التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٩

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٩

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0683-3
الصفحات: ٣٥٥

آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِه ..) (١).

ومن المفسرين من يرى أن المقصود بقوله ـ تعالى ـ (مِنْ قَبْلُ) أي : من قبل موسى وهارون ، فقد كان الحديث عنهما قبل ذلك بقليل في قوله ـ تعالى ـ : (ولَقَدْ آتَيْنا مُوسى وهارُونَ الْفُرْقانَ وضِياءً وذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ ...).

فيكون المعنى : ولقد آتينا إبراهيم رشده وهداه ، ووفقناه للنظر والاستدلال على الحق ، من قبل موسى وهارون ، لأنه يسبقهما في الزمان.

وقد رجح هذا المعنى الإمام الآلوسي فقال : (ولَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَه).

أي : الرشد اللائق به وبأمثاله من الرسل الكبار ، وهو الرشد الكامل ، أعنى : الاهتداء إلى وجوه الصلاح في الدين والدنيا .. «من قبل» أي : من قبل موسى وهارون ، وقيل : من قبل البلوغ ... والأول مروى عن ابن عباس وابن عمر ، وهو الوجه الأوفق لفظا ومعنى ، أما لفظا فللقرب ، وأما معنى فلأن ذكر الأنبياء ـ عليهم السلام ـ للتأسى ، وكان القياس أن يذكر نوح ثم إبراهيم ثم موسى ، لكن روعي في ذلك ترشيح التسلي والتأسي ، فقد ذكر موسى ، لأن حاله وما قاساه من قومه .. أشبه بحال نبينا صلَّى اللَّه عليه وسلَّم (٢).

ويبدو لنا أن الآية الكريمة تتسع للمعنيين. أي : أن اللَّه ـ تعالى ـ قد أعطى إبراهيم رشده ، من قبل النبوة ، ومن قبل موسى وهارون لسبقه لهما في الزمان.

وقوله : (وكُنَّا بِه عالِمِينَ) بيان لكمال علم اللَّه ـ تعالى ـ أي : وكنا به وبأحواله وبسائر شؤونه عالمين ، بحيث لا يخفى علينا شيء من أحواله أو من أحوال غيره.

وقوله : (إِذْ قالَ لأَبِيه وقَوْمِه ما هذِه التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ) بيان لما جابه به إبراهيم أباه وقومه من قول سديد يدل على شجاعته ورشده.

أي : وكنا به عالمين. وقت أن قال لأبيه وقومه على سبيل الإرشاد والتنبيه : ما هذه التماثيل الباطلة التي أقبلتم عليها ، وصرتم ملازمين لعبادتها بدون انقطاع.

وسؤاله ـ عليه السلام ـ لهم بما التي هي لبيان الحقيقة ، من باب تجاهل العارف ، لأنه يعلم أن هذه الأصنام مصنوعة من الأحجار أو ما يشبهها ، وإنما أراد بسؤاله تنبيههم إلى فساد فعلهم. حيث عبدوا ما يصنعونه بأيديهم.

وعبر عن الأصنام بالتماثيل ، زيادة في التحقير من أمرها ، والتوهين من شأنها ، فإن

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ٣٤١.

(٢) تفسير الآلوسي ج ١٧ ص ٥٨.

٢٢١

التمثال هو الشيء المصنوع من الأحجار أو الحديد أو نحو ذلك ، على هيئة مخلوق من مخلوقات اللَّه ـ تعالى ـ كالإنسان والحيوان ، يقال : مثلت الشيء بالشيء إذا شبهته به.

فهو ـ عليه السلام ـ سماها باسمها الحقيقي الذي تستحقه ، دون أن يجاريهم في تسميتها آلهة.

وقوله : (عاكِفُونَ) من العكوف بمعنى المداومة والملازمة. يقال : عكف فلان على الشيء إذا لازمه وواظب عليه ، ومنه الاعتكاف لأنه حبس النفس عن التصرفات العادية.

وفي التعبير عن عبادتهم لها بالعكوف عليها ، تفظيع لفعلهم وتنفير لهم منه ، حيث انكبوا على تعظيم من لا يستحق التعظيم ، وتعلقوا بعبادة تماثيل هم صنعوها بأيديهم.

وقوله ـ سبحانه ـ : (قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ) حكاية لما قالوه في ردهم على إبراهيم ـ عليه السلام ـ وهو رد يدل على تحجر عقولهم ، وانطماس بصائرهم حيث قلدوا فعل آبائهم بدون تدبر أو تفكر.

أي : قالوا في جوابهم على إبراهيم ـ عليه السلام ـ وجدنا آباءنا يعبدون هذه التماثيل فسرنا على طريقتهم.

وهنا يرد عليهم إبراهيم بقوله : (لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ).

أي : لقد كنتم أنتم وآباؤكم الذين وجدتموهم يعبدون هذه الأصنام ، في ضلال عجيب لا يقادر قدره ، وفي فساد ظاهر واضح لا يخفى أمره على عاقل ، لأن كل عاقل يعلم أن هذه الأصنام لا تستحق العبادة أو التقديس أو العكوف عليها ، والباطل لا يصير حقا بفعل الآباء له.

وعند ما واجههم إبراهيم ـ عليه السلام ـ بهذا الحكم البين الصريح ، قالوا له : (أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ).

أي : أجئتنا يا إبراهيم بالحق الذي يجب علينا اتباعه ، أم أنت من اللاعبين اللاهين الذين يقولون ما يقولون بقصد الهزل والملاعبة.

وسؤالهم هذا يدل على تزعزع عقيدتهم. وشكهم فيما هم عليه من باطل ، إلا أن التقليد لآبائهم. جعلهم يعطلون عقولهم «ويستحبون العمى على الهدى».

ويجوز أن يكون سؤالهم هذا من باب الإنكار عليه. واستبعاد أن يكون آباؤهم على باطل ، وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله : «بقوا متعجبين من تضليله إياهم ، وحسبوا أن ما قاله ، إنما قاله على وجه المزاح والمداعبة ، لا على طريق الجد ، فقالوا له : هذا الذي جئتنا

٢٢٢

به ، أهو جد وحق أم لعب وهزل (١).

وقد رد عليهم إبراهيم ـ عليه السلام ـ ردا حاسما يدل على قوة يقينه فقال : (بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ والأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ ..).

أي : قال لهم إبراهيم بلغة الواثق بأنه على الحق : أنا لست هازلا فيما أقوله لكم ، وإنما أنا جاد كل الجد في إخباركم أن اللَّه ـ تعالى ـ وحده هو ربكم ورب آبائكم ، ورب السماوات والأرض ، فهو الذي خلقهن وأنشأهن بما فيهن من مخلوقات بقدرته التي لا يعجزها شيء.

وقوله : (وأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) تذييل المقصود به تأكيد ما أخبرهم به ، وما دعاهم إليه. أي : وأنا على أن اللَّه ـ تعالى ـ هو ربكم ورب كل شيء من الشاهدين ، الذين يثقون في صدق ما يقولون ثقة الشاهد على شيء لا يشك في صحته.

ثم أضاف إلى هذا التأكيد القولي ، تأكيدا آخر فعليا ، فقال لهم : (وتَاللَّه لأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ).

أي : وحق الله الذي فطركم وفطر كل شيء ، لأجتهدن في تحطيم أصنامكم ، بعد أن تنصرفوا بعيدا عنها. وتولوها أدباركم.

وأصل الكيد : الاحتيال في إيجاد ما يضر مع إظهار خلافه. وقد عبر به إبراهيم عن تكسير الأصنام وتحطيمها ، لأن ذلك يحتاج إلى احتيال وحسن تدبير.

وقد نفذ إبراهيم ما توعد به الأصنام ، فقد انتهز فرصة ذهاب قومه بعيدا عنها فحطمها ، قال تعالى ـ (فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْه يَرْجِعُونَ).

والفاء في قوله : «فجعلهم» فصيحة. والجذاذ القطع الصغيرة جمع جذاذة من الجذ بمعنى القطع والكسر.

أي : فولوا مدبرين عن الأصنام فجعلها بفأسه قطعا صغيرة ، بأن حطمها عن آخرها ـ سوى الصنم الأكبر لم يحطمه بل تركه من غير تكسير. لعلهم إليه يرجعون فيسألونه كيف وقعت هذه الواقعة وهو حاضر ، ولم يستطع الدفاع عن إخوته الصغار؟!!.

ولعل إبراهيم ـ عليه السلام ـ قد فعل ذلك ليقيم لهم أوضح الأدلة على أن هذه الأصنام لا تصلح أن تكون آلهة ، لأنها لم تستطع الدفاع عن نفسها ، وليحملهم على التفكير في أن الذي يجب أن يكون معبودا ، إنما هو اللَّه الخالق لكل شيء ، والقادر على كل شيء.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ١٢٢.

٢٢٣

قال الآلوسي ما ملخصه : وقوله : (لَعَلَّهُمْ إِلَيْه يَرْجِعُونَ) لبيان وجه الكسر واستبقاء الكبير ، وضمير «إليه» عائد إلى إبراهيم ، أي : لعلهم يرجعون إلى إبراهيم ، فيحاجهم ويبكتهم.

وعن الكلبي : أن الضمير للكبير ، أي : لعلهم يرجعون إلى الكبير ، كما يرجع إلى العالم في حل المشكلات فيقولون له : ما لهؤلاء مكسورة ، وما لك صحيحا ، والفأس في عنقك أو في يدك؟ وحينئذ يتبين لهم أنه عاجز لا ينفع ولا يضر ، ويظهر أنهم في عبادته على جهل عظيم .. (١).

وعاد القوم إلى أصنامهم بعد تركهم إياها لفترة من الوقت ، فوجدوها قد تحطمت إلا ذلك الكبير ، فأصابهم ما أصابهم من الذهول والعجب ، ويصور القرآن الكريم ذلك فيقول :

قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّه لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٥٩) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَه إِبْراهِيمُ (٦٠) قالُوا فَأْتُوا بِه عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (٦١) قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (٦٢) قالَ بَلْ فَعَلَه كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (٦٣) فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (٦٤) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (٦٥)

أي : وحين رجع القوم من عيدهم ورأوا ما حل بأصنامهم «قالوا» على سبيل التفجع والإنكار : «من فعل هذا» الفعل الشنيع «بآلهتنا» التي نعظمها «إنه» أي هذا الفاعل «لمن الظالمين» لهذه الآلهة. لإقدامه على إهانتها وهي الجديرة بالتعظيم ـ في زعمهم ـ ، ولمن الظالمين لنفسه حيث سيعرضها للعقوبة منا.

__________________

(١) تفسير الآلوسي ج ١٧ ص ٦٢.

٢٢٤

(قالُوا) أي : بعضهم وهم الذين سمعوا من إبراهيم قوله : «وتاللَّه لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين». (سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَه إِبْراهِيمُ) والمراد بالذكر هنا : الذكر بالسوء والذم.

أي : سمعنا فتى يذكرهم بالنقص والذم والتهديد بالكيد ، وهذا الفتى يقال له إبراهيم ، ولعله هو الذي فعل بهم ما فعل.

وهنا تشاوروا فيما بينهم وقالوا. إذا كان الأمر كذلك : (فَأْتُوا بِه) وأحضروه (عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ) أي : أمام أعينهم ليتمكنوا من رؤيته على أتم وجه (لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ) مساءلتنا له ، ومواجهتنا إياه بالعقوبة التي يستحقها على فعله هذا ، أو يشهدون عليه بأنه هو الذي حطم الأصنام.

قال ابن كثير : وكان هذا هو المقصود الأكبر لإبراهيم ، أن يتبين في هذا المحفل العظيم ، كثرة جهلهم ، وقلة عقلهم ، في عبادة هذه الأصنام ، التي لا تدفع عن نفسها ضرا ، ولا تملك لها نصرا ..» (١).

وجاؤا بإبراهيم ـ عليه السلام ـ وقالوا له على سبيل الاستنكار والتهديد : «أأنت فعلت هذا» التكسير والتحطيم «بآلهتنا» التي نعبدها «يا إبراهيم»؟

وهنا يرد عليهم إبراهيم ـ عليه السلام ـ بتهكم ظاهر ، واستهزاء واضح فيقول : (بَلْ فَعَلَه كَبِيرُهُمْ هذا) يعنى الذي تركه بدون تحطيم ، فإن كنتم لم تصدقوا قولي (فَسْئَلُوهُمْ) عمن فعل بهم ذلك (إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) أي : إن كانوا ممن يتمكن من النطق أجابوكم وأخبروكم عمن فعل بهم ما فعل.

فأنت ترى أن إبراهيم ـ عليه السلام ـ لم يقصد بقوله هذا الإخبار بأن كبير الأصنام هو الذي حطمها ، أو سؤالهم للأصنام عمن حطمها ، وإنما الذي يقصده هو الاستهزاء بهم ، والسخرية بأفكارهم ، فكأنه يقول لهم : إن هذه التماثيل التي تعبدونها من دون اللَّه. لا تدرى إن كنت أنا الذي حطمتها أم هذا الصنم الكبير ، وأنتم تعرفون أنى قد بقيت قريبا منها بعد أن وليتم عنها مدبرين ، وإذا كان الأمر كذلك فانظروا من الذي حطمها إن كانت لكم عقول تعقل؟

قال صاحب الكشاف : هذا ـ أي قول إبراهيم لهم : بل فعله كبيرهم هذا ـ من معاريض الكلام ، ولطائف هذا النوع لا يتغلغل فيها إلا أذهان الخاصة من علماء المعاني.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ٣٤٣.

٢٢٥

والقول فيه أن قصد إبراهيم ـ عليه السلام ـ لم يكن إلى أن ينسب الفعل الصادر عنه إلى الصنم ، وإنما قصد تقريره لنفسه ، وإثباته لها على أسلوب تعريضي ، يبلغ فيه غرضه من إلزامهم الحجة وتبكيتهم.

وهذا كما لو قال لك صاحبك ، وقد كتبت كتابا بخط رشيق ـ وأنت شهير بحسن الخط ـ : أأنت كتبت هذا؟ وصاحبك أمي لا يحسن الخط ، ولا يقدر إلا على خربشة فاسدة ـ أي كتابة رديئة ـ فقلت له : بل كتبته أنت ، كان قصدك بهذا الجواب ، تقرير أن هذه الكتابة لك. مع الاستهزاء به .. (١).

وهذا التفسير للآية الكريمة من أن إبراهيم ـ عليه السلام ـ قد قال لقومه ما قال على سبيل الاستهزاء بهم ، هو الذي تطمئن إليه قلوبنا ، وقد تركنا أقوالا أخرى للمفسرين في معنى الآية ، نظرا لضعف هذه الأقوال بالنسبة لهذا القول.

وقوله ـ سبحانه ـ : (فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ) بيان للأثر الذي أحدثه رد إبراهيم ـ عليه السلام ـ.

أي : أنهم بعد أن قال لهم إبراهيم (بَلْ فَعَلَه كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) ، أخذوا في التفكر والتدبر ، فرجعوا إلى أنفسهم باللوم ، وقال بعضهم لبعض إنكم أنتم الظالمون ، حيث عبدتم مالا يستطيع الدفاع عن نفسه أو حيث تركتم آلهتكم بدون حراسة.

ولكن هذا الأثر ، وهذا اللوم لأنفسهم ، لم يلبث إلا قليلا حتى تبدد ، بسبب استيلاء العناد والجحود عليهم ، فقد صور القرآن حالهم بعد ذلك فقال : (ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ).

وقوله : (نُكِسُوا) فعل مبنى للمجهول من النكس ، وهو قلب الشيء من حال إلى حال ، وأصله : قلب الشيء بحيث يصير أعلاه أسفله.

أي : ثم انقلبوا من لومهم لأنفسهم لعبادتهم لما لا يقدر على دفع الأذى عنه ، إلى التصميم على كفرهم وضلالهم ، فقالوا لإبراهيم على سبيل التهديد : لقد علمت أن هذه الأصنام لا تنطق ، فكيف تأمرنا بسؤالها؟ إن أمرك هذا لنا لهو دليل على أنك تسخر بعقولنا ، ونحن لن نقبل ذلك ، وسننزل بك العقاب الذي تستحقه.

وقد شبه القرآن الكريم عودتهم إلى باطلهم وعنادهم ، بعد رجوعهم إلى أنفسهم باللوم ، شبه ذلك بالانتكاس ، لأنهم بمجرد أي خطرت لهم الفكرة السليمة ، أطفأوها بالتصميم على

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ١٢٤.

٢٢٦

الكفر والضلال ، فكان مثلهم كمثل من انتكس على رأسه بعد أن كان ما شيا على قدميه ، فيا له من تصوير بديع لحالة من يعود إلى الظلام ، بعد أن يتبين له النور.

والجملة الكريمة (لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ) جواب لقسم محذوف ، معمول لقول محذوف ، والتقدير : ثم نكسوا على رؤسهم قائلين : واللَّه لقد علمت ما هؤلاء ينطقون.

ولم يملك إبراهيم إزاء انتكاسهم على رؤسهم ، إلا أن يوبخهم بعنف وضيق ، ـ وهو الحليم الأواه المنيب ـ وقد قابلوا تأنيبه لهم بتوعده بالعذاب الشديد ، ولكن اللَّه ـ تعالى ـ نجاه من مكرهم ، قال ـ تعالى ـ :

قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّه ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً ولا يَضُرُّكُمْ (٦٦) أُفٍّ لَكُمْ ولِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّه أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٧) قالُوا حَرِّقُوه وانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٦٨) قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (٦٩) وأَرادُوا بِه كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الأَخْسَرِينَ (٧٠) ونَجَّيْناه ولُوطاً إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (٧١) ووَهَبْنا لَه إِسْحاقَ ويَعْقُوبَ نافِلَةً وكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (٧٢) وجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وإِقامَ الصَّلاةِ وإِيتاءَ الزَّكاةِ وكانُوا لَنا عابِدِينَ (٧٣)

أي : قال إبراهيم لقومه بعد أن ضاق بهم ذرعا : أتتركون عبادة اللَّه الذي خلقكم ، وتعبدون غيره أصناما لا تنفعكم بشيء من النفع ، ولا تضركم بشيء من الضر ، ثم يضيف إلى

٢٢٧

هذا التبكيت لهم ، الضجر منهم ، فيقول : (أُفٍّ لَكُمْ ولِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّه أَفَلا تَعْقِلُونَ).

و «أف» اسم فعل مضارع بمعنى أتضجر. وأصله صوت المتضجر من استقذار الشيء. واللام في قوله (لَكُمْ) لبيان المتضجر لأجله.

أي : سحقا وقبحا لكم ، ولما تعبدونه من أصنام متجاوزين بها عبادة اللَّه ـ تعالى ـ عن جهل وسخف وطغيان.

(أَفَلا تَعْقِلُونَ) ما أنتم فيه من ضلال واضح ، فترجعون عنه إلى عبادة الواحد القهار.

وعند ما وصل إبراهيم في توبيخهم وتبكيتهم إلى هذا الحد أخذتهم العزة بالإثم ، شأنهم في ذلك شأن كل طاغية جهول ، يلجأ إلى القوة الغاشمة بعد أن تبطل حجته ، فقالوا فيما بينهم : (حَرِّقُوه وانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ).

أي : قال بعضهم لبعض بعد أن عجزوا عن مقارعة الحجة بالحجة ، وبعد أن رأوا إبراهيم قد أفحمهم بمنطقه الحكيم : (حَرِّقُوه) أي : بالنار ، فإنها أشد العقوبات.

قيل : إن الذي اقترح عليهم ذلك هو رئيسهم : نمرود بن كنعان. وقيل : هو رجل من الفرس اسمه : هينون.

وقوله : (وانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ ..) بيان لسبب تحريقه بالنار.

أي : حرقوه بالنار من أجل الانتصار لآلهتكم التي حطمها في غيبتكم (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ).

أي : إن كنتم بحق تريدون أن تنصروا آلهتكم نصرا يرضيها ، فأحرقوه بالنار.

قال صاحب الكشاف : أجمعوا رأيهم ـ لما غلبوا ـ بإهلاكه ، وهكذا المبطل إذا قرعت شبهته بالحجة وافتضح. لم يكن أحد أبغض إليه من المحق ولم يبق له مفزع إلا مناصبته العداء ، كما فعلت قريش برسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم حين عجزوا عن المعارضة.

والذي أشار بإحراقه : نمروذ. وعن ابن عمر : رجل من أعراب العجم. واختاروا المعاقبة بالنار لأنها أهول ما يعاقب به وأفظعه ، ولذلك جاء : «لا يعذب بالنار إلا خالقها» (١).

وقوله تعالى : (قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ ..) مسبوق بكلام محذوف يفهم من سياق القصة.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ١٢٦.

٢٢٨

والتقدير : وأحضر قوم إبراهيم الحطب ، وأضرموا نيرانا عظيمة ، وألقوا بإبراهيم فيها ، فلما فعلوا ذلك ، قلنا : يا نار كوني ـ بقدرتنا وأمرنا ـ ذات برد ، وذات سلام على إبراهيم ، فكانت كما أمرها الله ـ تعالى ـ ، وصدق ـ سبحانه ـ إذ يقول : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (١).

وتحولت النار إلى برد وسلام على إبراهيم ، وأراد الكافرون به كيدا ، أى إحراقا بالنار «فجعلناهم» بإرادتنا وقدرتنا «الأخسرين» حيث لم يصلوا إلى ما يريدون ، ولم يحققوا النصر لآلهتهم ، بل رد الله ـ تعالى ـ كيدهم في نحورهم.

وقال ـ سبحانه ـ (فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ) بالإطلاق لتشمل خسارتهم كل خسارة سواء أكانت دنيوية أم أخروية.

وقد ذكر المفسرون عند تفسيرهم لهذه الآيات آثارا منها : أن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ حين جيء به إلى النار ، قالت الملائكة : يا ربنا ما في الأرض أحد يعبدك سوى إبراهيم ، وأنه الآن يحرق فأذن لنا في نصرته!!

فقال ـ سبحانه ـ : إن استغاث بأحد منكم فلينصره. وإن لم يدع غيرى فأنا أعلم به ، وأنا وليه ، فخلوا بيني وبينه ، فهو خليلي ليس لي خليل غيره.

فأتى جبريل ـ عليه‌السلام ـ إلى إبراهيم ، فقال له : ألك حاجة؟ فقال إبراهيم : أما إليك فلا ، وأما إلى الله فنعم!!

فقال له جبريل : فلم لا تسأله؟ فقال إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ : حسبي من سؤالى علمه بحالي .. (٢).

ثم بين ـ سبحانه ـ نعما أخرى أنعم بها على إبراهيم فقال : (وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ).

والضمير في قوله : (وَنَجَّيْناهُ) يعود إلى إبراهيم. و «لوطا» هو ابن أخيه ، وقيل : ابن عمه.

والمراد بالأرض التي باركنا فيها : أرض الشام على الصحيح وعدّى (نَجَّيْناهُ) بإلى ، لتضمينه معنى أخرجناه.

أى : وأخرجناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها ، بأن جعلناها مهبطا للوحى ، ومبعثا

__________________

(١) سورة البقرة الآية ١١٧.

(٢) راجع تفسير الآلوسى ج ١٧ ص ٦٨.

٢٢٩

للرسل لمدة طويلة ، وبأن جعلناها كذلك عامرة بالخيرات وبالأموال وبالثمرات للأجيال المتعاقبة.

والآية الكريمة تشير إلى هجرة إبراهيم ومعه لوط ـ عليهما‌السلام ـ من أرض العراق التي كانا يقيمان فيها ، إلى أرض الشام ، فرارا بدينهما. بعد أن أراد قوم إبراهيم أن يحرقوه بالنار ، فأبطل الله ـ تعالى ـ كيدهم ومكرهم ، ونجاه من شرهم.

وقد أشار ـ سبحانه ـ إلى ذلك في آيات أخرى منها قوله ـ تعالى ـ : (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ..) (١).

وقوله ـ تعالى ـ (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً ..) بيان لنعمة أخرى من النعم التي أنعم الله ـ سبحانه ـ بها على إبراهيم.

والنافلة : الزيادة على الأصل. ولذا سميت صلاة السنن نافلة ، لأنها زيادة على الصلوات المفروضة. وإسحاق هو ابن إبراهيم. ويعقوب هو ابن إسحاق.

فلفظ «نافلة» حال من يعقوب أى : ووهبنا لإبراهيم يعقوب حال كونه زيادة على إسحاق. (وَكُلًّا) من المذكورين وهم إبراهيم ولوط وإسحاق ويعقوب.

(جَعَلْنا صالِحِينَ) أى : جعلناهم أفرادا صالحين ، بأن وفقناهم لما نحبه ونرضاه ، وشرفناهم بالنبوة والرسالة.

(وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) أى : وجعلنا هؤلاء المذكورين ، أئمة في الخير ، يهدون ويرشدون غيرهم إلى الدين الحق بسبب أمرنا لهم بذلك ، وتكليفهم بتبليغ وحينا إلى الناس.

قال صاحب الكشاف : قوله ـ سبحانه ـ : (يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) فيه أن من صلح ليكون قدوة في دين الله ، فالهداية محتومة عليه ، مأمور بها من جهة الله ليس له أن يخل بها ، ويتثاقل عنها ، وأول ذلك أن يهتدى بنفسه ، لأن الانتفاع بهداه أعم ، والنفوس إلى الاقتداء بالمهدى أميل» (٢).

وقوله : (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ) أى : وأوحينا إليهم أن يفعلوا الطاعات ، وأن يأمروا الناس بفعلها ، وأوحينا إليهم كذلك (إِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ) أى : أن يقيموا الصلاة وأن يؤدوا الزكاة وأن يأمروا غيرهم بذلك.

وعطف إقام الصلاة وإيتاء الزكاة على فعل الخيرات من باب عطف الخاص على العام.

__________________

(١) سورة العنكبوت الآية ٢٦.

(٢) تفسير الكشاف ج ٣ ص ١٢٧.

٢٣٠

للاهتمام به إذ الصلاة أفضل العبادات البدنية والزكاة أفضل العبادات المالية (وَكانُوا لَنا عابِدِينَ) لا لغيرنا ، فهم لم يخطر ببالهم عبادة أحد سوانا ، لأنهم من المصطفين الأخيار.

هذا ، والمتأمل في هذه الآيات الكريمة التي وردت في قصة إبراهيم مع قومه. يراها قد حكت لنا غيرة إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ على دين الله ـ تعالى ـ وقوة حجته في الدفاع عن الحق ، ومجاهدته بما يعتقده بدون خوف من قومه ، وجمعه في دعوته بين القول والعمل.

كما يراها قد بينت لنا أن من يدافع عن دين الله ـ تعالى ـ يدافع الله ـ سبحانه ـ عنه ، وينصره على أعدائه ، ويرد كيدهم في نحورهم.

كما يراها ـ أيضا ـ قد أشارت إلى أن من هاجر من أرض إلى أخرى من أجل إعلاء كلمة الله ـ تعالى ـ رزقه الله نظير ذلك الخير والبركة ، والذرية الصالحة التي تهدى غيرها إلى الطريق المستقيم.

ثم ساق ـ سبحانه ـ جانبا من قصة لوط ـ عليه‌السلام ـ مع قومه فقال ـ تعالى ـ :

(وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (٧٤) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ)(٧٥)

وقوله ـ تعالى ـ : (وَلُوطاً) منصوب بفعل مضمر يفسره المذكور بعده وهو (آتَيْناهُ).

أى : وآتيناه لوطا ـ عليه‌السلام ـ (حُكْماً) أى : نبوة ، أو حكمة تهديه إلى ما يجب فعله أو تركه و «علما» أى : علما كثيرا لما ينبغي علمه وفهمه.

(وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ) والمراد بالقرية : قرية سدوم التي أرسل الله ـ تعالى ـ لوطا لأهلها.

والأعمال الخبيثة التي كانوا يعملونها على رأسها الإشراك بالله ـ تعالى ـ وفاحشة اللواط التي اشتهروا بها دون أن يسبقهم إليها أحد. كما قال ـ تعالى ـ : (وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ* أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ ، وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ (١) وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ (٢) الْمُنْكَرَ ، فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ

__________________

(١) السبيل : الطريق.

(٢) ناديكم : مجالسكم.

٢٣١

كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ..) (١).

أى : ونجينا لوطا بفضلنا ورحمتنا من العذاب الذي حل بأهل قريته الذين كانوا يعملون الأعمال الخبائث ، كالشرك بالله ـ تعالى ـ واللواط ، وقطعهم الطريق ، وارتكابهم المنكر في مجالسهم.

وقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ) تعليل لنجاة لوط ـ عليه‌السلام ـ مما حل بهم.

أى : جعلنا هذه القرية عاليها سافلها ، ونجينا لوطا ومن آمن معه من العذاب الذي حل بسكانها (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ) أى : أصحاب عمل سيئ (فاسِقِينَ) أى : خارجين عن طاعتنا.

(وَأَدْخَلْناهُ) أى : لوطا (فِي رَحْمَتِنا) أى : في أهل رحمتنا في الدنيا والآخرة (إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) الذين سبقت لهم منا الحسنى.

ثم ذكرت السورة الكريمة جانبا من قصة نوح مع قومه. قال ـ تعالى ـ.

(وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ)(٧٧)

أى : واذكر ـ أيضا ـ أيها المخاطب عبدنا «نوحا» ـ عليه‌السلام ـ (إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ) أى : حين نادانا واستجار بنا من قبل زمان إبراهيم ومن جاء بعده من الأنبياء.

وهذا النداء الذي نادى به نوح ربه ، قد جاء ذكره في آيات منها قوله ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ* وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) (٣).

(فَاسْتَجَبْنا لَهُ) أى : أجبنا له دعاءه ، ولم نخيب له رجاء فينا.

__________________

(١) سورة العنكبوت الآيتان ٢٨ ، ٢٩.

(٢) سورة الصافات الآيتان ٧٥ ـ ٧٦.

(٣) سورة نوح الآية ٢٦.

٢٣٢

(فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ) الذين آمنوا به وصدقوه (مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) أى : من الطوفان العظيم الذي أغرق الكافرين ، والذي كانت أمواجه كالجبال.

وأصل الكرب : الغم الشديد. يقال : فلان كربه هذا الأمر ، إذا ضايقه وجعله في أقصى درجات الهم والخوف.

قال الآلوسى : «وكأنه على ما قيل من كرب الأرض ، وهو قلبها بالحفر. إذ الغم يثير النفس إثارة ذلك ، أو من كربت الشمس إذا دنت للمغيب ، فإن الغم الشديد ، تكاد شمس الروح تغرب منه .. وفي وصفه بالعظيم تأكيد لشدته» (١).

(وَنَصَرْناهُ) بفضلنا وإحساننا (مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا. وعلى أن نوحا رسولا من رسلنا.

والمراد بهؤلاء القوم : قومه الذين لبث نوح فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما. يدعوهم إلى إخلاص العبادة لله. فلم يؤمن به إلا قليل منهم.

(إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ) أى : إنهم كانوا قوما يعملون أعمال السوء والقبح (فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) بسبب إصرارهم على الكفر والعصيان ، ولم ننج منهم إلا من اتبع نوحا عليه‌السلام.

ثم ساق ـ سبحانه ـ بعد ذلك جانبا من قصة نبيين كريمين هما داود وسليمان فقال ـ تعالى ـ :

(وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (٧٨) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (٧٩) وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (٨٠) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٧ ص ٧٣.

٢٣٣

إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (٨١) وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ)(٨٢)

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَداوُدَ) منصوب ـ أيضا ـ بفعل مقدر ، أو معطوف على قوله سبحانه ـ قبل ذلك : (وَنُوحاً إِذْ نادى).

وسليمان هو ابن داود ، وكلاهما من أنبياء الله ـ سبحانه ـ ، وينتهى نسبهما إلى يعقوب ـ عليه‌السلام ـ وكانت وفاتهما قبل ميلاد المسيح ـ عليه‌السلام ـ بألف سنة تقريبا ، وقد جمع الله ـ تعالى ـ لهما بين الملك والنبوة.

والحرث : الزرع. قيل : كان كرما ـ أى عنبا ـ تدلت عناقيده.

وقوله : (نَفَشَتْ) من النفش وهو الرعي بالليل خاصة. يقال : نفشت الغنم والإبل ، إذا رعت ليلا بدون راع.

وقد ذكر المفسرون عند تفسيرهم لهذه الآيات روايات ملخصها : أن رجلين دخلا على داود ـ عليه‌السلام ـ أحدهما صاحب زرع ، والآخر صاحب غنم ، فقال صاحب الزرع لداود : يا نبي الله ، إن غنم هذا قد نفشت في حرثى فلم تبق منه شيئا ، فحكم داود ـ عليه‌السلام ـ لصاحب الزرع أن يأخذ غنم خصمه في مقابل إتلافها لزرعه.

وعند خروجهما التقيا بسليمان ـ عليه‌السلام ـ فأخبراه بحكم أبيه. فدخل سليمان على أبيه فقال له : يا نبي الله ، إن القضاء غير ما قضيت ، فقال له : كيف؟ قال : ادفع الغنم إلى صاحب الزرع لينتفع بها ، وادفع الزرع إلى صاحب الغنم ليقوم عليها حتى يعود كما كان. ثم يعيد كل منهما إلى صاحبه ما تحت يده ، فيأخذ صاحب الزرع زرعه ، وصاحب الغنم غنمه .. فقال داود ـ عليه‌السلام ـ القضاء ما قضيت يا سليمان (١).

والمعنى : اذكر ـ أيها الرسول الكريم ـ قصة داود وسليمان ، وقت أن كانا يحكمان في الزرع الذي «نفشت فيه غنم القوم» أى : تفرقت فيه وانتشرت ليلا دون أن يكون معها راع فرعته وأفسدته.

قال القرطبي : «ولم يرد ـ سبحانه ـ بقوله (إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ) : الاجتماع في

__________________

(١) راجع تفسير ابن جرير ج ١٧ ص ٣٨ ، وتفسير ابن كثير ج ٥ ص ٣٤٩.

٢٣٤

الحكم وإن جمعهما في القول ، فإن حكمين على حكم واحد لا يجوز وإنما حكم كل واحد منهما على انفراده ، وكان سليمان الفاهم لها بتفهيم الله ـ تعالى ـ له (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ) جملة معترضة جيء بها لبيان شمول علم الله ـ تعالى ـ وإحاطته بكل شيء.

أى : وكنا لما حكم به كل واحد منهما عالمين وحاضرين ، بحيث لا يغيب عنا شيء مما قالاه.

وضمير الجمع في قوله (لِحُكْمِهِمْ) : لداود وسليمان ، واستدل بذلك من قال إن أقل الجمع اثنان ، وقيل : ضمير الجمع يعود عليهما وعلى صاحب الزرع وصاحب الحرث أى : وكنا للحكم الواقع بين الجميع شاهدين.

والضمير المنصوب في قوله ـ تعالى ـ : (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) يعود إلى القضية أو المسألة التي عرضها الخصمان على داود وسليمان.

أى : ففهمنا سليمان الحكم الأنسب والأوفق في هذه المسألة أو القضية ، وذلك لأن داود ـ كما يقول العلماء. قد اتجه في حكمه إلى مجرد التعويض لصاحب الحرث. وهذا عدل فحسب. أما حكم سليمان فقد تضمن مع العدل البناء والتعمير ، وجعل العدل دافعا إلى البناء والتعمير ، وهذا هو العدل الحي الإيجابى في صورته البانية الدافعة ، وهو فتح من الله وإلهام يهبه من يشاء» (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ (وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) ثناء من الله ـ تعالى ـ على داود وسليمان ـ عليهما‌السلام ـ والمقصود من هذا الثناء دفع ما قد يتبادر إلى بعض الأذهان من أن داود لم يكن مصيبا في حكمه.

أى : وكلا من داود وسليمان قد أعطيناه من عندنا (حُكْماً) أى : نبوة وإصابة في القول والعمل (وَعِلْماً) أى : فقها في الدين ، وفهما سليما للأمور.

وقد توسع بعض المفسرين في الحديث عن هذا الحكم الذي أصدره داود وسليمان في قضية الحرث أكان بوحي من الله إليهما ، أم كان باجتهاد منهما ، وقد رجح بعض العلماء أنه كان باجتهاد منهما فقال : اعلم أن جماعة من العلماء قالوا : إن حكم داود وسليمان في الحرث المذكور في هذه الآية كان بوحي ، إلا أن ما أوحى إلى سليمان كان ناسخا لما أوحى إلى داود.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١١ ص ٣٠٧.

(٢) في ظلال القرآن ج ١٧ ص ٥٥١.

٢٣٥

وفي الآية قرينتان على أن حكمهما كان باجتهاد لا بوحي ، وأن سليمان أصاب فاستحق الثناء باجتهاده وإصابته ، وأن داود لم يصب فاستحق الثناء باجتهاده ، ولم يستوجب لوما ولا ذما لعدم إصابته.

كما أثنى ـ سبحانه ـ على سليمان بالإصابة في قوله (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) وأثنى عليهما في قوله : (وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً).

فدل قوله (إِذْ يَحْكُمانِ) على أنهما حكما فيها معا ، كل منهما بحكم مخالف لحكم الآخر ، ولو كان وحيا لما ساغ الخلاف. ثم قال : (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) فدل ذلك على أنه لم يفهمها داود ، ولو كان حكمه فيها بوحي لكان مفهما إياها كما ترى.

فقوله : (إِذْ يَحْكُمانِ) مع قوله (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) قرينة على أن الحكم لم يكن بوحي بل باجتهاد ، وأصاب فيه سليمان دون داود بتفهيم الله إياه ذلك.

والقرينة الثانية : هي أن قوله ـ تعالى ـ (فَفَهَّمْناها) يدل على أنه فهمه إياها من نصوص ما كان عندهم من الشرع ، لا أنه ـ تعالى ـ أنزل عليه فيها وحيا جديدا ناسخا ، لأن قوله ـ تعالى ـ : (فَفَهَّمْناها) أليق بالأول من الثاني كما ترى .. (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ نماذج من النعم التي أنعم بها على داود ـ عليه‌السلام ـ فقال : (وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ).

والتسخير : التذليل أى : وجعلنا الجبال والطير يسبحن الله ـ تعالى ـ ويقدسنه مع داود ، امتثالا لأمره ـ سبحانه ـ.

قال ابن كثير : وذلك لطيب صوته ، بتلاوة كتابه الزبور ، وكان إذا ترنم به تقف الطير في الهواء فتجاوبه ، وترد عليه الجبال تأويبا. ولهذا لما مر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أبى موسى الأشعرى ، وهو يتلو القرآن من الليل ، وكان له صوت طيب ، فوقف واستمع إليه وقال : «لقد أوتى هذا من مزامير آل داود» (٢).

وقال صاحب الكشاف : «فإن قلت : لم قدمت الجبال على الطير؟ قلت : لأن تسخيرها وتسبيحها أعجب ، وأدل على القدرة ، وأدخل في الإعجاز ، لأنها جماد ، والطير حيوان ، إلا أنه غير ناطق ، روى أنه كان يمر بالجبال مسبحا وهي تجاوبه ، وقيل : كانت تسير معه حيث سار .. (٣).

__________________

(١) راجع تفسير أضواء البيان ج ٥ ص ٥٩٩ للمرحوم الشيخ محمد الأمين الشنقيطى.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ٣٥٢.

(٣) الكشاف ج ٣ ص ١٢٩.

٢٣٦

وتسبيح الجبال والطير مع داود ـ عليه‌السلام ـ هو تسبيح حقيقى ، ولكن بكيفية يعلمها الله ـ تعالى ـ كما قال ـ سبحانه ـ (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ..) (١).

وشبيه بالآية التي معنا قوله ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ : (اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ* إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ* وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ) (٣).

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بقوله : (وَكُنَّا فاعِلِينَ) أى : وكنا فاعلين ذلك لداود من تسخير الجبال والطير معه يسبحن الله وينزهنه عن كل سوء ، على سبيل التكريم له. والتأييد لنبوته ، إذ أن قدرتنا لا يعجزها شيء ، سواء أكان هذا الشيء مألوفا للناس أم غير مألوف.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ) بيان لنعمة أخرى من النعم التي أنعم الله بها على داود.

واللبوس : كل ما يلبس كاللباس والملبس : والمراد به هنا : الدروع.

أى : وبجانب ما منحنا داود من فضائل ، فقد علمناه من لدنا صناعة الدروع بحذق وإتقان ، وهذه الصناعة التي علمناه إياها بمهارة وجودة (لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ).

أى : لتجعلكم في حرز ومأمن من الإصابة بآلة الحرب. وتقى بعضكم من بأس بعض ، لأن الدرع تقى صاحبها من ضربات السيوف ، وطعنات الرماح.

يقال : أحصن فلان فلانا ، إذا جعله في حرز وفي مكان منيع من العدوان عليه.

والاستفهام في قوله : (فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ) للحض والأمر أى : فاشكروا الله ـ تعالى ـ على هذه النعم ، بأن تستعملوها في طاعته ـ سبحانه ـ.

قال القرطبي ـ رحمه‌الله ـ : «وهذه الآية أصل في اتخاذ الصنائع والأسباب ، وهو قول أهل العقول والألباب. لا قول الجهلة الأغبياء القائلين بأن ذلك إنما شرع للضعفاء ، فالسبب سنة الله في خلقه ، فمن طعن في ذلك فقط طعن في الكتاب والسنة ، وقد أخبر الله ـ تعالى ـ عن نبيه داود أنه كان يصنع الدروع ، وكان ـ أيضا ـ يصنع الخوص ، وكان يأكل من عمل

__________________

(١) سورة الإسراء الآية ٤٤.

(٢) سورة سبأ الآية ١٠.

(٣) سورة ص الآيات ١٧ ـ ١٩.

٢٣٧

يده ، وكان آدم حراثا ، ونوح نجارا ، ولقمان خياطا ، وطالوت دباغا ، فالصنعة يكف بها الإنسان نفسه عن الناس ، ويدفع بها عن نفسه الضرر والبأس ، وفي الحديث : «إن الله يحب المؤمن المحترف المتعفف ، ويبغض السائل الملحف» (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك جانبا من نعمه على سليمان بن داود فقال : (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها).

وقوله : (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ) معطوف على معمول «سخرنا» في قوله ـ تعالى ـ قبل ذلك : (وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ) و «عاصفة» حال من الريح.

أى : وسخرنا لسليمان الريح حال كونها عاصفة أى : شديدة الهبوب ، كما سخرنا مع أبيه الجبال يسبحن والطير.

يقال : عصفت الريح تعصف إذا اشتدت ، فهي عاصف وعاصفة وعصوف سميت بذلك لتحطيمها ما تمر عليه فتجعله كالعصف وهو التبن.

وقوله ـ تعالى ـ : (تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها) أى : جعلناها مع قوتها وشدتها تجرى بأمر سليمان وإذنه إلى الأرض التي باركنا فيها وهي أرض الشام. وقيل : يحتمل أن يكون المراد بها ما هو أعم من أرض الشام.

ووصفت الريح هنا بأنها عاصفة ، وفي آية أخرى بأنها رخاء قال ـ تعالى ـ : (تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ) (٢). لأنها تارة تكون عاصفة ، وتارة تكون لينة رخاء. على حسب ما تقتضيه حكمته ـ سبحانه ـ.

وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله : «فإن قلت : وصفت هذه الرياح بالعصف تارة وبالرخاوة أخرى ، فما التوفيق بينهما؟.

قلت : كانت في نفسها رخية طيبة كالنسيم ، فإذا مرت بكرسيه أبعدت به في مدة يسيرة ، على ما قال : «غدوها شهر ورواحها شهر» فكان جمعها بين الأمرين أن تكون رخاء في نفسها وعاصفة في عملها ، مع طاعتها لسليمان على حسب ما يريد» (٣).

وقال ـ سبحانه ـ هنا : (تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها) أى تجرى بأمره إلى تلك الأرض في حال إيابه ورجوعه إليها ، حيث مقر مملكته ومسكنه. فالمقصود من الآية الكريمة الإخبار عن جريانها في حال عودته إلى مملكته.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١١ ص ٣٢١.

(٢) سورة ص الآية ٣٦.

(٣) تفسير الكشاف ج ٣ ص ١٣٠.

٢٣٨

أما الآية الأخرى التي تقول : (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ) أى : حيث أراد لها أن تجرى ، فالمقصود منها الإخبار عن جربها بإذنه في غير حال عودته إلى مملكته ، وبذلك أمكن الجمع بين الآيتين ، إذ الجهة فيهما منفكة.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ) أى : وكنا بكل شيء يجرى في هذا الكون عالمين علما مطلقا لا كعلم غيرنا من خلقنا. فإنه علم محدود بما نشاؤه ونقدره.

فالجملة الكريمة بيان لإحاطة علم الله ـ تعالى ـ بكل شيء ، والتنبيه بأن ما أعطاه الله ـ تعالى ـ لسليمان ، إنما كان بإرادته ـ سبحانه ـ وعلمه.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ) بيان لمنة أخرى من المنن الكثيرة التي امتن بها ـ سبحانه ـ على عبده ونبيه سليمان.

ويغوصون من الغوص وهو النزول تحت الماء ، ومنه الغواص الذي ينزل تحت الماء لاستخراج الجواهر وغيرها.

وقوله : (مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ) في محل نصب عطفا على معمول (سَخَّرْنا) ، السابق.

أى : وسخرنا ـ أيضا ـ لسليمان من يغوص له ، أى : لأجله ، من الشياطين ، فينزلون تحت مياه البحار ليستخرجوا له منها الجواهر النفيسة كاللؤلؤ والمرجان.

وفي التعبير بقوله : (لَهُ) إشعار بأن غوصهم لم يكن لمنفعة أنفسهم أو باختيارهم ، وإنما هم كانوا يغوصون من أجل مصلحة سليمان ـ عليه‌السلام ـ وبأمره.

وقوله : (وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ) أى : لم تكن مهمتهم الغوص فقط وإنما كان سليمان يسخرهم ويكلفهم بأعمال أخرى كثيرة كبناء المدائن والقصور وصنع التماثيل والمحاريب .. كما قال ـ تعالى ـ : (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ ، وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ ، وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ* يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) (١).

فاسم الإشارة في قوله (وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ) يعود إلى الغوص أى : ويعملون له عملا كثيرا سوى ذلك الغوص.

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بقوله : (وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ) أى : وكنا لهؤلاء الشياطين حافظين من أن يخرجوا عن طاعته. أو أن يوجد منهم فساد فيما هم مسخرون له.

__________________

(١) سورة سبأ الآيتان ١٢ ، ١٣.

٢٣٩

وتلك نعمة كبرى لسليمان ـ عليه‌السلام ـ حيث جعل ـ سبحانه ـ الشياطين لا يستطيعون أن يزيغوا عن أمره.

هذا وقد ذكر بعض المفسرين عند تفسيرهم لهذه الآيات قصصا متعددة منها قصة بساط الريح الذي قيل إن سليمان كان يجلس عليه هو وجنده ، فيطير بهم إلى الشام في وقت قصير ، ومنها صفة حمل الريح له وصفة جنوده من الجن والإنس والطير.

وقد رأينا عدم ذكر ذلك هنا ، لأنه لم يرد ما يؤيده من الآثار الصحيحة.

ثم ساق ـ سبحانه ـ جانبا من قصة أيوب ـ عليه‌السلام ـ وهي قصة تمثل الابتلاء بالضر في أشد صوره. قال ـ تعالى ـ :

(وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ)(٨٤)

قال ابن كثير : «يذكر الله ـ تعالى ـ عن أيوب ـ عليه‌السلام ـ ما كان قد أصابه من البلاء في ماله وولده وجسده ، وذلك أنه كان له من الدواب والأنعام والحرث شيء كثير ، وأولاد كثيرون ، ومنازل مرضية. فابتلى في ذلك كله ، وذهب عن آخره ، ثم ابتلى في جسده .. ولم يبق من الناس أحد يحنو عليه سوى زوجته .. وقد كان نبي الله أيوب غاية في الصبر ، وبه يضرب المثل في ذلك. (١).

وقال الآلوسى : وهو ابن أموص بن رزاح بن عيص بن إسحاق. وحكى ابن عساكر أن أمه بنت لوط ، وأن أباه ممن آمن بإبراهيم فعلى هذا كانت بعثته قبل موسى وهارون. وقيل : بعد شعيب ، وقيل : بعد سليمان ..» (٢).

والضر ـ بالفتح ـ يطلق على كل ضرر ـ وبالضم ـ خاص بما يصيب الإنسان في نفسه من مرض وأذى وما يشبههما.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ٣٥٤.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٧ ص ٨٠.

٢٤٠