التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٩

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٩

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0683-3
الصفحات: ٣٥٥

وَلا تَضْحى) تعليل لما يوجبه النهى عن طاعة إبليس التي ستؤدى بهما إلى الإخراج من الجنة وإلى الشقاء في الدنيا.

والجوع : ضد الشبع. وقوله (تَعْرى) من العرى الذي هو خلاف اللبس.

يقال : عرى فلان من ثيابه يعرى عريا ، إذا تجرد منها.

وقوله (تَضْحى) أى : لا يصيبك حر الشمس في الضحى. يقال : ضحا فلان يضحى ضحوا ـ كسعى ـ إذا كان بارزا لحر الشمس في الضحى.

أى : احذر يا آدم أن تطيع إبليس فيحل بك الشقاء ، وتخرج من الجنة التي لا يصيبك فيها شيء من الجوع ، ولا شيء من العرى أو الظمأ ، ولا شيء من حر الشمس في الضحى .. وإنما أنت فيها متمتع بكل مطالب الحياة الهنيئة الناعمة الدائمة.

قال صاحب الكشاف : الشبع والري والكسوة والسكن ـ هذه الأربعة ـ هي الأقطاب التي يدور فيها كفاح الإنسان ، فذكّره استجماعها له في الجنة وأنه مكفى لا يحتاج إلى كفاية كاف ، ولا إلى كسب كاسب كما يحتاج إلى ذلك أهل الدنيا.

وذكرها بلفظ النفي لنقائضها التي هي الجوع والعرى والظمأ والضحو ، ليطرق سمعه بأسامى أصناف الشقوة التي حذره منها ، حتى يتحامى السبب الموقع فيها كراهة لها (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ أن آدم ـ عليه‌السلام ـ مع هذه النصائح والتحذيرات لم يستطع أن يستمر على الاستجابة لنهى ربه إياه عن الأكل من الشجرة ، بل تغلب عليه ضعفه فاستمع إلى مكر الشيطان ، قال ـ تعالى ـ : (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى).

والوسوسة : الخطرة الرديئة ، وأصلها من الوسواس ، وهو صوت الحلي ، والهمس الخفى. والوسواس ـ بكسر الواو الأولى ـ مصدر وبفتحها الاسم وهو من أسماء الشيطان ، كما قال ـ تعالى ـ : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلهِ النَّاسِ ، مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ ، الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ).

ويقال : وسوس فلان إلى فلان ، أى : أوصلها إليه ، ووسوس له ، أى : من أجله. أى فأوصل الشيطان وسوسته إلى آدم ، وأنهاها إليه ، بأن قال له : يا آدم ، هل أدلك على الشجرة التي من أكل منها عاش مخلدا لا يدركه الموت وصار صاحب ملك لا يفنى ، ولا يصبح باليا أبدا.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٩٢.

١٦١

وناداه باسمه ، ليكون أكثر إقبالا عليه ، وأمكن في الاستماع إليه.

وعرض عليه ما عرض في صورة الاستفهام الذي بمعنى الحث والحض ، ليشعره بأنه ناصح له وحريص على مصلحته ومنفعته.

ثم أكد كل هذا التحريض بالقسم كما في قوله ـ تعالى ـ : (وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) (١).

فكانت نتيجة مكره بآدم وخداعه له ، أن أطاعه في الأكل من الشجرة كما قال ـ تعالى ـ : (فَأَكَلا مِنْها) أى : فأكل آدم وزوجه من الشجرة التي نهاه ربه عن الأكل منها.

(فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما) أى : عوراتهما ، وسميت العورة سوءة ، لأن انكشافها يسوء صاحبها وبحزنه ، ويجعل الناس تنفر منه.

(وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ..) أى : وشرعا وأخذا يلزقان على أجسادهما من ورق الجنة ليسترا عوراتهما.

وكثير من المفسرين يقولون : إن ورق الجنة الذي أخذ آدم وحواء في لزقه على أجسادهما هو ورق شجر التين لكبر حجمه.

وقد أخذ العلماء من ذلك وجوب ستر العورة ، لأن قوله ـ تعالى ـ : (وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) يدل على قبح انكشافها ، وأنه يجب بذل أقصى الجهد في سترها.

وقوله : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) أى : وخالف آدم أمر ربه في اجتناب الأكل من الشجرة (فَغَوى) أى : فأخطأ طريق الصواب ، بسبب عدم طاعته ربه.

قالوا : ولكن آدم في عصيانه لربه كان متأولا ، لأنه اعتقد أن النهى عن شجرة معينة لا عن النوع كله ، وقالوا : وتسمية ذلك عصيانا لعلو منصبه ، وقد قيل : حسنات الأبرار سيئات المقربين.

كما قالوا : إن الأسباب التي حملت آدم على الأكل من الشجرة ، أن إبليس أقسم له بالله إنه له ناصح ، فصدقه آدم ـ عليه‌السلام ـ لاعتقاده أنه لا يمكن لأحد أن يقسم بالله كاذبا ، والمؤمن غر كريم ، والفاجر خب لئيم كما جاء في الحديث الشريف.

وقوله ـ سبحانه ـ : (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) بيان لفضل الله ـ تعالى ـ على آدم ، حيث قبل توبته ، ورزقه المداومة عليها.

__________________

(١) سورة الأعراف آية ٢١.

١٦٢

والاجتباء : الاصطفاء والاختيار ، أى : ثم بعد أن أكل آدم من الشجرة ، وندم على ما فعل هو وزوجه ، اجتباه ربه أى : اصطفاه وقربه واختاره (فَتابَ عَلَيْهِ) أى : قبل توبته (وَهَدى) أى : وهداه إلى الثبات عليها ، وإلى المداومة على طاعة الله ـ تعالى ـ فقد اعترف هو وزوجه بخطئهما ، كما في قوله ـ تعالى ـ : (قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) (١).

وقد أوحى الله ـ تعالى ـ إليه بكلمات كانت السبب في قبول توبته ، كما قال ـ سبحانه ـ : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (٢).

ثم ختم ـ سبحانه ـ هذه الآيات ببيان ما آل إليه أمر آدم فقال ـ تعالى ـ (قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً ...).

أى : انزلا من الجنة إلى الأرض مجتمعين ، فألف الاثنين هنا تعود إلى آدم وحواء.

أما الآيات الأخرى التي جاءت بضمير الجمع ، والتي منها قوله ـ تعالى ـ : (قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ...) (٣).

فالضمير فيها يعود إلى آدم وزوجته وذريتهما.

وقوله : (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) أى : بعض ذريتكما لبعض عدو ، بسبب التخاصم والتنازع والتدافع على حطام هذه الدنيا.

(فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) يا بنى آدم عن طريق إرسال الرسل وإنزال الكتب فعليكم أن تتبعوا رسلي ، وتعملوا بما اشتملت عليه كتبي.

(فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ) بأن آمن برسلي وصدق بكتبي.

(فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى) لا في الدنيا ولا في الآخرة ، بسبب استمساكه بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها.

وشبيه هذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً ، فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً ، فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٤).

وبعد أن بين ـ سبحانه ـ حسن عاقبة من اتبع هداه ، أتبع ذلك ببيان سوء عاقبة من أعرض عن ذكره وطاعته فقال ـ تعالى ـ :

__________________

(١) سورة الأعراف الآية ٢٣.

(٢) سورة البقرة الآية ٣٧.

(٣) سورة الأعراف الآية ٢٤.

(٤) سورة البقرة الآية ٣٨.

١٦٣

(وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (١٢٤) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (١٢٥) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (١٢٦) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (١٢٧) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (١٢٨) وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى)(١٢٩)

وقوله : (ضَنْكاً) أى : شديدة الضيق. وكل شيء ضاق فهو ضنك.

وهو مصدر يستوي فيه المذكر والمؤنث ، والواحد والجمع يقال : ضنك ـ ككرم ـ عيش فلان ضنكا وضناكة إذا ضاق.

والمعنى إن من اتبع هداي الذي جاءت به رسلي فلن يضل ولن يشقى ، أما من أعرض عن (ذِكْرِي) أى : عن هداي الذي جاءت به رسلي ، واشتملت عليه كتبي (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً).

أى : فإن لهذا المعرض معيشة ضيقة مليئة بالهم والغم والأحزان وسوء العاقبة ، حتى ولو ملك المال الوفير ، والحطام الكثير .. فإن المعيشة الطيبة لا تكون إلا مع طاعة الله ، وامتثال أمره ، واجتناب نهيه ...

قال ـ تعالى ـ : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً).

قال الإمام ابن كثير : قوله ـ تعالى ـ : (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) أى : في الدنيا فلا طمأنينة له ، ولا انشراح لصدره ، بل صدره ضيق لضلاله ، وإن تنعم ظاهره ولبس ما شاء ، وأكل ما شاء ، وسكن حيث شاء ، فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى. فهو في قلق وحيرة وشك ، فلا يزال في ريبة يتردد فهذا من ضنك المعيشة ...

١٦٤

وقال سفيان بن عيينة ، عن أبى حازم ، عن أبى سلمه ، عن أبى سعيد في قوله (مَعِيشَةً ضَنْكاً) قال : يضيق عليه قبره. حتى تختلف أضلاعه (١).

والمراد بالعمى في قوله ـ سبحانه ـ : (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) : عمى البصر ، بدليل قوله ـ تعالى ـ بعد ذلك : (قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً).

وقوله ـ سبحانه ـ في آية أخرى : (وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا) (٢).

وقيل : المراد بالعمى : هنا أنه لا حجة له يدافع بها عن نفسه ، وقيل : المراد به : العمى عن كل شيء سوى جهنم.

والذي يبدو لنا أن الرأى الأول أقرب إلى الحق ، لأنه هو الظاهر من الآية الكريمة ، ولا قرينة تمنع من إرادة هذا الظاهر.

ويجمع بين هذه الآية وما يشبهها وبين الآيات الأخرى التي تدل على أن الكفار يبصرون ويسمعون ويتكلمون يوم القيامة ، والتي منها قوله ـ تعالى ـ : (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا ..).

أقول : يجمع بين هذه الآية وما يشبهها ، وبين الآيات الأخرى بوجوه منها : أن عماهم وصممهم في أول حشرهم ، ثم يرد الله ـ تعالى ـ عليهم بعد ذلك أبصارهم وسمعهم ، فيرون النار ، ويسمعون ما يحزنهم.

قال الجمل : قوله : (أَعْمى) حال من الهاء في نحشره ، والمراد عمى البصر وذلك في المحشر ، فإذا دخل النار زال عنه عماه ليرى محله وحاله ، فهو أعمى في حال وبصير في حال أخرى (٣).

ومنها : تنزيل سمعهم وبصرهم وكلامهم منزلة العدم لعدم انتفاعهم بذلك فقد قال ـ تعالى ـ في شأن المنافقين : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) بتنزيل سماعهم وكلامهم وإبصارهم منزلة العدم ، حيث إنهم لم ينتفعوا بهذه الحواس.

وقوله ـ سبحانه ـ : (قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً) استئناف مسوق لبيان ما يقوله ذلك المعرض عن طاعة الله يوم القيامة.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ٢١٦.

(٢) سورة الإسراء آية ٩٧.

(٣) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ١١٦.

١٦٥

أى : قال ذلك الكافر الذي حشره الله ـ تعالى ـ يوم القيامة أعمى : يا رب لما ذا حشرتني على هذه الحال مع أنى كنت في الدنيا بصيرا؟.

وهنا يأتيه الجواب الذي يخرسه ، والذي حكاه الله ـ تعالى ـ في قوله : (قالَ كَذلِكَ) أى : قال الله ـ تعالى ـ في الرد عليه : الأمر كذلك ، فإنك (أَتَتْكَ آياتُنا) الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا (فَنَسِيتَها) أى : فتركتها وأعرضت عنها (وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) أى : كما تركت آياتنا في الدنيا وأعرضت عنها ، نتركك اليوم في النار وفي العمى جزاء وفاقا.

ثم ساق ـ سبحانه ـ سنة من سننه التي لا تختلف فقال : (وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى).

أى : ومثل ذلك الجزاء الأليم الذي أنزلناه بهؤلاء المعرضين عن ذكرنا نجازي كل من أسرف في ارتكاب السيئات والموبقات ، وكل من لم يؤمن بآيات ربه بل كذب بها وأعرض عنها ، ولعذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا ، (وَأَبْقى) منه أى : وأكثر بقاء ، وأطول زمانا من عذاب الدنيا.

ثم وبخ ـ سبحانه ـ أولئك الذين لم ينتفعوا بآياته فقال : (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ ..).

والهمزة للاستفهام الإنكارى التوبيخي ، والفاء للعطف على مقدر ..

والمعنى : أبلغت الغفلة والجهالة بهؤلاء المشركين ، أنهم لم يتبين لهم ، أننا أهلكنا كثيرا من أهل القرون الماضية ، الذين كانوا يمشون آمنين لاهين في مساكنهم ...

وكان أهلا كنا لهم بسبب إيثارهم الكفر على الإيمان ، والغي على الرشد ، والعمى على الهدى ...

فالآية الكريمة تقريع وتوبيخ لكفار مكة الذين لم يعتبروا بما أصاب أمثالهم من الأمم السابقة ، كقوم نوح وعاد وثمود ...

قال الآلوسى : وقوله : (يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ) حال من (الْقُرُونِ) أو من مفعول (أَهْلَكْنا) أى : أهلكناهم وهم في حال آمن وتقلب في ديارهم. واختار بعضهم كونه حالا من الضمير في (لَهُمْ) مؤكدا للإنكار والعامل فيه (يَهْدِ). أى : أفلم يهد للمشركين حال كونهم ماشين في مساكن من أهلكنا من القرون السالفة من أصحاب الحجر ، وثمود ، وقوم لوط ، مشاهدين لآثار هلاكهم إذا سافروا إلى بلاد الشام وغيرها .. (١).

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٦ ص ٢٨٠.

١٦٦

وقوله ـ سبحانه ـ : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) تذييل قصد به تعليل الإنكار ، أى : إن في ذلك الذي أخبرناهم به ، وأطلعناهم عليه من إهلاك المكذبين السابقين ، (لَآياتٍ) عظيمة ، وعبر كثيرة ، ودلائل واضحة لأصحاب العقول السليمة ، التي تنهى أصحابها عن القبائح والآثام.

والنهى : جمع نهية ـ بضم النون وإسكان الهاء ـ سمى العقل بها لنهيه عن القبائح.

ثم بين ـ سبحانه ـ بعض مظاهر فضله على هؤلاء المشركين الذين أرسل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لإنقاذهم من الكفر والضلالة فقال ـ تعالى ـ : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ ، لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى).

والمراد بالكلمة السابقة ، ما تفضل الله ـ تعالى ـ به من تأخير عذاب الاستئصال عن هذه الأمة التي بعث فيها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم تكريما له كما قال ـ تعالى ـ (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ...) أو لأن من نسلهم من يؤمن بالله حق الإيمان ، أو لحكم أخرى يعلمها ـ سبحانه ـ ولزاما : مصدر بمعنى اسم الفاعل ، وفعله لازم كقاتل.

وقوله : (وَأَجَلٌ مُسَمًّى) معطوف على (كَلِمَةٌ).

والمعنى : ولو لا الوعد السابق منا بتأخير العذاب عن هؤلاء المشركين إلى يوم القيامة. ولو لا الأجل المسمى المحدد في علمنا لانتهاء أعمارهم ، لما تأخر عذابهم أصلا ، بل لكان العذاب لازما لهم في الدنيا ، ونازلا بهم كما نزل بالسابقين من أمثالهم في الكفر والضلال.

ثم أمر الله ـ تعالى ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمداومة على الصبر ، وعلى الإكثار من ذكره ـ تعالى ـ ونهاه عن التطلع إلى زينة الحياة الدنيا.

فقال ـ تعالى ـ :

(فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (١٣٠) وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٣١) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى)(١٣٢)

١٦٧

والفاء في قوله ـ تعالى ـ : (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ ...) فصيحة ، أى : إذا كان الأمر كما ذكرنا لك ـ أيها الرسول الكريم ـ من أن تأخير عذاب أعدائك للإمهال وليس للإهمال .. فاصبر على ما يقولونه في شأنك من أنك ساحر أو مجنون .. وسر في طريقك دون أن تلتفت إلى إيذائهم أو مكرهم واستهزائهم.

ثم أرشده ـ سبحانه ـ إلى ما يشرح صدره ، ويجلو همه فقال : (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها ، وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى).

أى : وعليك ـ أيها الرسول الكريم ـ أن تكثر من تسبيح ربك وتحميده وتنزيهه قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ، وفي ساعات الليل وفي «أطراف النهار».

أى : في الوقت الذي يجمع الطرفين ، وهو وقت الزوال ، إذ هو نهاية النصف الأول من النهار ، وبداية النصف الثاني منه ، إذ في هذا التسبيح والتحميد والتنزيه لله ـ تعالى ـ والثناء عليه بما هو أهله ، جلاء للصدور ، وتفريج للكروب وأنس للنفوس ، واطمئنان للقلوب.

ويرى كثير من المفسرين ، أن المراد بالتسبيح هنا : إقامة الصلاة والمداومة عليها.

قال ابن كثير : قوله (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) يعنى صلاة الفجر (وَقَبْلَ غُرُوبِها) يعنى صلاة العصر ، كما جاء في الصحيحين عن جرير بن عبد الله البجلي قال : كنا جلوسا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال : «إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر ، لا تضامون في رؤيته ـ أى : لا ينالكم ضيم في رؤيته بأن يراه بعضكم دون بعض ـ فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا» ثم قرأ هذه الآية ..

وقوله : (وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ) أى : من ساعاته فتهجد به ، وحمله بعضهم على المغرب والعشاء. (وَأَطْرافَ النَّهارِ) في مقابلة آناء الليل (لَعَلَّكَ تَرْضى) كما قال ـ سبحانه ـ : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) (١).

وبعد هذا الأمر بالتسبيح ، جاء النهى عن الإعجاب بالدنيا وزينتها فقال ـ تعالى ـ : (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ..).

أى : أكثر ـ أيها الرسول الكريم ـ من الاتجاه إلى ربك ، ومن تسبيحه وتنزيهه ومن المداومة على الصلاة ولا تطل نظر عينيك بقصد الرغبة والميل (إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ).

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ٢١٩.

١٦٨

أى : إلى ما متعنا به أصنافا من هؤلاء المشركين ، بأن منحناهم الجاه والمال والولد.

وما جعلناه لهم في هذه الدنيا بمثابة الزهرة التي سرعان ما تلمع ثم تذبل وتزول.

قال الآلوسى ما ملخصه : قوله (أَزْواجاً مِنْهُمْ) أى : أصنافا من الكفرة ، وهو مفعول (مَتَّعْنا) قدم عليه الجار والمجرور للاعتناء به .. وقيل الخطاب له صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد أمته ، لأنه كان أبعد الناس عن إطالة النظر إليها ، وهو القائل : «الدنيا ملعونة ، ملعون ما فيها ، إلا ما أريد به وجه الله ـ تعالى ـ» وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم شديد النهى عن الاغترار بها.

ويؤخذ من الآية أن النظر غير الممدود معفو منه ، وكأن المنهي عنه في الحقيقة هو الإعجاب بذلك ، والرغبة فيه ، والميل إليه.

وقوله : (زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أى : زينتها وبهجتها. وهو منصوب بمحذوف يدل عليه (مَتَّعْنا).

أى : جعلنا لهم زهرة ، أو على أنه مفعول ثان ، بتضمين متعنا معنى أعطينا ، فأزواجا مفعول أول ، وزهرة هو المفعول الثاني .. (١).

وقوله : (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) بيان للحكمة من هذا التمتيع والعطاء أى متعنا هؤلاء الكافرين بالأموال والأولاد .. لنعاملهم معاملة من يبتليهم ويختبرهم بهذا المتاع ، فإذا آمنوا وشكروا زدناهم من خيرنا ، وإذا استمروا في طغيانهم وجحودهم وكفرهم ، أخذناهم أخذ عزيز مقتدر.

فالجملة الكريمة تنفر العقلاء من التطلع إلى ما بين أيدى الكفار من متاع ، لأن هذا المتاع سيئ العاقبة ، إذا لم يستعمل في طاعة الله ـ تعالى ـ.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى) تذييل قصد به الترغيب فيما عند الله ـ تعالى ـ من طيبات.

أى : وما رزقك الله إياه ـ أيها الرسول الكريم ـ في هذه الدنيا من طيبات. وما ادخره لك في الآخرة من حسنات ، خير وأبقى مما متع به هؤلاء الكافرين من متاع زائل سيحاسبهم الله ـ تعالى ـ عليه يوم القيامة حسابا عسيرا ، لأنهم لم يقابلوا نعم الله عليهم بالشكر ، بل قابلوها بالجحود والكفران.

والمتأمل في هذه الآية الكريمة يراها قد رسمت للمؤمن أفضل الطرق وأحكمها ، لكي يحيا حياة فاضلة طيبة ، حياة يعتز فيها صاحبها بالمعاني الشريفة الباقية ، ويعرض عن المظاهر والزخارف الزائلة.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٦ ص ٢٨٣.

١٦٩

ثم كلف الله ـ تعالى ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يأمر أهل بيته بالمداومة على إقامة الصلاة فقال : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها).

والمراد بأهل بيته صلى‌الله‌عليه‌وسلم أزواجه وبناته : وقيل : ما يشملهم ويشمل معهم جميع المؤمنين من بنى هاشم. وقيل المراد بهم : جميع أتباعه من أمته.

أى : وأمر ـ أيها الرسول الكريم ـ أهل بيتك بالمداومة على إقامة الصلاة بخشوع وإخلاص واطمئنان ، واصطبر على تكاليفها ومشاقها ، وعلى إقامتها كاملة غير منقوصة ، وعلى تحقيق آثارها الطيبة في نفسك.

وقد ساق بعض المفسرين عن تفسيره لهذه الآية أحاديث منها ما أخرجه البيهقي عن عبد الله بن سلام قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا نزلت بأهله شدة أو ضيق أمرهم بالصلاة ، وتلا هذه الآية : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ ..).

وأخرج مالك والبيهقي عن أسلم قال : كان عمر بن الخطاب يصلى من الليل ما شاء الله ـ تعالى ـ أن يصلى حتى إذا كان آخر الليل أيقظ أهله للصلاة ويقول لهم : الصلاة ، الصلاة ويتلو هذه الآية ... (١).

وقوله ـ سبحانه ـ (لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى) تشجيع وتحريض للمؤمنين على إقامة الصلاة ، ودفع لما يتوهمه البعض من أن المداومة على إقامة الصلاة قد تشغل الإنسان عن السعى في طلب المعاش.

أى : مر ـ أيها الرسول الكريم ـ أهلك بالمداومة على الصلاة ، واصطبر على تكاليفها ، فهذه الصلاة هي من أركان العبادات التي خلقك الله وخلق عباده من أجلها ، ولا يصح أن يشغلكم عنها أى شاغل من سعى في طلب الرزق أو غيره ، فنحن لا نكلفكم أن ترزقوا أنفسكم أو غيركم ، وإنما نحن الذين نرزقكم ونرزق الخلق جميعا قال ـ تعالى ـ : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها ..) (٢).

وقال ـ سبحانه ـ : (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٣).

وقوله (وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى) أى : والعاقبة الحميدة لأهل التقوى والخشية من الله ـ تعالى ـ الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة ..

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٦ ص ٢٨٥.

(٢) سورة هود الآية ٦.

(٣) سورة العنكبوت الآية ٦٠.

١٧٠

روى الترمذي وابن ماجة عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يقول الله ـ تعالى ـ : «يا بن آدم. تفرغ لعبادتي ، املأ صدرك غنى ، وأسد فقرك ، وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلا ، ولم أسد فقرك».

وروى ابن ماجة عن زيد بن ثابت قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من كانت الدنيا همه ، فرق الله عليه أمره ، وجعل فقره بين عينيه ، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له. ومن كان الآخرة نيته ، جمع له أمره ، وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا وهي راغمة (١).

ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة الكريمة بإيراد بعض الشبهات التي أثارها المشركون حول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورد عليها بما يبطلها فقال ـ تعالى ـ :

(وَقالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٣٣) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى(١٣٤) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى)(١٣٥)

ومرادهم بالآية في قوله ـ سبحانه ـ : (وَقالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ) معجزة حية من المعجزات التي اقترحوها عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتفجير الأنهار حول مكة ، وكرقيه إلى السماء ، وكنزول الملائكة معه ..

أى : وقال الكافرون على سبيل التعنت والعناد للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم هلا أتيت لنا يا محمد بآية من الآيات التي طلبناها منك ، أو بآية من الآيات التي أتى بها الأنبياء من قبلك ، كالعصا بالنسبة لموسى ، والناقة بالنسبة لصالح.

فهم ـ كما يقول الآلوسى ـ : «بلغوا من المكابرة والعناد إلى حيث لم يعدوا ما شاهدوا من المعجزات التي تخر لها صم الجبال ، من قبيل الآيات ، حتى اجترءوا على التفوه بهذه العظيمة الشنعاء.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ٢٦٢.

١٧١

وقوله ـ سبحانه ـ : (أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى) رد على جهالاتهم وجحودهم.

والمراد بالبينة القرآن الكريم الذي هو أم الآيات ، ورأس المعجزات.

والمراد بالصحف الأولى : الكتب السماوية السابقة كالتوراة والإنجيل والزبور.

والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام ، والاستفهام لتقرير الإتيان وثبوته.

والمعنى : أجهلوا ولم يكفهم اشتمال القرآن الذي جئت به ـ أيها الرسول الكريم ـ على بيان ما في الصحف الأولى التي أنزلناها على الرسل السابقين ، ولم يكفهم ذلك في كونه معجزة حتى طلبوا غيرها؟.

قال صاحب الكشاف : اقترحوا على عادتهم في التعنت آية على النبوة ، فقيل لهم : أو لم تأتكم آية من أم الآيات وأعظمها في باب الإعجاز ، يعنى القرآن ، من جهة أن القرآن برهان ما في سائر الكتب المنزلة ، ودليل صحته لأنه معجزة ، وتلك ليست بمعجزات ، فهي مفتقرة إلى شهادته على صحة ما فيها ، افتقار المحتج عليه إلى شهادة الحجة. (١).

وقال ابن كثير : قوله : (أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى) يعنى : القرآن العظيم ، الذي أنزله الله ـ تعالى ـ عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد جاء فيه أخبار الأولين بما كان منهم في سالف الدهور ، بما يوافقه عليه الكتب المتقدمة الصحيحة منها ، فإن القرآن مهيمن عليها .. وهذه الآية كقوله ـ تعالى ـ : (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ ، قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ* أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٢).

وفي الصحيح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ما من نبي إلا وقد أوتى من الآيات ما آمن على مثله البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلى ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» (٣).

ومنهم من يرى أن المراد بالبينة : الكتب السماوية السابقة.

فيكون المعنى : أو لم يكف هؤلاء الجاهلين أن الكتب السماوية السابقة كالتوراة والإنجيل قد بشرت بك وبينت نعوتك وصفاتك ، وهم معترفون بصدقها ، فكيف لا يقرون بنبوتك.

قال القرطبي : وقوله : (أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى) يريد التوراة والإنجيل

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٩٩.

(٢) سورة العنكبوت الآيتان ٥٠ ، ٥١.

(٣) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ٣٢٣.

١٧٢

والكتب المتقدمة ، وذلك أعظم آية إذ أخبر بما فيها. وقيل : أو لم تأتهم الآية الدالة على نبوته بما وجدوه في الكتب المتقدمة من البشارة .. (١).

وعلى كلا التفسيرين فالآية الكريمة شهادة من الله ـ تعالى ـ بصدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما بلغه عنه ، ورد مبطل لشبهات الكافرين ولأقوالهم الباطلة ، وإن كان تفسير البينة هنا بالقرآن أظهر وأوضح.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى) كلام مستأنف لتقرير ما قبله من أن القرآن الكريم هو معجزة المعجزات ، وآية الآيات وأرفعها وأنفعها.

أى : ولو أنا أهلكنا هؤلاء الكافرين بعذاب الاستئصال ، من قبل مجيء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم ومعه هذا القرآن الكريم معجزة له ، لقالوا على سبيل الاعتذار يوم القيامة : يا ربنا هلا أرسلت إلينا في الدنيا رسولا من عندك ومعه المعجزات التي تدل على صدقه ، فكنا في هذه الحالة اتبعنا آياتك التي جاءنا بها وصدقناه وآمنا به ، من قبل أن يحصل لنا الذل والهوان والخزي والافتضاح في الآخرة.

والمقصود من الآية الكريمة قطع أعذارهم ، أى : لو أنا أهلكناهم قبل ذلك ، لقالوا ما قالوا ، ولكنا لم نهلكهم بل أرسلنا إليهم رسولنا ، فبلغهم ما أرسلناه به ، فانقطع عذرهم ، وبطلت حجتهم.

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ، فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٢).

ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة الكريمة بهذه الآية التي أمر فيها رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يهددهم بسوء العاقبة ، إذا ما استمروا في طغيانهم يعمهون ، فقال ـ تعالى ـ : (قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى).

أى : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ لهؤلاء الكافرين : كل واحد منا ومنكم متربص بالآخر ، ومنتظر لما يؤول إليه أمر صاحبه.

وما دام الأمر كذلك (فَتَرَبَّصُوا) وانتظروا ما يؤول إليه حالنا وحالكم (فَسَتَعْلَمُونَ) بعد زمن قريب. (مَنْ) هم (أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِ) أى : الطريق الواضح

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١١ ص ٣٦٤.

(٢) سورة القصص الآية ٤٧.

١٧٣

المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ومن هم الذين تجنبوا الضلالة ، واهتدوا إلى ما يسعدهم في دينهم وفي دنياهم وفي آخرتهم.

وقريب من هذه الآية في المعنى قوله ـ تعالى ـ : (سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ) (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً) (٢).

* * *

وبعد فهذه سورة طه ، وهذا تفسير تحليلي لها ، وكما أنها قد افتتحت بنفي إرادة الشقاء للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد اختتمت بهذه البشارة له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأتباعه وبهذا التهديد لأعدائهم ...

نسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعل القرآن الكريم ربيع قلوبنا ، وأنس نفوسنا وبهجة صدورنا ، وشفيعنا يوم الدين (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ).

وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم ..

د. محمد سيد طنطاوى

__________________

(١) سورة القمر آية ٢٦.

(٢) سورة الفرقان آية ٤٢.

١٧٤

تفسير

سورة الأنبياء

١٧٥
١٧٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدّمة

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أفضل المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.

وبعد : فهذا تفسير تحليلي لسورة (الأنبياء) وأسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعله خالصا لوجهه ، ونافعا لعباده وشفيعا لنا يوم نلقاه. (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ. إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ).

وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.

المؤلف

د / محمد سيد طنطاوى

١٧٧
١٧٨

تمهيد بين يدي السورة

١ ـ سورة الأنبياء ، من السور المكية. وعدد آياتها اثنتا عشرة ومائة عند الكوفيين.

وعند غيرهم إحدى عشرة آية ومائة. وكان نزولها بعد سورة إبراهيم.

قال الآلوسى : وهي سورة عظيمة ، فيها موعظة فخيمة ، فقد أخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الحلية ، وابن عساكر ، عن عامر بن ربيعة أنه نزل به رجل من العرب فأكرمه عامر ، وكلم فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجاءه الرجل فقال : إنى استقطعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واديا ما في العرب واد أفضل منه. وقد أردت أن أقطع لك منه قطعة تكون لك ولعقبك من بعدك.

فقال عامر : لا حاجة لي في ذلك ، فقد نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا.

ثم قرأ : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ..) (١).

٢ ـ وعند ما نقرأ هذه السورة الكريمة بتدبر وتأمل ، نراها في مطلعها تسوق لنا ما يهز القلوب ، ويحملها على الاستعداد لاستقبال يوم القيامة بالإيمان والعمل الصالح ، ويزجرها عن الغفلة والإعراض.

قال ـ تعالى ـ : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ. ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ..).

٣ ـ ثم تحكى السورة بعد ذلك ألوانا من الشبهات التي أثارها المشركون حول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحول دعوته ، وردت عليهم بما يبطل شبهاتهم وأقوالهم ، فقال ـ تعالى ـ : (بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ ، بَلْ هُوَ شاعِرٌ ، فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ* ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ* وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ* وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ).

٤ ـ ثم ساقت السورة الكريمة بعد ذلك ادلة متعددة على وحدانية الله ـ تعالى ـ وعلى شمول قدرته. منها قوله ـ عزوجل ـ : (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ* لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ* لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ).

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٧ ص ٢.

١٧٩

وقوله ـ سبحانه ـ : (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما ، وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ* وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ* وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ* وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ).

٥ ـ وبعد أن ذكرت السورة ألوانا من نعم الله على خلقه ، وحكت جانبا من تصرفات المشركين السيئة مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتبعت ذلك بتسليته صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما قالوه في شأنه.

قال ـ تعالى ـ : (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ).

٦ ـ ثم عرضت السورة الكريمة جانبا من قصص بعض الأنبياء ، تارة على سبيل الإجمال ، وتارة بشيء من التفصيل ، فتحدثت عن موسى وهارون ، وعن إبراهيم ولوط ، وعن إسحاق ويعقوب ، وعن نوح وأيوب ، وعن داود وسليمان ، وعن إسماعيل وإدريس ، وعن يونس وزكريا.

وفي نهاية حديثها عنهم ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ عقبت بالمقصود الأساسى من رسالتهم ، وهو دعوة الناس جميعا إلى إخلاص العبادة لله ـ تعالى ـ ، وأنهم جميعا قد جاءوا برسالة واحدة في جوهرها ، فقال ـ تعالى ـ : (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ).

٧ ـ ثم تحدثت في أواخرها عن أشراط الساعة ، وعن أهوالها ، وعن أحوال الناس فيها.

قال ـ تعالى ـ : (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ* وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا ، يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ).

٨ ـ ثم ختم ـ سبحانه ـ سورة الأنبياء بالحديث عن سنة من سننه التي لا تتخلف ، وعن رسالة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعن موقفه من أعدائه ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ* إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ* وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ* قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ* فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ ، وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ* إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ* وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ* قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ).

١٨٠