التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٨

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٨

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0668-X
الصفحات: ٥٩٧

أَمَرْتُكَ ...) (١).

فهذه الآية تدل دلالة صريحة على أن الله ـ تعالى ـ قد أمر إبليس بالسجود لآدم ...

ووجود إبليس مع الملائكة لا يستلزم أن يكون منهم ، ومثل ذلك كمثل أن تقول : حضر بنو فلان إلا محمدا ، ومحمد ليس من بنى فلان هؤلاء ، وإنما هو معهم بالمجاورة أو المصاحبة أو غير ذلك.

هذا ما نختاره ونميل إليه ، استنادا إلى ظاهر الآيات وظاهر الأحاديث ، والله ـ تعالى ـ أعلم.

وقوله ـ سبحانه ـ : (قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) بيان لما وبخ الله ـ تعالى ـ به إبليس ، ولرد إبليس ـ لعنه الله ـ على خالقه ـ عزوجل ـ.

أى : قال الله ـ تعالى ـ لإبليس على سبيل التوبيخ والزجر : أى سبب حملك على مخالفة أمرى ، وجعلك تمتنع عن السجود لمن أمرتك بالسجود له؟

فكان رد إبليس : ما كان ليليق بشأنى ومنزلتي أن أسجد مع الساجدين لبشر خلقته ـ أيها الخالق العظيم ـ من صلصال من حمأ مسنون.

ومقصود إبليس بهذا الرد إثبات أنه خير من آدم ، كما حكى عنه ـ سبحانه ـ ذلك في قوله ـ تعالى ـ (قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (٢).

وهذا الرد منه يدل على عصيانه لأمر ربه ، وعدم الرضا بحكمه ، وسوء أدبه مع خالقه ـ سبحانه ـ.

قال الآلوسى : وقد أخطأ اللعين حيث ظن أن الفضل كله باعتبار المادة ، وما درى أنه يكون باعتبار الفاعل ، وباعتبار الصورة ، وباعتبار الغاية ، بل إن ملاك الفضل والكمال هو التخلي عن الملكات الردية ، والتحلي بالمعارف الربانية.

فشمال والكأس فيها يمين

ويمين لا كأس فيها شمال (٣)

وقوله ـ سبحانه ـ : (قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ. وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ) بيان للحكم العادل الذي أصدره الله ـ تعالى ـ على إبليس.

__________________

(١) سورة الأعراف الآية ١٢.

(٢) سورة ص الآية ٧٦.

(٣) تفسير الآلوسى ج ١٤ ص ٤٣.

٤١

والضمير في قوله : «منها» يعود إلى السماء لأنها مسكن الطائعين الأخيار ، أو إلى الجنة لأنها لا يسكنها إلا من أطاع الله ـ تعالى ـ ، أو إلى المنزلة التي كان فيها قبل طرده من رحمة الله .. أى : قال الله ـ تعالى ـ لإبليس على سبيل الزجر والتحقير : فاخرج من جنتي ومن سمائي فإنك (رَجِيمٌ) مطرود من كل خير وكرامة ، وإن عليك اللعنة والإبعاد من رحمتي إلى يوم الدين ، وهو يوم الحساب والجزاء.

وليس المراد أن تنقطع عنه اللعنة يوم الدين ، بل المراد أن هذه اللعنة مستمرة عليه إلى يوم الدين ، فإذا ما جاء هذا اليوم استمرت هذه اللعنة ، وأضيف إليها العذاب الدائم المستمر الباقي ، بسبب عصيانه لأمر ربه ، فذكر يوم الدين ، إنما هو للمبالغة في طول مدة هذه اللعنة ودوامها ما دامت الحياة الدنيا.

وعبر ـ سبحانه ـ بعلى في قوله (وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ) للإشعار بتمكنها منه ، واستعلائها عليه ، حتى لكأن اللعنة فوقه يحملها دون أن تفارقه في لحظة من اللحظات.

ثم حكى ـ سبحانه ـ ما طلبه إبليس من ربه ، ومارد الله به عليه ، فقال ـ تعالى ـ : (قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ. إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ).

والفاء في قوله (فَأَنْظِرْنِي) للتفريع وهي متعلقة بمحذوف يدل عليه سياق الكلام.

والإنظار : التأخير والإمهال ومنه قوله ـ تعالى ـ (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) ..

أى : قال إبليس لربه. عزوجل : ما دمت قد أخرجتنى من جنتك ومن سمائك ، وجعلتني مرجوما ملعونا إلى يوم الدين ، فأخر موتى إلى يوم يبعث آدم وذريته للحساب وخاطب الله ـ تعالى ـ بصفة الربوبية تخضعا وتذللا لكي يجاب طلبه.

وقد أجاب الله ـ تعالى ـ له طلبه فقال : (فَإِنَّكَ) يا إبليس من جملة (الْمُنْظَرِينَ) أى الذين أخرت موتهم (إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) وهو يوم القيامة الذي استأثرت بعلم وقته ، والذي وصفت أحواله للناس. كي يستعدوا له بالإيمان والعمل الصالح.

ويصح أن يكون المراد بالوقت المعلوم : وقت النفخة الأولى حين يموت كل الخلائق ويموت هو معهم.

قال ابن كثير : أجابه الله ـ تعالى ـ إلى ما سأل ، لما له في ذلك من الحكمة والإرادة والمشيئة التي لا تخالف. ولا تمانع ولا معقب لحكمه وهو سريع الحساب.

٤٢

وقال بعض العلماء : وهذا الإنظار رمز إلهى على أن ناموس الشر لا ينقضي من عالم الحياة الدنيا ، وأن نظامها قائم على التصارع بين الخير والشر ، وبين الأخيار والأشرار.

قال ـ تعالى ـ : (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ ...) (١).

ولذلك لم يستغن نظام العالم عن إقامة قوانين العدل والصلاح ، وإيداعها إلى الكفاة لتنفيذها والذود عنها» (٢).

ثم بين ـ سبحانه ـ الأسياب التي حملت إبليس على طلب تأخير موته إلى يوم القيامة ، والتي من أهمها الانتقام من آدم وذريته فقال ـ تعالى ـ : (قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ).

والباء في قوله (بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ ..) للسببية أو للقسم.

قال الإمام الرازي ما ملخصه : الباء هاهنا بمعنى السبب ، أى : بسبب كوني غاويا لأزينن لهم كقول القائل : أقسم فلان بمعصيته ليدخلن النار ، وبطاعته ليدخلن الجنة.

أو للقسم وما مصدرية وجواب القسم لأزينن لهم. والمعنى أقسم بإغوائك لي لأزينن لهم. ونظيره قوله ـ تعالى ـ (قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) (٣).

وقوله (أَغْوَيْتَنِي) من الإغواء ، وهو خلق الغي في القلوب. وأصل الغي الفساد ، ومنه غوى الفصيل ـ كرضى ـ إذا بشم من اللبن ففسدت معدته. أو منع من الرضاع فهزل وكاد يهلك ، ثم استعمل في الضلال. يقال : غوى فلان يغوى غيا وغواية فهو غاو إذا ضل عن الطريق المستقيم. وأغواه غيره وغواه : أضله.

وقوله (لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ) من التزيين بمعنى التحسين والتجميل ، وهو تصيير الشيء زينا ، أى : حسنا حتى ترغب النفوس فيه وتقبل عليه.

والضمير في (لَهُمْ) يعود على ذرية آدم ، وهو مفهوم من السياق وإن لم يجر لهم ذكر ، وقد جاء ذلك صريحا في قوله ـ تعالى ـ في آية أخرى : (قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً) (٤).

وحذف مفعول (لَأُزَيِّنَنَ) لدلالة المقام عليه.

__________________

(١) سورة الأنبياء الآية ١٨.

(٢) تفسير التحرير والتنوير ج ١٤ ص ٤٩.

(٣) تفسير الفخر الرازي ج ١٩ ص ١٨٥.

(٤) سورة الأسراء الآية ٦٣.

٤٣

أى : لأزينن لهم المعاصي والسيئات ، بأن أحسن لهم القبيح. وأزين لهم المنكر. وأحبب الشهوات إلى نفوسهم حتى يتبعوها ، وأبذل نهاية جهدي في صرفهم عن طاعتك ... وقال ـ سبحانه ـ (فِي الْأَرْضِ) لتحديد مكان إغوائه ، إذ هي المكان الذي صار مستقرا له ولآدم وذريته ، كما قال ـ تعالى ـ في آية أخرى : (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها) ـ أى الجنة ـ فأخرجهما ـ أى آدم وحواء ـ مما كانا فيه ، (وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ، وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) (١).

وقوله (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) مؤكدا لما قبله.

أى : والله لأغوينهم جميعا مادمت قادرا على ذلك ، ولأعملن على إضلالهم بدون فتور أو يأس ، كما قال ـ تعالى ـ في آية أخرى : (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) (٢).

قال القرطبي : وروى ابن لهيعة عبد الله عن دراج أبى السمح ، عن أبى الهيثم ، عن أبى سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن إبليس قال يا رب وعزتك وجلالك لا أزال أغوى بنى آدم ما دامت أرواحهم في أجسامهم ، فقال الرب : وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفرونى».

وقوله ـ سبحانه ـ (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) اعتراف من إبليس بأن من عباد الله ـ تعالى ـ قوما لا يستطيع أن يغويهم ، ولا يقدر على إضلالهم.

وكلمة «المخلصين» قرأها نافع وحمزة وعاصم والكسائي ـ بفتح اللام ـ ، فيكون المعنى : لأغوينهم أجمعين إلا عبادك الذين استخلصتهم لطاعتك ، وصنتهم عن اقتراف ما نهيتهم عنه.

وقرأها ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو ـ بكسر اللام ـ ، فيكون المعنى : لأضلنهم جميعا ، إلا عبادك الذين أخلصوا لك العمل ، وابتعدوا عن الرياء في أقوالهم وأفعالهم.

وهذا الاستثناء الذي اعترف به إبليس بعد أن أدرك أنه لا محيص له عنه ـ هو سنة الله ـ تعالى ـ في خلقه ، فقد جرت سنته التي لا تغيير ولا تبديل لها ، بأن يستخلص لذاته من يخلص له قلبه ، وأن يرعى من يرعى حدوده ، ويحفظ من يحفظ تكاليفه ، ولذا كان جوابه

__________________

(١) سورة البقرة الآية ٣٦.

(٢) سورة الأعراف الآية ١٧.

٤٤

ـ سبحانه ـ على إبليس ، هو قوله ـ تعالى ـ (قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ. إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ).

واسم الإشارة (هذا) يعود إلى الاستثناء السابق وهو قوله (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ).

وقد اختار هذا الرأى الإمام الآلوسى فقال : قال الله ـ تعالى ـ (هذا صِراطٌ عَلَيَ) أى : حق لا بد أن أراعيه (مُسْتَقِيمٌ) لا انحراف فيه فلا يعدل عنه إلى غيره.

والإشارة إلى ما تضمنه الاستثناء وهو تخليص المخلصين من إغوائه وكلمة على تستعمل في الوجوب. والمعتزلة يقولون به حقيقة لقولهم بوجوب الأصلح عليه ـ تعالى ـ.

وقال أهل السنة ، إن ذلك وإن كان تفضلا منه ـ سبحانه ـ إلا أنه شبه بالحق الواجب لتأكد ثبوته وتحقق وقوعه ، بمقتضى وعده ـ عزوجل ـ ، فجيء بعلىّ لذلك».

ثم قال : وقرأ الضحاك ومجاهد ويعقوب .. (هذا صِراطٌ عَلَيَ) ـ بكسر اللام وضم الياء المشددة وتنوينها ـ أى : عال لارتفاع شأنه» (١).

وقد اختار صاحب الكشاف عودة اسم الإشارة إلى ما بعده فقال : قال الله ـ تعالى ـ (هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) أى هذا طريق حق على أن أراعيه ، وهو أن لا يكون لك سلطان على عبادي ، إلا من اختار اتباعك منهم لغوايته (٢).

ويرى ابن جرير أن على هنا بمعنى إلى ، فقد قال ـ رحمه‌الله ـ قوله ـ تعالى ـ (هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) بمعنى هذا طريق إلى مستقيم.

فكان معنى الكلام : هذا طريق مرجعه إلى ، فأجازى كلا بأعمالهم ، كما قال ـ تعالى ـ (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) وذلك نظير قول القائل لمن يتوعده ويتهدده : طريقك على وأنا على طريقك ، فكذلك قوله (هذا صِراطٌ) معناه : هذا طريق علىّ وهذا طريق إلى ... (٣).

ويبدو لنا أن الآية الكريمة مسوقة لبيان المنهاج القويم الذي كتبه الله ـ تعالى ـ على نفسه فضلا منه وكرما ، والميزان العادل الذي وضعه ـ سبحانه ـ لتمييز الخبيث من الطيب.

فكأنه ـ سبحانه ـ يقول في الرد على إبليس الذي اعترف بعجزه عن إغواء المخلصين من

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٤ ص ٤٦.

(٢) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٣٩١.

(٣) تفسير ابن جرير ج ١٤ ص ٣٣.

٤٥

عباد الله : يا إبليس ، إن عدم قدرتك على إغواء عبادي المخلصين منهج قويم من مناهجى التي اقتضتها حكمتى وعدالتى ورحمتي ، وسنة من سنني التي آليت على نفسي أن ألتزم بها مع خلقي. إن عبادي المخلصين لا قوة ولا قدرة لك على إغوائهم ، لأنهم حتى إذا مسهم طائف منك. أسرعوا بالتوبة الصادقة إلى ، فقبلتها منهم. وغفرت لهم زلتهم ... ولكنك تستطيع إغواء أتباعك الذين استحوذت عليهم ؛ فانقادوا لك ...

وفي هاتين الآيتين ما فيهما من التنويه بشأن عباد الله المخلصين ، ومن المديح لهم بقوة الإيمان ، وعلو المنزلة ، وصدق العزيمة ؛ وضبط النفس ...

قال ـ تعالى ـ : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً) (١).

قال الآلوسى وقوله : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ ...) أى تصرف وتسلط ، والمراد بالعباد ؛ المشار إليهم بالمخلصين ، فالإضافة للعهد والاستثناء على هذا في قوله (إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) منقطع.

واختار هذا غير واحد ... وجوز أن يكون بالعباد العموم والاستثناء متصل ، والكلام كالتقرير لقوله إلا عبادك منهم المخلصين ، ولذا لم يعطف على ما قبله ، وتغيير الوضع لتعظيم المخلصين ، بجعلهم هم الباقين بعد الاستثناء ...» (٢).

ثم بين ـ سبحانه ـ سوء عاقبة المتبعين لإبليس فقال : (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ. لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ).

والضمير في قوله (لَمَوْعِدُهُمْ) يعود إلى الغاوين ، أو إلى (مَنِ اتَّبَعَكَ) والموعد : مكان الوعد.

والمراد به هنا المكان الذي سينتهون إليه حتما بعد أن كانوا غافلين عنها في الدنيا ، وهو جهنم أى وإن جهنم لمكان محتوم لهؤلاء الذين أغواهم إبليس دون أن يفلت أحد من سعيرها.

وجملة «لها سبعة أبواب» مستأنفة لوصف حال جهنم وأبوابها.

وجملة «لكل باب منهم جزء مقسوم» صفة لأبواب ، وضمير «منهم» يعود إلى الغاوين أتباع إبليس.

والمقسوم : من القسم وهو إفراز النصيب عن غيره تقول : قسمت كذا قسما وقسمة إذا ميزت كل قسم عن سواه.

__________________

(١) سورة الإسراء الآية ٦٥.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٤ ص ٤٧.

٤٦

والمعنى : إن لجهنم سبعة أبواب ، لكل باب منها ، فريق معين من الغاوين يدخلون منه ، على حسب تفاوتهم في الغواية وفي متابعة إبليس ويرى كثير من المفسرين أن المراد بالأبواب هنا الأطباق والدركات.

أى لجهنم سبعة أطباق أو دركات بعضها فوق بعض ، ينزلها الغاوون ، بحسب أصنافهم وتفاوت مراتبهم في الغي والضلال.

قال الإمام ابن كثير : قوله ـ تعالى ـ (لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) أى : قد كتب لكل باب منها جزء من أتباع إبليس ، يدخلونه لا محيد لهم عنه ـ أجارنا الله منها ـ وكل يدخل من باب بحسب عمله ، ويستقر في درك بقدر فعله .... ثم قال : وعن عمرة بن جندب ـ رضى الله عنه ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله (لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) قال : «إن من أهل النار من تأخذه النار إلى كعبيه ، وإن منهم من تأخذه النار إلى حجزته (١) ، ومنهم من تأخذه النار إلى تراقيه ...» (٢).

وبعد : فهذه قصة خلق الإنسان ، وقصة خلق الجان ـ كما بينتها هذه السورة الكريمة ـ ومن الدروس والعظات التي نأخذها منها :

١ ـ دلالتها على كمال قدرة الله ـ تعالى ـ ، وبديع خلقه ، وبليغ حكمته ، حيث خلق ـ سبحانه ـ الإنسان من مادة تختلف عن المادة التي خلق منها الجان ، وحيث كرم الإنسان بخاصية أخرى أشار إليها القرآن في قوله ـ تعالى ـ (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ..).

وهذه الخاصية هي التي تجعل من هذا الإنسان ، إنسانا ينفرد بخصائصه عن كل الأحياء الأخرى التي تشاركه في هذه الحياة ..

٢ ـ أن خلق الجان سابق على خلق الإنسان ، بدليل قوله ـ تعالى ـ (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ. وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ).

٣ ـ أن الملائكة عباد مكرمون ، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، فهم بمجرد أن أمرهم الله ـ تعالى ـ بالسجود لآدم ، سجدوا جميعا دون أن يشذ منهم أحد.

__________________

(١) الحجزة بضم الحاء وسكون الجيم معقد الإزار.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٤٥٥.

٤٧

٤ ـ أن الإصرار على معصية الله ـ تعالى ـ يؤدى إلى الطرد من رحمته ـ سبحانه ـ ومن الخروج من رضوانه ومغفرته.

٥ ـ أن التكبر والغرور والحسد ، من أبرز الصفات الذميمة التي حملت إبليس على الامتناع عن السجود لآدم ، وعلى مخالفة أمر ربه ـ عزوجل ـ.

٦ ـ أن إجابته ـ سبحانه ـ لطلب إبليس في تأخير موته ، لم يكن لكرامة له عنده ـ عزوجل ـ ، وإنما كان استدراجا له وإمهالا ، وابتلاء لبنى آدم ليتميز قوى الإيمان من ضعيفه.

٧ ـ أن العداوة بين إبليس وقبيله ، وبين آدم وذريته ، باقية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، وأن إبليس وجنوده لم ولن يتركوا بابا من أبواب الشر إلا وزينوه وجملوه لبنى آدم ، وحرضوهم على الدخول فيه ، ليكتسبوا السيئات التي نهاهم الله ـ تعالى ـ عنها.

قال ـ تعالى ـ (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا. إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) (١).

٨ ـ أن عدالة الله ـ تعالى ـ ورحمته قد اقتضت أن يحمى عباده المخلصين من تسلط الشيطان عليهم ، لأنهم منه في حمى ، ولأن مداخله إلى نفوسهم مغلقة ، إذ أنهم خافوا مقام ربهم ونهوا أنفسهم عن الهوى ..

أما الذين يستطيع الشيطان التسلط عليهم ، والتأثير فيهم ، فهم أولئك الذين انقادوا لوساوسه ، واستجابوا لنزعاته ، وصاروا مطية له يسخرها كما يشاء ...

وهؤلاء هم الذين تنتظرهم جهنم بأبوابها السبعة ..

قال ـ تعالى ـ : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ ، وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ. لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ).

هذه هي عاقبة الغاوين أتباع إبليس ، أما عاقبة المخلصين الذين أخلصوا نفوسهم لله ـ تعالى ـ وأطاعوه في السر والعلن ، فقد بينها ـ سبحانه ـ بعد ذلك في قوله :

__________________

(١) سورة فاطر الآية ٦.

٤٨

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (٤٦) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٧) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) (٤٨)

وقوله ـ سبحانه ـ (إِنَّ الْمُتَّقِينَ ...) كلام مستأنف لإظهار حسن عاقبة المتقين ، بعد بيان سوء عاقبة الغاوين.

والمتقون : جمع متق اسم فاعل من اتقى. وأصله اوتقى ـ بزنة افتعل ـ من وقى الشيء وقاية ، أى : صانه وحفظه مما يضره ويؤذيه.

والجنات : جمع جنة ، وهي كل بستان ذي شجر متكاثف ، ملتف الأغصان ، يظلل ما تحته ويستره. من الجن وهو ستر الشيء عن الحاسة ..

والمراد بها هنا الدار التي أعدها الله ـ تعالى ـ لتكريم عباده المؤمنين في الآخرة.

والعيون جمع عين. والمقصود بها هنا المياه المنتشرة في الجنات.

والمعنى : «إن المتقين» الذين صانوا أنفسهم عن الشرك. وقالوا ربنا الله ثم استقاموا «في جنات» عالية ، فيها ما تشتهيه الأنفس ، وفيها منابع للماء تلذ لها الأعين.

وجملة «ادخلوها بسلام آمنين» معمولة لقول محذوف. والباء في قوله «بسلام» للمصاحبة.

أى : وتقول لهم الملائكة ـ على سبيل التكريم ـ والتحية ـ لهؤلاء المتقين عند دخولهم الجنات واستقرارهم فيها : ادخلوها ـ أيها المتقون ـ تصاحبكم السلامة من الآفات ، والنجاة من المخافات.

ثم بين ـ سبحانه ـ ما هم عليه في الجنة من صفاء نفسي ، ونقاء قلبي فقال : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ).

والنزع : القلع يقال : نزع فلان هذا الشيء من مكانه إذا قلعه منه ، وفعله من باب ضرب والغل : الحقد والضغينة ، وأصله من الغلالة ، وهي ما يلبس بين الثوبين : الشعار والدثار.

٤٩

أو من الغلل وهو الماء المتخلل بين الأشجار. ويقال : غلّ صدر فلان يغل ـ بالكسر ـ غلا إذا كان ذا غش ، أو ضغن ، أو حقد.

والسرر : جمع سرير وهو المكان المهيأ لراحة الجالس عليه وإدخال السرور على قلبه.

أى : وقلعنا ما في صدور هؤلاء المتقين من ضغائن وعداوات كانت موجودة فيها في الدنيا ، وجعلناهم يدخلون الجنة إخوانا متحابين متصافين ، ويجلسون متقابلين ، على سرر مهيأة لراحتهم ورفاهيتهم وإدخال السرور على نفوسهم.

وقوله : (إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) حال عن فاعل (ادْخُلُوها).

وعبر بقوله (مُتَقابِلِينَ) لأن مقابلة الوجه للوجه أدخل في الإيناس ، وأجمع للقلوب.

والآية الكريمة تشعر بأنهم في الجنة ينشئهم الله ـ تعالى ـ نشأة أخرى جديدة وتكون قلوبهم فيها خالية من كل ما كان يخالطهم في الدنيا من ضغائن وعداوات وأحقاد وأطماع وغير ذلك من الصفات الذميمة ، ويصلون بسبب هذه النشأة الجديدة إلى منتهى الرقى البشرى ...

وقد ساق الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية عددا من الأحاديث والآثار منها ما رواه القاسم عن أبى أمامة قال : يدخل أهل الجنة على ما في صدورهم في الدنيا من الشحناء والضغائن ، حتى إذا توافوا وتقابلوا نزع الله ما في صدورهم في الدنيا من غل ، ثم قرأ : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ ..).

ومنها : ما رواه أبو مالك الأشجعى عن أبى حبيبة ـ مولى لطلحة ـ قال : دخل عمران ابن طلحة على الإمام على بن أبى طالب بعد ما فرغ من أصحاب الجمل ، فرحب على ـ رضى الله عنه ـ به ، وقال : إنى لأرجو أن يجعلني الله وإياك من الذين قال الله فيهم : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ ...) (١).

ثم ختم ـ سبحانه ـ بيان جزائهم بقوله : (لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ).

والنصب : التعب والإعياء. يقال : نصب الرجل نصبا ـ من باب طرب ـ إذا نزل به التعب والهم. ويقال فلان في عيش ناصب ، أى فيه كد وجهد.

قال ابن كثير قوله ـ تعالى ـ : (لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ) يعنى مشقة وأذى كما جاء في

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٤٥٩ وابن جرير ج ١٤ ص ٣٦.

٥٠

الصحيحين ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن الله أمرنى أن أبشر خديجة ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب».

وقوله (وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) ـ بل هم باقون في الجنات بقاء سرمديا دائما لا ينقطع ـ كما جاء في الحديث : «يقال ـ لأهل الجنة ـ يا أهل الجنة : إن لكم أن تصحوا فلا تمرضوا أبدا ، وإن لكم أن تعيشوا فلا تموتوا أبدا ، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا ، وإن لكم أن تقيموا فلا تظعنوا أبدا» (١).

فأنت ترى أن هذه الآيات الكريمة قد اشتملت على بشارات للمؤمنين الصادقين ، هذه البشارات مقرونة بالتعظيم ، خالية من الشوائب والاضرار ، باقية لا انقطاع لها.

أما البشارات فتراها في قوله ـ تعالى ـ (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ).

وأما اقترانها بالتعظيم والتكريم ، فتراه في قوله ـ تعالى ـ : (ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ).

وأما خلوها من الشوائب والاضرار ، فتراه في قوله ـ تعالى ـ : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً ...).

وأما بقاؤها واستمرارها ، فتراه في قوله ـ تعالى ـ : (وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ).

هذا ، وشبيه بهذه الآيات قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ ...) (٢).

وقوله ـ تعالى ـ (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ ، وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا ، وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ ...) (٣).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ. الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ) (٤).

وقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً. خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً) (٥).

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٤٥٨.

(٢) سورة الذاريات الآيتان ١٥ ، ١٦.

(٣) سورة الأعراف الآية ٤٣.

(٤) سورة فاطر الآيتان ٣٤ ٣٥.

(٥) سورة الكهف الآيتان ١٠٧ ، ١٠٨.

٥١

ثم بين ـ سبحانه ـ نماذج لمن شملتهم رحمته لإيمانهم وعملهم الصالح ، ولمن شملتهم نقمته لكفرهم وعملهم الطالح ، ومن هذه النماذج تبشيره لإبراهيم ـ وهو شيخ كبير ـ بغلام عليم ، وإنجاؤه لوطا ومن آمن معه من العذاب المهين ، وإهلاكه المجرمين من قومه .. قال ـ تعالى ـ :

(نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (٥٠) وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (٥١) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (٥٢) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٥٣) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (٥٤) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (٥٥) قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (٥٦) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٥٧) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) (٦٠)

والخطاب في قوله ـ تعالى ـ : (نَبِّئْ عِبادِي ..) للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والنبأ : الخبر العظيم. والمراد «بعبادي» : المؤمنون منهم ، والإضافة للتشريف.

أى : أخبر ـ أيها الرسول الكريم ـ عبادي المؤمنين أنى أنا الله ـ تعالى ـ الكثير المغفرة لذنوبهم ، الواسع الرحمة لمسيئهم ، وأخبرهم ـ أيضا ـ أن عذابي هو العذاب الشديد

٥٢

الإيلام ، فعليهم أن يقدموا القول الطيب ، والعمل الصالح ، لكي يظفروا بمغفرتى ورحمتي ، وينجو من عذابي ونقمتي.

فأنت ترى أن الله ـ تعالى ـ قد جمع في هاتين الآيتين بين المغفرة والعذاب ، وبين الرحمة والانتقام ، وبين الوعد والوعيد ، لبيان سنته ـ سبحانه ـ في خلقه ، ولكي يعيش المؤمن حياته بين الخوف والرجاء ، فلا يقنط من رحمة الله ، ولا يقصر في أداء ما كلفه ـ سبحانه ـ به.

وقدم ـ سبحانه ـ نبأ الغفران والرحمة ، على نبأ العذاب والانتقام ، جريا على الأصل الذي ارتضته مشيئته ، وهو أن رحمته سبقت غضبه ، ومغفرته سبقت انتقامه.

والضمير «أنا» و «هو» في الآيتين الكريمتين ، للفصل : لإفادة تأكيد الخبر.

قال الإمام الرازي ما ملخصه : وفي الآيتين لطائف :

إحداها : أنه أضاف ـ سبحانه ـ العباد إلى نفسه بقوله (عِبادِي) وهذا تشريف عظيم لهم ...

وثانيها. أنه لما ذكر الرحمة والمغفرة بالغ في التأكيد بألفاظ ثلاثة : أولها : قوله (أَنِّي) وثانيها قوله (أَنَا) ، وثالثها. إدخال حرف الألف واللام على قوله (الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) ، ولما ذكر العذاب لم يقل : إنى أنا المعذب ، بل قال (وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ).

وثالثها : أنه أمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يبلغ إليهم هذا المعنى ، فكأنه أشهده على نفسه في التزام المغفرة والرحمة.

ورابعها : أنه لما قال (نَبِّئْ عِبادِي) كان معناه نبىء كل من كان معترفا بعبوديتى ، وهذا كما يدخل فيه المؤمن المطيع. فكذلك يدخل فيه المؤمن العاصي ، وكل ذلك يدل على تغليب جانب الرحمة من الله ـ تعالى ـ» (١).

وقال الآلوسى : وأخرج الشيخان وغيرهما عن أبى هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إن الله ـ تعالى ـ خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة ، فأمسك عنده تسعة وتسعين رحمة ، وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة فلو يعلم الكافر كل الذي عنده من رحمة لم ييأس من الرحمة ، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله ـ تعالى ـ من العذاب ، لم يأمن من النار».

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٤٩ ص ٥٥.

٥٣

وأخرج عبد بن حميد وجماعة عن قتادة أنه قال في الآية : بلغنا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لو يعلم العبد قدر عفو الله ـ تعالى ـ لما تورع من حرام ، ولو يعلم قدر عذابه لبخع نفسه» (١).

وقوله ـ سبحانه ـ (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ ...) معطوف على قوله قبل ذلك (نَبِّئْ عِبادِي ...).

قال الجمل : وأصل الضيف : الميل ، يقال أضفت إلى كذا إذا ملت إليه. والضيف من مال إليك نزولا بك ، وصارت الضيافة متعارفة في القرى وأصل الضيف مصدر ، ولذلك استوى فيه الواحد والجمع في غالب كلامهم. وقد يجمع فيقال أضياف وضيوف ... (٢).

والمراد بضيف إبراهيم هنا : الملائكة الذين نزلوا عنده ضيوفا في صورة بشرية ، وبشروه بغلام عليم ، ثم أخبروه بأنهم أرسلوا إلى قوم لوط لإهلاكهم ...

ثم فصل ـ سبحانه ـ ما دار بين إبراهيم وضيوفه فقال : (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً ..).

والظرف «إذ» منصوب على أنه مفعول به لفعل مقدر.

أى : ونبئهم ـ أيضا ـ أيها الرسول الكريم ـ عن ضيف إبراهيم ، وقت أن دخلوا عليه ، فقالوا له على سبيل الدعاء أو التحية (سَلاماً) أى : سلمت سلاما. أو سلمنا سلاما.

فلفظ «سلاما» منصوب بفعل محذوف.

وقوله ـ سبحانه ـ (قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ) بيان لما رد به إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ على الملائكة.

و «وجلون» جمع وجل ، والوجل : اضطراب يعترى النفس لتوقع حدوث مكروه.

يقال : وجل الرجل وجلا فهو وجل إذا خاف.

أى : قال لهم إبراهيم بعد أن دخلوا عليه وبادروه بالتحية إنا منكم خائفون.

وقال «إنا منكم ...» بصيغة الجمع ، لأنه قصد أن الخوف منهم قد اعتراه هو ، واعترى أهله معه.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٤ ص ٥٥.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٥٤٨.

٥٤

وكان من أسباب خوفه منهم ، أنهم دخلوا عليه بدون إذن ، وفي غير وقت الزيارة وبدون معرفة سابقة لهم ، وأنهم لم يأكلوا من الطعام الذي قدمه إليهم ..

هذا ، وقد ذكر ـ سبحانه ـ في سورة الذاريات أنه رد عليهم‌السلام فقال ـ تعالى ـ (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ. إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً ، قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) (١).

كما بين ـ سبحانه ـ في سورة هود أن من أسباب خوفه منهم ، عدم أكلهم من طعامه. قال ـ تعالى ـ : (فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ...) (٢). أى خاف إبراهيم لما رأى أيدى الضيف لا تصل إلى طعامه.

ثم حكى ـ سبحانه ـ ما قالته الملائكة لإدخال الطمأنينة على قلب إبراهيم فقال ـ تعالى ـ : (قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ).

أى : قالت الملائكة لإبراهيم على سبيل البشارة وإدخال السرور على قلبه : لا تخف منا يا إبراهيم ، إنا جئنا إليك لنبشرك بغلام ذي علم كثير بشريعة الله ـ تعالى ـ وبأوامره ونواهيه ، وهو إسحاق ـ عليه‌السلام ـ.

وجملة «إنا نبشرك ..» مستأنفة لتعليل النهى عن الوجل.

وقد حكى ـ سبحانه ـ هنا أن البشارة كانت له ، وفي سورة هود أن البشارة كانت لامرأته ، ومعنى ذلك أنها كانت لهما معا ، إما في وقت واحد ، وإما في وقتين متقاربين بأن بشروه هو أولا ، ثم جاءت امرأته بعد ذلك فبشروها أيضا ، ويشهد لذلك قوله ـ تعالى ـ (وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ ...) (٣).

ثم حكى ـ سبحانه ـ ما قاله إبراهيم للملائكة بعد أن بشروه بهذا الغلام العليم ، فقال ـ تعالى ـ (قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ).

والاستفهام للتعجب. كأنه عجب من أن يرزقه الله ـ تعالى ـ بغلام عليم بعد أن مسه الكبر ، وبلغ سن الشيخوخة.

و «على» بمعنى مع ، والمس : اتصال شيء بآخر على وجه الإحساس والإصابة.

__________________

(١) الآيتان ، ٢٤ ، ٢٥.

(٢) الآية ٧٠.

(٣) سورة هود الآية ٧١.

٥٥

أى : قال إبراهيم للملائكة ، بعد أن بشروه بالولد ، أبشرتمونى بذلك مع أن الكبر قد أصابنى ، والشيخوخة قد اعترتني فبأى شيء عجيب قد بشرتموني.

وتعجب إبراهيم إنما هو من كمال قدرة الله ـ تعالى ـ ونفاذ أمره ، حيث وهبه هذا الغلام في تلك السن المتقدمة بالنسبة له ولامرأته ، والتي جرت العادة أن لا يكون معها إنجاب الأولاد.

وقد حكى القرآن هذا التعجب على لسان امرأة إبراهيم في قوله ـ تعالى ـ (قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً ، إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ ..) (١).

قال الإمام الرازي ما ملخصه : والسبب في هذا الاستفهام أن العادة جارية بأنه لا يحصل الولد حال الشيخوخة التامة ...

وهناك جواب آخر ، وهو أن الإنسان إذا كان عظيم الرغبة في شيء ، وفاته الوقت الذي يغلب على ظنه حصول ذلك المراد فيه ، فإذا بشر بعد ذلك بحصوله ازداد فرحه وسروره ، ويصير ذلك الفرح القوى كالمدهش له وربما يجعله هذا الفرح يعيد السؤال ليسمع تلك البشارة مرة أخرى ، طلبا للالتذاذ بسماعها ...» (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ (قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ).

أى : قال الملائكة لإبراهيم لزيادة اطمئنانه ، ولتأكيد بشارته بالغلام العليم :

يا إبراهيم إنا بشرناك بالأمر المحقق الوقوع ، وباليقين الذي لا خلف معه ، وهو أن الله ـ تعالى ـ سيهبك الولد مع تقدم سنك وسن زوجك ، فلا تكن من الآيسين من رحمة الله ـ تعالى ـ فإن قدرته ـ عزوجل ـ لا يعجزها شيء.

وهنا دفع إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ عن نفسه رذيلة اليأس من رحمة الله. فقال على سبيل الإنكار والنفي (وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) أى : أنا ليس بي قنوط أو يأس من رحمة الله ، لأنه لا ييأس من رحمة الله ـ تعالى ـ إلا القوم الضالون عن طريق الحق والصواب ، الذين لا يعرفون سعة رحمته ـ تعالى ـ ونفاذ قدرته ، ولكن هذه البشارة العظيمة ـ مع تقدم سنى وسن زوجي ـ هي التي جعلتني ـ من شدة الفرح والسرور ـ أعجب من كمال قدرة الله ـ تعالى ـ ، ومن جزيل عطائه ، ومن سابغ مننه ، حيث رزقني الولد في هذه السن التي جرت العادة بأن لا يكون معها إنجاب أو ولادة.

__________________

(١) سورة هود الآية ٧٢.

(٢) تفسير الفخر الرازي ج ١٩ ص ١٩٧.

٥٦

ثم حكى ـ سبحانه ـ بعد ذلك ما قاله إبراهيم للملائكة ، بعد أن اطمأن إليهم ، فقال : (قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ).

والخطب : مصدر خطب يخطب ، ومنه قولهم : هذا خطب يسير ، وخطب جلل ، وجمعه خطوب ، وخصه بعضهم بما له خطر من الأمور. وأصله الأمر العظيم الذي يكثر فيه التخاطب ويخطب له.

أى : قال إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ للملائكة على سبيل الاستيضاح بالتفصيل عن سبب مجيئهم : فما شأنكم الخطير الذي من أجله جئتم إلينا سوى هذه البشارة. وكأنه قد فهم أن مجيئهم إليه ليس لمجرد البشارة ، بل من وراء البشارة أمر آخر جاءوا من أجله.

وهنا بادره الملائكة بقولهم ـ كما حكى القرآن عنهم ـ (قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ). أى : قالوا له إنا أرسلنا ـ بأمر الله ـ تعالى ـ إلى قوم شأنهم الإجرام ، ودأبهم الفجور ، والمراد بهم قوم لوط ـ عليه‌السلام ـ وكانوا يسكنون مدينة «سدوم» بمنطقة وادي الأردن وقوله (إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ) استثناء من القوم المجرمين الذين أرسل الملائكة لإهلاكهم.

والمراد بآل لوط : أتباعه الذين آمنوا به وصدقوه. ولم يشاركوا قومهم في كفرهم وشذوذهم.

أى : إنا أرسلنا إلى قوم لوط لإهلاكهم ، إلا من آمن منهم فإنا لمنجوهم أجمعين.

وقد وضح هذا المعنى صاحب الكشاف فقال : فإن قلت : قوله ـ تعالى ـ (إِلَّا آلَ لُوطٍ) استثناء متصل أم منقطع؟

قلت : لا يخلو من أن يكون استثناء من قوم فيكون منقطعا ، لأن القوم موصوفون بالإجرام فاختلف لذلك الجنسان ، وأن يكون استثناء من الضمير في (مُجْرِمِينَ) فيكون متصلا ، كأنه قيل : قد أرسلنا إلى قوم قد أجرموا كلهم إلا آل لوط وحدهم ، كما قال : (فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ).

فإن قلت : فهل يختلف المعنى لاختلاف الاستثناءين؟ قلت : نعم ، وذلك أن آل لوط مخرجون في المنقطع من حكم الإرسال ، وعلى أنهم أرسلوا إلى القوم المجرمين خاصة ، ولم يرسلوا إلى آل لوط أصلا ... كأنه قيل : إنا أهلكنا قوما مجرمين ، ولكن آل لوط أنجيناهم.

٥٧

وأما في المتصل ، فهم داخلون في حكم الإرسال ، وعلى أن الملائكة أرسلوا إليهم جميعا ليهلكوا هؤلاء ، وينجوا هؤلاء ، فلا يكون الإرسال مخلصا بمعنى الإهلاك والتعذيب كما في الوجه الأول» (١) ...

وقوله ـ سبحانه ـ (إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) استثناء من الضمير في (لَمُنَجُّوهُمْ) ، إخراجا لها من التنجية. أى : إلا امرأة لوط ـ عليه‌السلام ـ فليست ممن سننجيه ، بل هي ممن سنهلكه مع القوم المجرمين.

ومعنى (قدرنا) : قضينا وحكمنا.

والغابر : الباقي. يقال غبر الشيء غبورا إذا بقي وأصله من الغبرة وهي بقية اللبن في الضرع. وقد يستعمل في الماضي فيكون هذا اللفظ من الأضداد.

ونسب الملائكة التقدير إليهم فقالوا (إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا ...) مع أنه فعل الله ـ تعالى ـ لما لهم من الزلفى عنده ـ سبحانه ـ ، ولأنهم ما أرسلوا لإهلاك المجرمين وإنجاء المؤمنين إلا بأمره.

قال الآلوسى ما ملخصه : والظاهر أن قوله ـ تعالى ـ (إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا ...) من كلام الملائكة ، وأسندوا التقدير إلى أنفسهم ـ وهو فعل الله ـ سبحانه ـ لما لهم من القرب والاختصاص ، وهذا كما يقول أحد حاشية السلطان : أمرنا بكذا .. والآمر في الحقيقة هو السلطان. وقيل ـ ولا يخفى بعده ـ : هو من كلام الله ـ تعالى ـ فلا يحتاج إلى تأويل ، وكذا لا يحتاج إلى تأويل إذا أريد بالتقدير العلم.

قال بعض العلماء : وفي هذه الآية الكريمة دليل واضح لما حققه علماء الأصول من جواز الاستثناء من الاستثناء ، لأنه ـ تعالى ـ استثنى آل لوط من إهلاك المجرمين بقوله (إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ) ثم استثنى من هذا الاستثناء امرأة لوط بقوله (إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) (٢).

وبهذا نرى أن الآيات الكريمة قد حكت لنا بأسلوب بليغ حكيم ، ما دار بين إبراهيم وبين

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٣٩٣.

(٢) تفسير (أضواء البيان) ج ٣ ص ١٥٥ للشيخ محمد الأمين الشنقيطى.

٥٨

الملائكة الذين جاءوا لتبشيره بغلام عليم ، وإخباره بإهلاك القوم المجرمين ، وهم قوم لوط ـ عليه‌السلام ـ ..

ثم حكت السورة بعد ذلك ما دار بينهم وبين لوط ـ عليه‌السلام ـ بعد أن جاءوا إليه ، وما دار بين لوط ـ عليه‌السلام ـ وبين قومه المجرمين من مجادلات ومحاورات ، وما حل بهؤلاء المجرمين من عذاب جعل أعلى مدينتهم أسفلها .. فقال ـ تعالى ـ :

(فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (٦١) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٦٢) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (٦٣) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٦٤) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (٦٥) وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (٦٦) وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (٦٧) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (٦٨) وَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ (٦٩) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (٧٠) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٧١) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (٧٣) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) (٧٤)

قال الآلوسى : وقوله ـ تعالى ـ : (فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ) شروع في بيان إهلاك المجرمين ، وتنجية آل لوط. ووضع الظاهر موضع الضمير ، للإيذان بأن مجيئهم لتحقيق

٥٩

ما أرسلوا به من ذلك (١).

والآية الكريمة معطوفة على كلام محذوف يفهم من السياق ، والتقدير : وخرج الملائكة من عند إبراهيم ـ بعد أن بشروه بغلامه ، وبعد أن أخبروه بوجهتهم ـ فاتجهوا إلى المدينة التي يسكنها لوط ـ عليه‌السلام ـ وقومه. فلما دخلوا عليه قال لهم : «إنكم قوم منكرون».

أى : إنكم قوم غير معروفين لي ، لأنى لم يسبق لي أن رأيتكم ، ولا أدرى من أى الأقوام أنتم ، ولا أعرف الغرض الذي من أجله أتيتم ، وإن نفسي ليساورها الخوف والقلق من وجودكم عندي ...

ويبدو أن لوطا ـ عليه‌السلام ـ قد قال لهم هذا الكلام بضيق نفس ، لأنه يعرف شذوذ المجرمين من قومه ، ويخشى أن يعلموا بوجود هؤلاء الضيوف أصحاب الوجوه الجميلة عنده ، فيعتدوا عليهم دون أن يملك الدفاع عنهم ...

وقد صرح القرآن الكريم بهذا الضيق النفسي ، الذي اعترى لوطا بسبب وجود هؤلاء الضيوف عنده ، ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ : (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً ، وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ) (٢).

وقال ـ سبحانه ـ : (فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ) مع أن المجيء كان للوط ـ عليه‌السلام ـ والخطاب كان معه ، تشريفا وتكريما للمؤمنين من قوم لوط ، فكأنهم كانوا حاضرين ومشاهدين لوجود الملائكة بينهم ، ولما دار بينهم وبين لوط ـ عليه‌السلام ـ.

وقوله ـ سبحانه ـ : (قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ. وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ).

حكاية لما رد به الملائكة على لوط ، لكي يزيلوا ضيقه بهم ، وكراهيته لوجودهم عنده.

وقوله (يَمْتَرُونَ) من الامتراء ، وهو الشك الذي يدفع الإنسان إلى المجادلة المبنية على الأوهام لا على الحقائق.

وهو ـ كما يقول الإمام الفخر الرازي ـ مأخوذ من قول العرب : مريت الناقة والشاة إذا أردت حلبها ، فكأن الشاك يجتذب بشكه مراء ، كاللبن الذي يجتذب عند الحلب. يقال : قد مارى فلان فلانا ، إذا جادله كأنه يستخرج غضبه» (٣).

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٤ ص ٦٢.

(٢) سورة هود الآية ٧٧.

(٣) تفسير الفخر الرازي ج ٨ ص ٨٠.

٦٠