة ، أن الاسم المفرد إذا كان اسم جنس. يكثر إطلاقه على الجمع ، ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ : (وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) أى : أئمة. وقوله ـ سبحانه ـ (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً ..) أى : أنفسا ، ومن هذا القبيل قول الشاعر :

وكان بنو فزارة شرّ عمّ

فكنت لهم كشر بنى الأخينا

أى : شر أعمام.

وقوله ـ تعالى ـ (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) بيان للطور السادس ، والأشد : قوة الإنسان وشدته واشتعال حرارته ، من الشدة بمعنى الارتفاع والقوة ، يقال : شد النهار إذا ارتفع ، وهو

٢٨٠