التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٩

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٩

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0683-3
الصفحات: ٣٥٥

وبعد : فهذا عرض إجمالى لسورة الأنبياء ، ومنه نرى أنها قد أقامت ألوانا من الأدلة على وحدانية الله ـ تعالى ـ ، وعلى صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يبلغه عن ربه ، وعلى أن يوم القيامة حق ...

كما حكت شبهات المشركين وردت عليها بما يبطلها ، كما ساقت نماذج متعددة من قصص الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام.

ونسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

د. محمد سيد طنطاوى

١٨١

التفسير

قال الله تعالى :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٣) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤) بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥) ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ)(٦)

وقوله ـ سبحانه ـ : (اقْتَرَبَ) من القرب الذي هو ضد البعد.

والمعنى : قرب الزمن الذي يحاسب فيه الناس على أعمالهم في الدنيا ، والحال أن الكافرين منهم في غفلة تامة عن هذا الحساب ، وفي إعراض مستمر عن الاستعداد له بالإيمان والعمل الصالح.

قال الإمام ابن كثير : هذا تنبيه من الله ـ عزوجل ـ على اقتراب الساعة ودنوها ، وأن الناس في غفلة عنها ، أى لا يعملون لها ، ولا يستعدون من أجلها.

قال ـ تعالى ـ : (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ ...) وقال : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَ

١٨٢

الْقَمَرُ* وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) (١).

وعبر سبحانه ـ بالقرب مع أنه قد مضى على نزول هذه الآية وأمثالها أكثر من أربعة عشر قرنا ، لأن كل آت وإن طالت أوقات استقباله وترقبه ، قريب الوقوع ، ولأن ذلك الوقت وإن كان كبيرا في عرف الناس ، إلا أنه عند الله ـ تعالى ـ قليل ، كما قال ـ سبحانه ـ : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ ، وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (٢).

وقال ـ تعالى ـ : (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً* وَنَراهُ قَرِيباً) (٣).

وقال ـ تعالى ـ : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ ..) بلفظ العموم ، مع أن ما بعده من ألفاظ الغفلة والإعراض يشعر بأن المراد بهم الكافرون ، للتنبيه على أن الحساب سيشمل الجميع ، إلا أنه بالنسبة للكافرين سيكون حسابا عسيرا.

قال صاحب الكشاف : وصفهم بالغفلة مع الإعراض ، على معنى : أنهم غافلون عن حسابهم ساهون لا يتفكرون في عاقبتهم ، ولا يتفطنون لما ترجع إليه خاتمة أمرهم ، مع اقتضاء عقولهم أنه لا بد من جزاء للمحسن والمسيء. وإذا قرعت لهم العصا ، ونبهوا عن سنة الغفلة ، وفطنوا لذلك بما يتلى عليهم من الآيات والنذر ، أعرضوا وسدوا أسماعهم ونفروا (٤).

وفي التعبير عن اقتراب يوم القيامة باقتراب الحساب ، زيادة في الترهيب والتخويف ، وفي الحض على الاستعداد لهذا اليوم ، لأنه يوم يحاسب فيه الناس على أعمالهم في الدنيا حسابا دقيقا ، ولن تملك فيه نفس لنفس شيئا ، وإنما يجازى فيه كل إنسان بحسب عمله.

وقوله ـ سبحانه ـ : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) بيان لمواقف هؤلاء الغافلين اللاهين ممن يذكرهم بأهوال ذلك اليوم.

والمراد بالذكر : ما ينزل من آيات القرآن على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والمراد بالمحدث : الحديث العهد بالنزول على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو صفة لذكر.

أى : أن هؤلاء الغافلين المعرضين عن الاستعداد ليوم الحساب ، لا يصل إلى أسماعهم شيء من القرآن الكريم ، الذي أنزله الله ـ تعالى ـ على قلب نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم آية فآية ، أو سورة بعد سورة في أوقات متقاربة ، إلا استمعوا إلى هذا القرآن المحدث تنزيله على الرسول

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ٣٢٤.

(٢) سورة الحج الآية ٤٧.

(٣) سورة المعارج الآية ٦ ، ٧.

(٤) تفسير الكشاف ج ٣ ص ١٠١.

١٨٣

صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم يلعبون ، دون أن يحرك منهم عاطفة نحو الإيمان به ، فهم لانطماس بصيرتهم ، وقسوة قلوبهم ، وجحود نفوسهم للحق ، لا يتعظون ولا يعتبرون.

وقوله : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ ..) يشعر بأن ما نزل من قرآن قد وصل إليهم دون أن يتعبوا أنفسهم في الحصول عليه ، بل أتاهم وهم في أماكنهم بدون سعى إليه.

وقوله (ذِكْرٍ) فاعل و (مِنْ) مزيدة للتأكيد.

وقوله (مِنْ رَبِّهِمْ) متعلق بمحذوف صفة لذكر ، و (مِنْ) لابتداء الغاية أى : ما يأتيهم من ذكر كائن من ربهم وخالقهم ورازقهم ، في حال من الأحوال ، إلا استمعوه وهم هازلون مستهترون.

وقوله : (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) حال أخرى من أحوالهم الغريبة التي تدل على نهاية طغيانهم وفجورهم ، لأنهم بجانب استماعهم إلى ما ينزل من القرآن بلعب وغفلة ، تستقبله قلوبهم ـ التي هي محل التدبر والتفكر ـ بلهو واستخفاف.

ثم حكى ـ سبحانه ـ لونا من ألوان مكرهم وخبثهم فقال : (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) والنجوى : المسارة بالحديث ، وإخفاؤه عن الناس.

أى : بعد أن استمعوا إلى القرآن بإعراض ولهو واستهتار ، اختلى بعضهم ببعض ، وبالغوا في إخفاء ما يضمرونه من سوء نحو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونحو ما جاء به من عند الله ـ تعالى ـ ، وحاولوا أن يظهروا ذلك فيما بينهم فحسب ، مبالغة منهم في المكر السيئ الذي حاق بهم.

وقوله ـ سبحانه ـ : (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ. أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) بيان لما قالوه في تناجيهم من سوء.

والاستفهام للنفي والإنكار.

أى : أنهم قالوا في تناجيهم : ما هذا الذي يدعى النبوة ، وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا بشر مثلكم ، ولا يمكن أن يكون رسولا ، وما جاءنا به إنما هو السحر بعينه ، فكيف تذهبون إليه ، وتقبلون منه ما يدعيه ، والحال أنكم تعاينون بأبصاركم سحره.

وما حملهم على هذا القول الباطل إلا توهمهم أن الرسول لا يكون من البشر ، وأن كل ما يظهر على يد مدعى النبوة من البشر من خوارق ، إنما هو من قبيل السحر.

قال الآلوسى : وأرادوا بقولهم : «ما هذا إلا بشر مثلكم» أى : من جنسكم ، وما أتى به سحر ، تعلمون ذلك فتأتونه وتحضرونه على وجه الإذعان والقبول وأنتم تعاينون أنه سحر. قالوا ذلك بناء على ما ارتكز في اعتقادهم الزائغ أن الرسول لا يكون إلا ملكا ، وأن كل ما يظهر على يد

١٨٤

البشر من الخوارق من قبيل السحر. وعنوا بالسحر. هنا القرآن الكريم ، ففي ذلك إنكار لحقيته على أبلغ وجه ، قاتلهم الله ـ تعالى ـ : أنّى يؤفكون. وإنما أسروا ذلك ، لأنه كان على طريق توثيق العهد ، وترتيب مبادئ الشر والفساد وتمهيد مقدمات المكر والكيد في هدم أمر النبوة. وإطفاء نور الدين ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره المشركون (١).

هذا ، ودعوى المشركين أن الرسول لا يكون بشرا ، قد حكاها القرآن في كثير من آياته ، ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى ، إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً) (٢).

وقد رد الله ـ تعالى ـ عليهم هذه الدعوى الكاذبة في كثير من آيات كتابه ـ أيضا ، ومن ذلك قوله عزوجل ـ : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى ..) (٣).

ثم حكى ـ سبحانه ـ بعد ذلك ما لقنه لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الرد عليهم ، فقال : (قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).

أى : قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الرد على ما تناجوا به سرا : ربي الذي أرسلنى لإخراجكم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان. يعلم ما تقولونه سواء كان سرا أم جهرا ، وسواء أكان القائل موجودا في السماء أم في الأرض ، وهو وحده السميع لجميع ما يسمع ، العليم بكل شيء في هذا الكون.

وما دام الأمر كذلك فأنا سأمضى في طريقي مبلغا رسالته ـ سبحانه ـ ، أما أنتم فسترون سوء عاقبتكم إذا ما سرتم في طريق الكفر والعناد.

وفي قراءة سبعية بلفظ قل على الأمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

أى : قل لهم ـ أيها الرسول الكريم ـ ربي يعلم القول في السماء والأرض وهو السميع العليم.

وقوله ـ تعالى ـ : (بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ ، بَلِ افْتَراهُ ، بَلْ هُوَ شاعِرٌ) إضراب من جهته ـ تعالى ـ ، وانتقال من حكاية قولهم السابق (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ..) إلى حكاية أقوال أخرى باطلة قالوها في شأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي شأن ما جاء به.

أى : أن هؤلاء الكافرين لم يكتفوا بما قالوه قبل ذلك في شأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أنه

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٧ ص ٩.

(٢) سورة الإسراء الآية ٩٤.

(٣) سورة يوسف الآية ١٠٩.

١٨٥

بشر وما جاء به سحر ، بل أضافوا إلى ذلك أن القرآن أضغاث أحلام. أى : أخلاط كأخلاط الأحلام ، وأنه أباطيل لا حقيقة لها.

والأضغاث : جمع ضغث. وأصله ما جمع من أنواع شتى من النبات ثم حزم في حزمة واحدة.

والأحلام : جمع حلم ـ بضم الحاء وسكون اللام ـ وهو ما يراه النائم مما ليس بحسن.

وقد استعير هذا التركيب لما يراه النائم من وساوس وأحلام خلال نومه (بَلِ افْتَراهُ) أى : اختلق هذا القرآن من عند نفسه.

(بَلْ هُوَ شاعِرٌ) أى : أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم شاعر ـ في زعمهم ـ وما أتى به هو نوع من الشعر التخييلى الذي لا حقيقة له.

ثم أضافوا إلى هذا التخبط واضطراب قولهم : (فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ).

ومرادهم بالآية هنا : آية كونية ، والجملة جواب لشرط محذوف يفصح عنه السياق ، والتقدير : إن لم يكن كما قلنا في شأنه من أنه شاعر بل كان رسولا حقا فليأتنا بخارق يدل على صدقه كناقة صالح ، وعصا موسى ، وإحياء عيسى للأموات .. فإن المرسلين السابقين فعلوا ذلك.

وكأنهم ـ لانطماس بصائرهم وشدة جهالاتهم ـ لا يعتبرون القرآن الذي هو آية الآيات ـ لا يعتبرونه آية ومعجزة تدل على صدقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فأنت ترى أن هذه الآية الكريمة قد صورت تخبط هؤلاء المشركين تصويرا حكيما ، شأنهم في ذلك شأن الحائر المضطرب الذي لا يستطيع الثبات على قرار ، بل هو لتمحله وتعلله ينتقل من دعوى باطلة إلى أخرى أشد منها بطلانا.

وقد نفى القرآن عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كل هذه الدعاوى الباطلة ، ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ : (وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ* وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ* تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١).

وقوله ـ سبحانه ـ (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ* لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ) (٢).

__________________

(١) سورة الحاقة الآيات ٤١ ـ ٤٣.

(٢) سورة يس الآيتان ٦٩ ـ ٧٠.

١٨٦

ثم بين ـ سبحانه ـ جانبا من مظاهر فضله ورحمته بهؤلاء الذين أرسل إليهم رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ).

أى : أن هؤلاء الجاهلين من قومك ـ أيها الرسول الكريم ـ قد طلبوا منك آية كونية كالتي جاء بها موسى وعيسى وصالح .. وهذه الخوارق عند ما جاء بها هؤلاء الرسل ولم يؤمن بها أقوامهم أهلكنا هؤلاء الأقوام ، وفقا لسنتنا التي لا تتخلف في إهلاك من يكذبون بآياتنا ، ولو أنا أعطيناك هذه الخوارق ولم يؤمن بها قومك لأهلكناهم كما أهلكنا السابقين ، لذا اقتضت حكمتنا ورحمتنا أن نمنع عنهم ما طلبوه ، لأنهم بشر كالسابقين. ومادام السابقون لم يؤمنوا بهذه الخوارق فهؤلاء أيضا لن يؤمنوا بها.

فالاستفهام في قوله : (أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ) للإنكار. أى : أن هؤلاء الكافرين من أمتك ـ أيها الرسول الكريم ـ لن يؤمنوا بهذه الخوارق التي طلبوها متى جاءتهم لأنهم لا يقلون عتوا وعنادا عن السابقين الذين لم يؤمنوا بها فأهلكهم الله.

وصدق الله إذ يقول : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ* وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ أن حكمته قد اقتضت أن يكون جميع الرسل من البشر وأن يعيشوا الحياة التي تقتضيها الطبيعة البشرية ، وأن يؤيدهم الله ـ تعالى ـ بالمعجزات الدالة على صدقهم ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (٨) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ)(٩)

أى : وما أرسلنا قبلك ـ أيها الرسول الكريم ـ إلى الأمم السابقة إلا رسلا من البشر ، ليعيشوا حياة البشر ، ويتمكنوا من التعامل والتخاطب والتفاهم مع من هم من جنسهم ، ولو كان الرسل من غير البشر لما كانت هناك وشيجة ورابطة بينهم وبين أقوامهم.

__________________

(١) سورة يونس الآيتان ٩٦ ـ ٩٧.

١٨٧

وهذه الجملة رد مفحم على المشركين الجاهلين الذين استبعدوا أن يكون الرسول بشرا وقالوا قبل ذلك : (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ).

وقوله ـ تعالى ـ (نُوحِي إِلَيْهِمْ) استئناف مبين لكيفية الإرسال.

أى : اقتضت حكمتنا أن يكون الرسل من الرجال ، وأن نبلغهم ما نكلفهم به عن طريق الوحى المنزل إليهم من جهتنا.

وقوله ـ سبحانه ـ : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) توبيخ لهم وتجهيل ، لأنهم قالوا ما قالوا بدون تعقل أو تدبر.

والمراد بأهل الذكر : علماء أهل الكتاب الذين كان المشركون يرجعون إليهم في أمور دينهم.

والفاء في قوله : (فَسْئَلُوا ..) لترتيب ما بعدها على ما قبلها. وجواب الشرط محذوف لدلالة الكلام عليه.

أى : مادامت قد بلغت بكم الجهالة أن تستبعدوا أن يكون الرسول بشرا فاسألوا أهل العلم في ذلك ، فسيبينون لكم أن الرسل السابقين لم يكونوا إلا رجالا.

قال القرطبي : قوله ـ تعالى ـ : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) يريد أهل التوراة والإنجيل الذين آمنوا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسماهم أهل الذكر ، لأنهم كانوا يذكرون خبر الأنبياء ، مما لم تعرفه العرب ، وكان كفار قريش يراجعون أهل الكتاب في أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال ابن زيد : أراد بالذكر : القرآن. أى : فاسألوا المؤمنين العالمين من أهل القرآن .. (١).

ثم أكد ـ سبحانه ـ هذه الحقيقة وهي كون الرسل من البشر فقال : (وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ).

والضمير في (جَعَلْناهُمْ) يعود إلى الرسل ، والجسد مصدر جسد الدم يجسد ـ من باب فرح ـ إذا التصق بغيره ، وأطلق على الجسم جسد ، لالتصاق أجزائه بعضها ببعض ، ويطلق هذا اللفظ على الواحد المذكر وغيره ولذلك أفرد ، أو هو أفرد لإرادة الجنس.

أى : وما جعلنا الرسل السابقين عليك يا محمد أجسادا لا تأكل ولا تشرب كالملائكة ، وإنما جعلناهم مثلك يأكلون ويشربون ويتزوجون ويتناسلون ويعتريهم ما يعترى البشر من

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١١ ص ٢٧٢.

١٨٨

سرور وحزن ، ويقظة ونوم .. وغير ذلك مما يحسه البشر.

وما جعلناهم ـ أيضا ـ خالدين في هذه الحياة بدون موت ، وإنما جعلنا لأعمارهم أجلا محددا تنتهي حياتهم عنده بدون تأخير أو تقديم.

قال ـ تعالى ـ : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ* ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ ..) بيان لسنة الله ـ تعالى ـ الجارية مع رسله ـ عليهم الصلاة والسلام ـ.

أى : ثم صدقنا هؤلاء الرسل ما وعدناهم به من جعل العاقبة لهم (فَأَنْجَيْناهُمْ) من العذاب الذي أنزلناه بأعدائهم. وأنجينا معهم (مَنْ نَشاءُ) إنجاءهم من المؤمنين بهم.

(وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ) الذين تجاوزوا الحدود في كفرهم وتطاولهم على الرسل الكرام ، وإعراضهم عن دعوتهم.

وإلى هنا نرى الآيات الكريمة من أول السورة إلى هنا ، قد أنذرت الناس باقتراب يوم الحساب ، وحذرتهم من الغفلة عنه ، ومن الإعراض عن الاستعداد له بالإيمان والعمل الصالح ، وحكت ما قاله المشركون من تهم باطلة تتعلق بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبما جاء به من عند ربه ـ تعالى ـ وردت عليها بما يزهقها ، ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون.

ثم بين ـ سبحانه ـ أن ما أنزله على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو خير الآيات وأخلدها وأشرفها ، وأنه يشرف الأمة التي تنتسب إليه ، وأن الأمم السابقة التي كذبت بالخوارق والمعجزات التي جاء بها الرسل ـ عليهم‌السلام ـ أهلكها الله ـ تعالى ـ هلاك استئصال ـ فقال ـ تعالى ـ :

(لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠) وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (١١) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (١٢) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ

__________________

(١) سورة الزمر الآية ٣٠ ، ٣١.

١٨٩

تُسْئَلُونَ (١٣) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (١٤) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ)(١٥)

قال الآلوسى : «قوله ـ تعالى ـ : (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً ..) كلام مستأنف لتحقيق حقية القرآن العظيم ، الذي ذكر في صدر السورة إعراض الناس عما يأتيهم من آياته ، واستهزاؤهم به ، واضطرابهم في أمره ، وبيان علو مرتبته ، إثر تحقيق رسالته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ببيان أنه كسائر الرسل الكرام ، وقد صدر الكلام بالتوكيد القسمي ، إظهارا لمزيد الاعتناء بمضمونه وإيذانا ، بأن المخاطبين في أقصى مراتب النكير ، والخطاب لقريش ، وجوز أن يكون لجميع العرب.» (١).

والمعنى : لقد أنزلنا إليكم يا معشر العرب عن طريق رسولنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتابا عظيم الشأن ، نير البرهان ، مشتملا على ما يسعدكم ، وهذا الكتاب (فِيهِ ذِكْرُكُمْ) أى : فيه شرفكم ، وعلو منزلتكم ، وحسن موعظتكم ، وشفاء صدوركم.

(أَفَلا تَعْقِلُونَ) ذلك ، مع أن هذا الأمر واضح ، ولا يحتاج إلى جدال أو مناقشة.

فالاستفهام لإنكار عدم تدبرهم في شأن هذا الكتاب الذي أنزله الله ـ تعالى ـ ليظفروا بسببه بالذكر الجميل ، وبالموعظة الحسنة ، كما قال ـ تعالى ـ (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ) (٢).

وإن من مظاهر كون القرآن الكريم فيه ذكر العرب وشرفهم ، أنه نزل بلغتهم ، وأنه المعجزة الباقية الخالدة بخلاف غيره من المعجزات التي أيد الله ـ تعالى ـ بها الرسل السابقين ، وأنه الكتاب الذي قادوا به البشرية قرونا طويلة. عند ما حملوه إلى الناس ، فقرأوه عليهم ، وشرحوا لهم أحكامه وآدابه وتشريعاته .. وما أصيب العرب في دينهم ودنياهم إلا يوم أن تخلوا عن العمل بهدايات هذا الكتاب ، وقصروا في تبليغه إلى الناس.

ثم بين ـ سبحانه ـ ما أنزله بالقوم الظالمين فقال : (وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ).

و «كم» هنا خبرية مفيدة للتكثير ، وهي في محل نصب على أنها مفعول مقدم «لقصمنا».

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٧ ص ١٤.

(٢) سورة الزخرف الآية ٤٤.

١٩٠

وأصل القصم : كسر الشيء حتى ينقطع وينفصل عن غيره ، يقال : قصم فلان ظهر فلان ، إذا كسره حتى النهاية ، بخلاف الفصم فهو صدع الشيء من غير قطع وانفصال.

قال القرطبي : «والقصم : الكسر ، يقال : قصمت ظهر فلان ، وانقصمت سنه ، إذا انكسرت.

والمعنى ها هنا به الإهلاك. وأما الفصم ـ بالفاء ـ فهو الصدع في الشيء من غير بينونة» (١).

أى : وكثيرا من القرى الظالمة التي تجاوز أهلها حدود الحق ، ومردوا على الكفر والضلال ، أبدناها مع أهلها ، وعذبناها عذابا نكرا ، بسبب ظلمهم وبغيهم ، وأنشأنا من بعدهم قوما آخرين ليسوا مثلهم.

وأوقع ـ سبحانه ـ فعل القصم على القرى ، للإشعار بأن الهلاك قد أصابها وأصاب أهلها معها. فالكل قد دمره ـ سبحانه ـ تدميرا.

أما عند الإنشاء فقد أوقع الفعل على القوم فقال : (وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ) للإيماء إلى أن هؤلاء القوم الآخرين ، الذين لم يكونوا أمثال السابقين ، هم الذين ينشئون القرى ويعمرونها.

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) (٢).

ثم صور ـ سبحانه ـ حال هؤلاء الظالمين عند ما أحسوا بالعذاب وهو نازل بهم فقال : (فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ).

وقوله : (أَحَسُّوا) من الإحساس. وهو إدراك الشيء بالحاسة. يقال : أحس فلان الشيء ، إذا علمه بالحس ، وأحس بالشيء ، إذا شعر به بحاسته.

وقوله : (يَرْكُضُونَ) من الركض وهو السير السريع ، وأصله : أن يضرب الرجل دابته برجله ليحثها على الجري والسرعة في المشي. والمقصود به هنا : الهرب بسرعة.

أى : فلما أحس هؤلاء الظالمون عذابنا المدمر ، وأيقنوا نزوله بهم ، وعلموا ذلك علما مؤكدا ، إذا هم يخرجون من قريتهم (يَرْكُضُونَ) أى : يهربون بسرعة وذعر ، حتى لكأنهم من اضطرابهم وخوفهم يظنون أن ذلك سينجيهم.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١١ ص ٢٧٤.

(٢) سورة الإسراء الآية ١٧.

١٩١

وإذا هنا فجائية ، والجملة بعدها جواب «لما».

وقوله ـ سبحانه ـ : (لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ) حكاية لما تقوله لهم الملائكة وهم يركضون هربا ـ على سبيل التهكم والاستهزاء.

أى : يقال لهم من جهة الملائكة أو من جهة المؤمنين لا تركضوا هاربين (وَارْجِعُوا إِلى) قريتكم وإلى (ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ) أى : وإلى ما نعمتم فيه من العيش الهنيء. والخير الوفير ، الذي أبطركم وجعلكم تجحدون النعم ، ولم تستعملوها فيما خلقت له.

فقوله : (أُتْرِفْتُمْ) من الترفه ـ بالتاء المشددة مع الضم ـ وهي النعمة والطعام الطيب. يقال : ترف فلان ـ كفرح ـ إذا تنعم. وفلان أترفته النعمة ، إذا أطغته أو نعمته.

وقوله : (وَمَساكِنِكُمْ) معطوف على (ما).

أى : لا تهربوا وارجعوا إلى ما نعمتم فيه من العيش الهنيء ، وإلى مساكنكم التي كنتم تسكنونها ، وتتفاخرون بها.

(لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ) أى يقصدكم غيركم لسؤالكم عما نزل بكم ، فتجيبوا عن علم ومشاهدة.

قال صاحب الكشاف : «قوله (لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ) تهكم بهم وتوبيخ ، أى : ارجعوا إلى نعيمكم ومساكنكم لعلكم تسألون غدا عما جرى عليكم ونزل بأموالكم ومساكنكم. فتجيبوا السائل عن علم ومشاهدة.

أو ارجعوا واجلسوا كما كنتم في مجالسكم ، وترتبوا في مراتبكم حتى يسألكم حشمكم وعبيدكم ، ومن تملكون أمره. وينفذ فيه أمركم ونهيكم ، ويقول لكم : بم تأمرون؟ وبما ذا ترسمون؟

وكيف نأتى ونذر كعادة المنعمين المخدّمين.

أو يسألكم الناس في أنديتكم .. ويستشيرونكم في المهمات. ويستضيئون بآرائكم.

أو يسألكم الوافدون عليكم ، ويستمطرون سحائب أكفكم .. قيل لهم ذلك تهكما إلى تهكم ، وتوبيخا إلى توبيخ» (١).

وهنا أدرك هؤلاء الظالمون ، أن الأمر جد لا هزل ، وأن العذاب نازل بهم لا محالة ، وأن القائلين لهم لا تركضوا ، إنما يتهكمون بهم. فأخذ أولئك الظالمون يتفجعون ويتحسرون قائلين : (يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ).

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ١٠٦.

١٩٢

والويل : الفضيحة والبلية والمصيبة التي يعقبها الهلاك. وهي كلمة جزع وتحسر.

وتستعمل عند ما تحيط بالإنسان داهية عظيمة ، وكأن المتحسر لنزول مصيبة به ، ينادى ويلته ويطلب حضورها بعد تنزيلها منزلة من ينادى.

أى : قالوا عند ما تيقنوا أن الهلاك نازل بهم : يا هلاكنا إنا كنا ظالمين لأنفسنا ، مستوجبين للعذاب. بسبب إعراضنا عن الحق ، وتكذيبنا لمن جاء به.

واسم الإشارة في قوله ـ تعالى ـ : (فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ) يعود إلى الكلمات التي قالوها على سبيل التحسر عند ما يئسوا من الخلاص والهرب ، وتأكدوا من الهلاك ، وهي قولهم : (يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ).

أى : فما زالوا يرددون تلك الكلمات بتفجع وتحسر واستعطاف.

وسميت هذه الكلمات دعوى ، لأن المولول كأنه يدعو الويل قائلا : أيها الويل هذا أوانك فأقبل نحوي.

وقوله : (حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ) بيان لما آل إليه حالهم.

وخامدين : من الخمود بمعنى الهمود والانطفاء والانتهاء. يقال : خمدت النار تخمد خمدا وخمودا ، إذا سكن لهيبها ، وانطفأ شررها.

أى : فما زالت تلك كلماتهم حتى جعلناهم في الهمود والهلاك كالنبات المحصود بالمناجل ، وكالنار الخامدة بعد اشتعالها.

وهكذا تكون عاقبة الظالمين. وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.

ثم ساق ـ سبحانه ـ بعد ذلك ما يدل على قدرته ووحدانيته ، وعلى أن من في السموات والأرض لا يستكبرون عن عبادته ـ تعالى ـ ، فقال ـ عزوجل ـ :

(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (١٦) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (١٧) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (١٨) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ

١٩٣

عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ)(٢٠)

والمعنى : إننا لم نخلق السموات والأرض وما بينهما من مخلوقات لا يعلمها إلا الله ، لم نخلق ذلك عبثا ، وإنما خلقنا هذه المخلوقات بحكمتنا السامية ، وقدرتنا النافذة ، ومشيئتنا التي لا يقف في وجهها شيء.

وقوله ـ تعالى ـ : (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) استئناف مقرر لمضمون ما قبله ، من أن خلق السموات والأرض وما بينهما لم يكن عبثا ، وإنما لحكم بالغة ، مستتبعة لغايات جليلة ، ومنافع عظيمة.

و «لو» هنا حرف امتناع لامتناع. أى : امتناع وقوع فعل الجواب لامتناع وقوع فعل الشرط.

واللهو : الترويح عن النفس بما لا تقتضيه الحكمة ، ولا يتناسب مع الجد ، وهو قريب من العبث الباطل تقول : لهوت بهذا الشيء ألهو لهوا ، إذا تشاغلت به عن الجد ، ويطلقه بعضهم على الولد والزوجة والمرأة.

أى : لو أردنا ـ على سبيل الفرض والتقدير ـ أن نتخذ ما نتلهى به ، لاتخذناه من عندنا ومن جهتنا دون أن يمنعنا أحد مما نريده ولكنا لم نرد ذلك لأنه مستحيل علينا استحالة ذاتية ، فيستحيل علينا أن نريده.

فالآية الكريمة من باب تعليق المحال على المحال ، لأن كلا الأمرين يتنافى مع حكمة الله ـ تعالى ـ ومع ذاته الجليلة.

وقوله : (إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) تأكيد لامتناع إرادة اللهو ، و (أَنْ) نافية ، أى : ما كنا فاعلين ذلك ، لأن اتخاذ اللهو يستحيل علينا.

وقوله ـ سبحانه ـ : (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) إضراب عن إرادة اتخاذ اللهو ، وإثبات لما تقتضيه ذاته ـ تعالى ـ مما يخالف ذلك.

والقذف : الرمي بسرعة. والاسم القذاف ـ ككتاب ـ ، وهو سرعة السير ، ومنه قولهم : ناقة قذاف ـ بكسر القاف ـ إذا كانت متقدمة على غيرها في السير.

ويدمغه : أى. يمحقه ويزيله. قال القرطبي : وأصل الدمغ شج الرأس حتى يبلغ الدماغ.

أى : ليس من شأننا أن نتخذ لهوا ، وإنما الذي من شأننا وحكمتنا ، أن نلقى بالحق الذي

١٩٤

أرسلنا به رسلنا ، على الباطل الذي تشبث به الفاسقون (فَيَدْمَغُهُ) أى : فيقهره ويهلكه ويزيله إزالة تامة.

والتعبير القرآنى البليغ ، يرسم هذه السنة الإلهية في صورة حسية متحركة حتى لكأنما الحق قذيفة تنطلق بسرعة فتهوي على الباطل فتشق أم رأسه ، فإذا هو زاهق زائل.

قال الآلوسى : وفي إذا الفجائية ، والجملة الاسمية ، من الدلالة على كمال المسارعة في الذهاب والبطلان مالا يخفى ، فكأنه زاهق من الأصل (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) وعيد شديد لأولئك الكافرين الذين نسبوا إلى الله ـ تعالى ـ مالا يليق به ، ووصفوه بأن له صاحبة وولدا (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً).

أى : ولكم ـ أيها الضالون المكذبون ـ الويل والهلاك ، من أجل وصفكم له ـ تعالى ـ بما لا يليق بشأنه الجليل.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) استئناف مؤكد لما قبله من أن جميع المخلوقات خاضعة لقدرته ـ تعالى ـ.

أى : وله وحده ـ سبحانه ـ جميع من في السموات والأرض ، خلقا ، وملكا ، وتدبيرا ، وتصرفا وإحياء ، وإماتة ، لا يخرج منهم أحد عن علمه وقدرته ـ عزوجل ـ.

ثم بين ـ سبحانه ـ نماذج من عباده الطائعين له ، بعد أن حكى أقوال أولئك الضالين ، فقال : (وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ* يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ).

والاستحسار : الكلل والتعب. يقال : حسر البصر يحسر حسورا ـ من باب قعد ـ إذا تعب من طول النظر ، ومنه قوله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) أى : كليل متعب.

أى : ومن عنده من مخلوقاته وعلى رأسهم الملائكة المقربون ، لا يستكبرون عن عبادته ـ سبحانه ـ بل يخضعون له خضوعا تاما (وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) أى : ولا يكلون ولا يتعبون.

بل هم (يُسَبِّحُونَ) الله ـ تعالى ـ ويحمدونه ويكبرونه. طوال الليل والنهار بدون فتور

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٧ ص ٢٠.

١٩٥

أو تراخ أو تقصير. يقال : فتر فلان عن الشيء يفتر فتورا ، إذا سكن بعد حدة ، ولان بعد شدة ، ويقال : فتر الماء ـ من باب قعد ـ إذا سكن حره فهو فاتر.

قالوا : وذلك لأن تسبيح الملائكة لله ـ تعالى ـ يجرى منهم مجرى التنفس منا ، فهو سجية وطبيعة فيهم وكما أن اشتغالنا لا يمنعنا من الكلام ، فكذلك اشتغالهم بالتسبيح لا يمنعهم من سائر الأعمال (١).

وبعد أن بين ـ سبحانه ـ أن من مخلوقاته من يقوم بتسبيحه وعبادته بدون انقطاع أو فتور ، أتبع ذلك بتوبيخ المشركين وبإقامة الأدلة على وحدانيته ، واستحالة أن يكون هناك من يشاركه في ألوهيته فقال ـ تعالى ـ :

(أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (٢١) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٢٢) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (٢٣) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٤) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ)(٢٥)

قال الإمام الرازي : اعلم أن الكلام من أول السورة إلى هنا كان في النبوات وما يتصل بها من الكلام سؤالا وجوابا ، وأما هذه الآيات فإنها في بيان التوحيد ونفى الأضداد والأنداد ..» (٢).

والاستفهام في قوله (أَمِ اتَّخَذُوا) .. للإنكار والتوبيخ. وقوله : (يُنْشِرُونَ) من النشر بمعنى الإحياء والبعث. يقال : أنشر الله ـ تعالى ـ الموتى : إذا بعثهم بعد موتهم.

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ١٢٣.

(٢) تفسير الفخر الرازي ج ٦ ص ٩١.

١٩٦

والمعنى : إن هؤلاء الضالين قد أشركوا مع الله ـ تعالى ـ آلهة أخرى في العبادة ، فهل هذه الآلهة التي اتخذوها تستطيع أن تعيد الحياة إلى الأموات؟

كلا إنها لا تستطيع ذلك بإقرارهم ومشاهدتهم ، ومادام الأمر كذلك فكيف أباحوا لأنفسهم أن يتخذوا آلهة لا تستطيع أن تفعل شيئا من ذلك أو من غيره؟

إن اتخاذهم هذا لمن أكبر الأدلة وأوضحها على جهالاتهم وسفاهاتهم وسوء تفكيرهم.

قال صاحب الكشاف ما ملخصه : فإن قلت : كيف أنكر عليهم اتخاذ آلهة تنشر. وما كانوا يدّعون ذلك لآلهتهم ، لأنهم كانوا ينكرون البعث أصلا ويقولون : من يحيى العظام وهي رميم؟ قلت : الأمر كما ذكرت ولكنهم بادعائهم لها الإلهية ، يلزمهم أن يدعوا لها الإنشار ، لأنه لا يستحق هذا الاسم إلا القادر على كل مقدور ، والإنشار من جملة المقدورات. وفيه باب من التهكم بهم ، والتوبيخ والتجهيل ، وإشعار بأن ما استبعدوه من الله ـ تعالى ـ لا يصح استبعاده ، لأن الإلهية لما صحت صح معها الاقتدار على الإبداء والإعادة (١).

وقوله ـ سبحانه ـ (مِنَ الْأَرْضِ) متعلق باتخذوا ، و «من» ابتدائية ، أى : اتخذوها من أجزاء الأرض كالحجارة وما يشبهها ، ويجوز أن يكون الجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة للآلهة ، أى : اتخذوا آلهة كائنة من الأرض .. وعلى كلا التقديرين فالمراد بهذا التعبير التحقير والتجهيل.

ثم ساق ـ سبحانه ـ دليلا عقليا مستمدا من واقع هذا الكون فقال : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا).

أى : لو كان في السموات والأرض آلهة أخرى سوى الله ـ تعالى ـ ، تدبر أمرهما ، لفسدتا ولخرجتا عن نظامهما البديع ، الذي لا خلل فيه ولا اضطراب.

وذلك لأن تعدد الآلهة يلزمه التنازع والتغالب بينهم .. فيختل النظام لهذا الكون ، ويضطرب الأمر ، ويعم الفساد في هذا العالم.

ولما كان المشاهد غير ذلك إذ كل شيء في هذا الكون يسير بنظام محكم دقيق دل الأمر على أن لهذا الكون كله ، إلها واحدا قادرا حكيما لا شريك له.

قال صاحب الكشاف : «والمعنى لو كان يتولاهما ويدبر أمرهما آلهة شتى غير الواحد الذي هو فاطرهما لفسدتا.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ١٠٩.

١٩٧

وفيه دلالة على أمرين : أحدهما : وجوب أن لا يكون مدبرهما إلا واحدا.

الثاني : أن لا يكون ذلك الواحد إلا إياه وحده ، لقوله (إِلَّا اللهُ).

فإن قلت : لم وجب الأمران؟ قلت : لعلمنا أن الرعية تفسد بتدبير الملكين لما يحدث بينهما من التغالب والتناكر والاختلاف.

قال عبد الملك بن مروان حين قتل عمرو بن سعيد الأشدق : كان والله أعز على من دم ناظري. ولكن لا يجتمع فحلان في شول ـ أى : في عدد مع النياق ـ (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) تنزيه لله ـ تعالى ـ عما قاله الجاهلون في شأنه ـ عزوجل ـ.

أى : فتنزيها لله وتقديسا وتبرئة لذاته عن أن يكون له شريك في ألوهيته ، وجل عما وصفه به الجاهلون.

وقوله ـ تعالى ـ : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) تأكيد لوحدانيته وقدرته ـ سبحانه ـ أى : لا يسأله سائل ـ سبحانه ـ عما يفعله بعباده من إعزاز وإذلال. وهداية وإضلال ، وغنى وفقر ، وصحة ومرض ، وإسعاد وإشقاء .. لأنه هو الرب المالك المتصرف في شئون خلقه ، وهم يسألون يوم القيامة عن أعمالهم وأقوالهم لأنهم عبيده ، وقد أرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين ، فمنهم من اتبع الرسل فسعد وفاز ، ومنهم من استحب العمى على الهدى فشقي وهلك.

وبعد أن ساق ـ سبحانه ـ دليلا عقليا على وحدانيته ، أتبعه بدليل آخر نقلي ، فقال ـ تعالى ـ : (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ ، هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي ..).

قال الآلوسى ما ملخصه : هذا إضراب وانتقال من إظهار بطلان كون ما اتخذوه آلهة ، لخلوها من خصائصها التي من جملتها الإنشار ، إلى تبكيتهم ومطالبتهم بالبرهان على دعواهم الباطلة ، وتحقيق أن جميع الكتب السماوية ناطقة بحقية التوحيد ، وبطلان الإشراك .. (٢).

أى : إن هؤلاء الكافرين قد أشركوا مع الله ـ تعالى ـ آلهة أخرى في العبادة ، بسبب جهلهم وعنادهم وجحودهم للحق .. قل لهم ـ أيها الرسول الكريم ـ على سبيل التبكيت والتوبيخ (هاتُوا بُرْهانَكُمْ) على أن مع الله ـ تعالى ـ آلهة أخرى تستحق مشاركته في

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ١١١.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٧ ص ٣١.

١٩٨

العبادة والطاعة؟ ولا شك أنهم لا برهان لهم على ذلك.

وقوله ـ تعالى ـ : (هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي) زيادة في تبكيتهم وفي إظهار عجزهم ، أى : هذا الوحى الإلهى الناطق بتوحيد الله ـ تعالى ـ موجود في القرآن الكريم المشتمل على ذكر المعاصرين لي من أتباعى ، وموجود في كتب الأنبياء السابقين ، كالتوراة التي أنزلها الله على موسى ، والإنجيل الذي أنزله على عيسى ، فمن أين أتيتم أنتم بهؤلاء الشركاء ، وكيف اتخذتموهم آلهة مع أنهم لا برهان عليهم لا من جهة العقل ولا من جهة النقل؟

فاسم الإشارة (هذا) في قوله : (هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ) مبتدأ ، مشار به إلى الوحى الإلهى ، وقد أخبر عنه ـ سبحانه ـ بخبرين ـ كما يقول الشيخ الجمل ـ : «فبالنظر للخبر الأول يراد به القرآن ، وبالنظر للخبر الثاني يراد به ما عداه من الكتب السماوية» (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ) إضراب من جهته ـ تعالى ـ عن مناقشتهم ومطالبتهم بالبرهان ، وانتقال من الأمر بتبكيتهم إلى الأمر بإهمالهم استصغارا لشأنهم.

أى : دعهم ـ أيها الرسول الكريم ـ في باطلهم يعمهون فإنهم قوم أكثرهم يجهلون الحق ، ولا يستطيعون التمييز بينه وبين الباطل. فهم لأجل ذلك منصرفون عن الهدى ، ومتجهون إلى الضلال ، ومن جهل شيئا عاداه.

ثم بين ـ سبحانه ـ أن جميع الرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ قد أمروا أقوامهم بإخلاص العبادة لله ، ونبذ الشرك والشركاء ، فقال ـ تعالى ـ : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ).

أى : وما أرسلنا من قبلك من رسول يا محمد إلا وأ فهمناه عن طريق وحينا أنه لا إله يستحق العبادة والطاعة إلا أنا ، فعليه أن يأمر قومه بطاعتي وعبادتي والخضوع لي وحدي.

هذا ، والمتدبر لهذه الآيات الكريمة ، يراها قد أقامت أحكم الأدلة العقلية والنقلية على وجوب إخلاص العبادة لله الواحد القهار. وعلى أن الذين يتخذون معه آلهة أخرى سفهاء جاهلون.

ثم حكى ـ سبحانه ـ بعد ذلك شبهة من الشبهات الباطلة التي تفوه بها المشركون ، ورد عليهم ردا مفحما ، فقال ـ تعالى ـ :

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ١٢٤.

١٩٩

(وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢٨) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ)(٢٩)

قال الآلوسى ما ملخصه : «قوله ـ تعالى ـ : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً) ، حكاية لجناية فريق من المشركين لإظهار بطلانها ، وبيان تنزهه ـ سبحانه ـ عن ذلك ، إثر بيان تنزهه ـ جل وعلا ـ عن الشركاء على الإطلاق ، وهم حي من خزاعة قالوا : الملائكة بنات الله ، ونقل الواحدي أن قريشا وبعض العرب قالوا ذلك.

والآية مشنعة على كل من نسب إلى الله ـ تعالى ـ ذلك كاليهود والنصارى ..» (١).

أى : وقال المشركون الذين انطمست بصائرهم عن معرفة الحق «اتخذ الرحمن ولدا سبحانه».

أى : تنزه وتقدس الله ـ تعالى ـ عن ذلك جل وعلا عما يقولونه علوا كبيرا.

وقوله : (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) إضراب عما قالوه ، وإبطال له ، وثناء على ملائكته الذين زعم فريق من المشركين أنهم بنات الله.

وعباد : جمع عبد. والعبودية لله ـ تعالى ـ معناها : إظهار التذلل له ـ سبحانه ـ ، والخضوع لذاته.

ومكرم : اسم مفعول من أكرم ، وإكرام الله ـ تعالى ـ لعبده معناه : إحسانه إليه وإنعامه عليه.

أى : لقد كذب هؤلاء المشركون في زعمهم أن الملائكة بنات الله ، والحق أن الملائكة هم عباد مخلوقون له ـ تعالى ـ ومقربون إليه ومكرمون عنده.

وقوله : (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ) أى : لا يتكلمون إلا بما يأمرهم به ، ولا يقولون شيئا

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٧ ص ٣٢.

٢٠٠