التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٩

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٩

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0683-3
الصفحات: ٣٥٥

فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (٤٠) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي)(٤١)

قوله ـ سبحانه ـ : (قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) حكاية لما رد الله ـ تعالى ـ به على نبيه موسى ـ عليه‌السلام ـ بعد أن تضرع إليه بتلك الدعوات النافعات.

والسؤال هنا بمعنى المسئول ، كالأكل بمعنى المأكول.

قال الآلوسى : «والإيتاء : عبارة عن تعلق إرادته ـ تعالى ـ بوقوع تلك المطالب وحصولها له ـ عليه‌السلام ـ ألبتة ، وتقديره ـ تعالى ـ إياها حتما ، فكلها حاصلة له ـ عليه‌السلام ـ وإن كان وقوع بعضها بالفعل مرتبا بعد ، كتيسير الأمر ، وشد الأزر .. (١).

أى : قال الله ـ تعالى ـ لموسى بعد أن ابتهل إليه ـ سبحانه ـ بما ابتهل : لقد أجبنا دعاءك يا موسى ، وأعطيناك ما سألتنا إياه ، فطب نفسا وقر عينا.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى) تذكير منه ـ سبحانه ـ لموسى ، بجانب من النعم التي أنعم بها عليه ، حتى يزداد ثباتا وثقة بوعد الله ـ تعالى ـ ولذا صدرت الجملة بالقسم.

أى : وبعزتي وجلالي لقد مننا عليك ، وأحسنا إليك (مَرَّةً أُخْرى) قبل ذلك ، ومنحناك من رعايتنا قبل أن تلتمس منا أن نشرح لك صدرك ، وأن نيسر لك أمرك ...

ثم فصل ـ سبحانه ـ هذه المنن التي امتن بها على عبده موسى ، فذكر ثمانية منها : أما أول هذا المنن فتتمثل في قوله ـ تعالى ـ : (إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى).

و (إِذْ) ظرف لقوله (مَنَنَّا) والإيحاء : الإعلام في خفاء .. وإيحاء الله ـ تعالى ـ إلى أم موسى كان عن طريق الإلهام أو المنام أو غيرهما.

قال صاحب الكشاف : «الوحى إلى أم موسى : إما أن يكون على لسان نبي في وقتها ، كقوله ـ تعالى ـ : (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ) أو يبعث إليها ملكا لا على وجه النبوة كما بعث إلى مريم. أو يريها ذلك في المنام فتتنبه عليه أو يلهمها كقوله ـ تعالى ـ : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ).

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٦ ص ١٨٦.

١٠١

أى : أوحينا إليها أمرا لا سبيل إلى التوصل إليه ، ولا إلى العلم به ، إلا بالوحي (١).

والمعنى : ولقد مننا عليك يا موسى مرة أخرى ، وقت أن أوحينا إلى أمك بما أوحينا من أمر عظيم الشأن ، يتعلق بنجاتك من بطش فرعون.

فالتعبير بالموصول في قوله : (ما يُوحى) للتعظيم والتهويل ، كما في قوله ـ تعالى ـ (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى).

ثم وضح ـ سبحانه ـ ما أوحاه إلى أم موسى فقال : (أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ ، فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ ، يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ ..).

و (أَنِ) في قوله (أَنِ اقْذِفِيهِ) مفسرة ، لأن الإيحاء فيه معنى القول دون حروفه.

والمراد بالقذف هنا : الوضع ، والمراد به في قوله (فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِ) الإلقاء في البحر وهو نيل مصر.

والتابوت : الصندوق الذي يوضع فيه الشيء.

والمعنى : لقد كان من رعايتنا لك يا موسى أن أوحينا إلى أمك عند ما خافت عليك القتل : أن ضعى ابنك في التابوت ، ثم بعد ذلك اقذفيه بالتابوت في البحر ، ويأمرنا وقدرتنا يلقى اليم بالتابوت على شاطئ البحر وساحله ، وفي هذه الحالة يأخذه عدو لي وعدو له ، وهو فرعون الذي طغى وقال لقومه أنا ربكم الأعلى.

والضمائر كلها تعود إلى موسى ـ عليه‌السلام ـ وقيل إن الضمير في قوله (فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِ).

وفي قوله (فَلْيُلْقِهِ) يعود إلى التابوت ، والأول أرجح ، لأن تفريق الضمائر هنا لا داعي له ، بل الذي يقتضيه بلاغة القرآن الكريم ، عودة الضمائر إلى موسى ـ عليه‌السلام ـ قال بعض العلماء : وصيغة الأمر في قوله (فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ) فيها وجهان معروفان عند العلماء.

أحدهما : أن صيغة الأمر معناها الخير : قال أبو حيان في البحر : وقوله (فَلْيُلْقِهِ) أمر معناه الخبر ، وجاء بصيغة الأمر مبالغة ، إذ الأمر أقطع الأفعال وأوجبها.

الثاني : أن صيغة الأمر في قوله (فَلْيُلْقِهِ) أريد بها الأمر الكونى القدري كقوله : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) فالبحر لا بد أن يلقيه بالساحل ، لأن الله

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٦٢.

١٠٢

ـ تعالى ـ أمره بذلك كونا وقدرا .. (١).

وقوله (يَأْخُذْهُ) مجزوم في جواب الطلب وهو قوله (فَلْيُلْقِهِ ...) إذ أنه على الوجه الأول يكون الطلب باعتبار لفظه وصيغته.

وقوله ـ سبحانه ـ (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) بيان للمنة الثانية.

قال الآلوسى : وكلمة «منى» متعلقة بمحذوف وقع صفة لمحذوف ، مؤكدة لما في تنكيرها من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية. أى : وألقيت عليك محبة عظيمة كائنة منى ـ لا من غيرى ـ قد زرعتها في القلوب ، فكل من رآك أحبك (٢).

ولقد كان من آثار هذه المحبة : عطف امرأة فرعون عليه ، وطلبها منه عدم قتله ، وطلبها منه كذلك أن يتخذه ولدا.

وكان من آثار هذه المحبة أن يعيش موسى في صغره معززا مكرما في بيت فرعون مع أنه في المستقبل سيكون عدوا له.

وهكذا رعاية الله ـ تعالى ـ ومحبته لموسى جعلته يعيش بين قوى الشر والطغيان آمنا مطمئنا.

قال ابن عباس : أحب الله ـ تعالى ـ موسى ، وحببه إلى خلقه.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) بيان للمنة الثالثة ...

أى : أوحيت إلى أمك بما أوحيت من أجل مصلحتك ومنفعتك وألقيت عليك محبة منى ، ليحبك الناس ، ولتصنع على عيني. أى : ولتربى وأنت محاط بالحنو والشفقة تحت رعايتى وعنايتي وعيني ، كما يراعى الإنسان بعينه من يحبه ويهتم بأمره.

وهذا ما حدث لموسى فعلا ، فقد عاش في طفولته تحت عين فرعون ، وهو عدو لله ـ تعالى ـ ومع ذلك لم تستطع عين فرعون أن تمتد بسوء إلى موسى ، لأن عين الله ـ تعالى ـ كانت ترعاه وتحميه من بطش فرعون وشيعته.

فالجملة الكريمة فيها من الرفق بموسى ـ عليه‌السلام ـ ومن الرعاية له ، ما يعجز القلم عن وصفه.

وكيف يستطيع القلم وصف حال إنسان قال الله في شأنه : (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي).

قال صاحب الكشاف : أى : ولتربى ويحسن إليك وأنا مراعيك ومراقبك كما يراعى الرجل

__________________

(١) أضواء البيان ج ٥ ص ٤٠٦.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٦ ص ١٨٩.

١٠٣

الشيء بعينه إذا اعتنى به ، وتقول للصانع ؛ اصنع هذا على عيني إنى أنظر إليك لئلا تخالف به عن مرادى وبغيتي.

وقوله : (وَلِتُصْنَعَ) معطوف على علة مضمرة مثل : ليتعطف عليك .. أو حذف معلله أى : ولتصنع على عيني فعلت ذلك (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ المنة الرابعة على موسى فقال : (إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ ، فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ ...).

وكان ذلك بعد أن التقط آل فرعون موسى من فوق الشاطئ ، وبعد أن امتنع عن الرضاعة من أى امرأة سوى أمه.

أى : وكان من مظاهر إلقاء محبتي عليك ، ورعايتى لك ، أن أختك بعد أن أمرتها أمك بمعرفة خبرك ، سارت في طرقات مصر فأبصرتك في بيت فرعون وأنت تمتنع عن الرضاعة من أى امرأة ، فقالت أختك لفعون وامرأته (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ).

أى : ألا تريدون أن أرشدكم إلى امرأة يقبل هذا الطفل الرضاعة منها ، وتحفظه وترعاه ، والفاء في قوله : (فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ) هي الفصيحة. أى : التي تفصح عن كلام مقدر.

والمعنى : بعد أن قالت أختك لفرعون وامرأته : هل أدلكم على من يكفله. أجابوها بقولهم : دلينا عليها ، فجاءت بأمك فرجعناك إليها كي تسر برجوعك ، ويمتلئ قلبها فرحا بلقائها بك بعد أن ألقتك في اليم ، ولا تحزن بسبب فراقك عنها.

ثم حكى ـ سبحانه ـ المنة الخامسة فقال : (وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِ) وكان ذلك عند ما استنصر به رجل من قومه على رجل من أعدائه.

أى : وقتلت نفسا هي نفس القبطي ، عند ما استعان بك عليه الإسرائيلى فنجيناك من الغم الذي نزل بك بسبب هذا القتل.

قال الآلوسى : وقد حل له هذا الغم من وجهين : خوف عقاب الله ـ تعالى ـ حيث لم يقع القتل بأمره ـ سبحانه ـ وخوف القصاص ، وقد نجاه الله من ذلك بالمغفرة حين قال : (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ) وبالمهاجرة إلى مدين.

والغم في الأصل : ستر الشيء ، ومنه الغمام لستره ضوء الشمس. ويقال : لما يغم القلب بسبب خوف أو فوات مقصود .. (٢).

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٦٣.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٦ ص ١٩٣.

١٠٤

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) بيان للمنة السادسة التي امتن الله ـ تعالى ـ بها على موسى ـ عليه‌السلام ـ.

والفتون : جمع فتن كالظنون جمع ظن. والفتن : الاختبار والابتلاء تقول : فتنت الذهب بالنار ، أى : أدخلته فيها لتعلم جودته من رداءته.

والمعنى : واختبرناك وابتليناك ـ يا موسى ـ بألوان من الفتن والمحن.

ونظم ـ سبحانه ـ هذا الفتن والاختبار في سلك المنن ، باعتبار أن الله ـ تعالى ـ ابتلاه بالفتن ثم نجاه منها ، ونجاه من شرورها.

وقد ساق الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية حديثا طويلا سماه بحديث الفتون ، ذكر فيه قصة مولد موسى ، وإلقائه في اليم ، وتربيته في بيت فرعون ، وقتله للقبطي ، وهروبه إلى مدين ، وعودته منها إلى مصر. وتكليف الله ـ تعالى ـ له بالذهاب الى فرعون ، ودعوته إلى عبادة الله وحده .. إلخ (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى) أى : فلبثت عشر سنين في قرية أهل مدين ، تعمل كأجير عند الرجل الصالح. ثم جئت بعد ذلك إلى المكان الذي ناديتك فيه (عَلى قَدَرٍ) أى على وفق الوقت الذي قدرناه لمجيئك ، وحددناه لتكليمك واستنبائك ، دون أن تتقدم أو تتأخر ، لأن كل شيء عندنا محدد ومقدر بوقت لا يتخلف عنه.

قال ـ تعالى ـ : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) وقال ـ سبحانه ـ : (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) وقال ـ عزوجل ـ : (وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً).

ثم حكى ـ سبحانه ـ المنة الثامنة : فقال : (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) أى : وجعلتك محل صنيعتي وإحسانى ، حيث اخترتك واصطفيتك لحمل رسالتي وتبليغها إلى فرعون وقومه ، وإلى قومك بنى إسرائيل.

فالآية الكريمة تكريم عظيم لموسى ـ عليه‌السلام ـ اختاره الله ـ تعالى ـ واجتباه من بين خلقه لحمل رسالته إلى فرعون وبنى إسرائيل.

هذه ثماني منن ساقها الله ـ تعالى ـ هنا مجملة ، وقد ساقها ـ سبحانه ـ في سورة القصص بصورة أكثر تفصيلا ، ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٥ ص ٢٧٩ وما بعدها.

١٠٥

الْمُرْسَلِينَ* فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ* وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (١).

وبعد أن ذكر ـ سبحانه ـ بعض المنن التي امتن بها على نبيه موسى ـ عليه‌السلام ـ أتبع ذلك بذكر بعض التوجيهات التي أمره بفعلها ، حيث كلفه بتبليغ الدعوة إلى فرعون ، فقال ـ تعالى ـ :

(اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (٤٢) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٤٣) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (٤٤) قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (٤٥) قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (٤٦) فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (٤٧) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى)(٤٨)

وقوله ـ سبحانه ـ (وَلا تَنِيا) فعل مضارع مصدره الونى ـ بفتح الواو وسكون النون ـ بمعنى الضعف والفتور والتراخي في الأمر.

يقال : ونى فلان في الأمر ينى ونيا ـ كوعد يعد وعدا ـ إذا ضعف وتراخى في فعله.

وقوله : (أَخُوكَ) فاعل لفعل محذوف. أى : وليذهب معك أخوك.

والمراد بالآيات : المعجزات الدالة على صدق موسى ـ عليه‌السلام ـ ، وعلى رأسها عصاه التي ألقاها فإذا هي حية تسعى ، ويده التي ضمها إلى جناحه فخرجت بيضاء من غير سوء.

__________________

(١) سورة القصص الآيات من ٧ ـ ٩.

١٠٦

والمعنى : اذهب يا موسى أنت وأخوك إلى حيث آمركما متسلحين بآياتى ومعجزاتي ، ولا تضعفا أو تتراخيا في ذكرى وتسبيحي وتقديسي بما يليق بذاتى وصفاتي من العبادات والقربات. فإن ذكركما لي هو عدتكما وسلاحكما وسندكما في كل أمر تقدمان عليه.

فالآية الكريمة تدعو موسى وهارون ، كما تدعو كل مسلم في كل زمان ومكان إلى المداومة على ذكر الله ـ تعالى ـ في كل موطن ، بقوة لا ضعف معها وبعزيمة صادقة لا فتور فيها ولا كلال.

وقد مدح ـ سبحانه ـ المداومين على تسبيحه وتحميده وتقديسه في كل أحوالهم فقال : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) (١).

قال صاحب الكشاف : قوله (وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي) الونى : الفتور والتقصير. أى لا تنسيانى ولا أزال منكما على ذكر حيث تقلبتما ، واتخذا ذكرى جناحا تصيران به مستمدين بذلك العون والتأييد منى ، معتقدين أن أمرا من الأمور لا يتمشى لأحد إلا بذكرى. ويجوز أن يريد بالذكر تبليغ الرسالة ، فإن الذكر يقع على سائر العبادات ، وتبليغ الرسالة من أجلها وأعظمها فكان جديرا بأن يطلق عليه اسم الذكر .. (٢).

وقال ابن كثير : والمراد بقوله (وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي) أنهما لا يفتران في ذكر الله ، بل يذكران الله في حال مواجهة فرعون ، ليكون ذكر الله عونا لهما عليه ، وقوة لهما. وسلطانا كاسرا له ، كما جاء في الحديث «إن عبدى كل عبدى الذي يذكرني وهو مناجز قرنه» (٣).

ثم أرشدهما ـ سبحانه ـ إلى الوجهة التي يتوجهان إليها فقال : (اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى).

أى : اذهبا إلى فرعون لتبلغاه دعوتي ، ولتأمراه بعبادتي ، فإنه قد طغى وتجاوز حدوده ، وأفسد في الأرض ، وقال لقومه : أنا ربكم الأعلى. وقال لهم ـ أيضا ـ ما علمت لكم من إله غيرى.

قال الجمل : وقوله : (اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ) جمعهما في صيغة أمر الحاضر مع أن هارون لم يكن حاضرا محل المناجاة بل كان في ذلك الوقت بمصر ـ للتغليب فغلب الحاضر على غيره ، وكذا الحال في صيغة النهى. أى : قوله (وَلا تَنِيا) روى أنه ـ تعالى ـ أوحى إلى هارون

__________________

(١) سورة آل عمران الآيتان ١٩٠ ، ١٩١.

(٢) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٦٥.

(٣) تفسير ابن كثير ج ٣ ص ٢٨٧.

١٠٧

وهو بمصر أن يتلقى موسى ـ عليه‌السلام ـ وقيل : سمع بإقباله فتلقاه .. (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) إرشاد منه ـ سبحانه ـ إلى الطريقة التي ينبغي لهما أن يسلكاها في مخاطبة فرعون.

أى : اذهبا إليه ، وادعواه إلى ترك ما هو فيه من كفر وطغيان ، وخاطباه بالقول اللين ، وبالكلام الرقيق. فإن الكلام السهل اللطيف من شأنه أن يكسر حدة الغضب ، وأن يوقظ القلب للتذكر ، وأن يحمله على الخشية من سوء عاقبة الكفر والطغيان.

وهذا القول اللين الذي أمرهما الله ـ تعالى ـ به هنا قد جاء ما يفسره في آيات أخرى ، وهي قوله ـ تعالى ـ : (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى. فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى ، وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى ..).

فأنت ترى أن هذه الآيات الكريمة قد اشتملت على ألطف أساليب المخاطبة وأرقها وألينها وأحكمها.

قال ابن كثير : قوله (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً ...) هذه الآية فيها عبرة عظيمة ، وهي أن فرعون كان في غاية العتو والاستكبار ، وموسى كان صفوة الله من خلقه إذ ذاك ، ومع هذا أمر أن لا يخاطب فرعون إلا بالملاطفة واللين كما قال يزيد الوقاشى عند قراءته لهذه الآية : يا من يتحبب إلى من يعاديه ، فكيف بمن يتولاه ويناديه؟.

والحاصل أن دعوتهما له تكون بكلام رقيق لين قريب سهل ، ليكون أوقع في النفوس وأبلغ وأنجع ، كما قال ـ تعالى ـ : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ، وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ..) (٢).

والترجي في قوله ـ تعالى ـ : (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) على بابه إلا أنه يعود إلى موسى وهارون.

أى : اذهبا إليه ، وإلينا له القول ، وباشرا الأمر معه مباشرة من يرجو ويطمع في نجاح سعيه ، وحسن نتيجة قوله.

وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله : والترجي لهما أى : اذهبا على رجائكما وطمعكما وباشرا الأمر مباشرة من يرجو أن يثمر عمله فهو يجتهد بطوقه ، ويحتشد ـ أى ـ يستعد ويتأهب ـ بأقصى وسعه ، وجدوى إرسالهما إليه مع العلم أنه لن يؤمن ، إلزام الحجة ،

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ٩٣.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٣ ص ٢٨٨.

١٠٨

وقطع المعذرة ، كما قال ـ تعالى ـ : (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى) (١).

ويرى بعضهم أن الترجي هنا للتعليل. أى : فقولا له قولا لينا لأجل أن يتذكر أو يخشى.

قال الآلوسى : قال الفراء : «لعل» هنا بمعنى كي التعليلية .. وعن الواقديّ : أن جميع ما في القرآن من «لعل» فإنها للتعليل ، إلا قوله ـ تعالى ـ (وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) فإنها للتشبيه أى : كأنكم تخلدون (٢).

ثم حكى ـ سبحانه ـ ما قاله موسى وهارون عند ما أمرهما ـ جل جلاله ـ بذلك فقال : (قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى).

أى : قال موسى وهارون بعد أن أمرهما ربهما بالذهاب إلى فرعون لتبليغه دعوة الحق : يا ربنا إننا نخاف (أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا) أى يعاجلنا بالعقوبة قبل أن ننتهي من الحديث معه في الأمر.

يقال : فرط فلان على فلان يفرط إذا عاجله بالعقوبة وأذاه بدون تمهل ، ومنه قولهم : فرس فارط ، أى سابق لغيره من الخيل.

(أَوْ أَنْ يَطْغى) أى يزداد طغيانه ، فيقول في حقك يا ربنا مالا نريد أن نسمعه ، ويقول في حقنا ما نحن برءاء منه ، ويفعل معنا ما يؤذينا.

وقد جمع ـ سبحانه ـ بين القولين اللذين حكاهما عنهما ، لأن الطغيان أشمل من الإفراط ، إذ الجملة الأولى تدل على الإسراع بالأذى لأول وهلة ، أما الثانية فتشمل الإسراع بالأذى ، وتشمل غيره من ألوان الاعتداء سواء أكان في الحال أم في الاستقبال.

وهنا يجيبهما الخالق ـ جل وعلا ـ بما يثبت فؤداهما ، ويزيل خوفهما فقال : (لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى).

أى : قال الله ـ تعالى ـ لهما لا تخافا من بطش فرعون ، إننى معكما بقوتي وقدرتي ورعايتى ، وإننى أسمع كلامكما وكلامه ، وأرى فعلكما وفعله. لا يخفى على شيء من حالكما وحاله ، فاطمئنا أننى معكما بحفظي ونصرى وتأييدى ، وأن هذا الطاغية ناصيته بيدي ، ولا يستطيع أن يتحرك أو يتنفس إلا بإذنى ...

ثم رسم لهما ـ سبحانه ـ طريق الدعوة فقال : (فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ ..).

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٦٥.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٦ ص ١٩٥.

١٠٩

أى : فأتيا فرعون ، وادخلا عليه داره أو مكان سلطانه ، وقولا له بلا خوف أو وجل (إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ) الذي خلقك فسواك فعدلك.

وكان البدء بهذه الجملة لتوضيح أساس رسالتهما ، ولإحقاق الحق من أول الأمر ، ولإشعاره منذ اللحظة الأولى بأنهما قد أرسلهما ربه وربهما ورب العالمين ، لدعوته إلى الدين الحق ، وإلى إخلاص العبادة لله الواحد القهار ، وإلى التخلي عن الكفر والطغيان. وأنهما لم يأتياه بدافع شخصى منهما وإنما أتياه بتكليف من ربه ورب العالمين.

أما الجملة الثانية التي أمرهما الله ـ تعالى ـ أن يقولاها لفرعون فقد حكاها ـ سبحانه ـ بقوله : (فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ) أى : فأطلق سراح بنى إسرائيل ، ودعهم يعيشون أحرارا في دولتك ولا تعذبهم باستعبادهم وقهرهم ، وقتل أبنائهم ، واستحياء نسائهم.

قال ـ تعالى ـ : (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ ، يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ ، وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) (١).

قال الآلوسى : والمراد بالإرسال : إطلاقهم من الأسر ، وإخراجهم من تحت يده العادية ، لا تكليفهم أن يذهبوا معهما إلى الشام ، كما ينبئ عنه قوله ـ سبحانه ـ (وَلا تُعَذِّبْهُمْ) أى : بإبقائهم على ما كانوا عليه من العذاب ، فإنهم كانوا تحت سيطرة القبط ، يستخدمونهم في الأشغال الشاقة كالحفر والبناء .. (٢).

وقوله ـ تعالى ـ : (قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ) جملة ثالثة تدل على صدقهما في رسالتهما.

والمراد بالآية هنا : جنسها ، فتشمل العصا واليد وغيرهما من المعجزات التي أعطاها الله ـ تعالى ـ لنبيه موسى ـ عليه‌السلام ـ.

أى : قد جئناك بمعجزة من ربك تثبت صدقنا ، وتؤيد مدعانا ، وتشهد بأنا قد أرسلنا الله ـ تعالى ـ إليك لهدايتك ودعوتك أنت وقومك إلى الدخول في الدين الحق.

فالجملة الكريمة تقرير لما تضمنه الكلام السابق من كونهما رسولين من رب العالمين ، وتعليل لوجوب إطلاق بنى إسرائيل ، وكف الأذى عنهم.

أما الجملة الرابعة التي أمرهما الله ـ تعالى ـ بأن يقولاها لفرعون فهي قوله ـ سبحانه ـ : (وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى).

__________________

(١) سورة البقرة الآية ٤٩.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٦ ص ١٩٨.

١١٠

أى : وقولا له ـ أيضا ـ السلامة من العذاب في الدارين لمن اتبع الهدى بأن آمن بالله ـ تعالى ـ وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ...

فالسلام مصدر بمعنى السلامة ، وعلى بمعنى اللام. ويفهم من الآية الكريمة أن من لم يتبع الهدى ، لا سلامة له ، ولا أمان عليه.

وفي هذه الجملة من الترغيب في الدخول في الدين الحق ما فيها ، ولذا استعملها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كثير من كتبه ، ومن ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في رسالته إلى هرقل ملك الروم : بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم. سلام على من اتبع الهدى ..

ثم حكى ـ سبحانه ـ الجملة الخامسة التي أمر موسى وهارون أن يخاطبا بها فرعون فقال : (إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى).

أى : وقولا له (إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا) من عند ربنا وخالقنا (أَنَّ الْعَذابَ) في الدنيا والآخرة (عَلى مَنْ كَذَّبَ) بآياته وحججه ـ سبحانه ـ (وَتَوَلَّى) عنها. وأعرض عن الاستجابة لها.

وبذلك نرى في هذه الآيات الكريمة أسمى ألوان الدعوة إلى الحق وأحكمها ، فهي قد بدأت بالأساس الذي تقوم عليه كل رسالة سماوية (إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ) وثنت ببيان أهم ما أرسل موسى وهارون من أجله ، (فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ) وثلثت بإقامة الأدلة على صدقهما (قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ) وربعت بالترغيب والاستمالة (وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى).

ثم ختمت بالتحذير والترهيب من المخالفة (إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى).

وبعد أن غرس ـ سبحانه ـ الطمأنينة في قلب موسى وهارون وزودهما بأحكم الوسائل وأنجعها في الدعوة إلى الحق .. أتبع ذلك بحكاية جانب من الحوار الذي دار بينهما وبين فرعون بعد أن التقوا جميعا وجها لوجه فقال ـ تعالى ـ :

(قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (٤٩) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (٥٠) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (٥١) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (٥٢)

١١١

الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (٥٣) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (٥٤) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (٥٥) وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (٥٦) قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (٥٧) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (٥٨) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (٥٩) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى)(٦٠)

فقوله ـ تعالى ـ : (قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى) حكاية لما قاله فرعون لموسى وهارون ـ عليهما‌السلام ـ بعد أن ذهبا إليه ليبلغاه دعوة الحق كما أمرهما ربهما ـ سبحانه ـ.

ولم تذكر السورة الكريمة كيف وصلا إليه .. لأن القرآن لا يهتم بجزئيات الأحداث التي لا تتوقف عليها العبر والعظات ، وإنما يهتم بذكر الجوهر واللباب من الأحداث.

والمعنى : قال فرعون لموسى وهارون بعد أن دخلا عليه. وأبلغاه ما أمرهما ربهما بتبليغه : من ربكما يا موسى الذي أرسلكما إلى؟.

وكأنه ـ لطغيانه وفجوره ـ لا يريد أن يعترف بأن رب موسى وهارون هو ربه وخالقه. كما قالا له قبل ذلك (إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ).

وخص موسى بالنداء مع أنه وجه الخطاب إليهما لظنه أن موسى ـ عليه‌السلام ـ هو الأصل في حمل رسالة الحق إليه ، وأن هارون هو وزيره ومعاونه أو أنه لخبثه ومكره ، تجنب مخاطبة هارون لعلمه أنه أفصح لسانا من موسى ـ عليهما‌السلام ـ.

قال صاحب الكشاف : خاطب فرعون الاثنين ، ووجه النداء إلى أحدهما وهو موسى ، لأنه

١١٢

الأصل في النبوة ، وهارون وزيره وتابعه ، ويحتمل أن يحمله خبثه ودعارته ـ أى فسقه ـ على استدعاء كلام موسى دون كلام أخيه ، لما عرف من فصاحة هارون والرّتة في لسان موسى ، ويدل عليه قوله : (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ) (١).

ولا شك أن ما حكاه الله ـ تعالى ـ عن فرعون من قوله (فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى) يدل على نهاية الغرور والفجور والجحود ، وشبيه بذلك قوله : ـ سبحانه ـ حكاية عنه : (وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي ...) (٢)

وقوله ـ تعالى ـ : (فَحَشَرَ فَنادى فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى).

ثم حكى ـ سبحانه ـ بعد ذلك أن موسى قد رد على فرعون ردا يخرسه ويكبته فقال : (قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى).

وقوله (خَلْقَهُ) مصدر بمعنى اسم المفعول ، وهو المفعول الثاني لقوله (أَعْطى) والمفعول الأول قوله : (كُلَّ شَيْءٍ).

وللعلماء في تفسير هذه الآية الكريمة اتجاهات يؤيد بعضها بعضا ، منها ما يراه بعضهم من أن معنى الآية الكريمة :

١ ـ قال موسى في رده على فرعون : يا فرعون ربنا وربك هو الله الواحد الأحد الفرد الصمد ، الذي أعطى كل مخلوق من مخلوقاته ، وكل شيء من الأشياء ، الصورة التي تلائمه ، والهيئة التي تتحقق معها منفعته ومصلحته ، ثم هداه إلى وظيفته التي خلقه من أجلها ، وأمده بالوسائل والملكات التي تحقق هذه الوظيفة.

وثم في قوله (ثُمَّ هَدى) للتراخي في الرتبة ، إذ اهتداء المخلوق إلى وظيفته مرتبة تعلو كثيرا عن خلقه دون أن يفقه شيئا.

وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله : «أعطى كل شيء صورته وشكله الذي يطابق المنفعة المنوطة به ، كما أعطى العين الهيئة التي تطابق الإبصار ، والأذن الشكل الذي يوافق الاستماع ، وكذلك الأنف واليد والرجل واللسان ، كل واحد منها مطابق لما علق به من المنفعة غير ناب عنه.

(ثُمَّ هَدى) أى : عرفه كيف يرتفق بما أعطى ، وكيف يتوصل إليه ولله در هذا الجواب ، وما أخصره وما أجمعه وما أبينه لمن ألقى الذهن ، ونظر بعين الإنصاف وكان طالبا للحق (٣).

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٦٧.

(٢) سورة القصص الآية ٣٨.

(٣) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٦٧.

١١٣

٢ ـ ومنهم من يرى أن المعنى : قال موسى لفرعون : ربنا الذي أعطى كل شيء نظير خلقه في الصورة والهيئة ، كالذكور من بنى آدم ، أعطاهم نظير خلقهم من الإناث أزواجا ، وكالذكور من البهائم أعطاها نظير خلقها في صورتها وهيئتها من الإناث أزواجا .. ثم هدى الجميع لسائر منافعهم من المطاعم والمشارب ووسائل التناسل.

وقد صدر الإمام ابن جرير تفسيره للآية بهذا المعنى فقال ما ملخصه : وقوله : (قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ) يعنى نظير خلقه في الصورة والهيئة .. ثم هداهم للمأتى الذي منه النسل والنماء كيف يأتيه ، ولسائر منافعه من المطاعم والمشارب وغير ذلك (١).

٣ ـ ويرى بعضهم أن : المعنى أعطى كل شيء صلاحه ثم هداه إلى ما يصلحه.

٤ ـ ومنهم من يرى أن قوله (خَلْقَهُ) هو المفعول الأول لأعطى ، وأن قوله (كُلَّ شَيْءٍ) هو المفعول الثاني فيكون المعنى : قال موسى لفرعون : ربنا الذي أعطى الخلائق كل شيء يحتاجون إليه ، ثم هداهم إلى طريق استعماله والانتفاع به.

ويبدو لنا أن الآية الكريمة تتسع لهذه المعاني جميعها لأنه ـ سبحانه ـ هو الذي أعطى خلقه كل شيء يحتاجون إليه في معاشهم ، ثم هداهم إلى طرق الانتفاع بما أعطاهم ، كما أعطى كل نوع من أنواع خلقه الصورة التي تناسبه ، والشكل الذي يتناسب مع جنسه (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ...).

ثم حكى ـ سبحانه ـ بعد ذلك ما قاله فرعون لموسى : (قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى).

والبال في الأصل : الفكر. تقول : خطر ببالي كذا ، أى : بفكرى وعقلي ، ثم أطلق على الحال التي يهتم بشأنها ، وهذا الإطلاق هو المراد هنا.

أى : قال فرعون بعد أن رد عليه موسى هذا الرد الحكيم : يا موسى فما حال القرون الأولى ، كقوم نوح وعاد وثمود .. الذين كذبوا أنبياءهم ، وعبدوا غير الله ـ تعالى ـ الذي تدعوني لعبادته؟.

وسؤاله هذا يدل على خبثه ومكره ، لأنه لما سمع من موسى الجواب المفحم له على سؤاله السابق (فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى) أراد أن يصرف الحديث إلى منحى آخر يتعلق بأمور لا صلة لها برسالة موسى إليه وهي دعوته لعبادة الله ـ تعالى ـ وحده ، وإطلاق سراح بنى إسرائيل من الأسر.

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ١٦ ص ١٣١.

١١٤

ولذا رد عليه موسى ـ عليه‌السلام ـ بما يخرس لسانه ، ويبطل كيده ، فقال ـ كما حكى القرآن عنه ـ (عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى).

أى : علم حال هذه القرون الأولى محفوظ عند ربي وحده في كتاب هو اللوح المحفوظ ، وهو ـ سبحانه ـ لا يخفى عليه شيء من حالهم ، وسيجازيهم بما يستحقون من ثواب أو عقاب.

وقوله : (لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى) مؤكد لما قبله. أى : لا يخطئ ربي في علمه ، ولا ينسى شيئا مما علمه لأنه منزه عن ذلك ، فالضلال هنا بمعنى الخطأ وقلة الإدراك.

وجمع ـ سبحانه ـ بين نفى الضلال والنسيان ، لإفادة تنزهه عن أن يغيب شيء من أحوال هذا الكون عن علمه الشامل لكل شيء ، ولبيان أن علمه باق بقاء أبديا لا نسيان معه ، ولا زوال له.

ثم بين له آثار علم الله ـ تعالى ـ وقدرته فقال : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً ..).

أى : هو ـ سبحانه ـ الذي جعل لكم الأرض ممهدة كالفراش ، ليتسنى لكم الانتفاع بخيراتها ، وقرأ الأكثرون من السبعة ، (مِهاداً) أى : فراشا. والمهاد في الأصل ما يمهد للصبي لينام عليه.

(وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً) والسلك : الإدخال. أى : وجعل لكم في داخلها طرقا تنتقلون فيها من مكان إلى مكان ، ومن بلدة إلى أخرى ، لقضاء مصالحكم.

(وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى) والأزواج : الأصناف.

أى : وأنزل ـ سبحانه ـ بقدرته من السماء ماء نافعا كثيرا فأخرجنا بسبب هذا الماء من الأرض أصنافا شتى ـ أى متفرقة ـ من النبات ، وهذه الأصناف مختلفة المنافع والألوان والطعوم والروائح ، مما يدل على كمال قدرتنا ، ونفاذ إرادتنا.

وفي قوله (فَأَخْرَجْنا) التفات من الغيبة إلى التكلم بصيغة التعظيم ، للتنبيه على عظم شأن هذا الإخراج ، وأثره الكبير في حياة الناس.

فأنت ترى أن هذه الآية الكريمة قد اشتملت على أربع منن قد امتن الله بها على عباده ، وهي : تمهيد الأرض ، وجعل الطرق فيها ، وإنزال المطر من السماء ، وإخراج النبات المتنوع من الأرض.

وهذه المنن وإن كانت ظاهرة وواضحة في جميع فجاج الأرض ، إلا أنها أظهر ما تكون وأوضح ما تكون في أرض مصر التي كان يعيش فيها فرعون حيث تبدو الأرض فيها منبسطة

١١٥

ممهدة على جانبي النيل الممتد امتدادا كبيرا.

وكان الأجدر بفرعون ـ لو كان يعقل ـ أن يخلص العبادة لواهب هذه المنن ، ومسدي هذه النعم ، وهو الله رب العالمين.

والأمر في قوله ـ سبحانه ـ : (كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ) للإباحة.

أى : هذه الأرض وما اشتملت عليه من طرق ومن نبات شتى هي لمنفعتكم ومصلحتكم ، فكلوا ـ أيها الناس ـ من هذه الثمار المتنوعة التي انشقت عنها الأرض ، وارعوا أنعامكم من إبل وبقر وغنم في المكان الصالح للرعي من هذه الأرض ، واشكروا الله ـ تعالى ـ على هذه النعم لكي يزيدكم منها.

واسم الإشارة في قوله (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) يعود إلى المذكور من تلك النعم السابقة.

و (النُّهى) جمع نهية ـ بضم النون وإسكان الهاء ـ وهي العقل. سمى بذلك لأنه ينهى صاحبه عما لا يليق. تقول العرب : نهو الرجل ـ ككرم ـ إذا كملت نهيته ، أى عقله.

والمعنى : إن في ذلك الذي ذكرناه لكم من نعمة تمهيد الأرض ، وجعل الطرق فيها : وإنزال المطر عليها ، وإخراج النبات منها .. إن في كل ذلك لآيات وعظات وعبر ، لأصحاب العقول السليمة ، والأفكار القويمة.

ثم بين ـ سبحانه ـ أن هذه الأرض منها خلق الإنسان ، وإليها يعود ، ومنها يبعث للحساب يوم القيامة ، فقال ـ تعالى ـ : (مِنْها خَلَقْناكُمْ ، وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى).

والضمير في «منها ، وفيها» يعود إلى الأرض المذكورة قبل ذلك في قوله ـ تعالى ـ : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً ..) والتارة : بمعنى المرة.

أى : من هذه الأرض خلقنا أباكم آدم ، وأنتم تبع له ، وفرع عنه ، كما قال ـ تعالى ـ : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ ، خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).

وقوله : (وَفِيها نُعِيدُكُمْ) أى : وفي الأرض نعيدكم عند موتكم ، حيث تكون محل دفنكم واستقرار أجسادكم.

وقوله : (وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) أى : ومن الأرض نخرجكم مرة أخرى أحياء يوم القيامة ، للحساب والجزاء.

قال ـ تعالى ـ : (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ* يَوْمَ

١١٦

يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ) (١).

وقال ـ سبحانه ـ : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا ، هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) (٢).

قال ابن كثير : وهذه الآية كقوله ـ تعالى ـ : (قالَ فِيها تَحْيَوْنَ ، وَفِيها تَمُوتُونَ ، وَمِنْها تُخْرَجُونَ) (٣).

وفي الحديث الذي في السنن أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حضر جنازة فلما دفن الميت أخذ قبضة من التراب فألقاها في القبر ثم قال : «منها خلقناكم» ثم أخذ أخرى وقال : «وفيها نعيدكم» ثم أخرى وقال : «ومنها نخرجكم تارة أخرى» (٤).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى) بيان للموقف الجحودى الذي وقفه فرعون من الحجج والمعجزات التي طرحها أمامه موسى ـ عليه‌السلام ـ.

وأريناه : من الرؤية البصرية المتعدية إلى مفعول واحد فلما دخلت عليها الهمزة تعدت إلى اثنين أولهما الهاء والثاني آياتنا.

والإضافة في (آياتِنا) قائمة مقام التعريف العهدي. أى : آياتنا المعهودة لموسى ، والتي على رأسها اليد والعصا.

والمعنى : ولقد أرينا فرعون بعينيه آياتنا كلها الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا وصدق نبينا موسى ، فكانت نتيجة ذلك أن كذب بها ، وأبى أن يستجيب للحق ..

كما قال ـ تعالى ـ : (وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) (٥).

وكما قال ـ سبحانه ـ : (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ) (٦).

والآية الكريمة تؤكد جحود فرعون وطغيانه بجملة من المؤكدات ، وهي لام القسم ، وقد ، والرؤية البصرية ، ولفظ «كل» الدال على الشمول والإحاطة.

والفاء في قوله (فَكَذَّبَ) للتعقيب ، أى : فكذب بدون تريث أو تمهل.

والمفعول محذوف. أى : فكذب الآيات أو فكذب موسى بدون تردد أو تأخير.

والتعبير بقوله (فَكَذَّبَ وَأَبى) لزيادة ذمه وتحقير شأنه. لأنه لم يكتف بالتكذيب بل أضاف إلى ذلك الامتناع عن قبول الآيات ، والجحود لها ، والتعالي على من جاء بها كما ينبئ

__________________

(١) سورة المعارج الآيتان ٤٢ ، ٤٣.

(٢) سورة يس الآيتان ٥١ ، ٥٢.

(٣) سورة الأعراف الآية ٢٥.

(٤) تفسير ابن كثير ج ٣ ص ٢٩٢.

(٥) سورة الأعراف الآية ١٣٢.

(٦) سورة الزخرف الآية ٤٧.

١١٧

عنه قوله : ـ تعالى ـ بعد ذلك : (قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى) أى : قال فرعون لموسى على سبيل التهديد والوعيد : يا موسى أجئتنا من المكان الذي هربت إليه ، ومعك هذه الآيات التي رأيناها ، لكي تخرجنا من أرضنا التي عشنا فيها وهي أرض مصر بسبب ما أظهرته أمامنا من سحر وخفة يد.

وسمى اللعين ما جاء به موسى ـ عليه‌السلام ـ من معجزات سحرا ، ليزيل من أذهان قومه أثر هذه المعجزات الباهرة.

وقال : (لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا) ليحمل أتباعه على الوقوف في وجه موسى بإبراز أن موسى جاء ليحتل أرضهم ، ويجوز أموالهم ، ويجعل السلطان لغيرهم.

وقد تكرر هذا المعنى في آيات كثيرة منه قوله ـ تعالى ـ : (قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ. يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ) (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا ، وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ ، وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ) (٢).

ثم أضاف فرعون إلى تهديده لموسى تهديدا آخر فقال : (فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ ، فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً).

وقوله : (فَلَنَأْتِيَنَّكَ ...) جواب لقسم محذوف. أى : والله لنأتينك بسحر مثله ..

قال الجمل : وقوله : (مَوْعِداً) يجوز أن يكون زمانا ، ويرجحه قوله : (قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ).

والمعنى : عين لنا وقت اجتماع : ولذلك أجابهم بقوله : (مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ) ويجوز أن يكون مكانا ، والمعنى : بين لنا مكانا معلوما نعرفه نحن وأنت فنأتيه ، وهذا يؤيده قوله : (مَكاناً سُوىً).

ويجوز أن يكون مصدرا ، ويؤيد هذا قوله (لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ) لأن المواعدة توصف بالخلف وعدمه (٣).

وقوله : (لا نُخْلِفُهُ) من الإخلاف بمعنى عدم إنجاز الوعد.

وقوله : (سُوىً) قرأه ابن عامر وعاصم وحمزة بضم السين ، وقرأه الباقون بالكسر ومعنى القراءتين واحد.

__________________

(١) سورة الشعراء الآيتان ٣٤ ، ٣٥.

(٢) سورة يونس الآية ٧٨.

(٣) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ٩٧.

١١٨

وأصله من الاستواء. يقال : مكان سوى وسواء. أى : عدل ووسط ، بحيث يستوي طرفاه بالنسبة للفريقين.

أى : قال فرعون لموسى مهددا ومتوعدا : أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى ، والله لنأتينك بسحر مثل سحرك ، فاجعل بيننا وبينك موعدا للمباراة والمنازلة ، لا نخلف نحن ولا أنت هذا الموعد ، وأن يكون مكان منازلتنا لك في مكان يتوسط المدينة ، بحيث يستطيع جميع سكانها أن يحضروا إليه.

والمتأمل في الآية الكريمة يرى أن فرعون قد قال ما قال لموسى وهو كأنه قد جمع أطراف النصر بين يديه.

ويشهد لذلك : تصديره كلامه بالقسم (فَلَنَأْتِيَنَّكَ ..) وتركه لموسى اختيار الموعد الذي يناسبه (فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً) واشتراطه عدم الخلف في الوعد (لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ) واقتراحه أن يكون مكان المبارزة في وسط المدينة ، حتى يراها جميع الناس (مَكاناً سُوىً).

ولقد حكى القرآن أن موسى ـ عليه‌السلام ـ قد قبل تحدى فرعون ، ورد عليه يقول : (قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى).

والمراد بيوم الزينة : يوم كانوا يتزينون فيه ، ويجتمعون فيه ، لأنه يوم عيد لهم.

قيل إنه كان يوم عاشوراء ، وقيل يوم النيروز ...

أى : قال موسى لفرعون : موعد المنازلة بيني وبينكم هو يوم زينتكم وعيدكم ، وفي هذا اليوم أطلب منكم أن يجمع الناس جميعا في وقت الضحى عند ارتفاع الشمس ، لكي يشهدوا ما سيكون بيني وبين سحرتك يا فرعون.

وبذلك نرى أن موسى ـ عليه‌السلام ـ قد قابل تهديد فرعون له ، بتهديد أشد وأعظم ، فقد طلب منه أن يكون موعد المبارزة يوم العيد ، كما طلب منه ـ أيضا ـ أن يجمع الناس في وقت الضحى لكي يشاهدوا تلك المباراة.

قال صاحب الكشاف : وإنما واعدهم موسى ذلك اليوم ، ليكون علو كلمة الله ، وظهور دينه ، وكبت الكافر ، وزهوق الباطل على رءوس الأشهاد وفي المجمع الغاص لتقوى رغبة من رغب في اتباع الحق ، ويكل حد المبطلين وأشياعهم ، ويكثر الحديث بذلك في كل بدو وحضر ، ويشيع في جميع. أهل الوبر والمدر (١).

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٧١.

١١٩

ثم حكى القرآن ما كان من فرعون بعد أن حدد موسى ـ عليه‌السلام ـ موعد المبارزة فقال : (فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى).

أى : وبعد أن استمع فرعون إلى موسى ، انصرف من المجلس ، وولى مدبرا (فَجَمَعَ كَيْدَهُ).

أى : فجمع كبار سحرته من أطراف مملكته (ثُمَّ أَتى) بهم في الموعد المحدد ، ليتحدى موسى ـ عليه‌السلام ـ.

وإلى هنا نرى الآيات الكريمة قد حكت لنا بأسلوبها البليغ جانبا من المحاورات التي دارت بين موسى وفرعون ، وأرتنا كيف واجه موسى طغيان فرعون وغروره ، برباطة جأش ، وقوة إرادة ، ومضاء عزيمة ..

ثم انتقلت السورة بعد ذلك إلى الحديث عما دار بين موسى والسحرة من محاورات. انتهت بإيمانهم واعترافهم بالحق الذي جاء به موسى من عند ربه ، قال ـ تعالى ـ :

(قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى(٦١) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (٦٢) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (٦٣) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (٦٤) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (٦٥) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (٦٦) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (٦٧) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (٦٨) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا

١٢٠