التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٩

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٩

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0683-3
الصفحات: ٣٥٥

قال الآلوسى : «أخرج أبو نعيم ، وابن مردويه ، والديلمي ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال في ذلك : «أعطى الفهم والعبادة وهو ابن سبع سنين» (١).

وقال الجمل في حاشيته : «فإن قلت : كيف يصح حصول العقل والفطنة والنبوة حال الصبا؟.

قلت : لأن أصل النبوة مبنى على خرق العادات. إذا ثبت هذا. فلا تمنع صيرورة الصبى نبيا. وقيل : أراد بالحكم فهم الكتاب فقرأ التوراة وهو صغير .. (٢).

والذي تطمئن إليه النفس وعليه جمهور المفسرين أن المراد بالحكم هنا : العلم النافع مع العمل به ، وذلك عن طريق حفظ التوراة وفهمها وتطبيق أحكامها.

قال ابن كثير : (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) أى : الفهم والعلم والجد والعزم ، والإقبال على الخير ، والإكباب عليه ، والاجتهاد فيه ، وهو صغير حدث.

قال عبد الله بن المبارك : قال معمر : قال الصبيان ليحيى بن زكريا : اذهب بنا نلعب ، فقال : ما للعب خلقنا. قال : فلهذا أنزل الله : (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) (٣).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا) معطوف على (الْحُكْمَ).

أى : وأعطيناه الحكم صبيا ، وأعطيناه حنانا ...

قال القرطبي ما ملخصه : «الحنان : الشفقة والرحمة والمحبة ، وهو فعل من أفعال النفس ...

وأصله : من حنان الناقة على ولدها ... قال طرفة :

أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا

حنانيك بعض الشر أهون من بعض (٤)

والمعنى : منحنا (يَحْيى) الحكم صبيا ، ومنحناه من عندنا وحدنا رحمة عظيمة عليه ، ورحمة في قلبه جعلته يعطف على غيره ، وأعطيناه كذلك زكاة أى : طهارة في النفس ، أبعدته عن ارتكاب ما نهى الله عنه ، وجعلته سباقا لفعل الخير (وَكانَ تَقِيًّا) أى مطيعا لنا في كل ما نأمره به ، أو ننهاه عنه.

ثم أضاف ـ سبحانه ـ إلى تلك الصفات الكريمة ليحيى صفات أخرى فقال : (وَبَرًّا

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٦ ص ٧٢.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ٥٤.

(٣) تفسير ابن كثير ج ٣ ص ١١٣.

(٤) تفسير القرطبي ج ١١ ص ٨٧.

٢١

بِوالِدَيْهِ) أى : وجعلناه كثير البر بوالديه ، والإحسان إليهما.

(وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً) أى : مستكبرا متعاليا مغرورا (عَصِيًّا) أى : ولم يكن ذا معصية ومخالفة لأمر ربه.

ثم ختم ـ سبحانه ـ هذه الصفات ببيان العاقبة الحسنة التي ادخرها ليحيى ـ عليه‌السلام ـ فقال : (وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ) أى : وتحية وأمان له منا يوم ولادته (وَيَوْمَ يَمُوتُ) ويفارق هذه الدنيا (وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) للحساب يوم القيامة.

وخص ـ سبحانه ـ هذه الأوقات الثلاثة بالذكر ، لأنها أحوج إلى الرعاية من غيرها.

قال سفيان بن عيينة : أحوج ما يكون المرء في ثلاثة مواطن : يوم يولد فيرى نفسه خارجا مما كان فيه. ويوم يموت فيرى قوما لم يكن عاينهم. ويوم يبعث فيرى نفسه في محشر عظيم.

وبعد هذا الحديث عن جانب من قصة زكريا ويحيى ـ عليهما‌السلام ـ ، انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن قصة أخرى أعجب من قصة ميلاد يحيى ، ألا وهي قصة مريم وميلادها لابنها عيسى ـ عليه‌السلام ـ فقال ـ تعالى ـ :

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (١٦) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (١٧) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (١٩) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا)(٢١)

قال ابن كثير : «لما ذكر الله تعالى ـ قصة زكريا ـ عليه‌السلام ـ وأنه أوجد منه في حال

٢٢

كبره وعقم زوجته ولدا زكيا طاهرا مباركا ، وعطف بذكر قصة مريم ، في إيجاده ولدها عيسى ـ عليه‌السلام ـ منها من غير أب.

وهي مريم ابنة عمران ـ من سلالة داود ـ عليه‌السلام ـ وكانت من بيت طاهر في بنى إسرائيل ... ونشأت نشأة عظيمة ، فكانت إحدى العابدات الناسكات ...

وكانت في كفالة زوج أختها زكريا ـ عليه‌السلام ـ ورأى لها من الكرامات الهائلة ما بهره ...» (١).

والمعنى : (وَاذْكُرْ) ـ أيها الرسول الكريم ـ (فِي الْكِتابِ) أى في هذه السورة الكريمة ، أو في القرآن الكريم ، خبر مريم وقصتها (إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا) أى : وقت أن تنحت عنهم واعتزلتهم في مكان يلي الناحية الشرقية من بيت المقدس ، أو من بيتها الذي كانت تسكنه.

وفي التعبير بقوله ـ تعالى ـ (إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها) إشارة إلى شدة عزلتها عن أهلها إذ النبذ معناه الطرح والرمي ، فكأنها ألقت بنفسها في هذا المكان لتختلى للعبادة والطاعة ، والتقرب إلى الله ـ تعالى ـ بصالح الأعمال.

قال القرطبي : واختلف الناس لم انتبذت؟ فقال السدى : انتبذت لتطهر من حيض أو نفاس. وقال غيره : لتعبد الله وهذا حسن. وذلك أن مريم كانت وقفا على سدانة المعبد وخدمته والعبادة فيه ، فتنحت من الناس لذلك ، ودخلت في المسجد إلى جانب المحراب في شرقيه لتخلو للعبادة ..

فقوله (مَكاناً شَرْقِيًّا) أى : مكانا من جانب الشرق. والشرق ـ بسكون الراء ـ المكان الذي تشرق فيه الشمس. والشرق ـ بفتح الراء ـ الشمس.

وإنما خص المكان بالشرق ، لأنهم كانوا يعظمون جهة المشرق ، حيث تطلع الأنوار ...» (٢).

وقوله : (فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً) تأكيد لانتباذها من أهلها ، واعتزالها إياهم.

أى : اذكر وقت أن اعتزلت أهلها. في مكان يلي شرق بيت المقدس ، فاتخذت بينها وبينهم حجابا وساترا للتفرغ لعبادة ربها.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٣ ص ١١٤.

(٢) تفسير القرطبي ج ١١ ص ٩٠.

٢٣

ثم بين ـ سبحانه ـ ما أكرمها به في حال خلوتها فقال : (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا).

أى : فأرسلنا إليها روحنا وهو جبريل ـ عليه‌السلام ـ فتشبه لها في صورة بشر سوى معتدل الهيئة ، كامل البنية ، كأحسن ما يكون الإنسان.

يقال : رجل سوى ، إذا كان تام الخلقة عظيم الخلق ، لا يعيبه في شأن من شئونه إفراط أو تفريط.

والإضافة في قوله (رُوحَنا) للتشريف والتكريم ، وسمى جبريل ـ عليه‌السلام ـ روحا لمشابهة الروح الحقيقية في أن كلا منهما مادة الحياة للبشر. فجبريل من حيث ما يحمل من الرسالة الإلهية تحيا به القلوب ، والروح تحيا به الأجسام.

وإنما تمثل لها جبريل ـ عليه‌السلام ـ في صورة بشر سوى ، لتستأنس بكلامه ، وتتلقى منه ما يلقى إليها من كلماته ، ولو بدا لها في صورته التي خلقه الله ـ تعالى ـ عليها. لنفرت منه ، ولم تستطع مكالمته.

وقوله : (بَشَراً سَوِيًّا) حالان من ضمير الفاعل في قوله (فَتَمَثَّلَ لَها).

ثم حكى ـ سبحانه ـ بعد ذلك ما دار بين مريم وبين جبريل من حوار ونقاش فقال : (قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا).

أى : قالت لجبريل ـ عليه‌السلام ـ الذي تمثل لها في صورة بشر سوى : إنى أعوذ وألتجئ إلى الرحمن منك ، إن كنت ممن يتقى الله ويخشاه.

وخصت الرحمن بالذكر ، لتثير مشاعر التقوى في نفسه ، إذ من شأن الإنسان التقى أن ينتفض وجدانه عند ذكر الرحمن ، وأن يرجع عن كل سوء يخطر بباله.

وجواب هذا الشرط محذوف ، أى إن كنت تقيا ، فابتعد عنى واتركني في خلوتي لأتفرغ لعبادة الله ـ تعالى ـ.

وبهذا القول الذي حكاه القرآن عن مريم. تكون قد جمعت بين الاعتصام بربها ، وبين تخويف من تخاطبه وترهيبه من عذاب الله. إن سولت له نفسه إرادتها بسوء. كما أن قولها هذا ، يدل على أنها قد بلغت أسمى درجات العفة والطهر والبعد عن الريبة ، فهي تقول له هذا القول ، وهي تراه بشرا سويا ، وفي مكان بمعزل عن الناس ...

وهنا يجيبها جبريل ـ كما حكى القرآن عنه ـ بقوله : (قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا).

٢٤

أى : قال لها جبريل ليدخل السكون والاطمئنان على قلبها : إنما أنا يا مريم رسول ربك الذي استعذت به ، والتجأت إليه ، فلا تخافي ولا تجزعي وقد أرسلنى ـ سبحانه ـ إليك ، لأهب لك بإذنه وقدرته غلاما زكيا ، أى : ولدا طاهرا من الذنوب والمعاصي ، كثير الخير والبركات.

ونسب الهبة لنفسه ، لكونه سببا فيها. وقرأ نافع وأبو عمرو : ليهب لك بالياء المفتوحة بعد اللام أى : ليهب لك ربك غلاما زكيا.

وهنا تزداد حيرة مريم ، ويشتد عجبها فتقول : (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ، وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا).

أى : قالت على سبيل التعجب مما سمعته : كيف يكون لي غلام ، والحال أنى لم يمسني بشر من الرجال عن طريق الزواج الذي أحله الله ـ تعالى ـ ، ولم أك في يوم من الأيام بغيا ، أى : فاجرة تبغى الرجال. أو يبغونها للزنا بها. يقال : بغت المرأة تبغى إذا فجرت وتجاوزت حدود الشرف والعفاف.

قال صاحب الكشاف : جعل المس عبارة عن النكاح الحلال ، لأنه كناية عنه. كقوله ـ تعالى ـ (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ) والزنا ليس كذلك ، إنما يقال فيه : فجر بها وخبث بها وما أشبه ذلك ، وليس بقمن أن تراعى فيه الكنايات والآداب. والبغي : الفاجرة التي تبغى الرجال ...» (١).

وعلى هذا الرأى الذي ذهب إليه صاحب الكشاف ، يكون ما حكاه القرآن عن مريم من قولها : (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ...) المقصود به النكاح الحلال.

ويرى آخرون أن المقصود به ما يشمل الحلال والحرام ، أى : ولم يمسسني بشر كائنا من كان لا بنكاح ولا بزنى ، ويكون قوله : (وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) من باب التخصيص بعد التعميم ، ويؤيد هذا الرأى قوله ـ تعالى ـ : (قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ. قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٢).

ويؤيده أيضا أن لفظ (بَشَرٌ) نكرة في سياق النفي فيعم كل بشر سواء أكان زوجا أم غير زوج.

قال القرطبي : قوله : (وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) أى : زانية. وذكرت هذا تأكيدا لأن قولها (وَلَمْ

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ١٠.

(٢) سورة آل عمران الآية ٤٧.

٢٥

يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) يشمل الحلال والحرام ... (١).

وقال الجمل في حاشيته ما ملخصه : وإنما تعجبت مما بشرها به جبريل لأنها عرفت بالعادة أن الولادة لا تكون إلا بعد الاتصال برجل. فليس في قولها هذا دلالة على أنها لم تعلم أنه ـ تعالى ـ قادر على خلق الولد ابتداء. كيف وقد عرفت أن أبا البشر قد خلقه الله ـ تعالى ـ من غير أب أو أم ...» (٢).

وقوله ـ تعالى ـ : (قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ...) رد من جبريل عليها.

أى : قال الأمر كذلك أى : كما ذكرت من أن بشرا لم يمسسك ومن أنك لم تكوني في يوم من الأيام بغيا. أو الأمر كذلك من أنى أرسلنى ربك لأهب لك غلاما زكيا من غير أن يكون له أب.

وقوله (قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) بيان لمظهر من مظاهر قدرة الله ـ تعالى ـ التي لا يعجزها شيء ، أى : (قالَ رَبُّكِ هُوَ) أى : خلق ولدك من غير أب (عَلَيَّ هَيِّنٌ) أى : سهل يسير لأن قدرتنا لا يعجزها شيء.

وقوله ـ سبحانه ـ (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ) تعليل لمعلل محذوف ، أى : ولنجعل وجود الغلام منك من غير أن يمسك بشر (آيَةً) عظيمة ، وأمرا عجيبا يدل دلالة واضحة على قدرتنا ، أمام الناس جميعا ، فإن قدرتنا لا يعجزها ذلك ، كما لا يعجزها أن توجد بشرا من غير أب وأم كما فعلنا مع آدم. أو من غير أم كما فعلنا مع حواء ، أو من أب وأم كما فعلنا مع سائر البشر.

وقوله : (وَرَحْمَةً مِنَّا) معطوف على ما قبله ، أى : ولنجعل هذا الغلام الذي وهبناه لك من غير أب رحمة عظيمة منا لمن آمن به ، واتبع دعوته. (وَكانَ) وجود هذا الغلام منك على هذه الكيفية (أَمْراً مَقْضِيًّا) أى : مقدرا في الأزل مسطورا في اللوح المحفوظ ، ولا بد من وقوعه بدون تغيير أو تبديل.

وبذلك تكون هذه الآيات الكريمة ، قد حكت لنا جانبا من حالة مريم ومن الحوار الذي جرى بينها وبين جبريل ـ عليه‌السلام ـ الذي تمثل لها في صورة بشر سوى.

ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن مشهد آخر من مشاهد تلك القصة العجيبة ، حكت فيها حالتها عند حملها بعيسى ، وعند ما جاءها المخاض. فقال ـ تعالى ـ :

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١١ ص ٩١.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ٥٦.

٢٦

(فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (٢٢) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (٢٣) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (٢٥) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا)(٢٦)

قال ابن كثير رحمه‌الله : يقول ـ تعالى ـ مخبرا عن مريم ، أنها لما قال لها جبريل عن الله ـ تعالى ـ ما قال : أنها استسلمت لقضائه ـ تعالى ـ ، فذكر غير واحد من علماء السلف ، أن الملك وهو جبريل ـ عليه‌السلام ـ عند ذلك نفخ في جيب درعها ، فنزلت النفخة حتى ولجت في الفرج ، فحملت بالولد بإذن الله ـ تعالى ـ ...

والمشهور عن الجمهور أنها حملت به تسعة أشهر. قال عكرمة : ثمانية أشهر. وعن ابن عباس أنه قال : لم يكن إلا أن حملت فوضعت ، وهذا غريب ، وكأنه مأخوذ من ظاهر قوله ـ تعالى ـ : (فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ). فالفاء وإن كانت للتعقيب ، لكن تعقيب كل شيء بحسبه.

فالمشهور الظاهر ـ والله على كل شيء قدير ـ أنها حملت به كما تحمل النساء بأولادهن ...» (١).

والفاء في قوله ـ تعالى ـ : (فَحَمَلَتْهُ ..) هي الفصيحة ؛ أى : وبعد أن قال جبريل لمريم إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا ... نفخ فيها فحملته ، أى : عيسى ، فانتبذت به ، أى : فتنحت به وهو في بطنها (مَكاناً قَصِيًّا) أى : إلى مكان بعيد عن المكان الذي يسكنه أهلها.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٣ ص ١١٦.

٢٧

يقال : قصى فلان عن فلان قصوا وقصوّا ، إذا بعد عنه. ويقال : فلان بمكان قصى ، أى : بعيد.

وجمهور العلماء على أن هذا المكان القصي ، كان بيت لحم بفلسطين.

قال ابن عباس : أقصى الوادي ، وهو وادي بيت لحم ، فرارا من قومها أن يعيروها بولادتها من غير زوج» (١).

ثم حكى ـ سبحانه ـ ما اعتراها من حزن عند ما أحست بقرب الولادة فقال : (فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا).

وقوله : (فَأَجاءَهَا) أى : فألجأها ، يقال : أجأته إلى كذا ، بمعنى : ألجأته واضطرته إليه. ويقال : جاء فلان. وأجاءه غيره ، إذا حمله على المجيء ، ومنه قول الشاعر :

وجار سار معتمدا علينا

أجاءته المخافة والرجاء

قال صاحب الكشاف : «أجاء : منقول من جاء ، إلا أن استعماله قد تغير بعد النقل إلى معنى الإلجاء. ألا تراك تقول : جئت المكان وأجاءنيه زيد ، كما تقول : بلغته وأبلغنيه ...» (٢).

والمخاض : وجع الولادة. يقال : مخضت المرأة ـ بكسر الخاء ـ تمخض ـ بفتحها ـ إذا دنا وقت ولادتها مأخوذ من المخض ، وهو الحركة الشديدة ، وسمى بذلك لشدة تحرك الجنين في بطن الأم عند قرب خروجه.

وجذع النخلة : ساقها الذي تقوم عليه.

أى : وبعد أن حملت مريم بعيسى ، وابتعدت به ـ وهو محمول في بطنها ـ عن قومها ، وحان وقت ولادتها. ألجأها المخاض إلى جذع النخلة لتتكئ عليه عند الولادة ...

فاعتراها في تلك الساعة ما اعتراها من هم وحزن وقالت : (يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا) الحمل والمخاض الذي حل بي (وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا) أى : وكنت شيئا منسيا متروكا ، لا يهتم به أحد ، وكل شيء نسى وترك ولم يطلب فهو نسى ونسىّ.

قال القرطبي : «والنّسى في كلام العرب : الشيء الحقير الذي من شأنه أن ينسى ولا يتألم لفقده كالوتد ، والحبل للمسافر. وقرئ : (نَسْياً) بكسر النون وهما لغتان مثل : الوتر والوتر ...» (٣).

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ٥٧.

(٢) تفسير الكشاف ج ٣ ص ١١.

(٣) تفسير القرطبي ج ١١ ص ٩٢.

٢٨

قال الآلوسى ما ملخصه : «وإنما قالت ذلك مع أنها كانت تعلم ما جرى بينها وبين جبريل من الوعد الكريم ، استحياء من الناس ، وخوفا من لائمتهم ، أو حذرا من وقوع الناس في المعصية بسبب كلامهم في شأنها.

وتمنى الموت لمثل ذلك لا كراهة فيه ـ لأنه يتعلق بأمر ديني ـ نعم يكره أن يتمنى المرء الموت لأمر دنيوى كمرض أو فقر .. ففي صحيح مسلم ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يتمنين أحدكم الموت لضرر نزل به ، فإن كان لا بد متمنيا فليقل : اللهم أحينى ما كانت الحياة خيرا لي ، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي».

ومن ظن أن تمنى مريم الموت كان لشدة الوجع فقد أساء الظن (١).

ثم ذكر ـ سبحانه ـ جانبا من إكرامه لمريم في تلك الساعات العصيبة من حياتها فقال : (فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي ، قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا. وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا ، فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً ...).

والذي ناداها يرى بعضهم أنه جبريل ـ عليه‌السلام ـ. وقوله (مِنْ تَحْتِها) فيه قراءتان سبعيتان : إحداهما : بكسر الميم في لفظ (مِنْ) على أنه حرف جر ، وخفض تاء (تَحْتِها) على أنه مجرور بحرف الجر والفاعل محذوف أى : فناداها جبريل من مكان تحتها ، أى أسفل منها ...

والثانية : بفتح الميم في لفظ (مِنْ) على أنه اسم موصول ، فاعل نادى وبفتح التاء في (تَحْتِها) على الظرفية ، أى : فناداها الذي هو تحتها ، وهو جبريل ـ عليه‌السلام ـ.

قال القرطبي : قوله ـ تعالى ـ (فَناداها مِنْ تَحْتِها).

قال ابن عباس : المراد بمن تحتها جبريل ، ولم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها .. ففي هذا لها آية وأمارة أن هذا من الأمور الخارقة للعادة ، التي لله ـ تعالى ـ فيها مراد عظيم» (٢).

ويرى بعض المفسرين أن المنادى هو عيسى ـ عليه‌السلام ـ فيكون المعنى : فناداها ابنها عيسى الذي كان عند ما وضعته موجودا تحتها.

وقد رجح الإمام ابن جرير هذا الرأى فقال : «وأولى القولين في ذلك عندنا قول من قال : الذي ناداها ابنها عيسى ، وذلك أنه من كناية ـ أى ضمير ـ ذكره أقرب منه من ذكر جبريل ، فرده على الذي هو أقرب إليه أولى من رده على الذي هو أبعد منه ، ألا ترى أنه في

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٦ ص ٨٢.

(٢) تفسير القرطبي ج ١١ ص ٩٢.

٢٩

سياق قوله ـ تعالى ـ (فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا ..) ثم قيل : فناداها نسقا على ذلك ، ولعلة أخرى وهي قوله : (فَأَشارَتْ إِلَيْهِ ..) ولم تشر إليه ـ إن شاء الله ـ إلا وقد علمت أنه ناطق في حاله تلك ..» (١).

ويبدو لنا أن ما ذهب إليه ابن جرير من كون الذي نادى مريم هو ابنها عيسى ، أقرب إلى الصواب ، لأن هذا النداء منه لها في تلك الساعة ، فيه ما فيه من إدخال الطمأنينة والسكينة على قلبها.

أى : فناداها ابنها عيسى الذي كان أسفل منها عند ما وضعته. مطمئنا إياها بعد أن قالت : يا ليتني مت قبل هذا الذي حدث لي .. ناداها بقوله : (أَلَّا تَحْزَنِي) يا أماه (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) أى جدولا صغيرا من الماء ، لتأخذى منه ما أنت في حاجة إليه ، وسمى النهر الصغير من الماء سريا ، لأن الماء يسرى فيه.

وقيل : المراد بالسرى : عيسى ـ عليه‌السلام ـ مأخوذ من السّرو بمعنى الرفعة والشرف.

يقال : سرو الرجل يسرو ـ كشرف يشرف ـ فهو سرىّ ، إذا علا قدره وعظم أمره ومنه قول الشاعر :

لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم

ولا سراة إذا جهالهم سادوا

أى : قد جعل ربك تحتك يا مريم إنسانا رفيع القدر ، وهو ابنك عيسى ، والجملة الكريمة تعليل لانتفاء الحزن المفهوم من النهى بقوله : (أَلَّا تَحْزَنِي) قال بعض العلماء ما ملخصه : «وأظهر القولين عندي أن السرى في الآية النهر الصغير لأمرين :

أحدهما : القرينة من القرآن ، لأن قوله بعد ذلك (فَكُلِي وَاشْرَبِي) قرينة على أن ذلك المأكول والمشروب هو ما تقدم الامتنان به في قوله : (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا).

الثاني : ما جاء عن ابن عمر من أنه سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن السرى الذي قال الله لمريم : (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) نهر أخرجه الله لها لتشرب منه».

فهذا الحديث ـ وإن كانت طرقه لا يخلو شيء منها من ضعف ـ أقرب إلى الصواب من دعوى أن السرى عيسى بغير دليل يجب الرجوع إليه» (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ). معطوف على ما قاله عيسى لأمه

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ١٦ ص ٥٢.

(٢) تفسير أضواء البيان للشيخ الشنقيطى ـ رحمه‌الله ـ ج ٤ ص ٢٤٨.

٣٠

مريم. والباء في قوله (بِجِذْعِ) مزيدة للتوكيد ، لأن فعل الهز يتعدى بنفسه.

أى : وحركي نحوك أو جهة اليمين أو الشمال جذع النخلة (تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً) وهو ما نضج واستوى من الثمر (جَنِيًّا) أى : صالحا للأخذ والاجتناء (فَكُلِي) من ذلك الرطب (وَاشْرَبِي) من ذلك السرى ، (وَقَرِّي عَيْناً) أى : طيبي نفسا بوجودى تحتك ، واطردى عنك الأحزان.

يقال : قرت عين فلان ، إذا رأت ما كانت متشوقة إلى رؤيته. مأخوذ من القرار بمعنى الاستقرار والسكون ، لأن العين إذا رأت ما تحبه سكنت إليه ، ولم تنظر إلى غيره.

وقد أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة ، أن مباشرة الأسباب في طلب الرزق أمر واجب وأن ذلك لا ينافي التوكل على الله ، لأن المؤمن يتعاطى الأسباب امتثالا لأمر ربه مع علمه ويقينه أنه لا يقع في ملكه ـ سبحانه ـ إلا ما يشاؤه ويريده.

وهنا قد أمر الله ـ تعالى ـ مريم ـ على لسان مولودها ـ بأن تهز النخلة ليتساقط لها الرطب ، مع قدرته ـ سبحانه ـ على إنزال الرطب إليها من غير هز أو تحريك ، ورحم الله القائل :

ألم تر أن الله قال لمريم

وهزي إليك الجذع يساقط الرطب

ولو شاء أن تجنيه من غير هزه

جنته ، ولكن كل شيء له سبب

كما أخذوا منها أن خير ما تأكله المرأة بعد ولادتها الرطب ، قالوا : لأنه لو كان شيء أحسن للنفساء من الرطب لأطمعه الله ـ تعالى ـ لمريم.

وقوله ـ سبحانه ـ : (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) حكاية منه ـ تعالى ـ لبقية كلام عيسى لأمه.

ولفظ (فَإِمَّا) مركب من إن الشرطية ، وما المزيدة لتوكيد الشرط و (تَرَيِنَ) فعل الشرط ، وجوابه (فَقُولِي) وبين هذا الجواب وشرطه كلام محذوف يرشد إليه السياق.

والمعنى : أن عيسى ـ عليه‌السلام ـ قال لأمه : لا تحزني يا أماه بسبب وجودى بدون أب ، وقرى عينا ، وطيبي نفسا لذلك ، فإما ترين من البشر أحدا كائنا من كان فسألك عن أمرى وشأنى فقولي له (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً) أى : صمتا عن الكلام (فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) لا في شأن هذا المولود ولا في شأن غيره ، وإنما سأترك الكلام لابني ليشرح لكم حقيقة أمره.

٣١

قالوا : إنما منعت من الكلام لأمرين : أحدهما : أن يكون عيسى هو المتكلم عنها ليكون أقوى لحجتها في إزالة التهمة عنها ، وفي هذا دلالة على تفويض الكلام إلى الأفضل. والثاني : «كراهة مجادلة السفهاء ، وفيه أن السكوت عن السفيه واجب ، ومن أذل الناس سفيه لم يجد مسافها» (١).

وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد حكت لنا بأسلوبها البليغ الحكيم ما فعلته مريم عند ما شعرت بالحمل وما قالته عند ما أحست بقرب الولادة ، وما قاله لها مولودها عيسى من كلام جميل طيب ، لإدخال الطمأنينة على قلبها.

ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن مشهد آخر من مشاهد تلك القصة العجيبة ؛ مشهد مريم عند ما جاءت بوليدها إلى قومها ، وما قالوه لها ، وما قاله وليدها لهم ...

استمع إلى القرآن الكريم وهو يحكى ذلك فيقول :

(فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (٢٧) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (٣١) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا)(٣٣)

وقوله ـ سبحانه ـ : (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ ...) معطوف على كلام محذوف يفهم من سياق القصة.

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٥ ص ٥٣٥.

٣٢

والتقدير : وبعد أن استمعت مريم إلى ما قاله لها ابنها عيسى ـ عليه‌السلام ـ اطمأنت نفسها ، وقرت عينها ، فأتت به أى بمولودها عيسى إلى قومها. وهي تحمله معها من المكان القصي الذي اعتزلت فيه قومها.

قال الآلوسى : أى : جاءتهم مع ولدها حاملة إياه ، على أن الباء للمصاحبة. وجملة (تَحْمِلُهُ) في موضع الحال من ضمير مريم ... وكان هذا المجيء على ما أخرج سعيد بن منصور ، وابن عساكر عن ابن عباس بعد أربعين يوما حين طهرت من نفاسها ...

وظاهر الآية والأخبار «أنها جاءتهم به من غير طلب منهم ..» (١).

ثم حكى ـ سبحانه ـ ما قاله قومها عند ما رأوها ومعها وليدها فقال : (قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا).

أى : قالوا لها على سبيل الإنكار : يا مريم لقد جئت أى فعلت شيئا منكرا عجيبا في بابه ، حيث أتيت بولد من غير زوج نعرفه لك.

والفري : مأخوذ من فريت الجلد إذا قطعته ، أى : شيئا قاطعا وخارقا للعادة ، ومرادهم : أنها أتت بولدها عن طريق غير شرعي ، كما قال ـ تعالى ـ في آية أخرى : (وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً).

ويدل على أن مرادهم هذا ، قولهم بعد ذلك : (يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ).

أى : ما كان أبوك رجلا زانيا أو معروفا بالفحش (وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) أى : تتعاطى الزنا. يقال : بغت المرأة ، إذا فجرت وابتعدت عن طريق الطهر والعفاف.

وليس المراد بهارون : هارون بن عمران أخا موسى ، وإنما المراد به رجل من قومها معروف بالصلاح والتقوى ، فشبهت به ، أى : يا أخت هارون في الصلاح والتقوى.

أو المراد به أخ لها كان يسمى بهذا الاسم.

قال الآلوسى ما ملخصه : «وقوله : (يا أُخْتَ هارُونَ) استئناف لتجديد التعيير ، وتأكيد التوبيخ ، وليس المراد بهارون أخا موسى بن عمران ـ عليهما‌السلام ـ لما أخرج أحمد ، ومسلم ، والترمذي ، والنسائي ، والطبراني ، وابن حبان ، وغيرهم عن المغيرة بن شعبة قال : بعثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أهل نجران فقالوا : أرأيت ما تقرأون :

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٦ ص ٨٧.

٣٣

(يا أُخْتَ هارُونَ) وموسى قبل عيسى بكذا وكذا. قال : فرجعت فذكرت ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم» ..

وعن قتادة قال : «هو رجل صالح في بنى إسرائيل. والأخت على هذا بمعنى المشابهة ، وشبهوها به تهكّما ، أو لما رأوا قبل من صلاحها ...» (١).

وعلى أية حال فإن مرادهم بقولهم هذا ، هو اتهام مريم بما هي بريئة منه ، والتعجب من حالها ، حيث انحدرت من أصول صالحة طاهرة ، ومع ذلك لم تنهج نهجهم.

وهنا نجد مريم تبدأ في الدفاع عن نفسها ، عن طريق وليدها (فَأَشارَتْ إِلَيْهِ).

أى : فأشارت إلى ابنها عيسى ، ولسان حالها يقول لهم : وجهوا كلامكم إليه فإنه سيخبركم بحقيقة الأمر.

ولكنهم لم يقتنعوا بإشارتها بل قالوا لها : (كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا).

والمهد : اسم للمضطجع الذي يهيأ للصبي في رضاعه. وهو في الأصل مصدر مهده يمهده إذا بسطه وسواه.

أى : كيف نكلم طفلا صغيرا ما زال في مهده وفي حال رضاعه.

والفعل الماضي وهو (كانَ) هاهنا بمعنى الفعل المضارع المقترن بالحال ، كما يدل عليه سياق القصة.

ولكن عيسى ـ عليه‌السلام ـ أنطقه الله ـ تعالى ـ بما يدل على صدق مريم وطهارتها فقال : (قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ ..) أى : قال عيسى في رده على المنكرين على أمه إتيانها به : إنى عبد الله ، خلقني بقدرته ، فأنا عبده وأنتم ـ أيضا ـ عبيده ، وهذا الخالق العظيم (آتانِيَ الْكِتابَ) أى : سبق في قضائه إيتائى الكتاب أى : الإنجيل أو التوراة أو مجموعهما.

وعبر في هذه الجملة وفيما بعدها بالفعل الماضي عما سيقع في المستقبل ، تنزيلا لتحقق الوقوع منزلة الوقوع الفعلى.

وهذا التعبير له نظائر كثيرة في القرآن الكريم ، منها قوله ـ تعالى ـ : (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ).

وقوله ـ سبحانه ـ (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٦ ص ٨٨.

٣٤

شاءَ اللهُ. ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى. فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) (١).

وقوله : (وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) أدعو الناس إلى عبادته وحده (وَجَعَلَنِي) أيضا بجانب نبوتي (مُبارَكاً) أى : كثير الخير والبركة (أَيْنَ ما كُنْتُ) أى : حينما حللت جعلني مباركا ، فأينما شرطية وجوابها محذوف لدلالة ما قبله عليه.

(وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ) أى : بالمحافظة على أدائهما (ما دُمْتُ حَيًّا) في هذه الدنيا.

وقوله : (وَبَرًّا بِوالِدَتِي) ، أى : وجعلني كذلك مطيعا والدتي ، وبارا بها ، ومحسنا إليها ، (وَلَمْ يَجْعَلْنِي) سبحانه ـ فضلا منه وكرما (جَبَّاراً شَقِيًّا) أى : ولم يجعلني مغرورا متكبرا مرتكبا للمعاصي والموبقات.

(وَالسَّلامُ) والأمان منه ـ تعالى ـ (عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ) مفارقا هذه الدنيا (وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) للحساب والجزاء يوم القيامة.

فأنت ترى أن عيسى ـ عليه‌السلام ـ قد وصف نفسه بمجموعة من الصفات الفاضلة ، افتتحها بصفة العبودية لله رب العالمين ، لإرشاد الناس إلى تلك الحقيقة التي لا حق سواها. واختتمها برجاء الأمان له من الله ـ تعالى ـ في كل أطوار حياته.

ثم ختم ـ سبحانه ـ هذه القصة ببيان وجه الحق فيها ، وأنذر الذين وصفوا عيسى وأمه بما هما بريئان منه بسوء المصير. فقال ـ تعالى ـ :

(ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥) وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٣٦) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٣٧) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٨)

__________________

(١) سورة الزمر الآية ٦٨.

٣٥

وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٩) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ)(٤٠)

واسم الإشارة (ذلِكَ) في قوله : (ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) إشارة إلى ما ذكره الله ـ تعالى ـ قبل ذلك لعيسى من صفات حميدة ، ومن أخبار صادقة وهو مبتدأ ، وعيسى خبره ، وابن مريم صفته.

ولفظ : (قَوْلَ) فيه قراءتان سبعيتان إحداهما قراءة الجمهور بضم اللام ، والثانية قراءة ابن عامر وعاصم ، بفتحها.

وعلى القراءة بالرفع يكون (قَوْلَ الْحَقِ) خبر مبتدأ محذوف. فيكون المعنى : ذلك الذي أخبرناك عنه بشأن عيسى وأمه هو قول الحق ـ عزوجل ـ وهو قول لا يحوم حوله باطل ، ولا يخالطه ريب أو شك. فلفظ (الْحَقِ) يصح أن يراد به الله ـ سبحانه ـ لأنه من أسمائه ، ويصح أن يراد به ما هو ضد الباطل ، وهو الصدق والثبوت.

وعلى قراءة النصب يكون لفظ (قَوْلَ) مصدرا مؤكدا لمضمون الجملة ، أى : ذلك الذي قصصناه عليك ـ أيها الرسول الكريم ـ من شأن عيسى ابن مريم ، هو القول الثابت الصادق. الذي أقول فيه قول الحق.

والإضافة من باب إضافة الموصوف إلى صفته أى : القول الحق ، كقوله ـ تعالى ـ (وَعْدَ الصِّدْقِ) أى : الوعد الصدق.

وقوله : (الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) بيان لموقف الكافرين من هذا القول الحق الذي ذكره الله ـ تعالى ـ عن عيسى وأمه. و (الَّذِي) صفة للقول. أو للحق ، و (يَمْتَرُونَ) يشكون من المرية بمعنى الشك والجدل ...

أى : ذلك الذي ذكرناه لك من خبر عيسى هو القول الحق ، الذي شك في صدقه الكافرون ، وتنازع فيه الضالون ، فلا تلتفت إلى شكهم وكفرهم بل ذرهم في طغيانهم يعمهون.

ثم نزه ـ سبحانه ـ ذاته عن أن يكون له ولد فقال : (ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ ...) أى : ما يصح وما يستقيم وما يتصور في حقه ـ تعالى ـ أن يتخذ ولدا ، لأنه منزه عن ذلك ، لأن الولد إنما يتخذه الفانون للامتداد ، ويتخذه الضعفاء للنصرة ، والله ـ تعالى ـ هو الباقي بقاء أبديا ، وهو القوى القادر الذي لا يعجزه شيء.

٣٦

و (مِنْ) في قوله (مِنْ وَلَدٍ) لتأكيد هذا النفي وتعميمه.

وفي معنى هذه الآيات جاءت آيات كثيرة منها قوله ـ تعالى ـ في هذه السورة : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً. لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا ، تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا. أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً. وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً). (١)

ثم بين ـ سبحانه ـ ما يدل على غناه عن الولد والوالد والصاحب والشريك فقال : (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) أى : لا يتصور في حقه ـ سبحانه ـ اتخاذ الولد ، لأنه إذا أراد قضاء أمر ، فإنما يقول له : كن ، فيكون في الحال ، بدون تأخير أو تردد.

وقوله ـ تعالى ـ (وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ....) قرأه ابن عامر والكوفيون بكسر همزة (إِنَ) على الاستئناف ، أى : وإن عيسى ـ عليه‌السلام ـ قد قال لقومه ـ أيضا ـ وإن الله ـ تعالى ـ هو ربي وهو ربكم فأخلصوا له العبادة والطاعة ، وهذا الذي أمرتكم به هو الصراط المستقيم الذي لا يضل سالكه.

وقرأ الباقون بفتح همزة أن بتقدير حذف حرف الجر أى : وقال عيسى لقومه : ولأن الله ربي وربكم فاعبدوه ... كما في قوله ـ تعالى ـ : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) أى : ولأن المساجد لله ..

ثم بين ـ سبحانه ـ موقف أهل الكتاب من عيسى ـ عليه‌السلام ـ فقال : (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ).

والأحزاب جمع حزب والمراد بهم فرق اليهود والنصارى الذين اختلفوا في شأنه ـ عليه‌السلام ـ فمنهم من اتهم أمه بما هي بريئة منه ، وهم اليهود كما في قوله : (وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً).

ومنهم من قال هو ابن الله ، أو هو الله ، أو إله مع الله ، أو هو ثالث ثلاثة ... إلى غير ذلك من الأقوال الباطلة التي حكاها القرآن عن الضالين وهم النصارى.

ولفظ ويل مصدر لا فعل له من لفظه ، وهو كلمة عذاب ووعيد.

و (مَشْهَدِ) يصح أن يكون مصدرا ميميا بمعنى الشهود والحضور.

والمعنى : هكذا قال عيسى ـ عليه‌السلام ـ لقومه : (اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) ولكن الفرق الضالة من اليهود والنصارى اختلفوا فيما بينهم في شأنه اختلافا كبيرا ، وضلوا ضلالا

__________________

(١) سورة مريم الآية ٨٨ ـ ٩٢.

٣٧

بعيدا ، حيث وصفوه بما هو برىء منه ، فويل لهؤلاء الكافرين من شهود ذلك اليوم العظيم وهو يوم القيامة ، حيث سيلقون عذابا شديدا من الله بسبب ما نطقوا به من زور وبهتان.

وعبر عنهم بالموصول في قوله (لِلَّذِينَ كَفَرُوا) إيذانا بكفرهم جميعا ، وإشعارا بعلة الحكم.

قال أبو حيان : «ومعنى : (مِنْ بَيْنِهِمْ) أن الاختلاف لم يخرج عنهم ، بل كانوا هم المختلفين دون غيرهم» (١).

وجاء التعبير في قوله (مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) بالتنكير ، للتهويل من شأن هذا المشهد ، ومن شأن هذا اليوم وهو يوم القيامة ، الذي يشهده الثقلان وغيرهما من مخلوقات الله ـ تعالى ـ.

وقوله ـ سبحانه ـ (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا ...) تهكم بهم ، وتوعد لهم بالعذاب الشديد ، فهو تأكيد لما قبله.

و (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) صيغتا تعجب ، لفظهما لفظ الأمر ، ومعناهما التعجيب ، أى حمل المخاطب على التعجيب ، وفاعلهما الضمير المجرور بالباء ، وهي زائدة فيهما لزوما ، والمعنى : ما أسمع هؤلاء الكافرين وما أبصرهم في ذلك اليوم ، لما يخلع قلوبهم ، ويسود وجوههم ، مع أنهم كانوا في الدنيا صما وعميانا عن الحق الذي جاءتهم به رسلهم.

فالمراد باليوم في قوله (لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) هو ما كانوا فيه في الدنيا من ضلال وغفلة عن الحق.

أى : أن هؤلاء القوم ما أعجب حالهم إنهم لا يسمعون ولا يبصرون في الدنيا حين يكون السمع والبصر وسيلة للهدى والنجاة. وهم أسمع ما يكون السمع وأبصر ما يكون البصر ، عند ما يكون السمع والبصر وسيلة للخزى والعذاب في الآخرة.

تم أمر الله ـ تعالى ـ نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يخوف المشركين من أهوال يوم القيامة ، فقال : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ).

والإنذار : الإعلام بالمخوف منه على وجه الترهيب والتحذير ، وأشد ما يخوف به يوم القيامة.

والحسرة : أشد الندم على الأمر الذي فات وانقضى ولا يمكن تداركه.

أى : وأنذر ـ أيها الرسول الكريم ـ المشركين ، وخوفهم من أهوال يوم القيامة ، يوم

__________________

(١) تفسير البحر المحيط لأبى حيان ج ٦ ص ١٩١.

٣٨

يتحسر الظالمون على تفريطهم في طاعة الله ، ولكن هذا التحسر لن ينفعهم ، لأن حكم الله قد نفذ فيهم وقضى الأمر بنجاة المؤمنين ، وبعذاب الفاسقين ، وذهب أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار.

وقوله : (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) حال من الضمير المنصوب في (أَنْذِرْهُمْ).

أى : أنذرهم لأنهم في حالة يحتاجون فيها إلى الإنذار وهي الغفلة وعدم الإيمان.

هذا ، وقد جاء في الحديث الصحيح ما يدل على أن المراد بقوله ـ تعالى ـ (إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ).

أى : ذبح الموت. فقد روى البخاري عن أبى سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح فينادى مناد : يا أهل الجنة فيشرئبون وينظرون ، فيقول : هل تعرفون هذا؟ فيقولون نعم. هذا الموت وكلهم قد رآه. ثم ينادى يا أهل النار ، فيشرئبون وينظرون فيقول : هل تعرفون هذا؟ فيقولون نعم. هذا الموت وكلهم قد رآه. فيذبح. ثم يقول : يا أهل الجنة خلود بلا موت ، ويا أهل النار خلود بلا موت. ثم قرأ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (١).

ثم ساق ـ سبحانه ـ ما يدل على كمال قدرته ، وشمول ملكه فقال : (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها ..) أى : إنا نحن وحدنا الذين نميت جميع الخلائق الساكنين بالأرض ، فلا يبقى لأحد غيرنا من سلطان عليهم أو عليها ، وهؤلاء الخلائق جميعا (وَإِلَيْنا) وحدنا (يُرْجَعُونَ) يوم القيامة ، فنحاسبهم على أعمالهم.

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ).

وإلى هنا تكون السورة الكريمة قد حدثتنا عن جانب من قصة زكريا ويحيى ، وعن قصة مريم وعيسى ، حديثا يهدى إلى الرشد ، ويزيد المؤمنين إيمانا على إيمانهم ، ويقذف بحقه على باطل المبطلين فيدمغه فإذا هو زاهق.

ثم أوردت السورة الكريمة القصة الثالثة وهي قصة إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ وما دار بينه وبين أبيه من حوار. قال ـ تعالى ـ :

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٣ ص ١٢٢.

٣٩

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٤١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (٤٢) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (٤٣) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (٤٤) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (٤٥) قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (٤٦) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (٤٧) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (٤٨) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (٤٩) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا)(٥٠)

قال الإمام الرازي ما ملخصه : «اعلم أن الغرض من هذه السورة ، بيان التوحيد والنبوة والحشر ، والمنكرون للتوحيد فريقان : فريق أثبت معبودا غير الله حيا عاقلا وهم النصارى ومن على شاكلتهم ، وفريق أثبت معبودا من الجماد ليس بحي ولا عاقل ، وهم عبدة الأوثان. والفريقان وإن اشتركا في الضلال إلا أن ضلال الفريق الثاني أعظم. ولما بين ـ سبحانه ـ ضلال الفريق الأول ـ وهم النصارى ـ ، أتبعه بذكر الفريق الثاني ، وهم عبدة الأوثان قوم إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ (١).

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٥ ص ٥٤٤.

٤٠