التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٩

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٩

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0683-3
الصفحات: ٣٥٥

بدون إذنه ، كما هو شأن العبيد الطائعين لسيدهم.

وأصل الكلام : لا يسبق قولهم قوله ـ عزوجل ـ إلا أنه ـ سبحانه ـ أسند السبق إليهم ، تنزيلا لسبق قولهم لقوله ، منزلة سبقهم إياه ، للإشعار بمزيد طاعتهم وتنزيههم عن كل قول بغير إذنه ـ تعالى ـ.

وقوله : (وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) بيان لتبعيتهم له ـ تعالى ـ في الأعمال إثر بيان تبعيتهم له ـ سبحانه ـ في الأقوال.

أى : وهم بأمره وحده يعملون لا بأمر أحد سواه ، ولا بأمر أنفسهم ، كما قال ـ تعالى ـ في آية أخرى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ. عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ مظهرا من مظاهر علمه الشامل ، وحكمه النافذ ، فقال (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ ..) أى : يعلم ـ سبحانه ـ أحوالهم كلها صغيرها وكبيرها ، متقدمها ومتأخرها ، (وَلا يَشْفَعُونَ) لأحد من خلقه إلا لمن ارتضى الله ـ تعالى ـ شفاعتهم له.

(وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) أى : وهم لخوفهم من الله ومن عقابه حذرون وجلون.

فأنت ترى أن الله ـ تعالى ـ قد وصف الملائكة في هذه الآيات بجملة من الصفات الكريمة التي تدل على طاعتهم المطلقة لله ـ تعالى ـ وعلى إكرامه ـ سبحانه ـ لهم.

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك أنهم مع كرامتهم عند الله ـ تعالى ـ لو ادعى أحد منهم ـ على سبيل الفرض ـ أنه إله ، لعاقبه الله عقابا شديدا ، فقال ـ تعالى ـ : (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ ، فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ ، كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ).

أى : ومن يقل من الملائكة ـ على سبيل الفرض والتقدير ـ (إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ) أى : من دون الله ـ عزوجل ـ «فذلك» الذي ادعى هذا الادعاء الكاذب «نجزيه جهنم» أى : نجعل جزاءه الإلقاء في جهنم كسائر المجرمين الكاذبين ، ولا يغنى عنه ما سبق له من طاعة وتكريم (كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) أى : مثل هذا الجزاء الرادع الفظيع نجزى كل ظالم يضع الأمور في غير موضعها ، إذ أن حقوق الله ـ تعالى ـ لا يجوز لأحد ـ كائنا من كان ـ أن ينسبها لنفسه ، سواء أكان ملكا مقربا ، أم نبيا مرسلا.

وبعد أن ساق ـ سبحانه ـ ألوانا من الأدلة الكونية الشاهدة بوحدانيته ، ومن الأدلة

__________________

(١) سورة التحريم آية ٦.

٢٠١

النقلية النافية للشركاء ، ومن الأدلة الوجدانية التي تهيج القلوب نحو الحق .. أتبع ذلك بتحريض الكافرين على التدبر في ملكوت السموات والأرض ، لعل هذا التدبر يهديهم إلى الإيمان ، فقال ـ تعالى ـ :

(أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (٣٠) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣١) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (٣٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)(٣٣)

وقوله (رَتْقاً) مصدر رتقه رتقا : إذا سده. يقال : رتق فلان الفتق رتقا ، إذا ضمه وسده ، وهو ضد الفتق الذي هو بمعنى الشق والفصل.

وللعلماء في معنى هذه الآية أقوال أشهرها : أن معنى (كانَتا رَتْقاً) أن السماء كانت صماء لا ينزل منها مطر ، وأن الأرض كانت لا يخرج منها نبات ، ففتق الله ـ تعالى ـ السماء بأن جعل المطر ينزل منها ، وفتق الأرض بأن جعل النبات يخرج منها.

وهذا التفسير منسوب إلى ابن عباس ، فقد سئل عن ذلك فقال : كانت السموات رتقا لا تمطر ، وكانت الأرض رتقا لا تنبت ، فلما خلق ـ سبحانه ـ للأرض أهلا ، فتق هذه بالمطر ، وفتق هذه بالنبات (١).

ومنهم من يرى أن المعنى : كانت السموات والأرض متلاصقتين كالشىء الواحد ، ففتقهما الله ـ تعالى ـ بأن فصل بينهما ، فرفع السماء إلى مكانها ، وأبقى الأرض في مقرها ، وفصل بينهما بالهواء.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ٣٣٢.

٢٠٢

قال قتادة قوله (كانَتا رَتْقاً) يعنى أنهما كانا شيئا واحدا ففصل الله بينهما بالهواء (١).

ومنهم من يرى أن معنى «كانتا رتقا» أن السموات السبع كانت متلاصقة بعضها ببعض ففتقها الله ـ تعالى ـ بأن جعلها سبع سموات منفصلة ، والأرضون كانت كذلك رتقا ، ففصل الله ـ تعالى ـ بينها وجعلها سبعا.

قال مجاهد : كانت السموات طبقة واحدة مؤتلفة ، ففتقها فجعلها سبع سموات ، وكذلك الأرضين كانت طبقة واحدة ففتقها فجعلها سبعا (٢).

وقد رجح بعض العلماء المعنى الأول فقال ما ملخصه : كونهما «كانتا رتقا» بمعنى أن السماء لا ينزل منها مطر ، والأرض لا تنبت ، ففتق ـ سبحانه ـ السماء بالمطر والأرض بالنبات ، هو الراجح وتدل عليه قرائن من كتاب الله ـ تعالى ـ منها :

أن قوله ـ تعالى ـ : (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا ..) يدل على أنهم رأوا ذلك لأن الأظهر في رأى أنها بصرية ، والذي يرونه بأبصارهم هو أن السماء تكون لا ينزل منها مطر ، والأرض لا نبات فيها. فيشاهدون بأبصارهم نزول المطر من السماء ، وخروج النبات من الأرض.

ومنها : أنه ـ سبحانه ـ أتبع ذلك بقوله : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) والظاهر اتصال هذا الكلام بما قبله. أى : وجعلنا من الماء الذي أنزلناه بفتقنا السماء ، وأنبتنا به أنواع النبات بفتقنا الأرض ، كل شيء حي.

ومنها : أن هذا المعنى جاء موضحا في آيات أخرى ، كقوله ـ تعالى ـ : (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ. وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ) والمراد بالرجع : نزول المطر من السماء تارة بعد أخرى ، والمراد بالصدع : انشقاق الأرض عن النبات. واختار هذا القول ابن جرير وابن عطية والفخر الرازي.

فإن قيل : هذا الوجه مرجوح ، لأن المطر لا ينزل من السموات ، بل من سماء واحدة وهي سماء الدنيا؟

قلنا : إنما أطلق عليه لفظ الجمع ، لأن كل قطعة فيها سماء كما يقال : ثوب أخلاق ـ أى : قطع (٣).

والآية الكريمة مسوقة لتجهيل المشركين وتوبيخهم على كفرهم ، مع أنهم يشاهدون بأعينهم ما يدل دلالة واضحة على وحدانية الله ـ تعالى ـ وقدرته ، ويعلمون أن من كان كذلك ،

__________________

(١ ، ٢) تفسير القرطبي ج ١١ ص ٢٨٣.

(٣) راجع تفسير أضواء البيان ج ٤ ص ٥٦٢ للشيخ محمد الأمين الشنقيطى.

٢٠٣

لا يصح أن تترك عبادته إلى عبادة حجر أو نحوه ، مما لا يضر ولا ينفع.

والمعنى : أو لم يشاهد الذين كفروا بأبصارهم ، ويعلموا بعقولهم ، أن السموات والأرض كانتا رتقا ، بحيث لا ينزل من السماء مطر ، ولا يخرج من الأرض نبات ، ففتق الله ـ تعالى ـ السماء بالمطر ، والأرض بالنبات.

إنهم بلا شك يشاهدون ذلك ، ويعقلونه بأفكارهم. ولكنهم لاستيلاء الجحود والعناد عليهم ، يعبدون من دونه ـ سبحانه ـ مالا ينفع من عبده ، ولا يضر من عصاه.

وقال ـ سبحانه ـ : (كانَتا) بالتثنية ، باعتبار النوعين اللذين هما نوع السماء ، ونوع الأرض ، كما في قوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا ..).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ..) تأكيد لمضمون ما سبق ، وتقرير لوحدانيته ونفاذ قدرته ـ سبحانه ـ والجعل بمعنى الخلق. و (مِنَ) ابتدائية.

أى : وخلقنا من الماء بقدرتنا النافذة ، كل شيء متصف بالحياة الحقيقية وهو الحيوان ، أو كل شيء نام فيدخل النبات ، ويراد من الحياة ما يشمل النمو.

وهذا العام مخصوص بما سوى الملائكة والجن مما هو حي ، لأن الملائكة ـ كما جاء في بعض الأخبار خلقوا من النور ، والجن مخلوقون من النار.

قال ـ تعالى ـ (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ* وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ).

قال القرطبي : وفي قوله ـ تعالى ـ : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) ثلاث تأويلات : أحدها : أنه خلق كل شيء من الماء. قاله قتادة. الثاني : حفظ حياة كل شيء بالماء : الثالث : وجعلنا من ماء الصلب ـ أى : النطفة ـ كل شيء حي .. (١).

وقوله : (أَفَلا يُؤْمِنُونَ) إنكار لعدم إيمانهم مع وضوح كل ما يدعو إلى الإيمان الحق ، والفاء للعطف على مقدر يستدعيه هذا الإنكار.

أى : أيشاهدون بأعينهم ما يدل على وحدانية الله وقدرته. ومع ذلك لا يؤمنون؟

إن أمرهم هذا لمن أعجب العجب ، وأغرب الغرائب!!.

ثم ساق ـ سبحانه ـ أدلة أخرى على وحدانيته وقدرته فقال : (وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ ..).

__________________

(١) راجع تفسير القرطبي ج ١١ ص ٢٨٤.

٢٠٤

الرواسي : جمع راسية ، من رسا الشيء إذا ثبت ورسخ ، والمراد بها الجبال الثابتة الراسخة في الأرض.

أى : وجعلنا في الأرض جبالا ثوابت ، كراهة أن (تَمِيدَ بِهِمْ) أى : أن تضطرب وتتحرك بهم الأرض. يقال : ماد الشيء يميد ميدا ـ من باب باع إذا تحرك واهتز.

(وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) ، والفجاج. جمع فج وهو الطريق الواسع.

والسبل : جمع سبيل وهو الطريق. وهو بدل من (فِجاجاً).

أى : وجعلنا في الأرض طرقا واسعة ، ومنافذ متعددة ، لعلهم بذلك يهتدون ويتوصلون إلى الأماكن التي يريدون الوصول إليها. ويعلمون أن الذي وهبهم كل هذه النعم ، هو الله ـ تعالى ـ الذي يجب أن يخلصوا له العبادة والطاعة.

(وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ) أى : وجعلنا السماء سقفا للأرض كما يكون السقف للبيت ، وجعلناه محفوظا من السقوط ومن التشقق ، ومن كل شيطان رجيم. وهم ـ أى المشركون ـ عن آياتها الدالة على قدرتنا ووحدانيتنا وعلمنا. معرضون ذاهلون ، لا يتعظون ولا يتذكرون.

ومن الآيات الدالة على حفظ السماء من السقوط ، قوله ـ تعالى ـ : (... وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) (١).

ومن الآيات الدالة على حفظها من التشقق والتفطر قوله ـ سبحانه ـ : (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ.) (٢).

وعلى حفظها من الشياطين قوله ـ تعالى ـ : (وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) (٣).

ومن الآيات الدالة على إعراض هؤلاء المشركين عن العبر والعظات قوله ـ سبحانه ـ : (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) (٤).

ثم ختم ـ سبحانه ـ هذه الآيات الدالة على قدرته ووحدانيته بقوله ـ تعالى ـ (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ ، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ، كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ).

أى : وهو وحده ـ سبحانه ـ الذي خلق بقدرته الليل والنهار بهذا النظام البديع ، وخلق الشمس والقمر بهذا الإحكام العجيب «كل» أى : كل واحد من الشمس والقمر يسير في فلكه وطريقه المقدر له بسرعة وانتظام ، كالسابح في الماء.

__________________

(١) سورة الحج الآية ٦٥.

(٢) سورة ق الآية ٦.

(٣) سورة الحجر الآية ١٧.

(٤) سورة يوسف الآية ١٠٥.

٢٠٥

وقوله : (يَسْبَحُونَ) من السبح وهو المر السريع في الماء أو الهواء.

وجاء يسبحون بضمير العقلاء. لكون السباحة المسندة إليهما من فعل العقلاء ، كما في قوله ـ تعالى ـ : (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ).

هذا والمتأمل في هذه الآيات يراها قد ساقت جملة من الأدلة على وحدانية الله ـ تعالى ـ وعلى كمال قدرته.

ثم بين ـ سبحانه ـ أن مصير البشر جميعا إلى الفناء ، وأن كل نفس ذائقة الموت ، وأن من طبيعة الإنسان تعجل الأمور قبل أوانها ، وأن المشركين لو علموا المصير السيئ الذي ينتظرهم يوم القيامة ، لما قالوا ما قالوه من باطل ، ولما فعلوا ما فعلوه من قبائح ، قال ـ تعالى ـ :

(وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (٣٤) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٣٥) وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (٣٦) خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (٣٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٣٩) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٤٠) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)(٤١)

٢٠٦

قال القرطبي : قوله ـ تعالى ـ : (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ) أى دوام البقاء في الدنيا.

نزلت حين قالوا : نتربص بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ريب المنون. وذلك أن المشركين كانوا يدفعون نبوته ويقولون : شاعر نتربص به ريب المنون ، ولعله يموت كما مات شاعر بنى فلان ، فقال الله ـ تعالى ـ : قد مات الأنبياء قبلك يا محمد ، وتولى الله دينه بالنصر والحياطة ، فهكذا نحفظ دينك وشرعك .. (١).

والاستفهام في قوله ـ سبحانه ـ : (أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ) للإنكار والنفي ..

والمعنى : وما جعلنا ـ أيها الرسول الكريم ـ لبشر من قبلك ـ كائنا من كان ـ الخلود في هذه الحياة ، وأنت إن مت فهم ـ أيضا ـ سيموتون في الوقت الذي حدده الله ـ تعالى ـ لانقضاء عمرك وأعمارهم ، وما دام الأمر كذلك فذرهم في جهالتهم يعمهون ، ولا تلتفت إلى شماتتهم فيك ، أو إلى تربصهم بك ، فإنك ميت وإنهم ميتون ، وكل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون ، ورحم الله الإمام الشافعى حيث يقول :

تمنى أناس أن أموت. وإن أمت

فتلك سبيل لست فيها بأوحد

فقل للذي يبغى خلاف الذي مضى

تهيأ لأخرى مثلها ، وكأن قد

وقال شاعر آخر :

إذا ما الدهر جر على أناس

كلاكله أناخ بآخرينا

فقل للشامتين بنا أفيقوا

سيلقى الشامتون كما لقينا

ثم أكد ـ سبحانه ـ عدم خلود بشر في هذه الحياة فقال : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ).

أى : كل نفس أوجدها الله ـ تعالى ـ في هذه الحياة ، ستذوق مرارة نزول الموت بها. ومفارقة روحها لجسدها.

قال الآلوسى ما ملخصه : والموت عند الأشعرى ، كيفية وجودية تضاد الحياة ، وعند كثيرين غيره : أنه عدم الحياة عما من شأنه الحياة بالفعل.

وقال بعضهم : المراد بالنفس هنا : النفس الإنسانية لأن الكلام مسوق لنفى خلود البشر.

واختير عمومها لتشمل نفوس البشر والجن وسائر نفوس الحيوان (٢).

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١١ ص ٢٨٧.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٧ ص ٤٥.

٢٠٧

وقوله ـ تعالى ـ : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) بيان لسنة من سننه ـ تعالى ـ في معاملة عباده.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَنَبْلُوكُمْ) من البلو بمعنى الاختبار والامتحان. يقال : فلان بلاه الله بخير أو شر يبلوه بلوا ، وأبلاه وابتلاه ابتلاء ، بمعنى امتحنه (١).

وقوله : (فِتْنَةً) مصدر مؤكد لنبلوكم من غير لفظه.

أى : كل نفس ذائقة الموت ، ونختبركم في هذه الحياة بألوان من النعم وبألوان من المحن ، لنرى أتشكرون عند النعمة ، وتصبرون عند المحنة ، أم يكون حالكم ليس كذلك؟ وفي جميع الأحوال فإن مرجعكم إلينا لا محالة ، وسنجازيكم بما تستحقون من ثواب على شكركم وصبركم ، وسنجازى غير الشاكرين وغير الصابرين بما يستحقون من عقاب ، ولا يظلم ربك أحدا.

قال بعض العلماء : «والابتلاء بالشر مفهوم أمره ليتكشف مدى احتمال المبتلى ، ومدى صبره على الضر ، ومدى ثقته في ربه ، ورجائه في رحمته .. فأما الابتلاء بالخير فهو في حاجة إلى بيان.

إن الابتلاء بالخير أشد وطأة. فكثيرون يصمدون أمام الابتلاء بالشر ولكن القلة القليلة هي التي تصمد للابتلاء بالخير.

كثيرون يصبرون على الابتلاء بالمرض والضعف ، وقليلون هم الذين يصبرون على الابتلاء بالصحة والقدرة.

كثيرون يصبرون على الفقر والحرمان ، فلا تتهاوى نفوسهم ولا تذل. وقليلون هم الذين يصبرون على الثراء ومغرياته وما يثيره من أطماع.

كثيرون يصبرون على الكفاح والجراح ، وقليلون هم الذين يصبرون على الدعة ، ولا يصابون بالحرص الذي يذل أعناق الرجال.

إن الابتلاء بالشر قد يثير الكبرياء ، ويستحث المقاومة ويجند الأعصاب لاستقبال الشدة .. أما الرخاء فقد يرخى الأعصاب ويفقدها المقاومة .. إلا من عصم الله ، وصدق رسوله الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث يقول : «عجبا لأمر المؤمن ، إن أمره كله خير ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له» (٢).

__________________

(١) المصباح المنير ص ٨٦.

(٢) في ظلال القرآن ج ١٧ ص ٥٣٣ للأستاذ سيد قطب رحمه‌الله.

٢٠٨

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٢).

ثم حكى ـ سبحانه ـ جانبا من السفاهات التي كان المشركون يقابلون بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً).

أى : وإذا أبصرك المشركون ـ أيها الرسول الكريم ـ سخروا منك ، واستخفوا بك وقالوا على سبيل التهوين من شأنك : (أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ) أى : أهذا هو مدعى النبوة الذي يذكر آلهتكم بسوء ويعيبها ، وينفى شفاعتها لنا ، وأنها تقربنا إلى الله زلفى.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ) في محل نصب حال من ضمير القول المقدر.

أى : أنهم يقولون فيما بينهم أهذا هو الرسول الذي يذكر آلهتكم بسوء ، والحال أن هؤلاء المشركين الجاهلين ، كافرون بالقرآن الذي أنزله الله ـ تعالى ـ عليك ـ أيها الرسول الكريم ـ لتخرج الناس به من الظلمات إلى النور.

فالآية الكريمة تنعى على هؤلاء المشركين جهالاتهم وسفاهاتهم ، حيث استكثروا على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يذم آلهتهم التي لا تنفع ولا تضر ولم يستكثروا على أنفسهم ، أن يكفروا بخالقهم وبذكره الذي أنزله على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليكون رحمة لهم.

قال صاحب الكشاف : الذكر يكون بخير وبخلافه. فإذا دلت الحال على أحدهما أطلق ولم يقيد. كقولك للرجل : سمعت فلانا يذكرك ، فإن كان الذاكر صديقا فهو ثناء ، وإن كان عدوا فهو ذم ، ومنه قوله : (أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ).

والمعنى : أنهم عاكفون على ذكر آلهتهم بهممهم ، وربما يجب أن لا تذكر به من كونهم شفعاء وشهداء. ويسوءهم أن يذكرها ذاكر بخلاف ذلك. وأما ذكر الله ـ تعالى ـ وما يجب أن يذكر به من الوحدانية ، فهم به كافرون لا يصدقون به أصلا ، فهم أحق بأن يتّخذوا هزوا منك ، فإنك محق وهم مبطلون .. فسبحان من أضلهم حتى تأدبوا مع الأوثان ، وأساءوا الأدب مع الرحمن» (٣).

__________________

(١) سورة الأنعام الآية ٤٢.

(٢) سورة الأعراف الآية ١٦٨.

(٣) تفسير الكشاف ج ٣ ص ١١٦.

٢٠٩

ثم بين ـ سبحانه ـ ما جبل عليه الإنسان من تسرع وتعجل فقال : (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ).

والعجل : طلب الشيء وتحريه قبل أوانه ، وهو ضد البطء.

والمراد بالإنسان : جنسه.

والمعنى : خلق جنس الإنسان مجبولا على العجلة والتسرع فتراه يستعجل حدوث الأشياء قبل وقتها المحدد لها ، مع أن ذلك قد يؤدى إلى ضرره.

فالمراد من الآية الكريمة وصف الإنسان بالمبالغة في تعجل الأمور قبل وقتها ، حتى لكأنه مخلوق من نفس التعجل. والعرب تقول : فلان خلق من كذا ، يعنون بذلك المبالغة في اتصاف هذا الإنسان بما وصف به ، ومنه قولهم خلق فلان من كرم ، وخلقت فلانة من الجمال.

وقوله : (سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) تهديد وزجر لأولئك الكافرين الذين كانوا يستعجلون العذاب.

أى : سأريكم عقابي وانتقامي منكم ـ أيها المشركون ـ فلا تتعجلوا ذلك فإنه آت لا ريب فيه.

قال ابن كثير : والحكمة في ذكر عجلة الإنسان هنا : أنه ـ سبحانه ـ لما ذكر المستهزئين بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقع في النفوس سرعة الانتقام منهم. فقال ـ سبحانه ـ : (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) لأنه ـ تعالى ـ يملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ، يؤجل ثم يعجل ، وينظر ثم لا يؤخر ، ولهذا قال : (سَأُرِيكُمْ آياتِي) أى : نقمى واقتدارى على من عصاني (فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) (١).

وقال الآلوسى : «والنهى عن استعجالهم إياه ـ تعالى ـ مع أن نفوسهم جبلت على العجلة ، ليمنعوها عما تريده وليس هذا من التكليف بما لا يطاق. لأنه ـ سبحانه ـ أعطاهم من الأسباب ما يستطيعون به كف النفس عن مقتضاها ، ويرجع هذا النهى إلى الأمر بالصبر» (٢).

ثم أكد ـ سبحانه ـ ما يدل على تعجلهم لما فيه هلاكهم فقال : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

أى : أن هؤلاء المشركين بلغ من طغيانهم وجهلهم أنهم كانوا يتعجلون العذاب الذي

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ٣٣٦.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٧ ص ٤٩.

٢١٠

توعدهم الله ـ تعالى ـ به إذا ما استمروا على كفرهم. ويقولون للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأصحابه ـ على سبيل التهكم والاستهزاء ـ متى يقع هذا العذاب الذي توعدتمونا به. إننا مترقبون له ، فإن كنتم صادقين في وعيدكم ، فأسرعوا في إنزاله. وأسرعوا في دعوة ربكم ـ سبحانه ـ أن يأتى بالساعة.

وجواب الشرط لقوله (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) محذوف ، لدلالة ما قبله عليه. أى : إن كنتم صادقين في وعيدكم بأن هناك عذابا ينتظرنا ، فأتوا به بسرعة.

وهنا يسوق القرآن ما يدل على غفلتهم وسوء تفكيرهم ، وعلى أنهم لو كانوا يعلمون ما ينتظرهم من عذاب يوم القيامة ، لما تفوهوا بما تفوهوا به ـ فيقول ـ سبحانه ـ (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ ، وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ).

وجواب «لو» محذوف. و «يعلم» بمعنى يعرف ، و «حين» مفعوله.

أى : لو عرف الكافرون وقت وقوع العذاب بهم. وما فيه من فظائع تجعلهم يعجزون عن دفع النار عن وجوههم وعن ظهورهم .. لو يعرفون ذلك لما استعجلوه. ولما استخفوا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبأصحابه ، لكن عدم معرفتهم هي التي جعلتهم يستعجلون ويستهزئون.

وخص ـ سبحانه ـ الوجوه والظهور بالذكر. لكونهما أظهر الجوانب ، ولبيان أن العذاب سيغشاهم من أمامهم ومن خلفهم دون أن يملكوا له دفعا.

وقال ـ سبحانه ـ (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) لبيان أنهم مع عجزهم عن دفع العذاب بأنفسهم. فإن غيرهم ـ أيضا ـ لن يستطيع دفعه عنهم.

قال صاحب الكشاف : «جواب «لو» محذوف. و «حين» مفعول به ليعلم. أى : لو يعلمون الوقت الذي يستعلمون عنه بقولهم : «متى هذا الوعد» وهو وقت صعب شديد تحيط بهم فيه النار من وراء وقدام ، فلا يقدرون على دفعها ومنعها من أنفسهم ، ولا يجدون ناصرا ينصرهم ؛ لما كانوا بتلك الصفة من الكفر والاستهزاء والاستعجال ، ولكن جهلهم به هو الذي هونه عندهم ، ويجوز أن يكون «يعلم» متروكا بلا تعدية ، بمعنى : لو كان معهم علم ولم يكونوا جاهلين ، لما كانوا مستعجلين ، وحين : منصوب بمضمر ، أى حين «لا يكفون عن وجوههم النار» يعلمون أنهم كانوا على الباطل .. (١).

وقوله ـ سبحانه ـ (بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ) .. بيان لسرعة قيام الساعة ، ومفاجأتها لهم. أى : بل تأتيهم الساعة الموعود بها ، وبعذابهم فيها ، مفاجأة من غير شعور بمجيئها

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ١١٨.

٢١١

«فتبهتهم» أى : فتدهشهم وتحيرهم ، والبهت : الانقطاع والحيرة.

«فلا يستطيعون ردها» أى : فلا يستطيعون دفع الساعة أوردها عنهم (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أى : ولا هم يمهلون لتوبة أو معذرة.

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآيات الكريمة بتسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما أصابه من هؤلاء المشركين ، فقال : (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ ، فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ. ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ).

أى : ولقد استهزئ ـ أيها الرسول الكريم ـ برسل كثيرين من قبلك ، فنزل بهؤلاء المشركين المستهزئين برسلهم ، العذاب الذي كانوا يستهزئون به في الدنيا ، ويستعجلون رسلهم في نزوله.

وصدرت الآية الكريمة بلام القسم وقد ، لزيادة تحقيق مضمونها وتأكيده ، وتنوين الرسل : للتفخيم والتكثير ، أى : والله لقد استهزئ برسل كثيرين ذوى شأن خطير كائنين في زمان قبل زمانك.

وعبر ـ سبحانه ـ بالفعل حاق ، لأن هذه المادة تستعمل في إحاطة المكروه ، فلا يقال : فلان حاق به الخير ، ولأنها تدل على الشمول واللزوم.

أى : فنزل بهم العذاب الذي كانوا يستهزئون به في الدنيا نزولا شاملا ، أحاط بهم من كل جهة إحاطة تامة.

وبذلك تكون الآيات الكريمة ، قد بينت جانبا من سنن الله ـ تعالى ـ في خلقه ، وحكت بعض الأفعال القبيحة التي كان المشركون يفعلونها مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهددتهم عليها تهديدا شديدا ، وسلّت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما ارتكبوه في حقه.

ثم أمر ـ سبحانه ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يذكّر هؤلاء الجاحدين بنعمه ـ تعالى ـ وأن ينذرهم بأسه وعقابه إذا ما استمروا في كفرهم ، فقال ـ عزوجل ـ :

(قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ

٢١٢

أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (٤٣) بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (٤٤) قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (٤٥) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٤٦) وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ)(٤٧)

وقوله ـ تعالى ـ : (يَكْلَؤُكُمْ) أى : يرعاكم ويحفظكم. يقال : فلان كلأ فلانا كلأ وكلاءة ـ بالكسر ـ إذا حرسه ، واكتلأ فلان من غيره ، إذا احترس منه.

والاستفهام للإنكار والتقريع.

أى : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ لهؤلاء المستهزئين بك وبما جئت به من عند ربك : قل لهم من الذي يحرسكم ويحفظكم «بالليل» وأنتم نائمون «والنهار» وأنتم متيقظون «من الرحمن» أى : من عذاب الرحمن وبأسه إذا أراد أن يهلككم بسبب عكوفكم على كفركم وشرككم.

وتقديم الليل على النهار ، لما أن الدواهي فيه أكثر ، والأخذ فيه أشد ، واختار ـ سبحانه ـ لفظ الرحمن ، للإشعار بأنهم يعيشون في خيره ورحمته. ومع ذلك لا يشكرونه ـ تعالى ـ على نعمه.

ولذا ـ أخبر ـ سبحانه ـ عنهم بقوله : (بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ) أى : بل هم بعد كل هذا الإنكار عليهم ، والتنبيه لهم عن ذكر ربهم وكتابه الذي أنزله لهدايتهم ، معرضون شاردون ، لا يحاولون الانتفاع بتوجيهاته ، ولا يستمعون إلى إرشاداته.

٢١٣

فالجملة الكريمة تنفى عنهم الانتفاع بما يوجهه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم من هدايات وعظات.

ثم وجه ـ سبحانه ـ إليهم سؤالا آخر فقال : (أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا ..)؟.

و (أَمْ) هنا هي المنقطعة التي بمعنى بل والهمزة ، فهي مشتملة على معنى الإضراب والإنكار.

والمعنى : وسلهم ـ أيها الرسول الكريم ـ مرة أخرى : ألهؤلاء الجاحدين آلهة أخرى تستطيع أن تحرسهم وترعاهم سوانا نحن؟ كلا لبس لهم ذلك.

فالجملة الكريمة إضراب عن وصفهم بالإعراض إلى توبيخهم على جهالاتهم بسبب اعتمادهم على آلهة لا تنفع ولا تضر.

وقوله : (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ) نفى على أبلغ وجه لأن تكون هناك آلهة ترعاهم سوى الله ـ تعالى ـ أى : كلا .. ليس لهم آلهة تمنعهم من عذابنا إن أردنا إنزاله بهم ، فإن هؤلاء الآلهة لا يستطيعون نصر أنفسهم فضلا عن نصر غيرهم ، ولا هم منا يصحبون ، أى : يجارون ويمنعون من نزول الضر بهم.

قال ابن جرير : «وقوله (يُصْحَبُونَ) بمعنى يجارون ، تقول العرب : أنا لك جار وصاحب من فلان. بمعنى أجيرك وأمنعك منه. وهؤلاء إذا لم يصحبوا بالجوار ، ولم يكن لهم مانع من عذاب الله ، مع سخط الله عليهم ، فلم يصحبوا بخير ولن ينصروا (١).

ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن نعمة أخرى من نعم الله عليهم لم يحسنوا شكرها ، فقال ـ تعالى ـ : (بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ ..).

أى : لا تلتفت ـ أيها الرسول الكريم ـ إلى هؤلاء المشركين الذين أعرضوا عن ذكر ربهم ، والذين زعموا أن آلهتهم تضر أو تنفع ، فإننا قد كلأناهم برعايتنا بالليل والنهار ، ومتعناهم وآباءهم من قبلهم بالكثير من متع الحياة الدنيا ، حتى طالت أعمارهم في رخاء ونعمة ، فحملهم ذلك على الطغيان والبطر والإصرار على الكفر. وسنأخذهم في الوقت الذي نريده أخذ عزيز مقتدر ، فإن ما أعطيناه لهم من نعم إنما هو على سبيل الاستدراج لهم.

ثم يلفت ـ سبحانه ـ أنظارهم إلى الواقع المشاهد في هذه الحياة فيقول : (أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ).

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ١٧ ص ٢٣.

٢١٤

وللعلماء في تفسير هذه الجملة الكريمة أقوال منها : أن المراد بنقص الأرض من أطرافها : إهلاك المشركين السابقين الذين كذبوا رسلهم ، كقوم نوح وعاد وثمود ، وهم يمرون على قرى بعض هؤلاء المكذبين ، ويرون آثارهم وقد دمرت ديارهم.

والمعنى : أفلا ينظر هؤلاء المشركون الذين كذبوك يا محمد ، فيرون بأعينهم ما حل بأمثالهم ممن كذبوا الرسل من قبلك. وكيف أننا طوينا الأرض بهم. وجعلناهم أثرا بعد عين.

والاستفهام في قوله : (أَفَهُمُ الْغالِبُونَ) للإنكار.

أى : لم تكن الغلبة والعاقبة في يوم من الأيام لمن كذبوا رسل الله ـ تعالى ـ وإنما الغلبة والظفر وحسن العاقبة لمن آمن بالرسل وصدقهم واتبع ما جاءوا به من عند ربهم.

وقد أشار الإمام ابن كثير إلى هذا المعنى بقوله : «أفلا يعتبرون بنصر الله لأوليائه على أعدائه ، وإهلاكه الأمم المكذبة والقرى الظالمة وإنجائه لعباده المؤمنين. ولهذا قال : (أَفَهُمُ الْغالِبُونَ).

يعنى : بل هم المغلوبون الأسفلون الأخسرون الأرذلون (١).

ومنها أن المراد بنقص الأرض من أطرافها : نقص أرض الكفر ودار الحرب ، وتسليط المسلمين عليها وانتزاعها من أيديهم بدليل الاستفهام الإنكارى في قوله (أَفَهُمُ الْغالِبُونَ) أى : لا .. ليسوا هم الذين يغلبون جندنا ، وإنما جندنا هم الغالبون.

وقد صدر الآلوسى تفسيره لهذا القول فقال : «أفلا يرون أنا تأتى الأرض» أى : أرض الكفرة «ننقصها من أطرافها» بتسليط المسلمين عليها ، وحوز ما يحوزونه منها ، ونظمه في سلك ملكهم .. «أفهم الغالبون» على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين.

والمراد إنكار ترتيب الغالبية على ما ذكر من نقص أرض الكفرة بتسليط المؤمنين عليها ، كأنه قيل : أبعد ظهور ما ذكر ورؤيتهم له يتوهم غلبتهم ، وفي التعريف تعريض بأن المسلمين هم المتعينون للغلبة المعروفون فيها (٢).

وقال صاحب الكشاف : «فإن قلت : أى فائدة في قوله (نَأْتِي الْأَرْضَ)؟.

قلت : فيه تصوير ما كان الله يجريه على أيدى المسلمين ، وأن عساكرهم وسراياهم كانت

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ٣٣٨.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٧ ص ٥٣.

٢١٥

تغزو أرض المشركين وتأتيها غالبة عليها ، ناقصة من أطرافها (١).

وهذان الرأيان مع وجاهتهما ، إلا أن الرأى الأول الذي ذهب إليه ابن كثير أكثر شمولا ، لأنه يتناول ما أصاب المكذبين للرسل السابقين من عقاب كما يشمل التهديد للمكذبين المعاصرين للعهد النبوي ، بأنهم إذا استمروا في طغيانهم فسيحل بهم ما حل بمن سبقوهم.

وهناك من يرى أن المراد بنقص الأرض من أطرافها : موت العلماء ، أو خرابها عند موت أهلها ، أو نقص الأنفس والثمرات .. ولكن هذه الآراء ليس معها ما يرجحها.

ثم أمر الله ـ تعالى ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يوجه إلى هؤلاء المشركين إنذارا حاسما ، فقال ـ تعالى ـ : (قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ ..).

أى : قل يا محمد لهؤلاء المشركين : إنى بعد أن بينت لكم ما بينت من هدايات وإرشادات أنذركم عن طريق الوحى الصادق ، بأن الساعة آتية لا ريب فيها ، فلا تستعجلوا ذلك فكل آت قريب ، وسترون فيها ما ترون من أهوال وعذاب.

وقوله (وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ) توبيخ لهم وتجهيل.

أى : ولا يسمع الصم دعاء من يدعوهم إلى ما ينفعهم ، ولا يلتفتون إلى إنذار من ينذرهم وذلك لكمال جهلهم ، وشدة عنادهم ، وانطماس بصائرهم.

ثم بين ـ سبحانه ـ حالهم عند ما ينزل بهم شيء من العذاب فقال : (وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ).

أى : ولئن أصاب هؤلاء المشركين شيء قليل من عذاب ربك يا محمد. ليقولن على سبيل التفجع والتحسر وإظهار الخضوع : يا ويلنا ـ أى يا هلاكنا ـ إنا كنا ظالمين ، ولذلك نزل بنا هذا العذاب ، وفي هذا التعبير ألوان من المبالغات منها : ذكر المس الذي يكفى في تحققه إيصال ما ، ومنها : ما في النفح من النزارة والقلة ، يقال : نفح فلان فلانا نفحة ، إذا أعطاه شيئا قليلا ومنها. البناء الدال على المرة والواحدة كما يفيد ذلك التعبير بالنفحة. أى : نفحة واحدة من عذاب ربك ، والمقصود من الآية الكريمة بيان سرعة تأثر هؤلاء المشركين ، بأقل شيء من العذاب الذي كانوا يستعجلونه ، وأنهم إذا ما نزل بهم شيء منه ، أصيبوا بالهلع والجزع ، وتنادوا بالويل والثبور والاعتراف بالظلم وتجاوز الحدود.

ثم بين ـ سبحانه ـ مظهرا من مظاهر عدله مع عباده يوم القيامة فقال : (وَنَضَعُ

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ١٢٠.

٢١٦

الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ..).

أي : ونحضر الموازين العادلة لمحاسبة الناس على أعمالهم يوم القيامة ولإعطاء كل واحد منهم ما يستحقه من ثواب أو عقاب ، دون أن يظلم ربك أحدا من خلقه.

(وإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وكَفى بِنا حاسِبِينَ) أي : وإن كانت الأعمال التي عملها الإنسان في الدنيا في نهاية الحقارة والقلة ، أتينا بها في صحيفة عمله لتوزن ، وكفى بنا عادّين ومحصين على الناس أعمالهم ، إذ لا يخفى علينا شيء منها سواء أكان قليلا أم كثيرا.

قال ابن كثير : قوله : (ونَضَعُ الْمَوازِينَ) الأكثر على أنه ميزان واحد ، وإنما جمع باعتبار تعدد الأعمال الموزونة فيه (١).

وقال القرطبي : «الموازين : جمع ميزان ، فقيل : إنه يدل بظاهره على أن لكل مكلف ميزانا توزن به أعماله ، فتوضع الحسنات في كفة ، والسيئات في كفة. وقيل : يجوز أن يكون هناك موازين للعامل الواحد ، يوزن بكل ميزان منها صنف من أعماله .. وقيل : ذكر الميزان مثل وليس ثمّ ميزان وإنما هو العدل ، والذي وردت به الأخبار ، وعليه السواد الأعظم القول الأول. و» القسط «صفة الموازين ووحد لأنه مصدر .. (٢).

واللام في قوله (لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) قيل للتوقيت. أي للدلالة على الوقت ، كقولهم : جاء فلان لخمس ليال بقين من الشهر. وقيل هي لام كي ، أي : لأجل يوم القيامة ، أو بمعنى في أي : في يوم القيامة.

وقوله ـ سبحانه ـ (فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) بيان للعدل الإلهى ، وأنه ـ سبحانه ـ لا يظلم أحدا شيئا مما له أو عليه ، أي : فلا تظلم نفس شيئا من الظلم لا قليلا ولا كثيرا.

وقوله (وإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها) تصوير لدقة الحساب ، وعدم مغادرته لشيء من أعمال الناس ، إذ الخردل حب في غاية الصغر والدقة. ومثقال الشيء : وزنه.

وأنث الضمير في قوله «بها» وهو راجع إلى المضاف الذي هو «مثقال» وهو مذكر. لاكتسابه التأنيث من المضاف إليه الذي هو «حبة من خردل».

وقوله ـ سبحانه ـ : (وكَفى بِنا حاسِبِينَ) بيان لإحاطة اللَّه ـ تعالى ـ : بعلم كل شيء. كما قال ـ تعالى ـ (إِنَّ اللَّه لا يَخْفى عَلَيْه شَيْءٌ فِي الأَرْضِ ولا فِي السَّماءِ) (٣).

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ٣٣٩.

(٢) تفسير القرطبي ج ١١ ص ٢٩٤.

(٣) سورة آل عمران الآية ٥.

٢١٧

وفي معنى هذه الآية وردت آيات كثيرة منها قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ اللَّه لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ ، وإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها ويُؤْتِ مِنْ لَدُنْه أَجْراً عَظِيماً) (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّه إِنَّ اللَّه لَطِيفٌ خَبِيرٌ) (٢).

وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد ذكرت أولئك المشركين بجانب من نعم اللَّه ـ تعالى ـ عليهم ، وحضهم على التدبر والاتعاظ ، وأنذرتهم بسوء العاقبة إذا ما استمروا في كفرهم وشركهم ، وصورت لهم دقة الحساب يوم القيامة ، وأن كل إنسان سيحاسب على عمله سواء أكان صغيرا أم كبيرا ، ولا يظلم ربك أحدا.

وبعد أن فصل ـ سبحانه ـ الحديث عن دلائل التوحيد والنبوة والمعاد ، ورد على المشركين ردا يفحمهم ، أتبع ذلك بالحديث عن قصص بعض الأنبياء تسلية للرسول صلَّى اللَّه عليه وسلَّم وتثبيتا لقلبه ، فقال ـ تعالى ـ :

(ولَقَدْ آتَيْنا مُوسى وهارُونَ الْفُرْقانَ وضِياءً وذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (٤٩) وهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناه أَفَأَنْتُمْ لَه مُنْكِرُونَ) (٥٠)

والمراد بالفرقان وبالضياء وبالذكر : التوراة ، فيكون الكلام من عطف الصفات. والمعنى : ولقد أعطينا موسى وهارون ـ عليهما السلام ـ كتاب التوراة ليكون فارقا بين الحق والباطل ، وليكون ـ أيضا ـ ضياء يستضيء به أتباعه من ظلمات الكفر والضلالة ، وليكون ذكرا حسنا لهم ، وموعظة يتعظون بما اشتمل عليه من آداب وأحكام.

قال الآلوسي : «قوله ـ سبحانه ـ : (ولَقَدْ آتَيْنا مُوسى وهارُونَ الْفُرْقانَ وضِياءً وذِكْراً ..).

نوع تفصيلي لما أجمل في قوله ـ تعالى ـ قبل ذلك : (وما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ).

__________________

(١) سورة النساء الآية ٤٠.

(٢) سورة لقمان الآية ١٦.

٢١٨

وتصديره بالتوكيد القسمي لإظهار كمال الاعتناء بمضمونه.

والمراد بالفرقان : التوراة ، وكذا بالضياء والذكر. والعطف كما في قوله :

إلى الملك القرم وابن الهمام

وليث الكتيبة في المزدحم

وقيل : الفرقان هنا : النصر على الأعداء .. والضياء التوراة أو الشريعة. وعن الضحاك : أن الفرقان فرق البحر .. (١).

وخص المتقين بالذكر ، لأنهم هم الذين انتفعوا بما اشتمل عليه هذا الكتاب من هدايات.

وقوله ـ تعالى ـ : (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ ..) صفة مدح للمتقين.

أي : آتينا موسى وهارون الكتاب الجامع لصفات الخير ليكون هداية للمتقين ، الذين من صفاتهم أنهم يخافون ربهم وهو غير مرئى لهم ، ويخشون عذابه في السر والعلانية (وهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ) أي : وهم من الساعة وما يقع فيها من حساب دقيق خائفون وجلون وليسوا كأولئك الكافرين الجاحدين الذين يستعجلون حدوثها.

وخصت الساعة بالذكر مع أنها داخلة في الإيمان بالغيب ، للعناية بشأنها حيث إنها من أعظم المخلوقات ، وللردّ على من أنكرها واستعجل قيامها.

واسم الإشارة في قوله : (وهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناه) للقرآن الكريم ، أي : وهذا القرآن الذي أنزلناه على عبدنا محمد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم هو ذكر وشرف لكم ، وهو كذلك كثير الخيرات والبركات لمن اتبع توجيهاته.

والاستفهام في قوله : (أَفَأَنْتُمْ لَه مُنْكِرُونَ) للتوبيخ والإنكار ، والخطاب للمشركين.

أي : كيف تنكرون كونه من عند اللَّه مع أنكم بمقتضى فصاحتكم تدركون من بلاغته ، ما لا يدركه غيركم ، ومع أنكم تعترفون بنزول التوراة على موسى وهارون.

إن إنكاركم لكون القرآن من عند اللَّه ، لهو دليل واضح على جحودكم للحق بعد أن تبين لكم.

قال الجمل : وتقديم الجار والمجرور على المتعلق ، دل على التخصيص ، أي : أفأنتم للقرآن خاصة دون كتاب اليهود تنكرون؟ فإنهم كانوا يراجعون اليهود فيما عنّ لهم من المشكلات (٢).

ثم تسوق السورة بعد ذلك بشيء من التفصيل قصة إبراهيم ـ عليه السلام ـ مع قومه ،

__________________

(١) تفسير الآلوسي ج ١٧ ص ٥٧.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ١٣٢.

٢١٩

وما دار بينه وبينهم من محاورات ومحاولات فتقول :

ولَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَه مِنْ قَبْلُ وكُنَّا بِه عالِمِينَ (٥١) إِذْ قالَ لأَبِيه وقَوْمِه ما هذِه التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (٥٢) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (٥٣) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٥٤) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (٥٥) قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ والأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٥٦) وتَاللَّه لأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (٥٧) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْه يَرْجِعُونَ (٥٨)

وقصة إبراهيم ـ عليه السلام ـ مع قومه ، قد وردت في سور متعددة منها : سورة البقرة ، والعنكبوت ، والصافات.

وهنا تحدثنا سورة الأنبياء عن جانب من قوة إيمانه ـ عليه السلام ـ ومن سلامة حجته ومن تصميمه على تنفيذ ما يرضى اللَّه ـ تعالى ـ بالقول والعمل.

والمراد بالرشد : الهداية إلى الحق والبعد عن ارتكاب ما نهى اللَّه ـ تعالى ـ عنه.

والمراد بقوله ـ تعالى ـ * (مِنْ قَبْلُ) * أي : من قبل أن يكون نبيا.

والمعنى : ولقد آتينا ـ بفضلنا وإحساننا ـ إبراهيم ـ عليه السلام ـ الرشد إلى الحق ، والهداية إلى الطريق المستقيم ، «من قبل» أي : من قبل النبوة بأن جنبناه ما كان عليه قومه من كفر وضلال.

وقد اكتفى الإمام ابن كثير بهذا المعنى في قوله ـ تعالى ـ (مِنْ قَبْلُ) فقال : يخبر ـ تعالى ـ عن خليله إبراهيم ـ عليه السلام ـ ، أنه آتاه رشده من قبل.

أي : من صغره ألهمه الحق والحجة على قومه ، كما قال ـ تعالى ـ : (وتِلْكَ حُجَّتُنا

٢٢٠