التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٩

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٩

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0683-3
الصفحات: ٣٥٥

(وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (٩٠) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى)(٩١)

وجملة : (وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ ...) قسمية مؤكدة لما قبلها.

أى : والله لقد نصح هارون ـ عليه‌السلام ـ عبدة العجل من قومه ، قبل رجوع موسى إليهم ، فقال لهم مستعطفا : (.. يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ ..) أى : يا قوم إن ضلالكم وكفركم إنما هو بسبب عبادتكم العجل ، فالضمير في (بِهِ) يعود إلى العجل.

(وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ) هو وحده المستحق للعبادة والطاعة.

وجمع ـ سبحانه ـ بين لفظي الرب والرحمن ، لجذبهم نحو الحق ، واستمالتهم نحوه ، وللتنبيه على أنهم متى تابوا قبل الله توبتهم ، لأنه ـ سبحانه ـ هو الرحمن الرحيم.

والفاء في قوله : (فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي) لترتيب ما بعدها على ما قبلها.

أى : وما دام الأمر كذلك فاتبعوني وأطيعوا أمرى ، في الثبات على الحق ، وفي نبذ عبادة العجل ، وفي المحافظة على ما عاهدكم عليه موسى ـ عليه‌السلام ـ.

ولكن هذه النصيحة الحكيمة من هارون لهم لم تجد أذنا صاغية. بل قابلوا نصيحته لهم بالاستخفاف والتصميم على ما هم فيه من ضلال ، إذ قالوا في الرد عليه : (لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ) أى : سنستمر على عبادة العجل ، وسنواظب على هذه العبادة مواظبة تامة (حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى) فنرى ماذا سيكون منه.

فهم لجهالاتهم وانطماس بصائرهم ، وسوء أدبهم ، يرون أن هارون ـ عليه‌السلام ـ ليس أهلا للنصيحة والطاعة ، مع أنه قد خاطبهم بأحكم أسلوب ، وألطف منطق.

قال الرازي : واعلم أن هارون ـ عليه‌السلام ـ سلك في هذا الوعظ أحسن الوجوه لأنه زجرهم عن الباطل ـ أولا ـ بقوله : (يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ) ثم دعاهم إلى معرفة الله ـ ثانيا ـ بقوله : (وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ) ثم دعاهم ـ ثالثا ـ إلى معرفة النبوة بقوله : (فَاتَّبِعُونِي) ثم دعاهم ـ رابعا ـ إلى الشرائع بقوله : (وَأَطِيعُوا أَمْرِي).

وهذا هو الترتيب الجيد ، لأنه لا بد قبل كل شيء من إماطه الأذى عن الطريق وهو إزالة الشبهات ، ثم معرفة الله ـ تعالى ـ هي الأصل ، ثم النبوة ، ثم الشريعة : فثبت أن هذا

١٤١

الترتيب على أحسن الوجوه ، ولكنهم لجهلهم وعنادهم قابلوا هذا الترتيب الحسن في الاستدلال ، بالتقليد والجمود فقالوا : (لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى) (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ ما قاله موسى لأخيه هارون بعد أن رأى ما عليه قومهما من ضلال ، فقال ـ تعالى ـ :

(قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (٩٣) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي)(٩٤)

أى : قال موسى لأخيه هارون على سبيل اللوم والمعاتبة : يا هارون أى شيء منعك من مقاومتهم وقت أن رأيتهم ضلوا بسبب عبادتهم للعجل و «لا» في قوله : (أَلَّا تَتَّبِعَنِ) مزيدة للتأكيد. والاستفهام في قوله : (أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) للإنكار.

أى : ما الذي منعك من أن تتبعني في الغضب عليهم لدين الله حين رأيتهم عاكفين على عبادة العجل ، أفعصيت أمرى فيما قدمت إليك من قولي : (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) وفيما أمرتك به من الصلابة في الدين ، لأن وجودك فيهم وقد عبدوا غير الله ـ تعالى ـ يعتبر تهاونا معهم فيما لا يصح التهاون فيه.

وكأن موسى ـ عليه‌السلام ـ كان يريد من أخيه هارون ـ عليه‌السلام ـ موقفا يتسم بالحزم والشدة مع هؤلاء الجاهلين ، حتى ولو أدى الأمر لمقاتلتهم ...

وهنا يرد هارون على أخيه موسى ردا يبدو فيه الرفق والاستعطاف فيقول : (يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي).

أى : قال هارون لموسى محاولا أن يهدئ من غضبه ، بتحريك عاطفة الرحم في قلبه : يا بن أمى لا تمسك بلحيتي ولا برأسى على سبيل التأنيب لي. فإنى لست عاصيا لأمرك ، ولا معرضا عن اتباعك.

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٦ ص ٦٧.

١٤٢

قال الآلوسى ما ملخصه : خص الأم بالإضافة استعطافا وترقيقا لقلبه ، لا لما قيل من أنه كان أخاه لأمه ، فإن الجمهور على أنهما كانا شقيقين.

وقوله : (لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي) ... روى أنه أخذ شعر رأسه بيمينه ، ولحيته بشماله ، وكان موسى ـ عليه‌السلام ـ حديدا متصلبا غضوبا لله ـ تعالى ـ ، وغلب على ظنه أن هارون قد قصر معهم .. (١).

وقوله : (إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) استئناف لتعليل موجب النهى ، بتحقيق أنه غير عاص لأمره ، وغير معرض عن اتباعه.

أى : يا بن أمى لا تأخذ بلحيتي ولا برأسى ، فإنى ما حملني على البقاء معهم وعلى ترك مقاتلتهم بعد أن عبدوا العجل ، إلا خوفي من أن تقول لي ـ لو قاتلتهم أو فارقتهم بمن معى من المؤمنين ـ إنك بعملك هذا قد جعلت بنى إسرائيل فرقتين متنازعتين (وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) أى : ولم تتبع وتطع قولي لك : (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) ولذلك لم أقدم على مقاتلتهم بمن معى من المؤمنين ، ولم أقدم كذلك على مفارقتهم ، بل بقيت معهم ناصحا واعظا ، حتى تعود أنت إليهم ، فتتدارك الأمر بنفسك ، وتعالجه برأيك.

قال بعض العلماء ما ملخصه : وهذه الآية الكريمة ... تدل على لزوم إعفاء اللحية وعدم حلقها ، لأنه لو كان هارون حالقا لحيته لما أخذ بها موسى ـ إذ من المشهور أن اللحية تطلق على الشعر النابت في العضو المخصوص وهو الذقن ـ وبذلك يتبين لك أن إعفاء اللحية سمت الرسل الكرام الذين أمرنا الله ـ تعالى ـ بالاقتداء بهم.

فقد قال ـ تعالى ـ : بعد أن ذكر عددا من الأنبياء منهم هارون : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ ...) (٢).

والعجب من الذين مسخت ضمائرهم ... حتى صاروا ينفرون من صفات الذكورية ، وشرف الرجولة إلى خنوثة الأنوثة .. (٣).

هذا ، وبعد أن انتهى موسى من سماع اعتذار أخيه هارون ، اتجه بغضبه إلى السامري ـ رأس الفتنة ومدبرها ـ فأخذ في زجره وتوبيخه ، وقد حكى ـ سبحانه ـ ذلك في قوله ـ تعالى ـ :

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٦ ص ٢٥١.

(٢) سورة الأنعام الآية ٩٠.

(٣) راجع تفسير أضواء البيان ج ٤ ص ٥٠٧.

١٤٣

(قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (٩٥) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (٩٦) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (٩٧) إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً)(٩٨)

أى : قال موسى ـ عليه‌السلام ـ للسامري : (فَما خَطْبُكَ) أى : ما شأنك ، وما الأمر العظيم الذي جعلك تفعل ما فعلت؟ مصدر خطب يخطب ـ كقعد يقعد ـ ومنه قولهم : هذا خطب يسير أو جلل ، وجمعه خطوب. وخصه بعضهم بما له خطر من الأمور ، وأصله : الأمر العظيم الذي يكثر فيه التخاطب والتشاور ، ويخطب الخطيب الناس من أجله.

وقد رد السامري على موسى بقوله : (بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ) أى : علمت ما لم يعلمه القوم ، وفطنت لما لم يفطنوا له ، ورأيت ما لم يروه.

قال الزجاج : يقال : بصر بالشيء يبصر ـ ككرم وفرح ـ إذا علمه ، وأبصره إذا نظر إليه.

وقيل : هما بمعنى واحد.

(فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها) روى أن السامري رأى جبريل ـ عليه‌السلام ـ حين جاء إلى موسى ليذهب به إلى الميقات لأخذ التوراة عن الله ـ عزوجل ـ ولم ير جبريل أحد غير السامري من قوم موسى ، ورأى الفرس كلما وضعت حافرها على شيء اخضرت ، فعلم أن للتراب الذي تضع عليه الفرس حافرها شأنا ، فأخذ منه حفنة وألقاها في الحلي المذاب فصار عجلا جسدا له خوار.

والمعنى قال السامري لموسى : علمت ما لم يعلمه غيرى فأخذت حفنة من تراب أثر حافر

١٤٤

فرس الرسول وهو جبريل ـ عليه‌السلام ـ فألقيت هذه الحفنة في الحلي المذاب ، فصار عجلا جسدا له خوار.

(وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي) أى : ومثل هذا الفعل سولته لي نفسي ، أى زينته وحسنته لي نفسي ، لأجعل بنى إسرائيل يتركون عبادة إلهك يا موسى ، ويعبدون العجل الذي صنعته لهم.

وعلى هذا التفسير الذي سار عليه كثير من المفسرين ، يكون المراد بالرسول : جبريل ـ عليه‌السلام ـ ويكون المراد بأثره : التراب الذي أخذه من موضع حافر فرسه.

هذا ، وقد نقل الفخر الرازي عن أبى مسلم الأصفهاني رأيا آخر في تفسير الآية فقال ما ملخصه : ليس في القرآن ما يدل على ما ذكره المفسرون ، فهنا وجه آخر ، وهو أن يكون المراد بالرسول : موسى ـ عليه‌السلام ـ وبأثره : سنته ورسمه الذي أمر به ، فقد يقول الرجل : فلان يقص أثر فلان ويقتص أثره إذا كان يمتثل رسمه ، والتقدير : أن موسى لما أقبل على السامري بالتوبيخ وبسؤاله عن الأمر الذي دعاه إلى إضلال القوم بعبادة العجل ، رد عليه بقوله : بصرت بما لم يبصروا به ، أى : عرفت أن الذي أنتم عليه ليس بحق ، وقد كنت قبضت قبضة من أثرك أيها الرسول ، أى : أخذت شيئا من علمك ودينك فنبذته ، أى : طرحته .. (١).

وعلى هذا التفسير الذي ذهب إليه أبو مسلم يكون المراد بالرسول : موسى ـ عليه‌السلام ـ ويكون المراد بأثره : دينه وسنته وعلمه.

ويكون المعنى الإجمالى للآية : أن السامري قال لموسى ـ عليه‌السلام ـ كنت قد أخذت جانبا من دينك وعلمك ، ثم تبين لي أنك على ضلال فنبذت ما أخذته عنك وسولت لي نفسي أن أصنع للناس عجلا لكي يعبدوه لأن عبادته أراها هي الحق.

وقد رجح الإمام الرازي في تفسيره ما ذهب إليه أبو مسلم فقال : واعلم أن هذا القول الذي قاله أبو مسلم ليس فيه إلا مخالفة للمفسرين ، ولكنه أقرب إلى التحقيق لوجوه.

١ ـ أن جبريل ليس مشهورا باسم الرسول ، ولم يجر له فيما تقدم ذكر حتى تجعل لام التعريف إشارة إليه.

٢ ـ أنه لا بد فيه من الإضمار ، وهو قبضته من أثر حافر فرس الرسول ، والإضمار خلاف الأصل.

__________________

(١) راجع تفسير الفخر الرازي ج ٦ ص ٧٠.

١٤٥

٣ ـ أنه لا بد من التعسف في بيان أن السامري كيف اختص من بين جميع الناس برؤية جبريل ومعرفته؟ ثم كيف عرف أن لتراب حافر فرسه هذا الأثر؟ والذي ذكروه أن جبريل هو الذي رباه بعيد .. (١).

وقد رد الإمام الآلوسى على الإمام الفخر الرازي ـ رحمهما‌الله ـ فقال ما ملخصه :

١ ـ عهد في القرآن الكريم إطلاق الرسول على جبريل ، كما في قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ). وعدم جريان ذكره فيما تقدم لا يمنع أن يكون معهودا ، ويجوز أن يكون إطلاق الرسول عليه كان شائعا في بنى إسرائيل.

٢ ـ تقدير المضاف في الكلام أكثر من أن يحصى ، وقد عهد ذلك في كتاب الله غير مرة.

٣ ـ رؤية السامري دون غيره لجبريل ، كان ابتلاء من الله ـ تعالى ـ ليقضى الله أمرا كان مفعولا ، ومعرفته تأثير ذلك الأثر دون غيره كانت بسبب ما ألقى في روعه من أنه لا يلقيه على شيء فيقول له كن كذا إلا كان ـ كما في خبر ابن عباس ـ أو كانت لما شاهد من خروج النبات بالوطء ـ كما في بعض الآثار ـ .. (٢).

ويبدو لنا أن ما ذهب إليه أبو مسلم ، أقرب إلى ما يفيده ظاهر القرآن الكريم ، إذا ما استبعدنا تلك الروايات التي ذكرها المفسرون في شأن السامري وفي شأن رؤيته لجبريل.

ولا نرى حرجا في استبعادها ، لأنها عارية عن السند الصحيح إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو إلى أصحابه ، ويغلب على ظننا أنها من الإسرائيليات التي نرد العلم فيها إلى الله ـ تعالى ـ.

وقوله ـ سبحانه ـ : (قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ) حكاية لما قاله موسى ـ عليه‌السلام ـ للسامري.

والمساس : مصدر ماسّ ـ بالتشديد ـ كقتال من قاتل ، وهو منفي بلا التي لنفى الجنس.

والمعنى : قال موسى للسامري : مادمت قد فعلت ذلك فاذهب ، فإن لك في مدة حياتك ، أن تعاقب بالنبذ من الناس ، وأن تقول لهم إذا ما اقترب أحد منك : (لا مِساسَ) أى لا أمسّ أحدا ولا يمسّنى أحد ، ولا أخالط أحدا ولا يخالطني أحد.

قال صاحب الكشاف : عوقب في الدنيا بعقوبة لا شيء أطم منها وأوحش وذلك أنه منع من مخالطة الناس منعا كليا ، وحرم عليهم ملاقاته ومكالمته ومكالمته ومبايعته ومواجهته ، وكل ما يعايش به الناس بعضهم بعضا. وإذا اتفق أن يماس أحدا ـ رجلا أو امرأة ـ حم الماس والممسوس ـ

__________________

(١) راجع تفسير الفخر الرازي ج ٦ ص ٧١.

(٢) راجع تفسير الآلوسى ج ١٦ ص ٢٥٤.

١٤٦

أى أصيبا بمرض الحمى ـ فتحامى الناس وتحاموه ، وكان يصيح : لا مساس. وعاد في الناس أوحش من القاتل اللاجئ إلى الحرم ، ومن الوحش النافر في البرية .. (١).

وقال الآلوسى ما ملخصه : والسر في عقوبته على جنايته بما ذكر. أنه ضد ما قصده من إظهار ذلك ليجتمع عليه الناس ويعززوه ، فكان ما فعله سببا لبعدهم عنه وتحقيره. وقيل : عوقب بذلك ليكون الجزاء من جنس العمل ، حيث نبذ فنبذ ، فإن ذلك التحامى عنه أشبه شيء بالنبذ .. (٢).

قالوا : وهذه الآية الكريمة أصل في نفى أهل البدع والمعاصي وهجرانهم وعدم مخالطتهم.

ثم بين ـ سبحانه ـ عقوبة السامري في الآخرة ، بعد بيان عقوبته في الدنيا فقال : (وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ).

وقوله : (تُخْلَفَهُ) قرأها الجمهور بضم التاء وفتح اللام. أى : وإن لك موعدا في الآخرة لن يخلفك الله ـ تعالى ـ إياه. بل سينجزه لك ، فيعاقبك يومئذ العقاب الأليم الذي تستحقه بسبب ضلالك وإضلالك ، كما عاقبك في الدنيا بعقوبة الطرد والنفور من الناس.

وقرأ ابن كثير وأبو عمر (لَنْ تُخْلَفَهُ) بضم التاء وكسر اللام أى : وإن لك موعدا في الآخرة لن تستطيع التخلف عنه ، أو المهرب منه ، بل ستأتيه وأنت صاغر ..

ثم بين ـ سبحانه ـ ما فعله موسى ـ عليه‌السلام ـ بالعجل الذي صنعه السامري لإضلال الناس. فقال : (وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً).

أى : وقال موسى ـ أيضا ـ للسامري : وانظر الى معبودك العجل الذي أقمت على عبادته أنت وأتباعك في غيبتي عنكم.

(لَنُحَرِّقَنَّهُ) بالنار أمام أعينكم ، والجملة جواب لقسم محذوف ، أى : والله لنحرقنه (ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً) أى : ثم لنذرينّه في البحر تذرية ، بحيث لا يبقى منه عين ولا أثر.

يقال : نسف الطعام ينسفه نسفا ، إذا فرقه وذراه بحيث لا يبقى منه شيء.

وقد نفذ موسى ـ عليه‌السلام ـ ذلك حتى يظهر للأغنياء الجاهلين الذين عبدوا العجل ، أنه لا يستحق ذلك. وإنما يستحق الذبح والتذرية ، وأن عبادتهم له إنما هي دليل واضح على انطماس بصائرهم ، وشدة جهلهم.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٨٥.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٦ ص ٢٥٦.

١٤٧

وقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً). استئناف مسوق لإحقاق الحق وإبطال الباطل. أى : إنما المستحق للعبادة والتعظيم هو الله ـ تعالى ـ وحده ، الذي وسع علمه كل شيء. ولا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.

وإلى هنا تكون السورة الكريمة قد قصت علينا بأسلوب بليغ حكيم ، جوانب من رعاية الله ـ تعالى ـ لنبيه موسى ـ عليه‌السلام ـ ورحمته به ، كما قصت علينا تلك المحاورات التي تمت بين موسى وفرعون ، وبين موسى والسحرة كما حدثتنا عن جانب من النعم التي أنعم الله ـ تعالى ـ بها على بنى إسرائيل ، وكيف أنهم قابلوها بالجحود والكنود وبإيذاء نبيهم موسى ـ عليه‌السلام ـ.

ثم أشار ـ سبحانه ـ بعد ذلك إلى العبرة من قصص الأولين ، وإلى التنويه بشأن القرآن الكريم ، وإلى أن يوم القيامة آت لا ريب فيه ، فقال ـ تعالى ـ :

(كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (٩٩) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (١٠٠) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (١٠١) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (١٠٢) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (١٠٣) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً)(١٠٤)

والكاف في قوله ـ تعالى ـ : (كَذلِكَ) في محل نصب نعت لمصدر محذوف ، أى : نقص عليك ـ أيها الرسول الكريم ـ من أنباء ما قد سبق من أحوال الأمم الماضية ، قصصا مثل ما قصصناه عليك عن موسى وهارون. وما دار بينهما وبين فرعون وبين بنى إسرائيل.

و (مِنْ) في قوله (مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ) للتبعيض ، ويشهد لذلك أن القرآن قد صرح في كثير من آياته ، أن الله ـ تعالى ـ لم يقص على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم جميع أحوال الأمم السابقة ، ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ : (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ

١٤٨

نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) (١).

ومن فوائد ما قصه الله ـ تعالى ـ عليه من أنباء السابقين : زيادة علمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتكثير معجزاته ، وتثبيت فؤاده ، وتسليته عما أصابه من سفهاء قومه ، وتذكير المؤمنين بأحوال تلك الأمم السابقة ليعتبروا ويتعظوا.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً) تنويه وتعظيم لشأن القرآن الكريم.

أى : وقد أعطيناك ومنحناك من عندنا وحدنا (ذِكْراً) عظيما. وهو القرآن الكريم ، كما قال ـ تعالى ـ : (وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ).

قال الفخر الرازي : وفي تسمية القرآن بالذكر وجوه :

أحدها : أنه كتاب فيه ذكر ما يحتاج إليه الناس من أمر دينهم ودنياهم.

وثانيها : أنه يذكر أنواع آلاء الله ونعمائه على الناس ، ففيه التذكير والوعظ.

وثالثها : أنه فيه الذكر والشرف لك ولقومك ، كما قال ـ سبحانه ـ : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ) (٢).

ثم بين ـ سبحانه ـ سوء عاقبة من يعرض عن هداية هذا القرآن فقال : (مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً) .. (خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً).

والوزر في الأصل يطلق على الحمل الثقيل ، وعلى الإثم والذنب ، والمراد به هنا العقوبة الثقيلة الأليمة المترتبة على تلك الأثقال والآثام.

قال صاحب الكشاف : والمراد بالوزر : العقوبة الثقيلة الباهظة ، سماها وزرا تشبيها في ثقلها على المعاقب ، وصعوبة احتمالها ، بالحمل الذي يفدح الحامل ، وينقض ظهره ، أو لأنها جزاء الوزر وهو الإثم (٣).

وقد أخبرنا القرآن في كثير من آياته ، أن الكافرين يأتون يوم القيامة وهم يحملون أوزارهم ، أى : أثقال ذنوبهم على ظهورهم ، ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ : (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ ، وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ، أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) (٤).

__________________

(١) سورة النساء الآية ١٦٤.

(٢) تفسير الفخر الرازي ج ٦ ص ٧١.

(٣) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٨٦.

(٤) سورة النحل الآية ٢٥.

١٤٩

أى : من أعرض عن هذا الذكر وهو القرآن الكريم فإنه بسبب هذا الإعراض والترك ، يحمل يوم القيامة على ظهره آثاما كثيرة : تؤدى إلى العقوبة المهينة من الله ـ تعالى ـ.

وقوله : (خالِدِينَ فِيهِ) أى : في العذاب المترتب على هذا الوزر.

(وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً) أى : وبئس ما حملوا على أنفسهم من الإثم بسبب إعراضهم عن هداية القرآن الكريم.

قال الآلوسى : قوله : (وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً) إنشاء للذم ، على أن «ساء» فعل ذم بمعنى بئس .. وفاعله على هذا هنا مستتر يعود على «حملا» الواقع تمييزا .. والمخصوص بالذم محذوف ، والتقدير : ساء حملهم حملا وزرهم (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ أحوال المجرمين عند الحشر فقال : (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً).

أى : اذكر ـ أيها العاقل ـ يوم ينفخ إسرافيل في الصور النفخة الثانية ، ونحشر المجرمين يومئذ ونجمعهم للحساب حالة كونهم زرق العيون من شدة الهول ، أو حالة كونهم «زرقا» أى : عميا ، لأن العين إذا ذهب ضوؤها أزرق ناظرها. أو «زرقا» معناه : عطاشا ، لأن العطش الشديد يغير سواد العين فيجعله كالأزرق.

قال ـ تعالى ـ : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ. ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ : (يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً) استئناف لبيان ما يقوله بعضهم لبعض على سبيل الهمس وخفض الصوت.

أى : إن هؤلاء المجرمين يتهامسون فيما بينهم في هذا اليوم العصيب ، قائلين ما لبثتم في قبوركم إلا عشرا من الليالى أو الأيام.

ومقصدهم من هذا القول : استقصار المدة ، وسرعة انقضائها ، والندم على ما كانوا يزعمونه من أنه لا بعث ولا حساب ، بعد أن تبين لهم أن البعث حق ، وأن الحساب حق ، وأن الأمر على عكس ما كانوا يتوهمون.

وقوله ـ تعالى ـ : (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ ...) بيان لشمول علمه ـ سبحانه ـ.

أى : نحن وحدنا أعلم بما يقولون فيما بينهم ، لا يخفى علينا شيء مما يتخافتون به من شأن

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٦ ص ٢٥٩.

(٢) سورة الزمر الآية ٦٨.

١٥٠

مدة لبثهم في قبورهم أو في الدنيا.

(إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً) أى : أعد لهم رأيا ، وأرجحهم عقلا (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً) واحدا وقيل المراد باليوم : مطلق الوقت ، وتنكيره للتقليل والتحقير. أى : ما لبثتم في قبوركم إلا زمنا قليلا.

ونسبة هذا القول إلى أمثلهم لا لكونه أقرب إلى الصدق ، بل لكونه أدل على شدة الهول.

قال ـ تعالى ـ : (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها) أى الساعة (لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ أحوال الجبال وأحوال الناس يوم القيامة فقال ـ تعالى ـ :

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (١٠٥) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (١٠٦) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (١٠٧) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (١٠٨) يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (١٠٩) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (١١٠) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (١١١) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً)(١١٢)

والسائلون عن أحوال الجبال يوم القيامة كفار مكة ، روى أنهم قالوا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على سبيل الاستهزاء ، يا محمد إنك تدعى أن هذه الدنيا تفنى ، وأننا نبعث بعد الموت ، فأين تكون هذه الجبال ، فنزل قوله ـ تعالى ـ : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً).

__________________

(١) سورة النازعات الآية ٤٦.

١٥١

وقيل : السائلون هم المؤمنون على سبيل طلب المعرفة والفهم.

وقوله : (يَنْسِفُها) من النسف بمعنى القلع. يقال : نسفت الريح التراب نسفا ـ من باب ضرب ـ إذا اقتلعته وفرقته.

أى : ويسألك ـ أيها الرسول الكريم ـ بعض الناس عن أحوال الجبال يوم القيامة ، فقل لهم : ينسفها ربي نسفا ، بأن يقلعها من أصولها ، ثم يجعلها كالرمل المتناثر ، أو كالصوف المنفوش الذي تفرقه الرياح.

والفاء في قوله : (فَقُلْ) للمسارعة إلى إزالة ما في ذهن السائل من توهم أن الجبال قد تبقى يوم القيامة.

والضمير في قوله (فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً) يعود إلى الجبال باعتبار أجزائها السفلى الباقية بعد النسف ، ويصح أن يعود إلى الأرض المدلول عليها بقرينة الحال ، لأنها هي الباقية بعد قلع الجبال. والقاع : هو المنكشف من الأرض دون أن يكون عليه نبات أو بناء.

والصفصف : الأرض المستوية الملساء حتى لكأن أجزاءها صف واحد من كل جهة.

أى : فيتركها بعد النسف أرضا منكشفة متساوية ملساء ، لا نبات فيها ولا بناء ...

(لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) أى : لا ترى في الأرض بعد اقتلاع الجبال منها ، مكانا منخفضا ، كما لا ترى فيها (أَمْتاً) أى : مكانا مرتفعا ، بل تراها كلها مستوية ملساء كالصف الواحد.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : قد فرقوا بين العوج والعوج ، فقالوا : العوج بالكسر في المعاني : والعوج بالفتح في الأعيان ، والأرض عين ، فكيف صح فيها المكسور العين؟.

قلت : اختيار هذا اللفظ له موقع حسن بديع في وصف الأرض بالاستواء والملاسة ونفى الاعوجاج عنها على أبلغ ما يكون ، وذلك أنك لو عمدت إلى قطعة أرض فسويتها ، وبالغت في التسوية على عينك وعيون البصراء ، واتفقتم على أنه لم يبق فيها اعوجاج قط ، ثم استطلعت رأى المهندس فيها ، وأمرته أن يعرض استواءها على المقاييس الهندسية ، لعثر فيها على عوج في غير موضع ، لا يدرك ذلك بحاسة البصر ولكن بالقياس الهندسى ، فنفى الله ذلك العوج الذي دق ولطف عن الإدراك ، اللهم إلا بالقياس الذي يعرفه صاحب التقدير والهندسة ، وذلك الاعوجاج لما لم يدرك إلا بالقياس دون الإحساس لحق بالمعاني ، فقيل فيه ، عوج بالكسر والأمت : النتوء اليسير ، يقال : مد حبله حتى ما فيه أمت .. (١)

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٨٨.

١٥٢

ثم بين ـ سبحانه ـ أحوال الناس يوم القيامة فقال : (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ ...).

والمراد بالداعي : الملك الذي يدعوهم إلى المثول للحساب.

قيل : يناديهم بقوله : أيتها العظام البالية ، والجلود المتمزقة واللحوم المتفرقة .. قومي إلى ربك للحساب والجزاء ، فيسمعون الصوت ويتبعونه.

والمعنى : في هذا اليوم الذي تنسف فيه الجبال ، وتصير الأرض قاعا صفصفا يقوم الناس من قبورهم ، ويتبعون من يناديهم للحساب والجزاء دون أن يحيدوا عن هذا المنادى ، أو أن يملكوا مخالفته أو عصيانه ، بل الجميع يسمع دعاءه ويستجيب لأمره.

كما قال ـ تعالى ـ : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ. خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ : مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) (١).

وقوله : (وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً) أى : وخفتت وسكنت الأصوات كلها هيبة وخوفا من الرحمن ـ عزوجل ـ فلا تسمع ـ أيها المخاطب ـ في هذا اليوم الهائل الشديد (إِلَّا هَمْساً) أى : إلا صوتا خفيا خافتا. يقال : همس الكلام يهمسه همسا ، إذا أخفاه ، ويقال للأسد : الهموس ، لخفاء وطئه.

(يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ ، وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) أى : في هذا اليوم الذي تخشع فيه الأصوات لا تنفع الشفاعة أحدا كائنا من كان ، إلا شفاعة من أذن له الرحمن في ذلك (وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) أى : ورضى ـ سبحانه ـ قول الشافع فيمن يشفع له.

قال الإمام ابن كثير : وهذه الآية كقوله ـ تعالى ـ : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) وكقوله : (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) ، وكقوله : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) ...

وفي الصحيحين من غير وجه ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «آتى تحت العرش ، وأخر لله ساجدا ، وبفتح على بمحامد لا أحصيها الآن ، ثم يقول ـ سبحانه ـ : «يا محمد ، ارفع رأسك ، وقل يسمع قولك ، واشفع تشفع. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فيحد لي حدا ، فأدخلهم الجنة ، ثم أعود ، فذكر أربع مرات» صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى سائر الأنبياء ...

وفي الحديث : يقول ـ تعالى ـ : «أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان

__________________

(١) سورة القمر الآيات ٦ ـ ٨.

١٥٣

فيخرجون خلقا كثيرا ، ثم يقول ـ سبحانه ـ : أخرجوا من النار من كان في قلبه نصف مثقال من إيمان ، أخرجوا من النار من كان في قلبه ما يزن ذرة ، من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان» (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) بيان لشمول علمه ـ سبحانه ـ لكل شيء.

أى : الله ـ تعالى ـ وحده هو الذي يعلم جميع أحوال خلقه سواء ما كان منها يتعلق بما بين أيديهم من أمور الآخرة وأهوال الموقف ، أم ما كان منها يتعلق بما خلفهم من أمور الدنيا ، أما هم فإنهم لا يحيط علمهم لا بذاته ـ تعالى ـ ولا بصفاته ، ولا بمعلوماته.

فالضمير في قوله (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) يعود على المتبعين للداعي وهم الخلق جميعا ...

وقيل : يعود للشافعين ، وقيل للملائكة ، والأول أولى لعمومه.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ...) مؤكد ومقرر لما قبله من خشوع الأصوات يوم القيامة للرحمن ، ومن عدم الشفاعة لأحد إلا بإذنه ـ عزوجل ـ.

والفعل (عَنَتِ) بمعنى ذلت يقال : عنا فلان يعنو عنوا ـ من باب سما ـ إذا ذل لغيره وخضع وخشع ، ومنه قيل للأسير عان لذله وخضوعه لمن أسره.

أى : وذلت وجوه الناس وخضعت في هذا اليوم لله ـ تعالى ـ وحده (لِلْحَيِ) أى : الباقي الذي له الحياة الدائمة التي لا فناء معها (الْقَيُّومِ) أى : الدائم القيام بتدبير أمر خلقه وإحيائهم وإماتتهم ورزقهم .. وسائر شئونهم.

وهذا اللفظ مبالغة في القيام. وأصله قيووم بوزن فيعول .. من قام بالأمر.

إذا حفظه ودبره.

وخصت الوجوه بالذكر لأنها أشرف الأعضاء ، وآثار الذل أكثر ما تكون ظهورا عليها.

وظاهر القرآن يفيد أن المراد بالوجوه جميعها ، سواء أكانت للمؤمنين أم لغيرهم ، فالكل يوم القيامة خاضع لله ـ تعالى ـ ومستسلم لقضائه ، فالألف واللام للاستغراق.

قال ابن كثير : قوله ـ تعالى ـ : (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) قال ابن عباس وغير واحد ـ من السلف ـ خضعت وذلت واستسلمت الخلائق لخالقها وجبارها الحي الذي لا يموت .. (٢).

__________________

(١ ، ٢) تفسير ابن كثير ج ٣ ص ٣١١.

١٥٤

ويرى بعضهم أن المراد بالوجوه التي ذلت وخشعت في هذا اليوم ، وجوه الكفار والفاسقين ، وإلى هذا المعنى اتجه صاحب الكشاف فقال : المراد بالوجوه وجوه العصاة ، وأنهم إذا عاينوا ـ يوم القيامة ـ الخيبة والشقوة وسوء الحساب وصارت وجوههم عانية ، أى : ذليلة خاشعة ، مثل وجوه العناة وهم الأسارى ، ونحوه قوله ـ تعالى ـ : (فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) (١).

ويبدو لنا أن القول الأول أقرب إلى الصواب ، لأن جميع الوجوه يوم القيامة تكون خاضعة لحكم الله ـ تعالى ـ ومستسلمة لقضائه.

وقوله : (وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) جملة حالية ، أى : ذلت جميع الوجوه لله ـ تعالى ـ يوم القيامة ، والحال أنه قد خاب وخسر من حمل في دنياه ظلما ، أى : شركا بالله ـ تعالى ـ أو فسوقا عن أمره ـ سبحانه ـ ولم يقدم العمل الصالح الذي ينفعه في ذلك اليوم العسير.

ثم بشر ـ سبحانه ـ المؤمنين بما يشرح صدورهم فقال : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً).

أى : ومن يعمل في دنياه الأعمال الصالحات ، وهو مع ذلك مؤمن بكل ما يجب الإيمان به. فإنه في هذه الحالة (فَلا يَخافُ ظُلْماً) ينزل به. ولا يخاف (هَضْماً) لشيء من حقوقه أو ثوابه.

يقال : هضم فلان حق غيره ، إذا انتقصه حقه ولم يوفه إياه.

قالوا : والفرق بين الظلم والهضم : أن الظلم قد يكون بمنع الحق كله ، أما الهضم فهو منع لبعض الحق. فكل هضم ظلم ، وليس كل ظلم هضما.

فالآية الكريمة قد بشرت المؤمنين ، بأن الله ـ تعالى ـ بفضله وكرمه سيوفيهم أجورهم يوم القيامة ، بدون أدنى ظلم أو نقص من ثوابهم ، فالتنكير في قوله (ظُلْماً وَلا هَضْماً) للتقليل.

ثم نوه ـ سبحانه ـ بشأن القرآن الكريم الذي أنزله على نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين بعض الحكم من إنزاله ، وطلب من نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يسأله المزيد من العلم فقال ـ تعالى ـ :

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (١١٣)

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٨٩.

١٥٥

فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) (١١٤)

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ ...) معطوف على قوله : (كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ ..) والكاف للتشبيه ، واسم الإشارة يعود على إنزال ما سبق من آيات.

أى : ومثل ما أنزلنا الآيات السابقة المشتملة على الآداب والأحكام والقصص ، أنزلنا عليك يا محمد القران كله ، فما نزل منه متأخرا يشبه في هدايته وإعجازه ما نزل منه متقدما.

وقد اقتضت حكمتنا أن نجعله (قُرْآناً عَرَبِيًّا) أى : بلغة العرب ، لكي يفهموه ويقعوا على ما فيه من هدايات وإرشادات وإعجاز للبشر.

وقوله : (وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ) معطوف على (أَنْزَلْناهُ) أى : أنزلناه قرآنا عربيا وكررنا ونوعنا فيه ألوانا من الوعيد على سبيل التخويف والتهديد.

(لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أى : لعل الناس يتقون ـ بسبب ذلك ـ الوقوع في الكفر والفسوق والعصيان ، ويجتنبون الآثام والسيئات ، ويصونون أنفسهم عن الموبقات فمعمول (يَتَّقُونَ) محذوف.

وقوله ـ سبحانه ـ : (أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً) بيان لحكمة أخرى من الحكم التي من أجلها أنزل الله القرآن الكريم.

أى : أنزلناه بهذه الصفة ، وجعلناه مشتملا على ضروب من الوعيد ، لعل قومك ـ أيها الرسول الكريم ـ يتقون الكفر والمعاصي ، أو لعل القرآن يحدث في نفوسهم (ذِكْراً).

أى : اتعاظا واعتبارا يصرفهم عن التردي فيما تردت فيه الأمم السابقة من آثام وموبقات أدت إلى هلاكها.

وقال ـ سبحانه ـ : (أَنْزَلْناهُ) بالإضمار مع أن القرآن لم يسبق له ذكر في الآيات السابقة ، للإيذان بنباهة شأنه ، وعلو قدره ، وكونه مركوزا في العقول ، حاضرا في الأذهان والقلوب.

ثم أثنى ـ سبحانه ـ على ذاته بما يستحقه من صفات كريمة فقال : (فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُ).

١٥٦

أى : فجل وعظم شأن الله ـ سبحانه ـ عن إلحاد الملحدين ، وإشراك المشركين فإنه هو وحده (الْمَلِكُ) المتصرف في شئون خلقه ، وهو وحده الإله (الْحَقُ) وكل ما سواه فهو باطل.

ثم أرشد الله ـ تعالى ـ نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى كيفية تلقى القرآن من جبريل ـ عليه‌السلام فقال : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ..).

أى : ولا تتعجل بقراءة القرآن من قبل أن ينتهى جبريل من إبلاغه إليك ، قالوا : وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلما قرأ عليه جبريل آية قرأها معه ، وذلك لشدة حرصه على حفظ القرآن ، ولشدة شوقه إلى سماعه ، فأرشده الله ـ تعالى ـ في هذه الآية إلى كيفية تلقى القرآن عن جبريل ، ونهاه عن التعجل في القراءة.

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ. إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ. فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) (١).

ثم أمر ـ سبحانه ـ نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أن يسأله المزيد من العلم فقال : (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً).

أى : وقل ـ أيها الرسول الكريم ـ مخاطبا ربك ومتوسلا إليه ، يا رب زدني من علمك النافع.

قال الآلوسى : واستدلوا بالآية على فضل العلم حيث أمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطلب الزيادة منه ، وذكر بعضهم أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أمر بطلب الزيادة من شيء سوى العلم. وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «اللهم انفعني بما علمتني ، وعلمني ما ينفعني ، وزدني علما» وكان يقول : «اللهم زدني إيمانا وفقها ويقينا وعلما» (٢).

ثم ساق ـ سبحانه ـ جانبا من قصة آدم ـ عليه‌السلام ـ فذكر لنا كيف أنه نسى عهد ربه له ، فأكل من الشجرة التي نهاه الله ـ تعالى ـ عن الأكل منها ، ومع ذلك فقد قبل ـ سبحانه ـ توبته ، وغسل حوبته .. قال ـ تعالى ـ :

(وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (١١٥) وَإِذْ قُلْنا

__________________

(١) سورة القيامة الآيات ١٦ ـ ١٩.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٦ ص ٢٦٩.

١٥٧

لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (١١٦) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (١١٧) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (١١٨) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (١١٩) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (١٢٠) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (١٢١) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (١٢٢) قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى)(١٢٣)

واللام في قوله ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ عَهِدْنا ...) هي الموطئة للقسم ، والمعهود محذوف ، وهو النهى عن الأكل من شجرة معينة ، كما وضحه في آيات أخرى منها قوله ـ تعالى ـ : (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ).

أى : والله لقد عهدنا إلى آدم ـ عليه‌السلام ـ وأوصيناه ألا يقرب تلك الشجرة (مِنْ قَبْلُ) أن يخالف أمرنا فيقربها ويأكل منها ، أو من قبل أن نخبرك بذلك ـ أيها الرسول الكريم ـ.

والفاء في قوله (فَنَسِيَ) للتعقيب ، والمفعول محذوف. أى : فنسي العهد الذي أخذناه عليه بعدم الأكل منها.

والنسيان هنا يرى بعضهم أنه بمعنى الترك ، وقد ورد النسيان بمعنى الترك في كثير من آيات القرآن الكريم. ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ : (وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) (١) أى : نترككم كما تركتم لقاء يومكم هذا وهو يوم القيامة.

__________________

(١) سورة الجاثية الآية ٣٤.

١٥٨

وعليه يكون المعنى : ولقد عهدنا إلى آدم من قبل بعدم الأكل من الشجرة فترك الوفاء بعهدنا وخالف ما أمرناه به.

وعلى هذا التفسير فلا إشكال في وصف الله ـ تعالى ـ له بقوله : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) لأن آدم بمخالفته لما نهاه الله ـ تعالى ـ عنه وهو الأكل من الشجرة ـ صار عاصيا لأمر ربه.

ومن العلماء من يرى أن النسيان هنا على حقيقته ، أى : أنه ضد التذكر فيكون المعنى : ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ما عاهدناه عليه ، وغاب عن ذهنه ما نهيناه عنه ، وهو الأكل من الشجرة.

فإن قيل : إن الناسي معذور. فكيف قال الله ـ تعالى ـ في حقه : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى)؟.

فالجواب : أن آدم ـ عليه‌السلام ـ لم يكن معذورا بالنسيان ، لأن العذر بسبب الخطأ والنسيان والإكراه. من خصائص هذه الأمة الإسلامية ، بدليل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله تجاوز لي عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه».

قال القرطبي ما ملخصه : قوله ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ ..) للنسيان معنيان : أحدهما : الترك ، أى ترك الأمر والعهد ، وهذا قول مجاهد وأكثر المفسرين ، ومنه (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) وثانيهما : قال ابن عباس : «نسى» هنا من السهو والنسيان ، وإنما أخذ الإنسان من أنه عهد إليه فنسي ... وعلى هذا القول يحتمل أن يكون آدم في ذلك الوقت مؤاخذا بالنسيان ، وإن كان النسيان عنا اليوم مرفوعا.

والمراد تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أى : أن طاعة بنى آدم للشيطان أمر قديم أى : إن نقض هؤلاء ـ المشركون ـ العهد ، فإن آدم ـ أيضا ـ عهدنا إليه فنسي ..» (١).

وقوله : (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) مقرر لما قبله من غفلة آدم عن الوفاء بالعهد.

قال الجمل : وقوله : (نَجِدْ) يحتمل أنه من الوجدان بمعنى العلم ، فينصب مفعولين ، وهما «له» و «عزما» ويحتمل أنه من الوجود الذي هو ضد العدم فينصب مفعولا وهو (عَزْماً) والجار والمجرور متعلق بنجد (٢).

والعزم : توطين النفس على الفعل ، والتصميم عليه ، والمضي في التنفيذ للشيء ..

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١١ ص ٢٥١.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ١١٣.

١٥٩

أى : فنسي آدم عهدنا ، ولم نجد له ثبات قدم في الأمور ، يجعله يصبر على عدم الأكل من الشجرة بل لانت عريكته وفترت همته بسبب خديعة الشيطان له.

ثم ذكر ـ سبحانه ـ بعد ذلك بشيء من التفصيل ، الأسباب التي أدت إلى نسيان آدم وضعف عزيمته فقال : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى).

أى : واذكر ـ أيها المخاطب ـ وقت أن قلنا للملائكة اسجدوا لآدم سجود تكريم لا سجود عبادة ، فامتثلوا لأمرنا ، إلا إبليس فإنه أبى السجود لآدم تكبرا وغرورا وحسدا له على هذا التكريم.

ثم حكى ـ سبحانه ـ ما قاله لآدم بعد إباء إبليس عن السجود له فقال : (يا آدَمُ إِنَّ هذا) أى : إبليس (عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ) بسبب حسده لكما وحقده عليكما (فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى) أى : فاحذرا أن تطيعاه ، فإن طاعتكما له ستؤدى بكما إلى الخروج من الجنة ، فيترتب على ذلك شقاؤك ، أى : تعبك في الحصول على مطالب حياتك.

وأسند سبحانه إلى إبليس الإخراج لهما من الجنة ، لأنه هو المتسبب في ذلك ، عن طريق الوسوسة لهما ، وطاعتهما له فيما حرضهما عليه وهو الأكل من الشجرة ، وعبر عن التعب في طلب المعيشة بالشقاء ، لأنه بعد خروجه من الجنة سيقوم بحراثة الأرض وفلاحتها وزرعها وريها ... ثم حصدها .. ثم إعداد نتاجها للأكل ، وفي كل ذلك ما فيه من شقاء وكد وتعب.

وقال ـ سبحانه ـ : (فَتَشْقى) ولم يقل فتشقيا كما قال (فَلا يُخْرِجَنَّكُما) لأن الكلام من أول القصة مع آدم وحده : أو لأن شقاء الرجل يدخل فيه شقاء أهله ، كما أن سعادته سعادتهم ، أو لأنه هو الذي يعود عليه التعب إذ هو المكلف بأن يقدم لها ما تحتاجه من مطالب الحياة. كالمسكن والملبس والمطعم والمشرب.

قال القرطبي ما ملخصه : قوله (فَتَشْقى) يعنى أنت وزوجك لأنهما في استواء العلة واحد ، ولم يقل : فتشقيا لأن المعنى معروف ، وآدم ـ عليه‌السلام ـ هو المخاطب ، وهو المقصود. وأيضا لما كان هو الكاد عليها والكاسب لها كان بالشقاء أخص.

وفي ذلك تعليم لنا أن نفقة الزوجة على الزوج ، فمن يومئذ جرت نفقة النساء على الأزواج ، فلما كانت نفقة حواء على آدم ، كانت كذلك نفقات بناتها على بنى آدم بحق الزوجية .. (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١١ ص ٢٥٣.

١٦٠