التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٩

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٩

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0683-3
الصفحات: ٣٥٥

والمعنى : واذكر ـ أيها الرسول الكريم أو أيها المخاطب ـ عبدنا أيوب ـ عليه‌السلام ـ وقت أن نادى ربه ، وتضرع إليه بقوله : يا رب أنى أصابنى ما أصابنى من الضر والتعب ، وأنت أجل وأعظم رحمة من كل من يتصف بها.

فأنت ترى أن أيوب ـ عليه‌السلام ـ لم يزد في تضرعه عن وصف حاله (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ) ووصف خالقه ـ تعالى ـ بأعظم صفات الرحمة دون أن يقترح شيئا أو يطلب شيئا ، وهذا من الأدب السامي الذي سلكه الأنبياء مع خالقهم ـ عزوجل ـ.

قال صاحب الكشاف : «ألطف ـ أيوب ـ في السؤال ، حيث ذكر نفسه بما يوجب الرحمة ، وذكر ربه بغاية الرحمة ، ولم يصرح بالمطلوب. ويحكى أن عجوزا تعرضت لسليمان بن عبد الملك فقالت : يا أمير المؤمنين ، مشت جرذان ـ أى فئران ـ بيتي على العصى!! فقال لها : ألطفت في السؤال ، لا جرم لأجعلنها تثب وثب الفهود ، وملأ بيتها حبا ..» (١).

وبعد أن دعا أيوب ربه ـ تعالى ـ بهذه الثقة ، وبهذا الأدب والإخلاص ، كانت الإجابة المتمثلة في قوله ـ تعالى ـ : (فَاسْتَجَبْنا لَهُ) أى دعاءه وتضرعه (فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ) أى : فأزلنا ما نزل به من بلاء في جسده ، وجعلناه سليما معافى. بأن أمرناه أن يضرب برجله الأرض ففعل ، فنبعت له عين فاغتسل منها ، فزال عن بدنه كل مرض أصابه بإذن الله ـ تعالى ـ.

قال ـ سبحانه ـ : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ. ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ ..) (٢).

وقال ـ تعالى ـ : (وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) أى : لم نخيب رجاء أيوب حين دعانا ، بل استجبنا له دعاءه ، بفضلنا وكرمنا ، فأزلنا عنه المرض الذي نزل به ، ولم نكتف بهذا ـ أيضا ـ بل عوضناه عمن فقده من أولاده ، ورزقناه مثلهم معهم.

قال الآلوسى ما ملخصه : «قوله : (وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) أخرج ابن مردويه وابن عساكر عن ابن عباس قال : سألت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قوله : (وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) فقال : «رد الله ـ تعالى ـ امرأته إليه ، وزاد في شبابها ، حتى ولدت له ستا وعشرين ذكرا».

فالمعنى على هذا : آتيناه في الدنيا مثل أهله عددا مع زيادة مثل آخر.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ١٣٠.

(٢) سورة ص الآيتان ٤١ ، ٤٢.

٢٤١

وعن قتادة : إن الله أحيا له أولاده الذين هلكوا في بلائه ، وأوتى مثلهم في الدنيا .. (١).

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بقوله ـ تعالى ـ : (رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ) أى : أجبنا له دعاءه ، وفعلنا معه ما فعلناه من ألوان الخيرات ، من أجل رحمتنا به ، ومن أجل أن يكون ما فعلناه معه عبرة وعظة وذكرى لغيره من العابدين حتى يقتدوا به في صبره على البلاء ، وفي المداومة على شكرنا في السراء والضراء.

وخص ـ سبحانه ـ العابدين بالذكرى ، لأنهم أكثر الناس بلاء وامتحانا. ففي الحديث الشريف : «أشد الناس بلاء الأنبياء ، ثم الصالحون ، ثم الأمثل فالأمثل».

وفي حديث آخر : «يبتلى الرجل على قدر دينه ، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه» (٢).

وقد كان أيوب آية في الصبر ، وبه يضرب المثل في ذلك.

هذا ، وقصة أيوب ـ عليه‌السلام ـ ستأتى بصورة أكثر تفصيلا في سورة «ص» ، وقد تركنا هنا أقوالا عن كيفية مرضه ، وعن مدة هذا المرض .. نظرا لضعفها ، ومنافاتها لعصمة الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ من الأمراض المنفرة.

ثم أشارت السورة إشارات مجملة إلى قصة كل من إسماعيل وإدريس وذي الكفل ، قال ـ تعالى ـ :

(وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (٨٥) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ)(٨٦)

وإسماعيل : هو الابن الأكبر لإبراهيم ـ عليهما‌السلام ـ وهو الذبيح الذي افتداه الله ـ تعالى ـ بذبح عظيم.

وإدريس : هو واحد من أنبياء الله ـ تعالى ـ ، قالوا : وهو جد نوح ـ عليه‌السلام ـ وأنه ولد في حياة آدم ، وبعث بعد موته.

أما ذو الكفل : فقد قال الآلوسى في شأنه ما ملخصه : ظاهر نظم ذي الكفل في سلك

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٧ ص ٨١.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ٣٥٤.

٢٤٢

الأنبياء أنه منهم ، وهذا ما ذهب إليه الأكثر. واختلف في اسمه : فقيل : بشر وهو ابن أيوب ، بعثه الله ـ تعالى ـ بعد أبيه ، وكان مقيما بالشام.

وقيل : هو إلياس بن ياسين وينتهى نسبه إلى هارون ـ عليه‌السلام ـ.

وقيل : هو زكريا والد يحيى ـ عليهما‌السلام ـ وسمى بذلك لكفالته مريم.

وقيل : لم يكن نبيا وإنما كان عبدا صالحا ..» (١).

ثم مدح ـ سبحانه ـ هؤلاء الأنبياء فقال : (كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ) أى : كل واحد منهم من عبادنا الصابرين الذين تحملوا في سبيلنا الكثير من المصاعب والآلام.

(وَأَدْخَلْناهُمْ) بفضلنا وإحساننا (فِي رَحْمَتِنا) التي وسعت كل شيء (إِنَّهُمْ مِنَ) عبادنا (الصَّالِحِينَ) لحمل رسالتنا ، وتبليغها إلى أقوامهم بصدق وصبر وأمانة.

ثم ساق ـ سبحانه ـ بعد ذلك جانبا من قصة يونس ـ عليه‌السلام ـ فقال :

(وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) (٨٨)

والمراد بذي النون : يونس بن متى ـ عليه‌السلام ـ ، والنون : الحوت. وجمعه نينان وأنوان. وسمى بذلك لابتلاع الحوت له.

قال ـ تعالى ـ : (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ* فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ* فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ ..) (٢).

وملخص قصة يونس «أن الله ـ تعالى ـ أرسله إلى أهل نينوى بالعراق في حوالى القرن الثامن قبل الميلاد ، فدعاهم إلى إخلاص العبادة لله ـ عزوجل ـ فاستعصوا عليه ، فضاق بهم ذرعا ، وتركهم وهو غضبان ليذهب إلى غيرهم ، فوصل إلى شاطئ البحر ، فوجد سفينة

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٧ ص ٨٢.

(٢) سورة الصافات الآيات ١٣٩ ـ ١٤٢.

٢٤٣

فركب فيها ، وفي خلال سيرها في البحر ضاقت بركابها ، فقال ربانها : إنه لا بد من أحد الركاب يلقى بنفسه في البحر لينجو الجميع من الغرق. فجاءت القرعة على يونس ، فألقى بنفسه في اليم فالتقمه الحوت .. ثم نبذه إلى الساحل بعد وقت يعلمه الله ـ تعالى ـ ، فأرسله ـ سبحانه ـ إلى قومه مرة أخرى فآمنوا.

وسيأتى تفصيل هذه القصة في سورة الصافات ـ بإذن الله ـ.

والمعنى : واذكر أيها المخاطب لتعتبر وتتعظ ـ عبدنا ذا النون. وقت أن فارق قومه وهو غضبان عليهم ، لأنهم لم يسارعوا إلى الاستجابة له.

قال الجمل : وقوله : (إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً) أى : غضبان على قومه ، فالمفاعلة ليست على بابها فلا مشاركة كعاقبت وسافرت ، ويحتمل أن تكون على بابها من المشاركة ، أى غاضب قومه وغاضبوه حين لم يؤمنوا في أول الأمر» (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) بيان لما ظنه يونس ـ عليه‌السلام ـ حين فارق قومه غاضبا عليهم بدون إذن من ربه ـ عزوجل ـ.

أى : أن يونس قد خرج غضبان على قومه لعدم استجابتهم لدعوته فظن أن لن نضيق عليه ، عقابا له على مفارقته لهم من غير أمرنا ، أو فظن أننا لن نقضي عليه بعقوبة معينة في مقابل تركه لقومه بدون إذننا.

فقوله : (نَقْدِرَ عَلَيْهِ) بمعنى نضيق عليه ونعاقبه. يقال : قدر الله الرزق يقدره ـ بكسر الدال وضمها ـ إذا ضيقه. ومنه قوله ـ تعالى ـ : (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) (٢).

وقوله : (وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ ..) (٣) أى : ضيقه عليه.

ثم بين ـ سبحانه ـ ما كان يردده يونس وهو في بطن الحوت فقال : (فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ).

والفاء في قوله (فَنادى) فصيحة.

والمراد بالظلمات : ظلمات البحر ، وبطن الحوت ، والليل.

أى : خرج يونس غضبان على قومه. فحدث له ما حدث من التقام الحوت له ، فلما صار

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ١٤٣.

(٢) سورة الرعد الآية ٢٦.

(٣) سورة الفجر الآية ١٦.

٢٤٤

في جوفه المظلم ، بداخل البحر المظلم ، أخذ يتضرع إلينا بقوله : أشهد أن لا إله إلا أنت يا إلهى مستحق للعبادة ، (سُبْحانَكَ) أى : أنزهك تنزيها عظيما (إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) لنفسي حين فارقت قومي بدون إذن منك. وإنى أعترف بخطئي ـ يا إلهى ـ فتقبل توبتي ، واغسل حوبتي.

هذا وقد ذكر ابن جرير وابن كثير وغيرهما من المفسرين هنا روايات متعددة عن المدة التي مكثها يونس في بطن الحوت ، وعن فضل الدعاء الذي تضرع به إلى الله ـ تعالى ـ ، ومن ذلك ما رواه ابن جرير عن سعد بن أبى وقاص ـ رضى الله عنه ـ قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «باسم الله الذي إذا دعى به أجاب ، وإذا سئل به أعطى ، دعوة يونس بن متى». قال : قلت : يا رسول الله ، هي ليونس خاصة أم لجماعة المسلمين؟ قال : «هي ليونس بن متى خاصة وللمؤمنين عامة ، إذا دعوا بها. ألم تسمع قول الله ـ تعالى ـ : (فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ* فَاسْتَجَبْنا لَهُ ، وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ ، وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) فهو شرط من الله لمن دعاه به» (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ أنه قد أجاب ليونس دعاءه فقال : (فَاسْتَجَبْنا لَهُ) أى : دعاءه وتضرعه (وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِ) أى : من الحزن الذي كان فيه حين التقمه الحوت وصار في بطنه.

وقد بين ـ سبحانه ـ في آية أخرى ، أن يونس ـ عليه‌السلام ـ لو لم يسبح الله للبث في بطن الحوت إلى يوم البعث. قال ـ تعالى ـ : (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ. لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) بشارة لكل مؤمن يقتدى بيونس في إخلاصه وصدق توبته ، ودعائه لربه.

أى : ومثل هذا الإنجاء الذي فعلناه مع عبدنا يونس ، ننجي عبادنا المؤمنين من كل غم ، متى صدقوا في إيمانهم ، وأخلصوا في دعائهم.

ثم ساقت السورة الكريمة بعد ذلك جانبا من قصة زكريا ويحيى فقال ـ تعالى ـ :

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ١٧ ص ٦٥.

٢٤٥

(وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (٨٩) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ)(٩٠)

وزكريا هو ابن آزن بن بركيا ، ويتصل نسبه بسليمان ـ عليه‌السلام ـ ، وكان عيسى قريب العهد به ، حيث كفل زكريا مريم أم عيسى.

أى : واذكر ـ أيها المخاطب ـ حال زكريا ـ عليه‌السلام ـ وقت أن نادى ربه وتضرع إليه فقال : يا رب لا تتركني فردا أى : وحيدا بدون ذرية (وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ) أى : وأنت خير حي باق بعد كل الأموات.

فكانت نتيجة هذا الدعاء الخالص أن أجاب الله لزكريا دعاءه فقال : (فَاسْتَجَبْنا لَهُ) أى دعاءه وتضرعه.

(وَوَهَبْنا لَهُ) بفضلنا وإحساننا ابنه (يَحْيى) ـ عليهما‌السلام ـ.

(وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ) بأن جعلناها تلد بعد أن كانت عقيما تكريما له ورحمة به.

وقوله : (إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) تعليل لهذا العطاء الذي منحه ـ سبحانه ـ لأنبيائه ـ عليهم الصلاة والسلام ـ والضمير في «إنهم» يعود للأنبياء السابقين. وقيل : يعود إلى زكريا وزوجه ويحيى.

أى : لقد أعطيناهم ما أعطيناهم من ألوان النعم ، لأنهم كانوا يبادرون في فعل الخيرات التي ترضينا ، ويجتهدون في أداء كل قول أو عمل أمرناهم به.

(وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً) أى : ويجأرون إلينا بالدعاء ، راغبين في آلائنا ونعمنا وراهبين خائفين من عذابنا ونقمنا.

فقوله (رَغَباً وَرَهَباً) مصدران بمعنى اسم الفاعل ، منصوبان على الحال ، وفعلهما من باب «طرب» (وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ) أى : مخبتين متضرعين لا متكبرين ولا متجبرين.

وبهذه الصفات الحميدة ، استحق هؤلاء الأخيار أن ينالوا خيرنا وعطاءنا ورضانا.

٢٤٦

ثم ختم ـ سبحانه ـ الحديث عن هؤلاء الأنبياء الكرام ، بذكر جانب من قصة مريم وابنها عيسى فقال :

(وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ)(٩١)

وقوله : (أَحْصَنَتْ) من الإحصان بمعنى المنع ، يقال : هذه درع حصينة أى : مانعة صاحبها من الجراحة. ويقال : هذه امرأة حصينة ، أى : مانعة نفسها من كل فاحشة بسبب عفتها أو زواجها.

أى : واذكر ـ أيضا أيها المخاطب خبر مريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها ، أى : حفظته ومنعته من النكاح منعا كليا. والتعبير عنها بالموصول لتفخيم شأنها ، وتنزيهها عن السوء.

(فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا) أى : فنفخنا فيها من جهة روحنا ، وهو جبريل ـ عليه‌السلام ـ حيث أمرناه بذلك فامتثل أمرنا ، فنفخ في جيب درعها ، فكان بذلك عيسى ابنها ، ويؤيد هذا التفسير قوله ـ تعالى ـ في سورة مريم : (قالَ) ـ أى جبريل لمريم ـ (إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا).

أى : لأكون سببا في هبة الغلام لك عن طريق النفخ في درعك فيصل هذا النفخ إلى الفرج فيكون الحمل بعيسى بإذن الله وإرادته.

والمراد بالآية في قوله ـ سبحانه ـ : (وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ) : الأمر الخارق للعادة ، الذي لم يسبقه ولم يأت بعده ما يشابهه.

أى : وجعلنا مريم وابنها عيسى آية بينة ، ومعجزة واضحة دالة على كمال قدرتنا للناس جميعا ، إذ جاءت مريم بعيسى دون أن يمسها بشر ، ودون أن تكون بغيا.

قال صاحب الكشاف : «فإن قلت : هلا قيل آيتين كما قال ـ سبحانه ـ : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ)؟ (١) قلت : لأن حالهما بمجموعهما آية واحدة. وهي ولادتها إياه من غير فحل» (٢).

__________________

(١) سورة الإسراء الآية ١٢.

(٢) تفسير الكشاف ج ٣ ص ١٣٣.

٢٤٧

وبعد هذا الحديث المتنوع عن قصص عدد كبير من الأنبياء في سورة الأنبياء ، عقب ـ سبحانه ـ على ذلك ببيان أنهم ـ عليهم‌السلام ـ قد جاءوا بعقيدة واحدة ، هي إخلاص العبادة لله ـ تعالى ـ فقال :

(إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ)(٩٢)

ولفظ الأمة يطلق بإطلاقات متعددة. يطلق على الجماعة كما في قوله ـ تعالى ـ (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ ..) (١). ويطلق على الرجل الجامع للخير ، كما في قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً ..) (٢). ويطلق على الحين والزمان ، كما في قوله ـ سبحانه ـ : (وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ ..) (٣) أى وتذكر بعد حين من الزمان.

والمراد بالأمة هنا : الدين والملّة. كما في قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ ..) (٤) أى : على دين وملة معينة.

والمعنى : إن ملة التوحيد التي جاء بها الأنبياء جميعا. هي ملتكم ودينكم أيها الناس ، فيجب عليكم أن تتبعوا هؤلاء الأنبياء ، وأن تخلصوا لله ـ تعالى ـ العبادة والطاعة ، فهو ـ سبحانه ـ ربكم ورب كل شيء ، فاعبدوه حق العبادة لتنالوا رضاه ومحبته.

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك حال الناس من الدين الواحد الذي جاء به الرسل ، وعاقبة من اتبع الرسل وعاقبة من خالفهم فقال :

(وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (٩٣) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (٩٤) وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (٩٥) حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (٩٦)

__________________

(١) سورة القصص الآية ٢٣.

(٢) سورة النحل الآية ١٢٠.

(٣) سورة يوسف الآية ٤٥.

(٤) سورة الزخرف الآية ٢٢.

٢٤٨

وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (٩٧) إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (٩٨) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (٩٩) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ)(١٠٠)

والضمير في قوله ـ تعالى ـ : (وَتَقَطَّعُوا ..) يعود للناس الذين تفرقوا في شأن الدين شيعا وأحزابا. أى : وافترق الناس في شأن الدين الحق فرقا متعددة ، وسنحاسبهم جميعا على أعمالهم حسابا دقيقا ، يجازى فيه المحسن خيرا ، ويعاقب فيه المسيء على إساءته.

وقال ـ سبحانه ـ : (فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ) بالنفي المفيد للعموم ، لبيان كمال عدالته ـ تعالى ـ وتنزيهه ـ عزوجل ـ عن ظلم أحد ، أو أخذ شيء مما يستحقه.

وعبر عن العمل بالسعي ، لإظهار الاعتداد به ، وأن صاحب هذا العمل الصالح ، قد بذل فيه جهدا مشكورا ، وسعى من أجل الحصول عليه سعيا بذل فيه طاقته.

ثم أكد ـ سبحانه ـ بعد ذلك ما سبق أن قرره من أن الكل سيرجعون إليه للحساب ، فقال : (وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ).

وللمفسرين في تفسير هذه الآية الكريمة أقوال منها :

أن المعنى : وحرام ـ أى : وممتنع امتناعا تاما ـ على قرية أهلكنا أهلها بسبب فسوقهم عن أمرنا ، وتكذيبهم لرسلنا أنهم لا يرجعون إلينا في الآخرة للحساب.

فالآية الكريمة تأكيد لما قررته الآيات السابقة ، من أن الذين تقطعوا أمرهم بينهم ، والذين آمنوا وعملوا صالحا في دنياهم ، الكل سيرجعون إلى الله ـ تعالى ـ ليجازيهم بما يستحقون يوم القيامة.

وقد أكدت الآية الكريمة رجوعهم إليه ـ تعالى ـ يوم القيامة بأسلوب بديع ، حيث نفت عن الأذهان ما قد يتبادر من أن هلاك الكافرين بالعذاب في الدنيا ، قد ينجيهم من الحساب

٢٤٩

والعقاب يوم القيامة ، وأثبتت أن الرجوع يوم القيامة للحساب مؤكد.

قال صاحب فتح القدير : قوله (وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها ..) قرأ أهل المدينة «وحرام» ، وقرأ أهل الكوفة «وحرم» ـ بكسر الحاء وإسكان الراء ـ وهما لغتان مثل : حلال وحل.

ومعنى (أَهْلَكْناها) : قدرنا إهلاكها. وجملة (أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) في محل رفع مبتدأ ، وقوله : «حرام» خبرها .. والمعنى : وممتنع ألبتة عدم رجوعهم إلينا للجزاء .. (١).

وقال بعض العلماء : وجعل أبو مسلم هذه الآية من تتمة ما قبلها و «لا» فيها على بابها. وهي مع لفظ «حرام» من قبيل نفى النفي. فيدل على الإثبات ، والمعنى : وحرام على القرية المهلكة. عدم رجوعها إلى الآخرة ، بل واجب رجوعها للجزاء ، فيكون الغرض إبطال قول من ينكر البعث. وتحقيق ما تقدم من أنه لا كفران لسعى أحد وأنه ـ سبحانه ـ سيحييه وبعمله يجزيه ، (٢).

ومنهم من يرى أن «لا» زائدة ، وأن المراد بالرجوع رجوع الهالكين إلى الدنيا فيكون المعنى : وحرام على أهل قرية أهلكناهم بسبب كفرهم ومعاصيهم ، أن يرجعوا إلى الدنيا مرة أخرى بعد هلاكهم.

ومنهم من يرى أن المراد بقوله ـ تعالى ـ (أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) أى : لا يرجعون إلى التوبة أو إلى الإيمان.

قال صاحب الكشاف : استعير الحرام للممتنع وجوده ، ومنه قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ) (٣) أى. منعهما منهم .. ومعنى الرجوع : الرجوع من الكفر إلى الإسلام والإنابة ، ومجاز الآية : إن قوما عزم الله ـ تعالى ـ على إهلاكهم غير متصور أن يرجعوا وينيبوا إلى أن تقوم القيامة .. (٤).

ويبدو لنا أن القول الأول هو أقرب إلى الصواب ، لأنه هو المتبادر من ظاهر الآية ، ولأنه هو المستقيم مع سياق الآيات ، ولأنه بعيد عن التكلف إذ أن الآية الكريمة واضحة في بيان أن حكمة الله قد اقتضت أن يرجع المهلكون في الدنيا بسبب كفرهم ومعاصيهم إلى الحياة يوم القيامة ليحاسبوا على أعمالهم كما قال ـ تعالى ـ : (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ* لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) (٥).

__________________

(١) تفسير فتح القدير ج ٣ ص ٤٢٦ للشوكانى.

(٢) تفسير القاسمى ج ١٧ ص ٤٣٠٩.

(٣) سورة الأعراف الآية ٥٠.

(٤) تفسير الكشاف ج ٣ ص ١٣٤.

(٥) سورة الواقعة الآيتان ٤٩ ، ٥٠.

٢٥٠

ولعل مما يؤيد هذا الرأى قوله ـ تعالى ـ بعد ذلك : (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ ..).

فإن حتى هنا ابتدائية ، وما بعدها غاية لما يدل عليه ما قبلها ، فكأنه قيل : إن هؤلاء المهلكين ممتنع ألبتة عدم رجوعهم إلينا وإنما هم سيستمرون على هلاكهم حتى تقوم الساعة فيرجعوا إلينا للحساب ، ويقولوا عند مشاهدته : يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا.

ويأجوج ومأجوج اسمان أعجميان لقبيلتين من الناس ، قيل : مأخوذان من الأوجة وهي الاختلاط أو شدة الحر ، وقيل من الأوج وهو سرعة الجري.

والمراد بفتحهما : فتح السد الذي على هاتين القبيلتين ، والذي يحول بينهم وبين الاختلاط بغيرهم من بقية الناس.

(وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) والحدب : المرتفع من الأرض كالجبل ونحوه.

و (يَنْسِلُونَ) من النسل ـ بإسكان السين ـ ، وهو مقاربة الخطو مع الإسراع في السير ، يقال : نسل الرجل في مشيته إذا أسرع ، وفعله من باب قعد وضرب.

أى : وهم ـ أى يأجوج ومأجوج من كل مرتفع من الأرض يسرعون السير إلى المحشر ، أو إلى الأماكن التي يوجههم الله ـ تعالى ـ إليها ، وقيل إن الضمير «هم» يعود إلى الناس المسوقين إلى أرض المحشر.

وقوله : (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ ..) معطوف على (فُتِحَتْ) أى : فتح السد الذي كان على يأجوج ومأجوج ، وقرب موعد الحساب والجزاء.

قال الآلوسى : وهو ما بعد النفخة الثانية لا النفخة الأولى. وهذا الفتح لسد يأجوج ومأجوج يكون في زمن نزول عيسى من السماء ، وبعد قتله الدجال.

فقد أخرج مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة من حديث طويل : إن الله ـ تعالى ـ يوحى إلى عيسى بعد أن يقتل الدجال : أنى قد أخرجت عبادا من عبادي ، لا يدان لك بقتالهم ، فحرز عبادي إلى الطور ، فيبعث الله ـ تعالى ـ يأجوج ومأجوج وهم كما قال ـ سبحانه ـ (مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) ثم يرسل الله عليهم نغفا ـ في رقابهم فيصبحون موتى كموت نفس واحدة» (١).

وقوله : فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا .. جواب للشرط وهو قوله : تعالى ـ قبل ذلك (إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ).

__________________

(١) راجع تفسير الآلوسى ج ١٧ ص ٩٢.

٢٥١

والضمير «هي» للقصة والشأن. و «إذا» للمفاجأة.

قال الجمل : قوله : (فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا ..) فيه وجهان : أحدهما ـ وهو الأجود ـ أن يكون هي ضمير القصة. وشاخصة : خبر مقدم. وأبصار : مبتدأ مؤخر ، والجملة خبر لهى لأنها لا تفسر إلا بجملة مصرح بجزأيها ..» (١).

والمعنى : لقد تحقق ما أخبرنا به من أمارات الساعة ، ومن خروج يأجوج ومأجوج ، ومن عودة الخلق إلينا للحساب .. ورأى المشركون كل ذلك ، فإذا بأبصارهم مرتفعة الأجفان لا تكاد تطرف من شدة الهول والفزع.

يقال : شخص بصر فلان يشخص شخوصا فهو شاخص ، إذا فتح عينيه وصار لا يستطيع تحريكهما.

وقوله : (يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا) مقول لقول محذوف.

أى : أن هؤلاء الكافرين يقولون وهم شاخصو البصر : يا هلاكنا أقبل فهذا أوانك ، فإننا قد كنا في الدنيا في غفلة تامة عن هذا اليوم الذي أحضرنا فيه للحساب.

وقوله : (بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ) إضراب عن وصف أنفسهم بالغفلة ، إلى وصفها بالظلم وتجاوز الحدود.

أى : لم نكن في الحقيقة في غفلة عن هذا اليوم وأهواله ، فقد أخبرنا رسلنا به ، بل الحقيقة أننا كنا ظالمين لهؤلاء الرسل لأننا لم نطعهم ، وكنا ظالمين لأنفسنا حيث عرضناها لهذا العذاب الأليم.

وهكذا يظهر الكافرون الندامة والحسرة في يوم لا ينفعهم فيه ذلك.

وقوله ـ سبحانه ـ : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ..) زيادة في تقريعهم وتوبيخهم.

والحصب ـ بفتحتين ـ ما تحصب به النار. أى : يلقى فيها لتزداد به اشتعالا كالحطب والخشب.

أى : إنكم ـ أيها الكافرون ـ وأصنامكم التي تعبدونها من دون الله ـ تعالى ـ وقود جهنم ، وزادها الذي تزداد به اشتعالا.

وفي إلقاء أصنامهم معهم في النار مع أنها لا تعقل ، زيادة في حسرتهم وتبكيتهم ، حيث رأوا بأعينهم مصير ما كانوا يتوهمون من ورائه المنفعة.

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ١٤٦.

٢٥٢

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : لم قرنوا بآلهتهم؟ قلت : لأنهم لا يزالون لمقارنتهم في زيادة غم وحسرة ، حيث أصابهم ما أصابهم بسببهم ، والنظر إلى وجه العدو باب من العذاب ، ولأنهم قدروا أنهم يستشفعون بهم في الآخرة ، وينتفعون بشفاعتهم ، فإذا صادفوا الأمر على عكس ما قدروا ، لم يكن شيء أبغض إليهم منهم (١).

وجملة (أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) بدل من (حَصَبُ جَهَنَّمَ) ، أو مستأنفة.

أى : أنتم ـ أيها الكافرون ـ ومعكم أصنامكم داخلون في جهنم دخولا لا مفر لكم منه.

وجاء الخطاب بقوله (أَنْتُمْ) على سبيل التغليب ، وإلا فالجميع داخلون فيها.

ولا يدخل في هذه الآية ما عبده هؤلاء المشركون من الأنبياء والصالحين كعيسى والعزيز والملائكة ، فإن عبادتهم لهم كانت عن جهل وضلال منهم ، فإن هؤلاء الأخيار ما أمروهم بذلك ، وإنما أمروهم بعبادة الله ـ تعالى ـ وحده.

ثم أقام ـ سبحانه ـ لهؤلاء الكافرين الأدلة على بطلان عبادتهم لغيره فقال : (لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها).

أى : لو كان هؤلاء الأصنام المعبودون من دون الله آلهة حقا ـ كما زعمتم أيها الكافرون ـ ما ألقى بهم في النار ، وما قذفوا فيها كما يقذف الحطب ، وحيث تبين لكم دخولهم إياه ، فقد ثبت بطلان عبادتكم لها ، وأن هذه الآلهة المزعومة لا تملك الدفاع عن نفسها فضلا عن غيرها.

وقوله (وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ) تذبيل مقرر لما قبله. أى : وكل من العابدين والمعبودين باقون في هذه النار على سبيل الخلود الأبدى.

ثم ختم ـ سبحانه ـ هذه الآيات ببيان حال الكافرين في جهنم فقال : (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ).

أى : لهم فيها تنفس شديد يخرج من أقصى أفواههم بصعوبة وعسر ، كما هو شأن المغموم المحزون. وأصل الزفير : تردد النفس حتى تنتفخ منه الضلوع.

(وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ) أى : وهم في جهنم لا يسمعون ما يريحهم ، وإنما يسمعون ما فيه توبيخهم وعذابهم ، أو : وهم فيها لا يسمع بعضهم زفير بعض لشدة ما هم فيه من هول وخوف.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ١٣٦.

٢٥٣

وبعد هذا الحديث الذي ترتجف له القلوب .. أتبع القرآن ذلك بحديث آخر تسر له النفوس ، وتنشرح له الصدور ، فقال ـ تعالى ـ :

(إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (١٠١) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (١٠٢) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ)(١٠٣)

والحسنى : تأنيث الأحسن ، وهي صفة لموصوف محذوف.

أى : إن الذين سبقت لهم منا في دنياهم المنزلة الحسنى بسبب إيمانهم الخالص وعملهم الصالح ، وقولهم الطيب.

(أُولئِكَ) الموصوفون بتلك الصفات الحميدة (عَنْها مُبْعَدُونَ) أى : عن النار وحرها وسعيرها .. مبعدون إبعادا تاما بفضل الله ـ تعالى ـ ورحمته.

وقوله : (لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها) تأكيد لبعدهم عن النار. وأصل الحسيس الصوت الذي تسمعه من شيء يمر قريبا منك.

أى : هؤلاء المؤمنون الصادقون الذين سبقت لهم من خالقهم الدرجة الحسنى ، لا يسمعون صوت النار ، الذي يحس من حركة لهيبها وهيجانها ، لأنهم قد استقروا في الجنة ، وصاروا في أمان واطمئنان.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ) بيان لفوزهم بأقصى ما تتمناه الأنفس بعد بيان بعدهم عن صوت النار.

أى : وهم فيما تتمناه أنفسهم ، وتشتهيه أفئدتهم ، وتنشرح له صدورهم ، خالدون خلودا أبديا لا ينغصه حزن أو انقطاع.

وقوله ـ تعالى ـ : (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ ...) بيان لنجاتهم من كل ما يفزعهم ويدخل القلق على نفوسهم.

أى : إن هؤلاء الذين سبقت لهم منا الحسنى ، لا يحزنهم ما يحزن غيرهم من أهوال

٢٥٤

يشاهدونها ويحسونها في هذا اليوم العصيب ، وهم يوم القيامة وما يشتمل عليه من مواقف متعددة. فالمراد بالفزع الأكبر : الخوف الأكبر الذي يعترى الناس في هذا اليوم.

وفضلا عن ذلك فإن الملائكة تستقبلهم بفرح واستبشار ، فتقول لهم على سبيل التهنئة : (هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) به في الدنيا من خالقكم ـ عزوجل ـ في مقابل إيمانكم وعملكم الصالح.

قالوا : وهذا الاستقبال من الملائكة للمؤمنين ، يكون على أبواب الجنة ، أو عند الخروج من القبور.

ثم ختم ـ سبحانه ـ سورة الأنبياء ببيان جانب من أحوال هذا الكون يوم القيامة ، وببيان سننه في خلقه ، وببيان نعمه على عباده ، وببيان ما أمر به نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال ـ تعالى ـ :

(يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (١٠٤) وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (١٠٥) إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (١٠٦) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١٠٧) قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (١٠٩) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (١١٠) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (١١١) قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ)(١١٢)

٢٥٥

وقوله ـ سبحانه ـ : (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ..) الظرف فيه منصوب بقوله ـ تعالى ـ قبل ذلك (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) أو بقوله ـ سبحانه ـ : (وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ).

وقوله : (نَطْوِي) من الطى وهو ضد النشر. والسجل : الصحيفة التي يكتب فيها.

والمراد بالكتب : ما كتب فيها من الألفاظ والمعاني ، فالكتب بمعنى المكتوبات. واللام بمعنى على.

والمعنى : إن الملائكة تتلقى هؤلاء الأخيار الذين سبقت لهم من الله ـ تعالى ـ الحسنى بالفرح والسرور ، يوم يطوى ـ سبحانه ـ السماء طيا مثل طي الصحيفة على ما فيها من كتابات.

وفي هذا التشبيه إشعار بأن هذا الطى بالنسبة لقدرته ـ تعالى ـ في منتهى السهولة واليسر ، حيث شبه طيه السماء بطى الصحيفة على ما فيها.

وقيل : إن لفظ (السِّجِلِ) اسم لملك من الملائكة ، وهو الذي يطوى كتب أعمال الناس بعد موتهم.

والإضافة في قوله (كَطَيِّ السِّجِلِ) من إضافة المصدر إلى مفعوله ، والجار والمجرور صفة لمصدر مقدر. أى. نطوى السماء طيا كطي الرجل أو الملك الصحيفة على ما كتب فيها.

وقرأ أكثر القراء السبعة : للكتاب بالإفراد. ومعنى القراءتين واحد لأن المراد به الجنس فيشمل كل الكتب.

وقوله ـ تعالى ـ : (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) بيان لصحة الإعادة قياسا على البدء ، إذ الكل داخل تحت قدرته ـ عزوجل ـ.

أى : نعيد أول خلق إعادة مثل بدئنا إياه ، دون أن ينالنا تعب أو يمسنا لغوب ، لأن قدرتنا لا يعجزها شيء : قال ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ..).

قال صاحب الكشاف : «وما أول الخلق حتى يعيده كما بدأه؟ قلت : أوله إيجاده من العدم ، فكما أوجده أولا عن عدم. يعيده ثانيا عن عدم».

وقوله ـ تعالى ـ : (وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) تأكيد للإعادة. ولفظ «وعدا» منصوب بفعل محذوف. و «علينا» في موضع الصفة له.

أى : هذه الإعادة وعدنا بها وعدا كائنا علينا باختيارنا وإرادتنا ، إنا كنا محققين هذا

٢٥٦

الوعد ، وقادرين عليه ، والعاقل من يقدم في دنياه العمل الصالح الذي ينفعه عند بعثه للحساب.

ثم ساق ـ سبحانه ـ سنة من سننه التي لا تتخلف فقال : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ ، أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ).

والمراد بالزبور : الكتاب المزبور أى : المكتوب ، مأخوذ من قولهم : زبرت الكتاب إذا كتبته.

ويشمل هنا جميع الكتب السماوية كالتوراة والإنجيل والزبور.

والمراد بالذكر : اللوح المحفوظ الذي هو أم الكتاب.

وقيل : المراد بالزبور : كتاب داود خاصة. وبالذكر التوراة ، أو العلم ، والمقصود بالأرض هنا : أرض الجنة.

فيكون المعنى : ولقد كتبنا في الكتب السماوية ، من بعد كتابتنا في اللوح المحفوظ : أن أرض الجنة نورثها يوم القيامة لعبادنا الصالحين.

وهذا القول يؤيده قوله ـ تعالى ـ في شأن المؤمنين : (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ ، وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ ، فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) (١).

ومن المفسرين من يرى أن المراد بالأرض هنا : أرض الدنيا فيكون المعنى :

ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن هذه الأرض التي يعيش عليها الناس مؤمنهم وكافرهم ، ستكون في النهاية لعبادنا الصالحين.

قال الآلوسى ما ملخصه : أخرج ابن جرير عن ابن عباس أن المراد بالأرض في الآية : أرض الجنة ، وإنها الأرض التي يختص بها الصالحون. لأنها لهم خلقت ، وغيرهم إذا حصلوا فيها فعلى وجه التبع ، وأن الآية ذكرت عقب ذكر الإعادة وليس بعدها أرض يستقر عليها الصالحون. ويمتن الله بها عليهم سوى أرض الجنة.

وفي رواية أخرى عن ابن عباس أن المراد بها أرض الدنيا يرثها المؤمنون. ويستولون عليها.

أخرج مسلم وأبو داود والترمذي عن ثوبان قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله ـ تعالى ـ زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها ، وإن أمتى سيبلغ ملكها ما زوى لي منها ..» (٢).

__________________

(١) سورة الزمر الآية ٧٤.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٧ ص ١٥٣.

٢٥٧

ويبدو لنا أنه لا مانع من أن يكون المراد بالأرض التي يرثها العباد الصالحون ، ما يشمل أرض الجنة وأرض الدنيا ، لأنه لم يرد نص يخصص أحد المعنيين.

وقد سار على هذا التعميم الإمام ابن كثير فقال عند تفسيره لهذه الآية : «يقول الله ـ تعالى ـ مخبرا عما قضاه لعباده الصالحين ، من السعادة في الدنيا والآخرة ووراثة الأرض في الدنيا والآخرة كقوله ـ تعالى ـ (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (١) وقال ـ سبحانه ـ (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) (٢).

وأخبر ـ تعالى ـ أن هذا مكتوب مسطور في الكتب الشرعية ، فهو كائن لا محالة ، ولهذا قال : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ ..) (٣).

واسم الإشارة في قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ) يعود على القرآن الكريم الذي منه هذه السورة.

والبلاغ : الشيء الذي يكفى الإنسان للوصول إلى غايته. يقال : في هذا الشيء بلاغ أى : كفاية أو سبب لبلوغ المقصد.

أى : إن في هذا القرآن ، وفيما ذكر في هذه السورة من آداب وهدايات ، وعقائد وتشريعات ، لبلاغا وكفاية في الوصول إلى الحق ، لقوم عابدين.

وخص العابدين بالذكر ، لأنهم هم المنتفعون بتوجيهات القرآن الكريم ، إذ العابد لله ـ تعالى ـ بإخلاص ، يكون خاشع القلب ، نقى النفس ، مستعدا للتلقي والتدبر والانتفاع.

ثم بين ـ سبحانه ـ أن من مظاهر فضله على الناس أن أرسل إليهم نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليكون رحمة لهم فقال : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ).

أى : وما أرسلناك ـ أيها الرسول الكريم ـ بهذا الدين الحنيف وهو دين الإسلام ، إلا من أجل أن تكون رحمة للعالمين من الإنس والجن.

وذلك لأننا قد أرسلناك بما يسعدهم في دينهم وفي دنياهم وفي آخرتهم متى اتبعوك ، واستجابوا لما جئتهم به ، وأطاعوك فيما تأمرهم به أو تنهاهم عنه.

وفي الحديث الشريف : «إنما أنا رحمة مهداة» فرسالته صلى‌الله‌عليه‌وسلم رحمة في ذاتها ، ولكن

__________________

(١) سورة الأعراف الآية ١٢٨.

(٢) سورة غافر الآية ٥١.

(٣) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ٣٨٠.

٢٥٨

هذه الرحمة انتفع بها من استجاب لدعوتها ، أما من أعرض عنها فهو الذي ضيع على نفسه فرصة الانتفاع.

ورحم الله صاحب الكشاف فقد وضح هذا المعنى فقال : أرسل صلى‌الله‌عليه‌وسلم «رحمة للعالمين» لأنه جاء بما يسعدهم إن اتبعوه. ومن خالف ولم يتبع ، فإنما آتى من عند نفسه ، حيث ضيع نصيبه منها. ومثاله : أن يفجر الله عينا عذيقة ـ أى : كبيرة عذبة ـ ، فيسقى ناس زروعهم ، ومواشيهم بمائها فيفلحوا ، ويبقى ناس مفرطون فيضيعوا. فالعين المفجرة في نفسها نعمة من الله ـ تعالى ـ ورحمة للفريقين. ولكن الكسلان محنة على نفسه ، حيث حرمها ما ينفعها» (١).

ثم أمر الله ـ تعالى ـ نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يخبر الناس بأن رسالته لحمتها وسداها الدعوة إلى عبادة الله ـ تعالى ـ وحده فقال : (قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ..)

أى : قل ـ يا محمد ـ للناس : إن الذي أوحاه الله ـ تعالى ـ إلىّ من تكاليف وهدايات وعبادات وتشريعات .. تدور كلها حول إثبات وحدانيته ـ سبحانه ـ ووجوب إخلاص العبادة له وحده.

قال الآلوسى ـ رحمه‌الله ـ : «ذهب جماعة إلى أن في الآية حصرين : الأول : لقصر الصفة على الموصوف. والثاني : لقصر الموصوف على الصفة.

فالأول : قصر فيه الوحى على الوحدانية. والثاني : قصر فيه الله ـ تعالى ـ على الوحدانية ، والمعنى : ما يوحى إلىّ إلا اختصاص الله بالوحدانية ، ومعنى هذا القصر أنه الأصل الأصيل وما عداه راجع إليه ، أو غير منظور إليه في جانبه ..» (٢).

والاستفهام في قوله ـ سبحانه ـ : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) للتحضيض أى : مادام الأمر كما ذكر لكم فأسلموا لتسلموا.

ثم أرشد ـ سبحانه ـ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى ما يقوله للناس في حال إعراضهم عن دعوته ، فقال : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ ..).

وآذنتكم : من الإيذان بمعنى الإعلام والإخبار. ومنه الأذان للصلاة بمعنى الإعلام بدخول وقتها.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ١٣٨.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٧ ص ١٠٦.

٢٥٩

قال بعضهم : آذن منقول من أذن إذا علم ، ولكنه كثر استعماله في إجرائه مجرى الإنذار والتحذير ، (١).

أى : فإن أعرضوا عن دعوتك ـ أيها الرسول الكريم ـ فقل لهم : لقد أعلمتكم وأخبرتكم بما أمرنى ربي أن أعلمكم وأخبركم به ، ولم أخص أحدا منكم بهذا الإعلام دون غيره ، وإنما أخبرتكم جميعا «على سواء» أى : حال كونكم جميعا مستوين في العلم.

فقوله : (عَلى سَواءٍ) في موضع الحال من المفعول الأول لآذنتكم. أى : فقد أعلمتكم ما أمرنى ربي به حالة كونهم مستوين في هذا العلم.

ويجوز أن يكون الجار والمجرور في موضع الصفة لمصدر مقدر. أى : فقد آذنتكم إيذانا على سواء.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ) إرشاد منه ـ سبحانه ـ لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى ما يقوله لهم ـ أيضا ـ في حال إعراضهم عن دعوته.

و «إن» نافية. أى : فإن أعرضوا عن دعوتك يا محمد ، فقل لهم : لقد أعلمتكم جميعا بما أمرنى الله بتبليغه إليكم ، وإنى بعد هذا التبليغ والتحذير ما أدرى وما أعرف ، أقريب أم بعيد ما توعدون به من العذاب ، أو من غلبة المسلمين عليكم ، أو من قيام الساعة. فإن علم ذلك وغيره إلى الله ـ تعالى ـ وحده ، وما أنا إلا مبلغ عنه.

وقوله تعالى : (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ).

فهو ـ سبحانه ـ الذي يعلم ما تجهرون به وما تسرونه من أقوال وأعمال. ويعلم ـ أيضا ـ ما تكتمونه في نفوسكم من كفر وجحود وكراهية لي ولأتباعى ، وسيعاقبكم ـ سبحانه ـ على ذلك العقاب الذي تستحقونه.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) زيادة في تأكيد أن علم ما سينزل بهم من عقاب مرده إلى الله ـ تعالى ـ وحده.

أى : وإنى ـ أيضا ـ ما أدرى ، لعل تأخير عقابكم ـ بعد أن أعرضتم عن دعوتي ـ من باب الامتحان والاختبار لكم ، أو من باب الاستدراج لكم إلى حين مقدر عنده ـ سبحانه ـ ، ثم يأخذكم بعد ذلك أخذ عزيز مقتدر.

وفي إسناد علم ما سينزل بهم إلى الله ـ تعالى ـ وحده ، تخويف لهم أى : تخويف ، وأدب

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ١٤٩.

٢٦٠