التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٩

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٩

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0683-3
الصفحات: ٣٥٥

كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (٦٩) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى)(٧٠)

فقوله ـ تعالى ـ : (قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ ...) حكاية لما وجهه موسى ـ عليه‌السلام ـ من نصح وإنذار. قيل : كان عددهم اثنين وسبعين ، وقيل : أكثر من ذلك.

قال الجمل : قوله (فَيُسْحِتَكُمْ) قرأ الأخوان وحفص عن عاصم فيسحتكم ـ بضم الياء وكسر الحاء ـ. وقرأ الباقون بفتحهما. فقراءة الأخوين من أسحت الرباعي ، وهي لغة نجد وتميم ، وقراءة الباقين من سحت الثلاثي ـ وبابه قطع ـ وهي لغة الحجازيين.

وأصل هذه المادة. الدلالة على الاستقصاء ، والنفاد ، ومنه سحت الحالق الشعر ، أى : استقصاء فلم يترك منه شيئا ، ويستعمل في الإهلاك والإذهاب ، ونصبه بإضمار أن في جواب النهى (١).

أى : قال موسى ـ عليه‌السلام ـ للسحرة الذين التقى بهم وجها لوجه بعد أن حشدهم فرعون أمامه ، فقال لهم : الويل والهلاك لكم ، لا تفتروا على الله ـ تعالى ـ كذبا ، بأن تقفوا في وجهى ، وتزعموا أن معجزاتي هي نوع من السحر. فإنكم لو فعلتم ذلك أهلككم الله ـ تعالى ـ وأبادكم بعذاب عظيم من عنده.

وجملة (وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى) معترضة لتقرير وتأكيد ما قبلها.

أى : وقد خاب وخسر كل من قال على الله ـ تعالى ـ قولا باطلا لا حقيقة له ، وفرعون أول المبطلين المفترين الخاسرين ، فاحذروا أن تسيروا في ركابه ، أو أن تطيعوا له أمرا.

ويبدو أن هذه النصيحة الصادقة المخلصة كان لها أثرها الطيب في نفوس بعض السحرة ، بدليل قوله ـ تعالى ـ بعد ذلك (فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى) والنجوى : المسارة في الحديث.

أى : وبعد أن سمع السحرة من موسى نصيحته لهم وتهديده إياهم بالاستئصال والهلاك. إذا ما استمروا في ضلالهم ، اختلفوا فيما بينهم ، (وَأَسَرُّوا النَّجْوى) أى : وبالغوا في إخفاء ما يسارون به عن موسى وأخيه ـ عليهما‌السلام ـ.

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ٩٨.

١٢١

فمنهم من قال ـ كما روى عن قتادة ـ : إن كان ما جاءنا به موسى سحرا فسنغلبه ، وإن كان من عند الله فسيكون له أمر.

ومنهم من قال بعد أن سمع كلام موسى : ما هذا بقول ساحر.

ومنهم من أخذ في حض زملائه المترددين على منازلة موسى ـ عليه‌السلام ـ ، لأنه جاء هو وأخوه لتغيير عقائد الناس ولاكتساب الجاه والسلطان ، ولسلب المنافع التي تأتى لهم أى للسحرة عن طريق السحر ..

ويبدو أن هذا الفريق الأخير هو الذي استطاع أن ينتصر على غيره من السحرة في النهاية ، بدليل قوله ـ تعالى ـ بعد ذلك : (قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما ، وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى * فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى).

فهاتان الآيتان تشيران إلى خوف السحرة من موسى وهارون ، وإلى أنهم بذلوا أقصى جهدهم في تجميع صفوفهم ، وفي تشجيع بعضهم لبعض ، حتى لا يستلب موسى ـ عليه‌السلام ـ منهم جاههم وسلطانهم ومنافعهم ...

أى : قال السحرة بعضهم لبعض بطريق التناجي والإسرار ، ما استقر عليه رأيهم ، من أن موسى وهارون ساحران (يُرِيدانِ) عن طريق سحرهما أن يخرجا السحرة من أرضهم مصر : ليستوليا هما وأتباعهما عليها.

ويريدان كذلك أن يذهبا بطريقتكم المثلى. أى بمذهبكم ودينكم الذي هو أمثل المذاهب وأفضلها ، وبملككم الذي أنتم فيه ، وبعيشكم الذي تنعمون به.

فالمثلى : مؤنث أمثل بمعنى أشرف وأفضل. وإنما أنث باعتبار التعبير بالطريقة. هذا ، وهناك قراءات في قوله تعالى : (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) ذكرها الإمام القرطبي.

فقال ما ملخصه : قوله ـ تعالى ـ : (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) قرأ أبو عمرو : إن هذين لساحران ورويت ـ هذه القراءة ـ عن عثمان وعائشة وغيرهما من الصحابة ...

وقرأ الزهري والخليل ابن أحمد وعاصم في رواية حفص عنه (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) بتخفيف (إِنْ) ... وهذه القراءة سلمت من مخالفة المصحف ومن فساد الإعراب ، ويكون معناها : ما هذان إلا ساحران.

١٢٢

وقرأ المدنيون والكوفيون : (إِنْ هذانِ) بتشديد إن (لَساحِرانِ) فوافقوا المصحف وخالفوا الإعراب.

فهذه ثلاث قراءات قد رواها الجماعة من الأئمة ..

والعلماء في قراءة أهل المدينة والكوفة ستة أقوال : الأول أنها لغة بنى الحارث بن كعب وزبيد وخثعم .. ، يجعلون رفع المثنى ونصبه وخفضه بالألف .. وهذا القول من أحسن ما حملت عليه الآية (١).

والفاء في قوله ـ تعالى ـ : (فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ...) فصيحة ، أى : إذا كان الأمر كذلك من أن موسى وهارون قد حضرا ليخرجاكم من أرضكم بسحرهما .. (فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ) أى : فأحكموا سحركم واعزموا عليه ولا تجعلوه متفرقا.

يقال : أجمع فلان رأيه وأزمعه ، إذا عزم عليه وأحكمه واستعد لتنفيذه وقوله (ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا) أى : ثم ائتوا جميعا مصطفين ، حتى يكون أمركم أكثر هيبة في النفوس ، وأعظم وقعا على القلوب ، وأدعى إلى الترابط والثبات وقوله (وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى) تذييل مؤكد لما قبله.

أى : وقد أفلح وفاز بالمطلوب في يوم النزال من طلب العلو ، وسعى من أجله ، واستطاع أن يتغلب على خصمه ، لأننا إذا تغلبنا على موسى كانت لنا الجوائز العظمى ، وإذا تغلب علينا خسرنا خسارة ليس هناك ما هو أشد منها.

وحانت ساعة المبارزة والمنازلة. فتقدم السحرة نحو موسى ـ عليه‌السلام ـ وقالوا له ـ كما حكى القرآن عنهم ـ : (.. يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى).

والإلقاء في الأصل : طرح الشيء ، ومفعول «تلقى» محذوف للعلم به ، والمراد به العصا.

أى ؛ قال السحرة لموسى على سبيل التخيير الذي يبدو فيه التحدي والتلويح بالقوة : يا موسى إما أن تلقى أنت عصاك قبلنا ، وإما أن تتركنا لنلقى حبالنا وعصينا قبلك.

قال الآلوسى : خيروه ـ عليه‌السلام ـ وقدموه على أنفسهم إظهارا للثقة بأمرهم. وقيل. مراعاة للأدب معه ـ عليه‌السلام ـ. و «أن» مع ما في حيزها منصوب بفعل مضمر. أى ، إما تختار إلقاءك أو تختار كوننا أول من ألقى. أو مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف.

أى : «الأمر إما إلقاؤك أو كوننا أول من ألقى ..» (٢).

__________________

(١) راجع تفسير القرطبي ج ١١ ص ٢١٦.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٦ ص ٢٢٦.

١٢٣

ثم حكى القرآن بعد ذلك أن موسى ـ عليه‌السلام ـ ترك فرصة البدء لهم ، واستبقى لنفسه الجولة الأخيرة ، فقال ـ تعالى ـ : (قالَ بَلْ أَلْقُوا ، فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى). والتخيل : هو إبداء أمر لا حقيقة له. ومنه الخيال ، وهو الطيف الطارق في النوم.

أى : قال موسى ـ عليه‌السلام ـ للسحرة في الرد على تخييرهم له ، ابدءوا أنتم بإلقاء ما معكم من حبال وعصى.

والفاء في قوله : (فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ ...) فصيحة وهي معطوفة على كلام محذوف ، وإذا هي الفجائية.

أى : قال لهم موسى بل ألقوا أنتم أولا ، فامتثلوا أمره وألقوا ما معهم ، فإذا حبالهم وعصيهم التي طرحوها ، جعلت موسى ـ لشدة اهتزازها واضطرابها ـ يخيل إليه من شدة سحرهم ، أن هذه الحبال والعصى حيات تسعى على بطونها.

قال ابن كثير : وذلك أنهم أودعوها من الزئبق ما كانت تتحرك بسببه وتضطرب وتميد ، بحيث يخيل للناظر أنها تسعى باختيارها ، وإنما كانت حيلة ، وكانوا جمّا غفيرا ، وجمعا كبيرا ـ أى السحرة ـ فألقى كل منهم عصا وحبلا حتى صار الوادي ملآن حيات ، يركب بعضها بعضا .. (١).

ويبدو أن فعل السحرة هذا ، قد أثر في موسى ـ عليه‌السلام ـ بدليل قوله ـ تعالى ـ : (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى).

والإيجاس : الإخفاء والإضمار ، والخيفة : الخوف. أى ؛ فأخفى موسى ـ عليه‌السلام ـ في نفسه شيئا من الخوف ، حين رأى حبال السحرة وعصيهم كأنها حيات تسعى على بطونها ، وخوفه هذا حدث له بمقتضى الطبيعة البشرية عند ما رأى هذا الأمر الهائل من السحر ، وبمقتضى أن يؤثر هذا السحر في نفوس الناس فيصرفهم عما سيفعله.

وهنا ثبته الله ـ تعالى ـ وقواه ، وأوحى إليه ـ سبحانه ـ بقوله : (قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى).

أى : قلنا له عند ما أوجس في نفسه خيفة من فعل السحرة : لا تخف يا موسى مما فعلوه ، إنك أنت الأعلى عليهم بالغلبة والظفر. أنت الأعلى لأن معك الحق ومعهم الباطل.

وقد أكد الله ـ تعالى ـ هذه البشارة لموسى بجملة من المؤكدات أحدها : إن المؤكدة ،

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ٢٩٤ ـ طبعة دار الشعب ـ.

١٢٤

وثانيها : تكرير الضمير وثالثها : التعبير بالعلو المفيد للاستعلاء عليهم.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا ..) زيادة في تشجيعه وتثبيته.

وتلقف من اللقف بمعنى الأخذ للشيء بسرعة وخفة. يقال : لقف فلان يلقفه لقفا ولقفانا ، إذا تناوله بسرعة وحذق باليد أو الفم.

وفي هذه الكلمات ثلاث قراءات سبعية ، أحدها : «تلقّف» بتاء مفتوحة مخففة ، بعدها لام مفتوحة ، ثم قاف مشددة وفاء ساكنة ، وأصل الفعل تتلقف ، فحذفت إحداهما تخفيفا ، وهو مجزوم في جواب الأمر وهو (أَلْقِ).

وثانيها : (تَلْقَفْ) كالقراءة السابقة مع ضم الفاء ، على أن الفعل خبر لمبتدأ محذوف. أى : وألق ما في يمينك فهي تلقف ما صنعوا.

وثالثها : (تَلْقَفْ) بفتح التاء وسكون اللام وفتح القاف المخففة وجزم الفعل كالقراءة الأولى.

والمراد بما في يمينه عصاه ، كما جاء ذلك صريحا في آيات أخرى منها قوله ـ تعالى ـ : (فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ).

وعبر عنها بقوله : (ما فِي يَمِينِكَ) على سبيل التهويل من شأنها ، أو لتذكيره بما شاهده منها بعد أن قال الله ـ تعالى ـ له قبل ذلك (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى .. قالَ أَلْقِها يا مُوسى ، فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى ...).

والمعنى : وألق يا موسى ما في يمينك تبتلع كل ما صنعه السحرة من تمويه وتزوير وتخييل ، جعل الناس يتوهمون أن حبالهم وعصيهم تسعى.

قال ابن كثير : وذلك أنها صارت تنينا هائلا ـ أى حية عظيمة ـ ذا عيون وقوائم وعنق ورأس وأضراس ، فجعلت تتبع تلك الحبال والعصى حتى لم تبق منها شيئا إلا تلقفته وابتلعته ، والسحرة والناس ينظرون إلى ذلك عيانا جهارا نهارا .. فقامت المعجزة ، واتضح البرهان ، وبطل ما كانوا يعملون (١).

وقوله : (إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ) تعليل لقوله (تَلْقَفْ ما صَنَعُوا) و (ما) موصولة وهي اسم إن ، و (كَيْدُ) خبرها ، والعائد محذوف.

والتقدير : وألق يا موسى عصاك تلقف ما صنعوه ، فإن الذي صنعوه إنما هو كيد من جنس كيد السحرة وصنعهم وتمويههم.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ٢٩٦.

١٢٥

(وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ) أى ولا يفوز هذا الجنس من الناس (حَيْثُ أَتى) أى : حيث كان فحيث ظرف مكان أريد به التعميم.

أى : أن الساحر لا يفلح ولا يفوز أينما كان ، وحيثما أقبل ، وأنّى اتجه ، لأنه يصنع للناس التخييل والتمويه والتزوير والتزييف للحقائق.

قال صاحب الكشاف : «فإن قلت : لم وحد ساحر ولم يجمع؟ قلت : لأن القصد في هذا الكلام إلى معنى الجنسية ، لا إلى معنى العدد. فلو جمع لخيل أن المقصود هو العدد (١).

ثم كانت بعد ذلك المفاجأة الكبرى فقد آمن السحرة حين رأوا ما رأوا بعد أن ألقى موسى ما في يمينه ، قال ـ تعالى ـ : (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى).

قال الآلوسى : «والفاء في قوله (فَأُلْقِيَ ...) فصيحة معربة عن جمل غنية عن التصريح».

أى : فزال الخوف ، وألقى موسى ما في يمينه ، وصارت حية ، وتلقفت حبالهم وعصيهم ، وعلم السحرة أن ذلك معجزة ، فخروا سجدا لله على وجوههم قائلين آمنا برب هارون وموسى .. (٢).

والحق أن التعبير بقوله ـ تعالى ـ : (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً ..) يدل على قوة البرهان الذي عاينوه ، حتى لكأنهم أمسكهم إنسان وألقاهم ساجدين بالقوة لعظم المعجزة التي عاينوها ، وأطلق ـ سبحانه ـ عليهم اسم السحرة في حال سجودهم له ـ تعالى ـ وإيمانهم به ، نظرا إلى حالهم الماضية.

وهكذا النفوس النقية عند ما يتبين لها الحق ، لا تلبث أن تفيء إليه ، وتستجيب لأهله. قال الكرخي : خروا ساجدين لله لأنهم كانوا في أعلى طبقات السحر ، فلما رأوا ما فعله موسى خارجا عن صناعتهم ، عرفوا أنه ليس من السحر ألبتة (٣).

وقال صاحب الكشاف : «ما أعجب أمرهم ، قد ألقوا حبالهم وعصيهم للكفر والجحود. ثم ألقوا رءوسهم بعد ساعة للشكر والسجود. فما أعظم الفرق بين الإلقاءين» (٤).

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك ما توعد فرعون به السحرة ، وموقفهم من هذا الوعيد فقال ـ تعالى ـ :

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٧٥.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٦ ص ٢٣٠.

(٣) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ١٠١.

(٤) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٧٥.

١٢٦

(قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (٧١) قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (٧٢) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (٧٣) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (٧٤) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (٧٥) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى)(٧٦)

أى : قال فرعون للسحرة بعد أن شاهدهم وقد خروا لله ـ تعالى ـ ساجدين : (آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) أى : هل آمنتم لموسى وصدقتموه في دعوته وانقدتم له ، قبل أن أعطيكم الإذن بذلك. فالاستفهام للتقريع والتهديد.

(إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) أى : أن موسى الذي انقدتم له لهو كبيركم وشيخكم الذي علمكم فنون السحر ، فأنتم تواطأتم معه. وآمنتم به لأنكم من أتباعه.

وغرضه من هذا القول صرف الناس عن التأسى بهم ، وعن الإيمان بالحق الذي آمن به السحرة والظهور أمام قومه بمظهر الثبات والتماسك بعد أن استبد به وبهم الخوف والهلع ، من هول ما رأوه.

ثم أضاف إلى قوله هذا تهديدا أشد فقال : (فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ، وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ).

أى : فو الله لأقطعن أيديكم اليمنى ـ مثلا ـ مع أرجلكم اليسرى ، ولأصلبنكم على

١٢٧

جذوع النخل ، لتكونوا عبرة لغيركم ممن تسول له نفسه أن يفعل فعلكم.

فالمراد من قوله «من خلاف» أى : من الجهة المخالفة أو من الجانب بأن يقطع اليد اليمنى ومعها الرجل اليسرى ، لأن ذلك أشد على الإنسان من قطعهما من جهة واحدة إذ قطعهما من جهة واحدة يبقى عنده شيء كامل صحيح ، بخلاف قطعهما من جهتين مختلفتين فإنه إفساد للجانبين.

واختار أن يصلبهم في جذوع النخل ، لأن هذه الجذوع أخشن من غيرها والتصليب عليها أشق من التصليب على غيرها ، وأظهر للرائى لعلوها عن سواها. فهو لطغيانه وفجوره اختار أقسى ألوان العذاب ليصبها على هؤلاء المؤمنين.

قال الجمل : قوله : (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) يحتمل أن يكون حقيقة. وفي التفسير أنه نقر جذوع النخل حتى جوفها ووضعهم فيها فماتوا جوعا وعطشا.

ويحتمل أن يكون مجازا وله وجهان : أحدهما : أنه وضع حرفا مكان آخر ، والأصل على جذوع النخل ، والثاني : أنه شبه تمكنهم بتمكن من حواه الجذع واشتمل عليه.

وقال الكرخي «في» بمعنى «على» مجازا ، من حيث إنه شبه تمكن المصلوب بالجذع ، بتمكن المظروف في الظرف وهذا هو المشهور (١).

وقوله : (وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى) تهديد فوق تهديد ، ووعيد إثر وعيد.

أى : والله لتعلمن أيها السحرة أينا أشد تعذيبا لكم ، وأبقى في إنزال الهلاك بكم ، أنا أم موسى وربه.

وكأنه بهذا التهديد يريد أن يهون من كل عذاب سوى عذابه لهم ، ومن كل عقاب غير عقابه إياهم.

وهذا التهديد التي حكاه الله ـ تعالى ـ هنا ، قد جاء ما يشبهه في آيات أخرى منها قوله ـ تعالى ـ : (قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ، إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ* لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) (٢).

ثم حكى ـ سبحانه ـ أن السحرة بعد أن استقر الإيمان في قلوبهم ، قد قابلوا تهديد فرعون لهم بالاستخفاف وعدم الاكتراث فقال : (قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ ،

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ١٠١.

(٢) سورة الأعراف الآيتان ١٢٣ ، ١٢٤.

١٢٨

وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ ..).

أى : قال السحرة في ردهم على تهديد فرعون لهم : لن نختارك يا فرعون ولن نرضى بأن نكون من حزبك ، ولن نقدم سلامتنا من عذابك .. على ما ظهر لنا من المعجزات التي جاءنا بها موسى ، والتي على رأسها عصاه التي ألقاها فإذا هي تبتلع حبالنا وعصينا.

وجملة «والذي فطرنا» الواو فيها للعطف على «ما» في قوله (ما جاءَنا).

أى : لن نختارك يا فرعون على الذي جاءنا من البينات على يد موسى ، ولا على الذي فطرنا أى ؛ خلقنا وأوجدنا في هذه الحياة.

ويصح أن تكون هذه الواو للقسم ، والموصول مقسم به ، وجواب القسم محذوف دل عليه ما قبله ، والمعنى : وحق الذي فطرنا لن نؤثرك يا فرعون على ما جاءنا من البينات.

وقوله : (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ) تصريح منهم بأن تهديده لهم لا وزن له عندهم ، ورد منهم على قوله : (فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ).

أى : لن نقدم طاعتك على طاعة خالقنا بعد أن ظهر لنا الحق ، فافعل ما أنت فاعله ، ونفذ ما تريد تنفيذه في جوارحنا ، فهي وحدها التي تملكها ، أما قلوبنا فقد استقر الإيمان فيها ، ولا تملك شيئا من صرفها عما آمنت به.

قال بعض العلماء : واعلم أن العلماء اختلفوا : هل فعل بهم فرعون ما توعدهم به ، أو لم يفعله بهم؟.

فقال قوم : قتلهم وصلبهم ، وقوم أنكروا ذلك ، وأظهر هما عندي : أنه لم يقتلهم ، وأن الله عصمهم منه لأجل إيمانهم الراسخ بالله ـ تعالى ـ لأن الله قال لموسى وهارون : (أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ) (١).

وقوله : (إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا ، إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا) تعليل لعدم مبالاتهم بتهديده لهم.

أى : افعل يا فرعون ما أنت فاعله بأجسامنا ، فإن فعلك هذا إنما يتعلق بحياتنا في هذه الحياة الدنيا ، وهي سريعة الزوال ، وعذابها أهون من عذاب الآخرة.

(إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا) وخالقنا ومالك أمرنا (لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا) السالفة ، التي اقترفناها بسبب الكفر والإشراك به ـ سبحانه ـ.

(وَ) ليغفر لنا (ما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ) لكي نعارض به موسى ـ عليه

__________________

(١) تفسير أضواء البيان ج ٥ ص ٤٧٤. للشيخ الشنقيطى.

١٢٩

السلام ـ معارضة من هو على الباطل لمن هو على الحق ، وقد كنا لا نملك أن نعصيك.

وخصوا السحر بالذكر مع دخوله في خطاياهم ، للإشعار بشدة نفورهم منه ، وبكثرة كراهيتهم له بعد أن هداهم الله إلى الإيمان.

وقوله : (وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى) تذييل قصدوا به الرد على قول فرعون لهم : (وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى).

أى : والله ـ تعالى ـ خير ثوابا منك يا فرعون ، وأبقى جزاء وعطاء ، فإن ثوابه ـ سبحانه ـ لا نقص معه ، وعطاءه أبقى من كل عطاء.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً ...) يصح أن يكون كلاما مستأنفا ساقه الله ـ تعالى ـ لبيان سوء عاقبة المجرمين ، وحسن عاقبة المؤمنين.

ويصح أن يكون من بقية كلام السحرة في ردهم على فرعون.

والمعنى : (إِنَّهُ) أى الحال والشأن (مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ) يوم القيامة في حال كونه (مُجْرِماً).

أى : مرتكبا لجريمة الكفر والشرك بالله ـ تعالى ـ (فَإِنَّ لَهُ) أى : لهذا المجرم (جَهَنَّمَ) يعذب فيها عذابا شديدا من مظاهره أنه (لا يَمُوتُ فِيها) فيستريح (وَلا يَحْيى) حياة فيها راحة.

كما قال ـ تعالى ـ : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا ، وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها ، كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ) (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ حسن عاقبة المؤمنين فقال : (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً) به إيمانا حقا ، و (قَدْ عَمِلَ) الأعمال (الصَّالِحاتِ) بجانب إيمانه. (فَأُولئِكَ) الموصوفون بتلك الصفات (لَهُمُ) بسبب إيمانهم وعملهم الصالح (الدَّرَجاتُ الْعُلى) أى : المنازل الرفيعة ، والمكانة السامية.

وقوله : (جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) يدل على الدرجات العلى.

أى : لهم جنات باقية دائمة تجرى من تحت أشجارها وثمارها الأنهار (خالِدِينَ فِيها) خلودا أبديا.

(وَذلِكَ) العطاء الجزيل الباقي جزاء من تزكى ، أى من تطهر وتجرد من دنس الكفر والمعاصي.

__________________

(١) سورة فاطر الآية ٣٦.

١٣٠

وإلى هنا تكون السورة الكريمة قد صورت لنا بأسلوبها البليغ المؤثر ، تلك المحاورات الطويلة التي دارت بين موسى وفرعون والسحرة .. والتي انتهت بانتصار الحق واندحار الباطل.

ثم ساق ـ سبحانه ـ جانبا من النعم التي أنعم بها على بنى إسرائيل ، وحذرهم من جحودها ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (٧٧) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (٧٨) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (٧٩) يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (٨٠) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (٨١) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى)(٨٢)

قال الآلوسى ما ملخصه : وقوله ـ سبحانه ـ : (وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي ...) حكاية إجمالية لما انتهى اليه أمر فرعون وقومه ، وقد طوى ـ سبحانه ـ ذكر ما جرى عليهم بعد أن تغلب موسى على السحرة .. وبعد أن مكث موسى يبلغهم دعوة الله ـ تعالى ـ مدة طويلة ويطلب منهم إرسال بنى إسرائيل معه» (١).

وصدرت الآية الكريمة باللام الموطئة للقسم وبقد تأكيدا لهذا الإيحاء ، وتقريرا له ...

أى : والله لقد أوحينا إلى عبدنا موسى ـ عليه‌السلام ـ وقلنا له : سر بعبادي من بنى إسرائيل في أول الليل متجها بهم من مصر إلى البحر الأحمر فإذا ما وصلت إليه ، (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً).

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٦ ص ٢٣٥.

١٣١

أى : فاجعل لهم طريقا في البحر يابسا ، فالضرب هنا بمعنى الجعل كما في قولهم : ضرب له في ماله سهما. إذا جعل له سهما.

والمراد بالطريق جنسه فإن الطرق التي حدثت بعد أن ضرب موسى بعصاه البحر. كانت اثنى عشر طريقا بعدد أسباط بنى إسرائيل.

وعبر ـ سبحانه ـ عن بنى إسرائيل الذين خرجوا مع موسى بعنوان العبودية لله ـ تعالى ـ للإشعار بعطفه ـ عزوجل ـ عليهم ورحمته بهم ، وللتنبيه على طغيان فرعون حيث استعبد واستذل عبادا للخالق ـ سبحانه ـ وجعلهم عبيدا له ..

قال الجمل : «وقوله (يَبَساً) صفة لقوله (طَرِيقاً) وصف به لما يؤول إليه ، لأنه لم يكن يبسا بعد. وإنما مرت عليه الصبا فجففته. وقيل : هو في الأصل مصدر وصف به للمبالغة ، أو على حذف مضاف ، أو جمع يابس كخادم وخدم وصف به الواحد مبالغة» (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى) تذييل قصد به تثبيت فؤاد موسى ـ عليه‌السلام ـ وإدخال الطمأنينة على قلبه.

والدرك : اسم مصدر بمعنى الإدراك. والجملة في محل نصب على الحال من فاعل «اضرب».

أى : اضرب لهم طريقا في البحر يابسا ، حالة كونك غير خائف من أن يدركك فرعون وجنوده من الخلف ، وغير وجل من أن يغرقكم البحر من أمامكم.

فالآية الكريمة قد اشتملت على كل ما من شأنه أن يغرس الأمان والاطمئنان في قلب موسى ومن معه.

ثم بين ـ سبحانه ـ موقف فرعون بعد أن علم بأن موسى قد خرج بقومه من مصر فقال ـ تعالى ـ : (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ).

أى : وبعد أن علم فرعون بخروج موسى وبنى إسرائيل من مصر ، جمع جنوده وأسرع في طلب موسى ومن معه ، فكانت نتيجة ذلك ، أن أغرق الله ـ تعالى ـ فرعون وجنوده في البحر. وأهلكهم عن آخرهم ...

والتعبير بالاسم المبهم الذي هو الموصول في قوله (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ) يدل على تعظيم ما غشيهم وتهويله ، أى : فعلاهم وغمرهم من ماء البحر ما لا يعلم كنهه إلا الله ـ تعالى ـ بحيث صاروا جميعا في طيات أمواجه.

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ١٠٣.

١٣٢

ونظيره قوله ـ تعالى ـ : (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى) وقوله : (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى).

قال صاحب الكشاف : قوله ـ تعالى ـ : (ما غَشِيَهُمْ) من باب الاختصار ومن جوامع الكلم التي تستقل مع قلتها بالمعاني الكثيرة. أى : غشيهم مالا يعلم كنهه إلا الله ـ تعالى ـ وقرئ فغشاهم من اليم ما غشاهم ، والتغشية : التغطية ... (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى) بيان لحال فرعون قبل أن يهلكه الله ـ تعالى ـ بالغرق.

أى : وأضل فرعون في حياته قومه عن طريق الحق ، وما هداهم إليها وإنما هداهم إلى طريق الغي والباطل ، فكانت عاقبتهم جميعا الاستئصال والدمار.

وما اشتملت عليه الآيتان من إجمال بالنسبة لتلك الأحداث ، قد جاء مفصلا في آيات أخرى ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ في سورة الشعراء : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ. فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ. إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ. وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ. وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ. فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ. كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ. فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ. فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ. قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ. فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ. فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ. وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ. وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ. ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) (٢).

ثم ذكر ـ سبحانه ـ بنى إسرائيل بنعمه عليهم فقال : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ) فرعون وجنده ، بأن أغرقناهم أمام أعينكم وأنتم تنظرون إليهم ، بعد أن كانوا يسومونكم سوء العذاب.

(وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ) أى : وواعدنا نبيكم موسى في هذا المكان لإعطائه التوراة لهدايتكم وإصلاح شأنكم ، وهذا الوعد هو المشار إليه بقوله ـ تعالى ـ :

(وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً).

قال صاحب الكشاف : ذكرهم النعمة في نجاتهم وهلاك عدوهم ، وفيما واعد موسى من المناجاة بجانب الطور ، وكتب التوراة في الألواح. وإنما عدى المواعدة إليهم لأنها لا بستهم واتصلت بهم حيث كانت لنبيهم ونقبائهم ، وإليهم رجعت منافعها التي قام بها دينهم وشرعهم

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٧٨.

(٢) الآيات ٥٢ ـ ٦٦.

١٣٣

وفيما أفاض عليهم من سائر نعمه وأرزاقه .. (١).

وقال القرطبي ما ملخصه : وقوله : (جانِبَ) نصب على المفعول الثاني لقوله واعدنا ..

و (الْأَيْمَنَ) نصب لأنه نعت للجانب ، إذ ليس للجبل يمين ولا شمال.

وتقدير الآية : وواعدناكم إتيان جانب الطور ثم حذف المضاف. أى : أمرنا موسى أن يأمركم بالخروج معه ليكلمه بحضرتكم فتسمعوا الكلام وقيل : وعد موسى بعد إغراق فرعون أن يأتى جانب الطور الأيمن فيؤتيه التوراة ، فالوعد كان لموسى ، ولكن خوطبوا به لأن الوعد كان لأجلهم .. (٢).

وقوله : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى) نعمة ثالثة من نعمه ـ سبحانه ـ عليهم.

والمن : مادة حلوة لزجة تشبه العسل كانت تسقط على الشجر من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس.

والسلوى : طائر لذيذ الطعم ، يشبه الطائر الذي يسمى السمانى ، كانوا يأخذونه ويتلذذون بأكله.

وقيل : هما كناية عما أنعم الله به عليهم ، وهما شيء واحد ، سمى أحدهما «منا» لامتنان الله ـ تعالى ـ عليهم ، وسمى الثاني «سلوى» لتسليتهم به.

أى : ونزلنا عليكم بفضلنا ورحمتنا وأنتم في التيه تلك المنافع والخيرات التي تأخذونها من غير كد أو تعب.

والأمر في قوله ـ سبحانه ـ (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) للإباحة ، والجملة مقول لقول محذوف. أى : وقلنا لهم كلوا من طيبات ما رزقناكم من المن والسلوى ، ومن غيرهما من اللذائذ التي أحلها الله لكم.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَلا تَطْغَوْا فِيهِ) فيحل عليكم غضبى ومن يحلل عليه غضبى فقد هوى تحذير لهم من تجاوز الحدود التي شرعها الله ـ تعالى ـ لهم ، إذ الطغيان مجاوزة الحد في كل شيء.

والضمير في قوله (فِيهِ) يعود إلى الموصول الذي هو (ما) في قوله : (ما رَزَقْناكُمْ) ويحل ـ بكسر الحاء ـ بمعنى يجب. يقال : حل أمر الله على فلان يحل حلالا بمعنى وجب.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٧٩.

(٢) تفسير القرطبي ج ١١ ص ٢٣٠.

١٣٤

وقرأ الكسائي (فَيَحِلَ) بضم الحاء بمعنى ينزل يقال : حل فلان بالمكان يحل ـ بالضم حلولا ، إذا نزل به.

والمعنى : كلوا يا بنى إسرائيل من الطيبات التي رزقكم الله إياها واشكروه عليها ، ولا تتجاوزوا فيما رزقناكم الحدود التي شرعناها لكم ، فإنكم إذا فعلتم ذلك حق عليكم غضبى ، ونزل بكم عقابي ، ومن حق عليه غضبى ونزل به عقابي (فَقَدْ هَوى) أى : إلى النار.

وأصله السقوط من مكان مرتفع كجبل ونحوه. يقال : هوى فلان ـ بفتح الواو ـ يهوى ـ بكسرها ـ إذا سقط إلى أسفل ، ثم استعمل في الهلاك للزومه له.

ثم فتح ـ سبحانه ـ باب الأمل لعباده فقال : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ) أى : لكثير المغفرة (لِمَنْ تابَ) من الشرك والمعاصي (وَآمَنَ) بكل ما يجب الإيمان به (وَعَمِلَ صالِحاً) أى : وعمل عملا مستقيما يرضى الله ـ تعالى ـ. (ثُمَّ اهْتَدى) أى : ثم واظب على ذلك ، وداوم على استقامته وصلاحه إلى أن لقى الله ـ تعالى ـ.

وثم في قوله (ثُمَّ اهْتَدى) للتراخي النسبي ، إذ أن هناك فرقا كبيرا بين من يتوب إلى الله ـ تعالى ـ ويقدم العمل الصالح ، ويستمر على ذلك إلى أن يلقى الله ـ تعالى ـ وبين من لا يداوم على ذلك.

ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن فتنة قوم موسى ـ عليه‌السلام ـ بعد أن ذهب لمناجاة ربه ، وكيف انقادوا لخديعة السامري لهم .. فقال ـ تعالى ـ :

(وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (٨٣) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (٨٤) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (٨٥) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (٨٦) قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا

١٣٥

أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (٨٧) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (٨٨) أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً)(٨٩)

وهذه الآيات الكريمة تحكى قصة ملخصها : أن موسى عليه‌السلام بعد أن أهلك الله ـ تعالى ـ فرعون وجنوده ، سار ببني إسرائيل متجها ناحية جبل الطور ، ثم تركهم مستخلفا عليهم أخاه هارون ، وذهب لمناجاة ربه ومعه سبعون من وجهائهم ، ثم عجل من بينهم شوقا للقاء ربه ، فأخبره ـ سبحانه ـ بما أحدثه قومه في غيبته عنهم. وجملة (وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى) مقول لقول محذوف.

والمعنى : وقلنا لموسى : أى شيء جعلك تتعجل المجيء إلى هذا المكان قبل قومك وتخلفهم وراءك ، مع أنه ينبغي لرئيس القوم أن يتأخر عنهم في حالة السفر ، ليكون نظره محيطا بهم ونافذا عليهم؟.

فأجاب موسى معتذرا لربه ـ تعالى ـ بقوله : (هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي) أى : على مقربة منى ، وسيلحقون بي بعد زمن قليل (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى) أى : وقد حملني على أن أحضر قبلهم ، شوقي إلى مكالمتك ـ يا إلهى ـ وطمعي في زيادة رضاك عنى.

فموسى ـ عليه‌السلام ـ قد علل تقدمه على قومه في الحضور بعلتين : الأولى : أنهم كانوا على مقربة منه. والثانية : حرصه على استدامة رضى ربه عنه.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : (وَما أَعْجَلَكَ) سؤال عن سبب العجلة ، فكان الذي ينطبق عليه من الجواب أن يقال : طلب زيادة رضاك أو الشوق في كلامك. وقوله : (هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي) كما ترى غير منطبق عليه؟.

قلت : قد تضمن ما واجهه به رب العزة شيئين : أحدهما : إنكار العجلة في نفسها ، والثاني : السؤال عن سببها الحامل عليها ، فكان أهم الأمرين إلى موسى بسط العذر ، وتمهيد العلة في نفس ما أنكر عليه ، فاعتل بأنه لم يوجد منى إلا تقدم يسير ، مثله لا يعتد به في العادة ، ولا يحتفل به ، وليس بيني وبين من سبقته إلا مسافة قريبة ، يتقدم بمثلها الوفد رئيسهم

١٣٦

ومقدمهم. ثم عقبه بجواب السؤال عن السبب فقال : (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى) (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ) إخبار منه ـ سبحانه ـ بما فعله قومه بعد مفارقته لهم.

وكلمة (فَتَنَّا) من الفتن ومعناه لغة : وضع الذهب في النار ليتبين أهو خالص أم زائف.

والفتنة تطلق في القرآن بإطلاقات متعددة منها : الدخول في النار كما في قوله ـ تعالى ـ : (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ). ومنها الحجة كما في قوله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ). ومنها : الاختبار والامتحان ، كما في قوله ـ سبحانه ـ : (أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ). ومنها الإضلال والإشراك ، كما في قوله ـ تعالى ـ : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) وقوله ـ سبحانه ـ : (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً ..).

ويبدو أن المراد بالفتنة هذا المعنى الأخير وهو الإضلال والشرك ، لأن فتنتهم كانت بسبب عبادتهم للعجل في غيبة موسى ـ عليه‌السلام ـ.

ويدل على هذا قوله ـ تعالى ـ : (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ ..).

والسامري : اسم للشخص الذي كان سببا في ضلال بنى إسرائيل ، قيل : كان من زعماء بنى إسرائيل وينسب إلى قبيلة تعرف بالسامرة.

وقيل : إنه كان من قوم يعبدون البقر ، وقيل غير ذلك من أقوال مظنونة غير محققة.

أى : قال الله ـ تعالى ـ لموسى : فإنا قد أضللنا قومك من بعد مفارقتك لهم ، وكان السبب في ضلالهم السامري ، حيث دعاهم إلى عبادة العجل فانقادوا له وأطاعوه.

وقوله ـ تعالى ـ : (فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً) بيان لما كان منه ـ عليه‌السلام ـ بعد أن علم بضلال قومه.

وكان رجوع موسى إليهم بعد أن ناجى ربه ، وتلقى منه التوراة.

قال الآلوسى ما ملخصه : (فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ) عند رجوعه المعهود أى : بعد ما استوفى الأربعين «ذا القعدة وعشر ذي الحجة» وأخذ التوراة لا عقيب الإخبار المذكور ، فسببية ما قبل الفاء لما بعدها إنما هي باعتبار قيد الرجوع المستفاد من قوله (غَضْبانَ أَسِفاً) لا باعتبار نفسه ، وإن كانت داخلة عليه حقيقة ، فإن كون الرجوع بعد تمام الأربعين أمر مقرر مشهور لا يذهب الوهم إلى كونه عند الإخبار المذكور ...» (٢).

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٨١.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٦ ص ٢٤٤.

١٣٧

والمعنى فرجع موسى إلى قومه ـ بعد مناجاته لربه وبعد تلقيه التوراة حالة كونه (غَضْبانَ أَسِفاً) أى : غضبان شديد الغضب.

فالمراد بالأسف شدة الغضب ، وقيل المراد به الحزن والجزع.

ثم بين ـ سبحانه ـ ما قاله موسى لقومه بعد رجوعه إليهم فقال : (قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً ..).

أى : قال لهم على سبيل الزجر والتوبيخ يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا لا سبيل لكم إلى إنكاره ، ومن هذا الوعد الحسن : إنزال التوراة لهدايتكم وسعادتكم ، وإهلاك عدوكم أمام أعينكم. فلما ذا أعرضتهم عن عبادته وطاعته مع أنكم تعيشون في خيره ورزقه ..؟.

ثم زاد في تأنيبهم وفي الإنكار عليهم فقال : (أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي).

فالاستفهام في قوله (أَفَطالَ ..) للنفي والإنكار و (أَمْ) منقطعة بمعنى بل.

والمعنى : أفطال عليكم الزمان الذي فارقتكم فيه؟ لا إنه لم يطل حتى تنسوا ما أمرتكم به ، بل إنكم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم ، فأخلفتم موعدي الذي وعدتمونى إياه وهو أن تثبتوا على إخلاص العبادة لله ـ تعالى ـ.

ومعنى إرادتهم حلول الغضب عليهم ، أنهم فعلوا ما يستوجب ذلك وهو طاعتهم للسامري في عبادتهم للعجل.

قال ابن جرير : كان إخلافهم موعده : عكوفهم على عبادة العجل ، وتركهم السير على أثر موسى للموعد الذي كان الله وعدهم ، وقولهم لهارون إذ نهاهم عن عبادة العجل ودعاهم إلى السير معه في أثر موسى : (لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى) (١).

ثم حكى ـ سبحانه ـ معاذيرهم الواهية التي تدل على بلادة عقولهم ، وانتكاس أفكارهم ، وتفاهة شخصيتهم فقال ـ تعالى ـ : (قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا ..).

وقوله (بِمَلْكِنا) قرأه نافع وعاصم ـ بفتح الميم وسكون اللام ـ أى : بأمرنا. وقرأه حمزة والكسائي (بِمَلْكِنا) بكسر الميم وسكون اللام ـ أى : بطاقتنا : وقرأه الباقون ـ بضم الميم وسكون اللام ـ أى : بسلطاننا ، وهو مصدر مضاف لفاعله ومفعوله محذوف ، أى : بملكنا أمرنا.

أى : قال بنو إسرائيل لنبيهم موسى على سبيل الاعتذار الذي هو أقبح من ذنب :

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ١٦ ص ١٤٦.

١٣٨

ما أخلفنا موعدك فعبدنا العجل بأمرنا وطاقتنا واختيارنا ، فقد كان الحال أكبر من أن يدخل تحت سلطاننا ، ولو خلينا بيننا وبين أنفسنا ولم يسول لنا السامري ما سول لبقينا على العهد الذي عاهدناك عليه ، وهو أن نعبد الله ـ تعالى ـ وحده.

وقوله : (وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُ) حكاية لبقية ما قالوه من أعذر قبيحة.

ولفظ : «حملنا» قرأه ابن كثير وابن عامر وحفص عن عاصم ـ بضم الحاء وتشديد الميم ـ على أنه فعل ونائب فاعل ، وقرأه الباقون ـ بفتح الحاء والميم ـ على أنه فعل وفاعل.

قال الآلوسى ما ملخصه : والمراد بالقوم : القبط ، وبالأوزار : الأحمال وتسمى بها الآثام ، وقصدوا بذلك ما استعاروه من القبط من الحلي في عيد لهم قبل الخروج من مصر ، وقيل : استعاروه باسم العرس. وقيل : هي ما ألقاه البحر على الساحل مما كان على الذين غرقوا وهم فرعون وجنوده فأخذ بنو إسرائيل ذلك على أنه غنيمة مع أنها غنيمة مع أنها لم تكن حلالا لهم (١).

أى : قال بنو إسرائيل لموسى : ما أخلفنا عهدك بأمرنا ولكنا حملنا أثقالا وأحمالا من زينة القبط التي أخذناها منهم بدون حق (فَقَذَفْناها) في النار بتوجيه من السامري ، (فَكَذلِكَ) أى : فكما ألقينا ما معنا (أَلْقَى السَّامِرِيُ) ما معه من تلك الزينة.

قال ابن كثير : وحاصل ما اعتذر به هؤلاء الجهلة أنهم تورعوا عن زينة القبط ، فألقوها عنهم ، فعبدوا العجل ، فتورعوا عن الحقير ، وفعلوا الأمر الكبير .. (٢).

ثم بين ـ سبحانه ـ ما صنعه لهم السامري من تلك الحلي فقال : (فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ).

والخوار : الصوت المسموع.

أى : فكانت نتيجة ما قذفوه من الحلي في النار ، أن أخرج السامري لهم من ذلك (عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ) أى : صوت كصوت البقر.

قيل : إن الله ـ تعالى ـ خلق الحياة في ذلك العجل على سبيل الاختبار والامتحان لهم.

وقيل : لم تكن به حياة ، ولكن السامري صنعه لهم بدقة ، وجعل فيه منافذ إذا دخلت فيها الريح أخرجت منه صوتا كصوت خوار البقر.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٦ ص ٢٤٦.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ٣٠٤.

١٣٩

فقال بنو إسرائيل عند ما رأوا العجل الذي صنعه لهم السامري : هذا إلهكم وإله موسى فاعبدوه ، لأن موسى نسى إلهه هنا ، وذهب ليبحث عنه في مكان آخر ، فالضمير في قوله (فَنَسِيَ) يعود لموسى.

وقولهم هذا يدل على بلادتهم وسوء أدبهم مع نبيهم ، فهم لم يكتفوا بعبادة العجل ، بل زعموا أن نبيهم الداعي لهم إلى توحيد الله ، قد كان يعبد العجل وأنه قد نسى مكانه فذهب يبحث عنه.

وقيل : إن الذي حدث منه النسيان هو السامري ، وأن النسيان بمعنى الترك ، أى : فترك السامري ما كان عليه من الإيمان الظاهري ، ونبذ الدين الذي بعث الله ـ تعالى ـ به موسى ، وحض الناس على عبادة العجل الذي صنعه لهم.

والقول الأول أرجح ، لأنه هو الظاهر من معنى الآية الكريمة ، ولأنه هو المأثور عن السلف.

قال ابن جرير : «وأولى الأقوال بالصواب عندنا أن يكون (فَنَسِيَ) خبرا من الله ـ تعالى ـ عن السامري ، وأنه وصف موسى بأنه نسى ربه ، وأن ربه الذي ذهب يريده هو العجل الذي أخرجه السامري ، لإجماع الحجة من أهل التأويل عليه ، ولأنه عقيب ذكر موسى ، وهو أن يكون خبرا من السامري عنه بذلك أشبه من غيره» (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً ، وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) تقريع لهم على جهلهم وغبائهم وسوء أدبهم.

والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام ، أى : أبلغ عمى البصيرة عند هؤلاء السفهاء أنهم لم يفطنوا إلى أن هذا العجل الذي اتخذوه إلها ، لا يستطيع أن يجيبهم إذا سألوه أو خاطبوه ، ولا يرد عليهم قولا يقولونه له ، ولا يملك لهم شيئا لا من الضر ولا من النفع.

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً ، اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ) (٢).

ثم بين ـ سبحانه ـ موقف هارون ـ عليه‌السلام ـ من هؤلاء الجاهلين الذين عبدوا العجل ، فقال ـ تعالى ـ :

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ١٦ ص ١٤٨.

(٢) سورة الأعراف الآية ١٤٨.

١٤٠