التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٩

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٩

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0683-3
الصفحات: ٣٥٥

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (١٢٧)

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

مقدّمة

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله ، وعلى آله وأصحابه وأتباعه ، ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.

وبعد فهذا تفسير لسورة «مريم» أكتبه بعد أن كتبت قبله تفاسير لسورة : البقرة ، آل عمران ، النساء ، المائدة ، الأنعام ، الأعراف ، الأنفال ، التوبة ، يونس ، هود ، يوسف ، الرعد ، إبراهيم ، الحجر ، النحل ، الإسراء ، الكهف ...

والله ـ تعالى ـ أسأل ، أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم ، ونافعا لعباده ، وشفيعا لنا يوم نلقاه ، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

د. محمد سيد طنطاوى

٥
٦

تفسير

سورة مريم

٧
٨

تعريف بسورة مريم

١ ـ سورة مريم من السور المكية.

قال القرطبي : وهي مكية بالإجماع. وهي تسعون وثماني آيات (١).

وقال ابن كثير : وقد روى محمد بن إسحاق في السيرة ، من حديث أم سلمة ، وأحمد بن حنبل عن ابن مسعود في قصة الهجرة إلى أرض الحبشة من مكة ، أن جعفر بن أبى طالب ـ رضى الله عنه ـ قرأ صدر هذه السورة على النجاشيّ (٢).

وكان نزولها بعد سورة فاطر (٣).

٢ ـ ويبدو أن تسميتها بهذا الاسم كان بتوقيف من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقد أخرج الطبراني والديلمي ، من طريق أبى بكر بن عبد الله بن أبى مريم الغساني عن أبيه عن جده ، قال : أتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : ولدت لي الليلة جارية. فقال : والليلة أنزلت على سورة مريم.

وجاء فيما روى عن ابن عباس ، تسميتها بسورة (كهيعص) (٤).

وقد تكرر اسم مريم في القرآن ثلاثين مرة ، ولم تذكر امرأة سواها باسمها الصريح.

٣ ـ والذي يقرأ هذه السورة الكريمة بتدبر وتأمل ، يراها زاخرة بالحديث عن عدد من الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ.

فقد افتتحت بالحديث عن تلك الدعوات التي تضرع بها زكريا إلى ربه ، لكي يهب له وليا ، يرثه ويرث من آل يعقوب.

وقد استجاب الله ـ تعالى ـ دعاء زكريا ، فوهبه يحيى كما قال ـ تعالى ـ : (يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا).

ثم تحدثت السورة بعد ذلك عن قصة مريم ، بصورة فيها شيء من التفصيل ، فذكرت اعتزالها لقومها ومجيء جبريل إليها وما دار بينه وبينها من محاورات ، ومولدها لعيسى وإتيانها

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١١ ص ٧٢.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٣ ص ١١٠.

(٣) الإتقان في علوم القرآن للسيوطي ج ١ ص ٢٧.

(٤) تفسير الآلوسى ج ١٦ ص ٥٦.

٩

به قومها ، وما دار بينها وبينهم في شأنه. ثم ختمت هذه القصة بالقول الحق في شأن عيسى ، قال ـ تعالى ـ : (ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ. ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ ، إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ، وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ).

٥ ـ ثم تحدثت السورة بعد ذلك عن طرف من قصة إبراهيم وموسى وإسماعيل وإدريس ، وختمت حديثها عن الرسل الكرام بقوله ـ تعالى ـ : (أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ ، وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ. وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ. وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا ، إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا).

٦ ـ ثم حكت السورة الكريمة أنماطا من الشبهات التي تفوه بها الضالون ، ومن هذه الشبهات ما يتعلق بالبعث والنشور ، ومنها ما يتعلق بموقفهم من القرآن الكريم ومنها ما يتعلق بزعمهم أن لله ولدا ... وقد ردت على كل شبهة من هذه الشبهات بما يبطلها ، ويخرس ألسنة قائليها.

ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ : (وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا* أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً).

وقوله ـ سبحانه ـ : (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً. أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً. كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا. وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً. لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا. تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا. أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً. وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً).

٧ ـ ومن هذا العرض الإجمالى لآيات السورة الكريمة ، يتبين لنا أن سورة مريم قد اهتمت بإقامة الأدلة على وحدانية الله ـ تعالى ـ ، وعلى نفى الشريك والولد عن ذاته ـ سبحانه ـ ، كما اهتمت ـ أيضا ـ بإقامة الأدلة على أن البعث حق ، وعلى أن الناس سيحاسبون على أعمالهم يوم القيامة.

كما زخرت السورة بالحديث عن قصص بعض الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ تارة بشيء من التفصيل كما في قصة زكريا وعيسى ابن مريم ، وتارة بشيء من الاختصار والتركيز كما في قصة إبراهيم وموسى وإسماعيل وإدريس.

كما نراها بوضوح تحكى شبهات المشركين. ثم ترد عليها بما يبطلها ...

١٠

وقد ساقت السورة ما ساقت من قضايا ، بأسلوب عاطفى بديع ، يهيج المشاعر نحو الخير والحق والفضيلة ، وينفر من الشر والباطل والرذيلة ، ويطلع العقول على نماذج شتى من مظاهر رحمة الله ـ تعالى ـ بعباده الصالحين ترى ذلك في مثل قوله ـ تعالى ـ : (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا).

وفي مثل قوله ـ سبحانه ـ : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا).

٨ ـ قال بعض العلماء ما ملخصه : والظل الغالب في جو السورة هو ظل الرحمة والرضا والاتصال. فهي تبدأ بذكر رحمة ربك لعبده زكريا. ويتكرر لفظ الرحمة ومعناها وظلها في ثنايا السورة كثيرا. ويكثر فيها اسم (الرَّحْمنِ).

وإنك لتحس لمسات الرحمة الندية. ودبيبها اللطيف في الكلمات والعبارات والظلال ، كما تحس انتفاضات الكون وارتجافاته لوقع كلمة الشرك التي لا تطيقها فطرته ...

كذلك تحس أن للسورة إيقاعا موسيقيا خاصا ، فحتى جرس ألفاظها وفواصلها فيه رخاء ، وفيه عمق كألفاظ : رضيا ، سريا ، حفيا ، نجيا ...

فأما المواضع التي تقتضي الشدة والعنف ، فتجيء فيها الفاصلة مشددة في الغالب ، كألفاظ : ضدّا ، هدّا ، إدّا ، أزّا (١).

وبعد ؛ فهذا تعريف لسورة مريم ، نرجو أن يكون القارئ له ، قد أخذ صورة مركزة عن أهم المقاصد التي اشتملت عليها السورة الكريمة.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.

__________________

(١) من تفسير في ظلال القرآن ج ١٦ ص ٤٢٢ للمرحوم سيد قطب.

١١

التفسير

قال الله تعالى :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(كهيعص (١) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (٣) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (٤) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا)(٦)

سورة مريم من السور القرآنية التي افتتحت ببعض حروف التهجي.

وقد سبق أن تكلمنا بشيء من التفصيل ، عن آراء العلماء في المراد بهذه الحروف التي افتتحت بها بعض السور ، وذلك عند تفسيرنا لسور : البقرة ، وآل عمران ، والأعراف ، ويونس ..

ورجحنا أن هذه الحروف المقطعة ، قد وردت في افتتاح بعض سور القرآن ، على سبيل الإيقاظ والتنبيه للذين تحداهم القرآن.

فكأن الله ـ تعالى ـ يقول لأولئك المعارضين في أن القرآن من عند الله ـ تعالى ـ ، هاكم القرآن ترونه مؤلفا من كلام هو من جنس ما تؤلفون به كلامكم ، ومنظوما من حروف هي من جنس الحروف الهجائية التي تنظمون منها حروفكم ، فإن كنتم في شك من كونه منزلا من عند الله فهاتوا مثله. أو عشر سور من مثله ، بل سورة واحدة من مثله ، وادعوا من شئتم من الخلق لكي يعاونكم في ذلك ...

١٢

فلما عجزوا ـ وهم أهل الفصاحة والبيان ـ ثبت أن غيرهم أعجز ، وأن هذا القرآن من عند الله (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً).

وقوله ـ تعالى ـ : (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) خبر لمبتدأ محذوف. أى : المتلو عليك ذكر رحمة ربك عبده ذكريا.

ولفظ (ذِكْرُ) مصدر مضاف لمفعوله. ولفظ (رَحْمَتِ) مصدر مضاف لفاعله وهو ربك ، و (عَبْدَهُ) مفعول به للمصدر الذي هو رحمة.

و (زَكَرِيَّا) هو واحد من أنبياء الله الكرام ، وينتهى نسبه إلى يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ـ عليهم‌السلام ـ.

والمعنى : هذا الذي نذكره لك يا محمد ، هو جانب من قصة عبدنا زكريا ، وطرف من مظاهر الرحمة التي اختصصناه بها ، ومنحناه إياها.

وقوله : (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا) ظرف لرحمة ربك. والمراد بالنداء : الدعاء الذي تضرع به زكريا إلى ربه ـ عزوجل ـ.

أى : هذا الذي قرأناه عليك يا محمد في أول هذه السورة. وذكرناه لك ، هو جانب من رحمتنا لعبدنا زكريا. وقت أن نادانا وتضرع إلينا في خفاء وستر ، ملتمسا منا الذرية الصالحة.

وإنما أخفى زكريا دعاءه ، لأن هذا الإخفاء فيه بعد عن الرياء ، وقرب من الإخلاص ، وقد أمر الله ـ تعالى ـ به في قوله : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ).

ويبدو أن هذا الدعاء قد تضرع به زكريا إلى ربه في أوقات تردده على مريم ، واطلاعه على ما أعطاها الله ـ تعالى ـ من رزق وفير.

ويشهد لذلك قوله ـ تعالى ـ : (فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا ، كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً ، قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ، إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ. هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ) (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ ما نادى به زكريا ربه فقال : (قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي ...) والوهن : الضعف. يقال : وهن الجسم يهن ـ من باب وعد ـ إذا ضعف.

وخص العظم بالذكر ، لأنه دعامة البدن ، وعماد الجسم ، وبه قوامه ، فإذ ضعف كان غيره من أجزاء الجسم أضعف. وإفراد لفظ العظم لإرادة الجنس.

__________________

(١) سورة آل عمران من الآيتان ٣٧ ، ٣٨.

١٣

(وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) والمراد باشتعال الرأس شيبا : انتشار بياض الشيب فيه. والألف واللام في لفظ (الرَّأْسُ) قاما مقام المضاف إليه.

والمراد : واشتعل رأسى شيبا ، وهذا يدل على تقدم السن ، كما يشهد له قوله ـ تعالى ـ (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ ...).

قال صاحب الكشاف : «شبه الشيب بشواظ النار في بياضه وإنارته وانتشاره في الشعر .. باشتعال النار ، ثم أخرجه مخرج الاستعارة ، ثم أسند الاشتعال إلى مكان الشعر ومنبته وهو الرأس ، وأخرج الشيب مميزا ولم يضف إلى الرأس اكتفاء بعلم المخاطب أنه رأس زكريا ، فمن ثم فصحت هذه الجملة وشهد لها بالبلاغة ...» (١).

وقوله : (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) أى : ولم أكن فيما مضى من عمرى مخيب الدعاء وإنما تعودت منك يا إلهى إجابة دعائي ، وما دام الأمر كذلك فأجب دعائي في الزمان الآتي من عمرى ، كما أجبته في الزمان الماضي منه.

فأنت ترى أن زكريا ـ عليه‌السلام ـ قد أظهر في دعائه أسمى ألوان الأدب مع خالقه ، حيث توسل إليه ـ سبحانه ـ بضعف بدنه ، وبتقدم سنه ، وبما عوده إياه من إجابة دعائه في الماضي.

ثم حكى ـ سبحانه ـ بعض الأسباب الأخرى لإلحاح زكريا في الدعاء فقال : (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي ، وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا* يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ..).

والموالي : جمع مولى ، والمراد بهم هنا : عصبته وأبناء عمومته الذين يلون أمره بعد موته ، وكان لا يثق فيهم لسوء سلوكهم.

والعاقر : العقيم الذي لا يلد ، ويطلق على الرجل والمرأة ، يقال : امرأة عاقر ، ورجل عاقر.

أى : وإنى ـ يا إلهى ـ قد خفت ما يفعله أقاربى (مِنْ وَرائِي) أى : من بعد موتى ، من تضييع لأمور الدين ، ومن عدم القيام بحقه (وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً) لا تلد قط في شبابها ولا في غير شبابها ، (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ) أى : من عندك (وَلِيًّا) أى : ولدا من صلبي ، هذا الولد (يَرِثُنِي) في العلم والنبوة (وَيَرِثُ) أيضا (مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) ابن إسحاق بن إبراهيم العلم والنبوة والصفات الحميدة (وَاجْعَلْهُ) يا رب (رَضِيًّا) أى :

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٤.

١٤

مرضيا عندك في أقواله وأفعاله وسائر تصرفاته.

ففي هاتين الآيتين نرى زكريا يجتهد في الدعاء بأن يرزقه الله الولد ، لا من أجل شهوة دنيوية ، وإنما من أجل مصلحة الدين والخوف من تضييعه وتبديله والحرص على من يرثه في علمه ونبوته ، ويكون مرضيا عنده ـ عزوجل ـ.

قال الآلوسى ما ملخصه : «وقوله (مِنْ وَرائِي) المراد به من بعد موتى ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف ينساق إليه الذهن أى : خفت فعل الموالي من ورائي أو جور الموالي. وهم عصبة الرجل .. وكانوا على سائر الأقوال شرار بنى إسرائيل ، فخاف أن لا يحسنوا خلافته في أمته» (١).

وفي قوله (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) اعتراف عميق بقدرة الله ـ تعالى ـ لأن مثل هذا العطاء لا يرجى إلا منه ـ عزوجل ـ ، بعد أن تقدمت بزكريا السن ، وبعد أن عهد من زوجه العقم وعدم الولادة.

وقد أشار ـ سبحانه ـ في آية أخرى إلى أنه أزال عنها العقم وأصلحها للولادة فقال : (وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ* فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ ...) (٢) أى : وجعلناها صالحة للولادة بعد أن كانت عقيما من حين شبابها إلى شيبها ..

والمراد بالوراثة في قوله (يَرِثُنِي) وراثة العلم والنبوة والصفات الحميدة.

قال الإمام ابن كثير ما ملخصه : «وقوله : (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي) قرأ الأكثرون بنصب الياء من الموالي على أنه مفعول ، وعن الكسائي أنه سكن الياء ..

ووجه خوفه أنه خشي أن يتصرفوا من بعده في الناس تصرفا سيئا. فسأل الله ولدا يكون نبيا من بعده ليسوسهم بنبوته .. لا أنه خشي من وراثتهم له ماله. فإن النبي أعظم منزلة وأجل قدرا من أن يشفق على ماله إلى هذا الحد ، وأن يأنف من وراثة عصبته له ، ويسأل أن يكون له ولد ليحوز ميراثه دونهم.

وقد ثبت في الصحيحين من غير وجه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا نورث ما تركنا صدقة» وفي رواية عند الترمذي بإسناد صحيح : «نحن معاشر الأنبياء لا نورث».

وعلى هذا فتعين حمل قوله (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي) على ميراث النبوة ولهذا قال : (وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) كقوله : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) أى : في النبوة ، إذ

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٦ ص ٦١.

(٢) سورة الأنبياء الآيتان ٨٩ ، ٩٠.

١٥

لو كان في المال لما خصه من بين إخوته بذلك ، ولما كان في الإخبار بذلك كبير فائدة ، إذ من المعلوم المستقر في جميع الشرائع والملل ، أن الولد يرث أباه ، فلو لا أنها وراثة خاصة لما أخبر بها ، وكل هذا يقرره ويثبته ما صح في الحديث : «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ، ما تركنا فهو صدقة» (١).

وقال بعض العلماء ما ملخصه : ومعنى (يَرِثُنِي) أى : إرث علم ونبوة ، ودعوة إلى الله والقيام بدينه ، لا إرث مال ، ويدل لذلك أمران :

أحدهما قوله : (وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) ومعلوم أن آل يعقوب انقرضوا من زمان ، فلا يورث عنهم إلا العلم والنبوة والدين.

والأمر الثاني ما جاء من الأدلة أن الأنبياء ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ لا يورث عنهم المال ، وإنما يورث عنهم العلم والدين ، فمن ذلك ما أخرجه الشيخان عن أبى بكر الصديق أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا نورث ما تركنا صدقة» (٢).

ثم بين القرآن الكريم أن الله ـ تعالى ـ قد أجاب بفضله وكرمه دعاء عبده زكريا. كما بين ما قاله زكريا عند ما بشره ربه بغلام اسمه يحيى فقال ـ تعالى ـ :

(يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (٧) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (٨) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (٩) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (١٠) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا)(١١)

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٣ ص ١١١.

(٢) راجع تفسير اضواء البيان ج ٤ ص ٢٠٦ للشيخ الشنقيطى ـ رحمه‌الله ـ

١٦

قال القرطبي : قوله ـ تعالى ـ (يا زَكَرِيَّا) في الكلام حذف ، أى : فاستجاب الله دعاءه فقال : (يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى ...) فتضمنت هذه البشارة ثلاثة أشياء : أحدها : إجابة دعائه وهي كرامة. الثاني : إعطاؤه الولد وهو قوة. الثالث : أن يفرد بتسميته ...» (١).

وقد بين ـ سبحانه ـ في آيات أخرى أن الذي بشر زكريا هو بعض الملائكة ، وأن ذلك كان وهو قائم يصلى في المحراب ، قال ـ تعالى ـ : (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ ، أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى ، مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ ، وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ : (اسْمُهُ يَحْيى) يدل على أن هذه التسمية قد سماها الله ـ تعالى ـ ليحيى ، ولم يكل تسميته لزكريا أو لغيره ، وهذا لون من التشريف والتكريم.

وقوله ـ تعالى ـ : (لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) أى لم نجعل أحدا من قبل مشاركا له في هذا الاسم ، بل هو أول من تسمى بهذا الاسم الجميل.

قال بعض العلماء : «وقول من قال : إن معناه : لم نجعل له من قبل سميا ، أى : نظيرا يساويه في السمو والرفعة غير صواب ، لأنه ليس بأفضل من إبراهيم ونوح وموسى فالقول الأول هو الصواب ، وممن قال به : ابن عباس ، وقتادة ، والسدى ، وابن أسلم وغيرهم ...» (٣).

ثم حكى ـ سبحانه ـ بعد ذلك ما قاله زكريا بعد هذه البشارة السارة. فقال ـ تعالى ـ : (قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ ، وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً. وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا).

فالجملة الكريمة استئناف مبنى على سؤال تقديره : فماذا قال زكريا عند ما بشره الله ـ تعالى ـ بيحيى؟

ولفظ (أَنَّى) بمعنى : كيف. أو بمعنى : من أين.

أى : قال زكريا مخاطبا ربه بعد أن بشره بابنه يحيى : يا رب كيف يكون لي غلام ، وحال امرأتى أنها كانت عاقرا في شبابها وفي شيخوختها ، وحالي أنا أننى قد بلغت من الكبر عتيا ، أى. قد تقدمت في السن تقدما كبيرا.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١١ ص ٨٢.

(٢) سورة آل عمران الآية ٣٩.

(٣) تفسير أضواء البيان ج ٤ ص ٢١٤.

١٧

يقال : عتى الشيخ يعتو عتيا ـ بكسر العين وضمها ـ إذا بلغ النهاية في الكبر.

قال ابن جرير : «قوله : (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) يقول : وقد عتوت من الكبر فصرت نحيل العظام يابسها ، يقال منه للعود اليابس : عات وعاس. وقد عتا يعتو عتوا وعتيا ... وكل متناه في كبر أو فساد أو كفر فهو عات ...» (١).

فإن قيل : «ما المراد باستفهام زكريا ـ عليه‌السلام ـ مع علمه بقدرة الله ـ تعالى ـ على كل شيء؟

فالجواب أن استفهامه إنما هو على سبيل الاستعلام والاستخبار ، لأنه لم يكن يعلم أن الله ـ تعالى ـ سيرزقه بيحيى عن طريق زوجته العاقر ، أو عن طريق الزواج بامرأة أخرى ، فاستفهم عن الحقيقة ليعرفها.

ويصح أن يكون المقصود بالاستفهام التعجب والسرور بهذا الأمر العجيب حيث رزقه الله الولد مع تقدم سنه وسن زوجته.

ويجوز أن يكون المقصود بالاستفهام الاستبعاد لما جرت به العادة من أن يأتى الغلام مع تقدم سنه وسن زوجته. وليس المقصود به استحالة ذلك على قدرة الله ـ تعالى ـ لأنه ـ سبحانه ـ لا يعجزه شيء.

ثم حكى ـ سبحانه ـ ما رد به على استفهام زكريا فقال : (قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ، وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً).

وقوله : (كَذلِكَ) خبر لمبتدأ محذوف ، أى : الأمر كذلك.

قال الآلوسى : وذلك إشارة إلى قول زكريا ـ عليه‌السلام ـ وجملة (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) مفعول (قالَ) الثاني وجملة «الأمر كذلك» مع جملة (قالَ رَبُّكَ) إلخ مفعول (قالَ) الأول ...» (٢).

والمعنى : قال الله ـ تعالى ـ مجيبا على استفهام زكريا ، الأمر كما ذكرت يا زكريا من كون امرأتك عاقرا ، وأنت قد بلغت من الكبر عتيا ، ولكن ذلك لا يحول بيننا وبين تنفيذ إرادتنا في منحك هذا الغلام ، فإن قدرتنا لا يعجزها شيء ، ولا تخضع لما جرت به العادات.

وهذا الأمر وهو إيجاد الولد منك ومن زوجتك هذه لا من غيرها (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) أى : يسير سهل.

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ١٦ ص ٣٨ طبعة بولاق سنة ١٣٢٨ ه‍.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٦ ص ٦٧.

١٨

ثم ذكر له ـ سبحانه ـ ما هو أعجب مما سأل عنه فقال : (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً).

أى : لا تعجب يا زكريا من أن يأتيك غلام وأنت وزوجك بتلك الحالة ، فإنى أنا الله الذي أوجدتك من العدم ، ومن أوجدك من العدم ، فهو قادر على أن يرزقك بهذا الغلام المذكور.

فالآية الكريمة قد ساقت بطريق منطقي برهاني ، ما يدل على كمال قدرة الله ـ تعالى ـ وما يزيد في اطمئنان قلب زكريا ـ عليه‌السلام ـ.

ثم حكى ـ سبحانه ـ بعد ذلك ما التمسه زكريا ـ عليه‌السلام ـ من خالقه فقال : (قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً ...).

أى : اجعل لي علامة أستدل بها على وقوع ما بشرتني به ، لأزداد سرورا واطمئنانا. ولأعرف الوقت الذي تحمل فيه امرأتى بهذا الغلام فأكثر من شكرك وذكرك.

فأجابه الله ـ تعالى ـ بقوله : (قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا).

أى : قال الله ـ تعالى ـ لعبده زكريا : يا زكريا. علامة وقوع ما بشرتك به ، أنك تجد نفسك عاجزا عن أن تكلم الناس بلسانك ، لمدة ثلاث ليال بأيامهن حال كونك سوى الخلق ، سليم الحواس ليس بك من خرس ، أو بكم ، ولكنك ممنوع من الكلام بأمرنا وقدرتنا على سبيل خرق العادة.

فقوله : (سَوِيًّا) حال من فاعل «تكلم» وهو زكريا أى : حال كونك يا زكريا سوى الخلق ، سليم الجوارح ، لا علة تمنعك من ذلك سوى قدرتنا. ثم بين ـ سبحانه ـ ما كان من زكريا بعد ذلك فقال : (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا).

والمحراب : المصلى ، أو الغرفة التي كان يجلس فيها في بيت المقدس ، أو هو المسجد ، فقد كانت مساجدهم تسمى المحاريب. لأنها الأماكن التي تحارب فيها الشياطين.

أى : فخرج زكريا ـ عليه‌السلام ـ على قومه من المكان الذي كان يصلى فيه ، (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ) أى : فأشار إليهم أو كتب لهم دون أن ينطق بلسانه (أَنْ سَبِّحُوا) الله ـ تعالى ـ وقدسوه (بُكْرَةً) أى : في أوائل النهار (وَعَشِيًّا) أى : في أواخره.

وقد ذكر ـ سبحانه ـ في آية أخرى ، ما يشير إلى أن هذا المحراب الذي خرج منه زكريا ـ عليه‌السلام ـ على قومه. هو ذلك المكان الذي بشره الله ـ تعالى ـ فيه بيحيى.

قال ـ تعالى ـ : (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى ،

١٩

مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) (١).

وبذلك نرى الآيات الكريمة قد حكت لنا بأسلوبها البليغ جانبا من رحمة الله ـ تعالى ـ بعبده زكريا ، ومن الدعوات التي تضرع بها إلى خالقه ـ عزوجل ـ ، وأن الله ـ تعالى ـ قد أجاب له دعاءه ، وبشره بيحيى ، وعرفه بالعلامة التي بها يعرف وقوع ما بشره به ، زيادة في اطمئنانه وسروره.

ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن يحيى ، فبينت ما أمره الله ـ تعالى ـ به ، وما منحه من صفات فاضلة. فقال ـ تعالى ـ :

(يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (١٢) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (١٣) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (١٤) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا)(١٥)

وقوله ـ سبحانه ـ : (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ) مقول لقول محذوف ، والسر في حذفه المسارعة إلى الإخبار بإنجاز الوعد الكريم.

والتقدير : وبعد أن ولد يحيى ، ونما وترعرع قلنا له عن طريق وحينا : (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ) الذي هو التوراة (بِقُوَّةٍ) أى : بجد واجتهاد ، وتفهم لمعناه على الوجه الصحيح ، وتطبيق ما اشتمل عليه من أحكام وآداب ، فإن بركة العلم في العمل به.

والجار والمجرور (بِقُوَّةٍ) حال من فاعل خذ وهو يحيى ، والباء للملابسة أى : خذه حالة كونك ملتبسا بحفظه وتنفيذ أحكامه بشدة وثبات.

وقوله : (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) أى : وأعطيناه بقدرتنا وفضلنا (الْحُكْمَ) أى : فهم الكتاب والعمل بأحكامه ، وهو في سن الصبا.

قيل : كان سنه ثلاث سنين ، وقيل سبع سنين.

__________________

(١) سورة آل عمران الآية ٣٩.

٢٠