التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٨

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٨

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0668-X
الصفحات: ٥٩٧

والعضة والعضين في لغة قريش السحر. وهم يقولون للساحر عاضه ، وللساحرة عاضهة ...

وفي الحديث : لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم العاضهة والمستعضهة أى الساحرة والمستسحرة .. وقيل : هو من العضة ، وهي التميمة. والعضيهة : البهتان .. يقال : أعضهت يا فلان أى : جئت بالبهتان» (١).

والمعنى : ولقد آتيناك ـ أيها الرسول الكريم ـ السبع المثاني والقرآن العظيم ، مثل ما أنزلنا على طوائف أهل الكتاب المقتسمين ، أى الذين قسموا كتابهم أقساما ، فأظهروا قسما وأخفوا آخر ، والذين جعلوا ـ أيضا ـ القرآن أقساما ، فآمنوا ببعضه ، وكفروا بالبعض الآخر .. فجعله (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) بيان وتوضيح للمقتسمين.

ومنهم من يرى أن قوله ـ تعالى ـ (كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ ...) متعلق بقوله ـ تعالى ـ قبل ذلك ، (وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) ، فيكون المشبه الإنذار بالعقاب المفهوم من الآية الكريمة. وأن المراد بالمقتسمين : جماعة من مشركي قريش ، قسموا أنفسهم أقساما لصرف الناس عن الإيمان بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والمعنى : وقل ـ أيها الرسول الكريم ـ إنى أنا النذير المبين لكم من عذاب مثل عذاب المقتسمين ...

وقد فصل الإمام الآلوسى القول عند تفسيره لهاتين الآيتين فقال ما ملخصه : قوله ـ تعالى ـ (كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ ...) متعلق بقوله ـ تعالى ـ (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً ...) على أن يكون في موضع نصب نعتا لمصدر من آتينا محذوف أى : آتيناك سبعا من المثاني إيتاء كما أنزلنا ، وهو في معنى : أنزلنا عليك ذلك إنزالا كإنزالنا على أهل الكتاب (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) أى قسموه إلى حق وباطل ..

وقيل : هو متعلق بقوله ـ تعالى ـ : (وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) .. وجوز أن يراد بالمقتسمين جماعة من قريش ... أرسلهم الوليد بن المغيرة ، أيام موسم الحج ، ليقفوا على مداخل طرق مكة ، لينفروا الناس عن الإيمان برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فانقسموا على هاتيك المداخل ، يقول بعضهم لا تغتروا بالخارج فإنه ساحر ..

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٠ ص ٥٩.

٨١

أى : وقل إنى أنا النذير عذابا مثل العذاب الذي أنزلناه على المقتسمين.

وقيل المراد بالمقتسمين ، الرهط الذين تقاسموا على أن يبيتوا صالحا ـ أى يقتلوه ليلا ـ فأهلكهم الله ...

ثم قال ـ رحمه‌الله ـ : والأقرب من الأقوال المذكورة أن قوله (كَما أَنْزَلْنا ..) متعلق بقوله ـ تعالى ـ (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً ...) وأن المراد بالمقتسمين أهل الكتابين ، وأن الموصول مع صلته ، صفة مبينة لكيفية اقتسامهم ...

والمعنى : لقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم ، إيتاء مماثلا لإنزال الكتابين على أهلهما ... (١).

ويبدو لنا أن من الأفضل أن يكون المراد بالمقتسمين ، ما يشمل أهل الكتابين وغيرهم من المشركين المتحالفين على مخالفة الأنبياء وتكذيبهم وأذاهم ـ كما قال ابن كثير ـ وقد ذهب إلى ذلك الإمام ابن جرير ، فقد قال ـ رحمه‌الله ـ بعد سرده للأقوال في ذلك ما ملخصه : «والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إن الله ـ تعالى ـ أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعلم قومه الذين عضوا القرآن ففرقوه ، أنه نذير لهم من سخط الله وعقوبته ، أن يحل بهم ما حل بالمقتسمين من قبلهم ومنهم ...

وجائز أن يكون عنى بالمقتسمين : أهل الكتابين .. وجائز أن يكون عنى بذلك : المشركين من قريش ، لأنهم اقتسموا القرآن ، فسماه بعضهم شعرا ، وسماه بعضهم كهانة ...

وجائز أن يكون عنى به الفريقين ... وممكن أن يكون عنى به المقتسمين على صالح من قومه. لأنه ليس في التنزيل ولا في سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا في فطرة العقل ، ما يدل على أنه عنى به أحد الفرق الثلاثة دون الآخرين ، وإذا فكل من اقتسم كتابا لله بتكذيب بعض وتصديق بعض ، كان داخلا في هذا التهديد والوعيد ... (٢).

ثم أكد ـ سبحانه ـ هذا التهديد والوعيد فقال : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ).

__________________

(١) راجع تفسير الآلوسى ج ١٤ ص ٧٤ وما بعدها.

(٢) تفسير ابن جرير ج ١٤ ص ٢٣.

٨٢

والفاء هنا متفرعة على ما سبق تأكيده في قوله (وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ ...) إذ في هذا اليوم يكون سؤالهم.

والواو للقسم ، أى : فوحق ربك ـ أيها الرسول الكريم ـ الذي خلقك فسواك فعدلك ، لنسألن هؤلاء المكذبين جميعا ، سؤال توبيخ وتقريع وتبكيت ، عما كانوا يعملونه في الدنيا من أعمال قبيحة : وعما كانوا يقولونه من أقوال فاسدة ، ثم لننزلن بهم جميعا العقوبة المناسبة لهم.

فالمقصود من هذه الآية الكريمة زيادة التسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتأكيد التهديد للمشركين.

ثم أمر ـ سبحانه ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يمضى في طريقه ، وأن يجهر بدعوته وأن يعرض عن المشركين ، فقد كفاه ـ سبحانه ـ شرهم فقال ـ تعالى ـ : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ. إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ. الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ).

وقوله (فَاصْدَعْ ..) من الصدع بمعنى الإظهار والإعلان. ومنه قولهم : انصدع الصبح ، إذا ظهر بعد ظلام الليل والصديع الفجر لانصداعه أى ظهوره. ويقال : صدع فلان بحجته ، إذا تكلم بها جهارا.

أى : فاجهر ـ أيها الرسول الكريم ـ بدعوتك ، وبلغ ما أمرناك بتبليغه علانية ، وأعرض عن سفاهات المشركين وسوء أدبهم.

قال عبد الله بن مسعود : ما زال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مستخفيا بدعوته حتى نزلت هذه الآية. فخرج هو وأصحابه ، وقوله (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) تعليل للأمر بالجهر بالدعوة ، بعد أن مكث صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعو الناس إلى الإسلام سرا ثلاث سنين أو أكثر.

وقوله (كَفَيْناكَ ..) من الكفاية. تقول : كفيت فلانا المؤنة إذا توليتها عنه ، ولم تحوجه إليها. وتقول : كفيتك عدوك أى : كفيتك بأسه وشره.

والمراد بالمستهزئين : أكابر المشركين في الكفر والعداوة والاستهزاء بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أى : إنا كفيناك الانتقام من المستهزئين بك وبدعوتك ، وأرحناك منهم ، بإهلاكهم. وذكر بعضهم أن المراد بهم خمسة من كبرائهم ، وهم : الوليد بن المغيرة ، والأسود بن عبد يغوث ، والأسود بن المطلب ، والحارث بن عيطل ، والعاص بن وائل : وقد أهلكهم الله جميعا بمكة ، وكان هلاكهم العجيب من أهم الصوارف لأتباعهم عن الاستهزاء بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال الإمام الرازي : واعلم أن المفسرين قد اختلفوا في عدد هؤلاء المستهزئين ، وفي أسمائهم ، وفي كيفية طريق استهزائهم ، ولا حاجة إلى شيء منها.

٨٣

والقدر المعلوم أنهم طبقة لهم قوة وشوكة ورئاسة ، لأن أمثالهم هم الذين يقدرون على إظهار مثل هذه السفاهة ، مع مثل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في علو قدره ، وعظم منصبه ، ودل القرآن على أن الله ـ تعالى ـ أفناهم وأبادهم وأزال كيدهم» (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ أن هؤلاء المستهزئين قد أضافوا إلى ذلك الشرك والكفر فقال : (الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) في عباداتهم وفي عقيدتهم.

(فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) ما يترتب على ذلك في الآخرة من عذاب شديد لهم ، بعد أن أهلكناهم في الدنيا وقطعنا دابرهم.

ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة الكريمة بتسلية أخرى له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبإرشاده إلى ما يزيل همه. ويشرح صدره ، فقال ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ. وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ).

وضيق الصدر : كناية عن كدر النفس ، وتعرضها للهموم والأحزان.

أى : ولقد نعلم ـ أيها الرسول الكريم ـ أن أقوال المشركين الباطلة فيك وفيما جئت به من عندنا ، تحزن نفسك ، وتكدر خاطرك.

وقال ـ سبحانه ـ (وَلَقَدْ نَعْلَمُ ..) بلام القسم وحرف التحقيق ، لتأكيد الخبر ، وإظهار مزيد الاهتمام والعناية بالمخبر عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحال والاستقبال.

والفاء في قوله (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ...) واقعة في جواب شرط.

والتسبيح لله ـ تعالى ـ معناه : تنزيهه ـ عزوجل ـ عن كل ما لا يليق به.

والتحميد له ـ تعالى ـ معناه : الثناء عليه بما هو أهله من صفات الكمال والجلال.

أى : إن ضاق صدرك ـ أيها الرسول الكريم ـ بسبب أقوال المشركين القبيحة ، فافزع إلينا بالتسبيح والتحميد ، بأن تكثر من قول سبحان الله ، والحمد لله.

قال بعض العلماء : فهذه الجملة الكريمة قد اشتملت على الثناء على الله بكل كمال ؛ لأن الكمال يكون بأمرين :

أحدهما : التخلي عن الرذائل ، والتنزه عما لا يليق ، هذا معنى التسبيح.

والثاني : التحلي بالفضائل ، والاتصاف بصفات الكمال ، وهذا معنى الحمد.

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٩ ص ٢١٥.

٨٤

فتم الثناء بكل كمال. ولأجل هذا المعنى ثبت في الصحيح عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «كلمتان خفيفتان على اللسان ، ثقيلتان في الميزان ، حبيبتان إلى الرحمن : سبحان الله وبحمده ، سبحان الله العظيم ...» (١).

والمراد بالسجود في قوله ـ تعالى ـ (وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) الصلاة. وعبر عنها بذلك من باب التعبير بالجزء عن الكل ، لأهمّيّة هذا الجزء وفضله ، ففي صحيح مسلم عن أبى هريرة ـ رضى الله عنه ـ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء».

ويؤخذ من هذه الآية الكريمة ، أن ترتيب الأمر بالتسبيح والتحميد والصلاة على ضيق الصدر ؛ دليل على أن هذه العبادات ، بسببها يزول المكروه بإذنه ـ تعالى ـ ، وتنقشع الهموم ... ولذا كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا حزبه أمر لجأ إلى الصلاة.

وروى الإمام أحمد وأبو داود والنسائي من حديث نعيم بن عمار ـ رضى الله عنه ـ أنه سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : قال الله ـ تعالى ـ : «يا ابن آدم لا تعجز عن أربع ركعات من أول النهار ، أكفك آخره».

فينبغي للمسلم إذا أصابه مكروه أن يفزع إلى الله ـ تعالى ـ بأنواع الطاعات من صلاة وتسبيح وتحميد وغير ذلك من ألوان العبادات.

والمراد بالأمر بالعبادة في قوله تعالى (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) المداومة عليها وعدم التقصير فيها.

والمراد باليقين : الموت ، سمى بذلك لأنه أمر متيقن لحوقه بكل مخلوق.

أى : ودم ـ أيها الرسول الكريم ـ على عبادة ربك وطاعته ما دمت حيا ، حتى يأتيك الموت الذي لا مفر من مجيئه في الوقت الذي يريده الله ـ تعالى ـ.

ومما يدل على أن المراد باليقين هنا الموت قوله ـ تعالى ـ حكاية عن المجرمين : (قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ. وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ. وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ. حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ) أى : الموت.

ويدل على ذلك أيضا ما رواه البخاري عن أم العلاء أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما دخل على

__________________

(١) تفسير أضواء البيان الشيخ الأمين الشنقيطى ج ٢ ص ٢٠٣.

٨٥

عثمان بن مظعون وقد مات ، قالت : قلت : رحمة الله عليك أبا السائب ، فشهادتى عليك لقد أكرمك الله. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وما يدريك أن الله قد أكرمه ... أما هو فقد جاءه اليقين ـ أى الموت ـ وإنى لأرجو له الخير» (١).

قال الإمام ابن كثير : ويستدل بهذه الآية الكريمة ، على أن العبادة كالصلاة ونحوها ، واجبة على الإنسان ما دام عقله ثابتا ، فيصلى بحسب حاله ، كما ثبت في صحيح البخاري عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «صل قائما ، فإن لم تستطع فقاعدا ، فإن لم تستطع فعلى جنب».

ويستدل بها أيضا على تخطئة من ذهب من الملاحدة إلى أن المراد باليقين المعرفة ، فمتى وصل أحدهم إلى المعرفة ، سقط عنه التكليف عندهم. وهذا كفر وضلال وجهل ...» (٢).

وبعد : فهذه سورة الحجر ، وهذا تفسير لها. نسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعله خالصا لوجهه ، ونافعا لعباده. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

د. محمد طنطاوى

المدينة المنورة في ٦ من جمادى الثانية سنة ١٤٠٢

__________________

(١) صحيح البخاري ج ٢ ص ٩١ : كتاب الجنائز «باب الدخول على الميت ..»

(٢) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٤٧٢.

٨٦

تفسير

سورة النّحل

٨٧
٨٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدّمة

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله ومن والاه.

أما بعد : فقد سبق لي ـ بحمد الله وتوفيقه ـ أن قمت بتفسير سور : الفاتحة ، والبقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، والأنفال ، والتوبة ، ويونس ، وهود ، ويوسف ، والرعد ، وإبراهيم ، والحجر.

وها أنا ذا أقدم للقارئ الكريم تفسير سورة «النحل» ، وقد حاولت فيه أن أكشف عما اشتملت عليه السورة الكريمة من توجيهات سامية ، وآداب عالية ، وإرشادات حكيمة ، ومجادلات بالتي هي أحسن.

وقد مهدت لتفسيرها بكلمة ، بينت فيها زمان نزولها ، وعدد آياتها. وسبب تسميتها بهذا الاسم ، والمقاصد الإجمالية التي اشتملت عليها.

والله أسأل أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم ، ونافعا لعباده ، وشفيعا لنا يوم نلقاه ـ سبحانه ـ.

وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

المؤلف

د. محمد سيد طنطاوى

٨٩
٩٠

تعريف بسورة النحل

١ ـ سورة النحل هي السورة السادسة عشرة في ترتيب المصحف ، فقد سبقتها سور : الفاتحة ، والبقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، والأنفال ، والتوبة ، ويونس ، وهود ، ويوسف ، والرعد ، وإبراهيم ، والحجر.

أما في ترتيب النزول ، فكان ترتيبها التاسعة والستين ، وكان نزولها بعد سورة الكهف (١).

٢ ـ وعدد آياتها ثمان وعشرون ومائة آية.

٣ ـ وسميت بسورة النحل ، لقوله ـ تعالى ـ فيها (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً ...) (٢).

وتسمى ـ أيضا ـ بسورة النعم ، لأن الله ـ تعالى ـ عدد فيها أنواعا من النعم التي أنعم بها على عباده.

٤ ـ وسورة النحل من السور المكية : أى التي كان نزولها قبل الهجرة النبوية الشريفة.

قال القرطبي : «وهي مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. وتسمى سورة النعم بسبب ما عدد الله فيها من نعمه على عباده. وقيل : هي مكية إلا قوله ـ تعالى ـ (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ ..) الآية. نزلت بالمدينة في شأن التمثيل بحمزة وقتلى أحد ..» (٣).

وقال الآلوسى : وأطلق جمع القول بأنها مكية ، وأخرج ذلك ابن مردويه عن ابن عباس ، وابن الزبير ـ رضى الله عنهم ـ وأخرجه النحاس من طريق مجاهد عن الحبر أنها نزلت بمكة سوى ثلاث آيات من آخرها ، فإنهن نزلن بين مكة والمدينة في منصرف النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من غزوة أحد (٤).

والذي تطمئن إليه النفس ، أن سورة النحل كلها مكية ، وذلك لأن الروايات التي ذكروها

__________________

(١) الإتقان في علوم القرآن ج ١ ص ٢٧ طبعة المشهد الحسيني تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم.

(٢) الآية رقم ٦٨.

(٣) تفسير القرطبي ج ١٠ ص ٦٥.

(٤) تفسير الآلوسى ج ١٤ ـ ٨٩.

٩١

في سبب نزول قوله ـ تعالى ـ ، (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ ..) إلخ السورة ، فيها مقال. فقد ذكر الإمام ابن كثير عند سردها ، أن بعضها مرسل وفيه مبهم ، وبعضها في إسناده ضعف .. (١).

٥ ـ (أ) وإذا ما قرأنا سورة النحل بتدبر وتفكر ، نراها في مطلعها تؤكد أن يوم القيامة حق ، وأنه آت لا ريب فيه ، وأن المستحق للعبادة والطاعة إنما هو الله الخالق لكل شيء.

قال ـ تعالى ـ : (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ ، سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ، يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ، أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ).

(ب) تم تسوق ألوانا من الأدلة على وحدانية الله وقدرته ، عن طريق خلق السموات والأرض وخلق الإنسان والحيوان ، وعن طريق إنزال الماء من السماء ، وتسخير الليل والنهار ، والشمس والقمر والنجوم .. وغير ذلك من النعم التي لا تحصى.

استمع إلى بعض هذه الآيات التي تحكى جانبا من هذه النعم فتقول : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ، تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ. وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ. وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ).

ثم تقول : (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ. وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ. أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ. وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها ، إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ).

(ج) وبعد أن توبخ السورة المشركين لتسويتهم بين من يخلق ومن لا يخلق تحكى جانبا من أقاويلهم الباطلة التي وصفوا بها القرآن الكريم ، وتصور استسلامهم لقضاء الله العادل فيهم يوم الحساب ، فتقول : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا : أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ. لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ ، وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ، أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ).

إلى أن تقول : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ ، فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ ، بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ).

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٥٩٦.

٩٢

(د) وكعادة القرآن الكريم في قرنه الترهيب بالترغيب ، وفي عقده المقارنات بين مصير المؤمنين ومصير الكافرين ، جاءت الآيات بعد ذلك لتبشر المتقين بحسن العاقبة.

جاء قوله ـ تعالى ـ : (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً ، لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ ، وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ).

(ه) ثم تعود السورة الكريمة مرة أخرى إلى حكاية أقوال المشركين حول مسألتين من أخطر المسائل ، وهما مسألة الهداية والإضلال ، ومسألة البعث بعد الموت بعد أن حكت ما قالوه في شأن القرآن الكريم.

استمع إلى القرآن الكريم وهو يحكى أقوالهم ثم يرد عليها بما يبطلها فيقول : (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ ، كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ، فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ. وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ، فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ ، فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ ، وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ ، بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ ، وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ).

(و) ثم تهدد السورة الكريمة أولئك الجاحدين لنعم الله ، الماكرين للسيئات ، بأسلوب يستثير النفوس ويبعث الرعب في القلوب ، وتدعوهم إلى التأمل والتفكر في ملكوت السموات والأرض ، لعل هذا التفكر يكون سببا في هدايتهم ، وتخبرهم بأن الله ـ تعالى ـ هو الذي نهاهم عن الشرك ، وهو الذي أمرهم بإخلاص العبادة له.

استمع إلى القرآن وهو يصور هذه المعاني بأسلوبه البديع فيقول : (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ ، أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ. أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ. أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ. أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ. وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ. يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ. وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ).

(ز) ثم انتقلت السورة إلى سرد أنواع من جهالات المشركين ، ومن سوء تفكيرهم ،

٩٣

حتى يزداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم ، ويشكروا الله ـ تعالى ـ على توفيقه إياهم إلى الدخول في الإسلام.

لقد ذكرت السورة الكريمة ألوانا متعددة من جهالات الكافرين ، ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ : (وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ ، تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ. وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ).

(وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ ، وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ).

(ح) هكذا تصور سورة النحل ما كان عليه المشركون من غباء وغفلة وسوء تفكير ، ثم تعود ـ سورة النعم ـ مرة أخرى إلى الحديث عن نعم الله ـ تعالى ـ على عباده ، فتتحدث عن نعمة الكتاب ، وعن نعمة الماء ، وعن نعمة الأنعام ، وعن نعمة الثمار والفواكه ، وعن نعمة العسل المتخذ من بطون النحل وعن نعمة التفاضل في الأرزاق ، وعن نعمة الأزواج والبنين والحفدة.

قال ـ تعالى ـ : (وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ، وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ. وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً ، نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ).

إلى أن يقول ـ سبحانه ـ : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً ، وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ، أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ).

(ط) ثم تسوق السورة الكريمة مثلين مشتملين على الفرق الشاسع ، بين المؤمن والكافر ، وبين الإله الحق والآلهة الباطلة ، فتقول : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ ، وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً ، هَلْ يَسْتَوُونَ؟ الْحَمْدُ لِلَّهِ ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ. وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ ، وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).

(ى) وبعد إيراد هذين المثلين البليغين ، تعود سورة النعم إلى الحديث عن أنواع أخرى من نعم الله على خلقه ، لكي يشكروه عليها ، ويستعملوها فيما خلقت له فتتحدث عن نعمة إخراج الإنسان من بطن أمه ، وعن نعمة البيوت التي هي محل سكن الإنسان ، وعن نعمة الظلال ، وعن نعمة الجبال ، وعن نعمة الثياب.

٩٤

قال ـ تعالى ـ : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ). (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً ، وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ ، وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها ، أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ. وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً ، وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً ، وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ ، كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ).

(ك) ثم بعد أن تصور السورة الكريمة أحوال المشركين يوم القيامة عند ما يرون العذاب ، وتحكى ما يقولون عند ما يرون شركاءهم ، وتقرر أن الله يبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وأن الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ سيكون شهيدا على من بعث إليهم.

بعد كل ذلك تسوق السورة الكريمة عددا من الآيات الآمرة بمكارم الأخلاق والناهية عن منكراتها فتقول : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى ، وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ، يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ ، وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها ، وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً ، إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ).

(ل) وبعد هذه التوجيهات السامية المشتملة على الترغيب والترهيب ، وعلى الأوامر والنواهي. تتحدث آيات السورة عن آداب تلاوة القرآن وعن الشبهات التي أثارها المشركون حوله مع الرد عليها بما يدحضها ، وعن حكم من تلفظ بكلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان ، فتقول : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ).

ثم تقول : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ، لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ).

ثم تقول : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ).

(م) ثم تعود السورة الكريمة لضرب الأمثال ، فتسوق مثلا لكل قوم أنعم الله عليهم بالنعم فلم يقابلوها بالشكر ، فانتقم الله ـ تعالى ـ منهم. كما تسوق جانبا من حياة سيدنا إبراهيم كمثال للشاكرين الذين استعملوا نعم الله فيما خلقت له.

استمع إلى قوله ـ تعالى ـ : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ ، فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ).

ثم إلى قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ

٩٥

شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ. ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

(ن) وأخيرا تختتم السورة الكريمة بتلك الآيات الجامعة لأحكم الأساليب وأكملها وأجملها وأ نجمعها في الدعوة إلى الله ـ تعالى ـ وفي معاملة الناس فتقول : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ. وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ ، وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ. وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ ، وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ. إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ).

٦ ـ وبعد ، فهذا عرض إجمالى لأهم المقاصد التي اشتملت عليها السورة الكريمة ، ومنه نرى :

(أ) عنايتها الفائقة بإقامة الأدلة على وحدانية الله ـ تعالى ـ وعلى صدق رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دعوته ، وعلى أن يوم القيامة حق ، وعلى أن القرآن من عند الله ـ عزوجل.

(ب) كما نرى تفصيلها القول في بيان آلاء الله ـ تعالى ـ على خلقه ، وقد سبحت السورة في هذا الجانب سبحا عظيما ، فذكّرت الإنسان بنعمة خلقه ، وبنعمة تسخير الأنعام والشمس ، والقمر ، والنجوم ، والماء ، والجبال ، والأشجار .. كل ذلك وغيره لمنفعته ومصلحته.

(ج) كما نلمس اهتمامها بضرب الأمثال للمؤمن والكافر ، والشاكر والجاحد والإله الحق والآلهة الباطلة .. وذلك لأن في ضرب الأمثال تقريبا للبعيد وتوضيحا للخفى ، بأسلوب من شأنه أن يكون أوقع في القلوب ، وأثبت في النفوس وأدعى إلى التدبر والتفكر.

(د) كما ندرك حرصها على إيراد أقوال المشركين وشبههم! ثم الرد عليها بطريقة تقنع العقول ، وترضى العواطف ، بأن الإسلام هو الدين الحق ، وبذلك يزداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم.

(ه) كما نحس ـ عند قراءتها ـ بعنايتها بتوجيه المؤمنين إلى مكارم الأخلاق ، وأمهات الفضائل ، كالعدل ، والإحسان ، وإيتاء ذي القربى ، والوفاء ، والصبر ، والشكر ... وبنهيهم عن الرذائل كالغدر والجحود ، ونقض العهود ، والاستكبار ، والظلم.

وأخيرا فإن المتأمل في هذه السورة ـ أيضا ـ يراها حافلة بأسلوب الترغيب والترهيب ، والتبشير والإنذار ، والوعد والوعيد.

٩٦

الوعيد للكافرين بسوء المصير إذا ما لجوا في ضلالهم وطغيانهم كما في قوله ـ تعالى ـ : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ).

والوعد للمؤمنين بالحياة الطيبة في الدارين ، كما في قوله ـ تعالى ـ : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).

والآن فلنبدأ في التفسير التحليلى لسورة النعم ، ونسأل الله ـ تعالى ـ أن يرزقنا التوفيق والسداد.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

٩٧
٩٨

(التفسير)

قال تعالى :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (٢) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٤) وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٥) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٧) وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (٨) وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) (٩)

٩٩

افتتحت السورة الكريمة ، بتهديد الكافرين الذين كانوا ينكرون البعث ، وما يترتب عليه من ثواب أو عقاب ، ويستبعدون نصر الله ـ تعالى ـ لأوليائه ، فقال ـ تعالى ـ : (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) والفعل «أتى» هنا ، بمعنى قرب ودنا بدليل «فلا تستعجلوه» ، لأن المنهي عن الاستعجال يقتضى أن الأمر الذي استعجل حصوله لم يحدث بعد.

والمراد بأمر الله : ما اقتضته سنته وحكمته ـ سبحانه ـ من إثابة المؤمنين ونصرهم ، وتعذيب الكافرين ودحرهم.

والفاء في قوله «فلا تستعجلوه» للتفريع. والاستعجال : طلب حصول الشيء قبل وقته. والضمير المنصوب في «تستعجلوه» يعود على «أمر الله» ، لأنه هو المتحدث عنه ، أو على «الله» ـ تعالى ـ ، فلا تستعجلوا الله فيما قضاه وقدره.

والمعنى : قرب ودنا مجيء أمر الله ـ تعالى ـ وهو إكرام المؤمنين بالنصر والثواب ، وإهانة الكافرين بالخسران والعقاب ، فلا تستعجلوا ـ أيها المشركون ـ هذا الأمر ، فإنه آت لا ريب فيه ، ولكن في الوقت الذي يحدده الله تعالى ـ ويشاؤه.

وعبر عن قرب إتيان أمر الله ـ تعالى ـ بالفعل الماضي «أتى» للإشعار بتحقق هذا الإتيان ، وللتنويه بصدق المخبر به ، حتى لكأن ما هو واقع عن قريب ، قد صار في حكم الواقع فعلا. وفي إبهام أمر الله ، إشارة إلى تهويله وتعظيمه ، لإضافته إلى من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.

قوله «فلا تستعجلوه» زيادة في الإنذار والتهديد ، أى : فلا جدوى من استعجالكم ، فإنه نازل بكم سواء استعجلتم أم لم تستعجلوا.

والظاهر أن الخطاب هنا للمشركين ، لأنهم هم الذين كانوا يستعجلون قيام الساعة ، ويستعجلون نزول العذاب بهم ، وقد حكى القرآن عنهم ذلك في آيات :

منها قوله ـ تعالى ـ : (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها ، وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ ، أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) (١).

ومنها قوله ـ سبحانه ـ : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ. وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (٢).

__________________

(١) سورة الشورى. الآية ١٨.

(٢) سورة الحج. الآية ٤٧.

١٠٠