التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٨

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٨

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0668-X
الصفحات: ٥٩٧

أى : (وَأَمَّا الْجِدارُ) الذي أتعبت نفسي في إقامته ، ولم يعجبك هذا منى.

(فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ) مات أبوهما وهما صغيران ، وهذان الغلامان يسكنان في تلك المدينة ، التي عبر عنها القرآن بالقرية سابقا في قوله : (فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ).

قالوا : ولعل التعبير عنها بالمدينة هنا ، لإظهار نوع اعتداد بها ، باعتداد ما فيها من اليتيمين ، وما هو من أهلها وهو أبوهما الصالح ، (١).

وكان تحته أى تحت هذا الجدار (كَنْزٌ لَهُما) أى : مال مدفون من ذهب وفضة .. ولعل أباهما هو الذي دفنه لهما.

(وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً) أى : رجلا من أصحاب الصلاح والتقوى ، فكان ذلك منه سببا في رعاية ولديه ، وحفظ مالهما.

(فَأَرادَ رَبُّكَ) ومالك أمرك ؛ ومدير شئونك ، والذي يجب عليك أن تستسلم وتنقاد لإرادته.

(أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما) أى : كمال رشدهما ، وتمام نموهما وقوتهما.

ويستخرجا كنزهما من تحت هذا الجدار وهما قادران على حمايته ، ولو لا أنى أقمته لا نقض وخرج الكنز من تحته قبل اقتدارهما على حفظه وعلى حسن التصرف فيه.

(رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) أى : وما أراده ربك ـ يا موسى ـ بهذين الغلامين ، هو الرحمة التي ليس بعدها رحمة ، والحكمة التي ليس بعدها حكمة.

فقوله «رحمة» مفعول لأجله.

ثم ينفض الخضر يده من أن يكون قد تصرف بغير أمر ربه فيقول : (وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً).

أى : وما فعلت ما فعلته عن اجتهاد منى ، أو عن رأيى الشخصي ، وإنما فعلت ما فعلت بأمر ربي ومالك أمرى ، وذلك الذي ذكرته لك من تأويل تلك الأحداث هو الذي لم تستطع عليه صبرا ، ولم تطق السكوت عليه ، لأنك لم يطلعك الله ـ تعالى ـ على خفايا تلك الأمور وبواطنها .. كما أطلعنى.

وحذفت التاء من (تَسْطِعْ) تخفيفا. يقال : استطاع فلان هذا الشيء واستطاعه بمعنى أطاقه وقدر عليه.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٦ ص ١٢.

٥٦١

وبذلك انكشف المستور لموسى عليه‌السلام ـ وظهر ما كان خافيا عليه.

هذا ، وقد ساق الإمام ابن كثير عند تفسيره لآيات تلك القصة جملة من الأحاديث ، منها ما رواه الشيخان ، ومنها ما رواه غيرهما ، ونكتفي هنا بذكر حديث واحد.

قال ـ رحمه‌الله ـ قال البخاري : حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان ، حدثنا عمرو بن دينار ، أخبرنى سعيد بن جبير قال. قلت لابن عباس : إن نوفا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى نبي بنى إسرائيل.

قال ابن عباس : كذب عدو الله ، حدثنا أبى بن كعب أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن موسى قام خطيبا في بنى إسرائيل ، فسئل أى الناس أعلم؟ فقال : أنا. فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه. فأوحى الله إليه : إن عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك. فقال موسى : يا رب ، وكيف لي به؟

قال : تأخذ معك حوتا ، تجعله بمكتل ، فحيثما فقدت الحوت فهو ثم».

فأخذ حوتا ، فجعله في مكتل ، ثم انطلق وانطلق معه بفتاه يوشع بن نون. حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رءوسهما فناما ، واضطرب الحوت في المكتل ، فخرج منه فسقط في البحر ، واتخذ سبيله في البحر سربا ، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء ، فصار عليه مثل الطاق.

فلما استيقظ نسى صاحبه أن يخبره بالحوت.

فانطلقا بقية يومهما وليلتهما ، فلما كان الغد قال موسى لفتاه : (آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً) ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمره الله به.

قال له فتاه : (أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ، وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً). قال : فكان للحوت سربا ولموسى وفتاه عجبا.

فقال موسى : (ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً).

قال : فرجعا يقصان أثرهما ، حتى انتهيا إلى الصخرة ، فإذا رجل مسجى ـ أى مغطى ـ بثوب ، ـ فسلم عليه موسى ، فقال الخضر : وأنى بأرضك السلام.

قال : أنا موسى : قال : موسى نبي إسرائيل قال : نعم ، أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا. قال : إنك لن تستطيع معى صبرا.

يا موسى : إنى على علم من علم الله علمنيه ، لا تعلمه أنت ، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه.

٥٦٢

قال موسى : ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصى لك أمرا. قال الخضر فإن اتبعتنى فلا تسألنى عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا.

فانطلقا يمشيان ، فمرت سفينة فكلمهم أن يحملوه ، فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نول ـ أى بغير أجر ـ فلما ركبا في السفينة ، لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقدوم.

فقال له موسى : قد حملونا بغير نول ، فعمدت إلى سفينتهم فخرقتها ، لتغرق أهلها ، لقد جئت شيئا إمرا.

قال له الخضر : ألم أقل إنك لن تستطيع معى صبرا. قال : لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمرى عسرا.

قال : وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كانت الأولى من موسى نسيانا ، قال : وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة. فنقر في البحر نقرة. فقال له الخضر : ما علمي وعلمك في علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من البحر.

ثم خرجا من السفينة ، فبينما هما يمشيان على الساحل ، إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان ، فأخذ الخضر رأسه فاقتلعه بيده فقتله ـ فقال له موسى : (أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً) قال : ألم أقل لك إنك لن تستطيع معى صبرا.

قال : وهذه أشد من الأولى. قال : (إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي).

(فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ. قالَ : لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً. قالَ : هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً).

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وددنا أن موسى كان قد صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما» (١).

وقد أخذ العلماء من هذه القصة أحكاما وآدابا من أهمها ما يأتى :

١ ـ أن الإنسان مهما أوتى من العلم ، فعليه أن يطلب المزيد ، وأن لا يعجب بعلمه ، فالله ـ تعالى ـ يقول : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) وطلب من نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يتضرع إليه بطلب الزيادة من العلم فقال : (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً).

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٥ ص ١٧٢ طبعة دار الشعب.

٥٦٣

٢ ـ أن الرحلة في طلب العلم من صفات العقلاء. فموسى ـ عليه‌السلام ـ وهو من أولى العزم من الرسل ، تجشم المشاق والمتاعب لكي يلتقى بالرجل الصالح ؛ لينتفع بعلمه ، وصمم على ذلك مهما كانت العقبات بدليل قوله ـ تعالى ـ حكاية عنه : (لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً).

قال القرطبي عند تفسيره لهذه الآية : في هذا من الفقه رحلة العالم في طلب الازدياد من العلم ، والاستعانة على ذلك بالخادم والصاحب واغتنام لقاء الفضلاء والعلماء وإن بعدت أقطارهم. وذلك كان دأب السلف الصالح ، وبسبب ذلك وصل المرتحلون لطلب العلم إلى الحظ الراجح : وحصلوا على السعى الناجح ، فرسخت لهم في العلوم أقدام. وصح لهم من الذكر والأجر والفضل أفضل الأقسام.

قال البخاري : ورحل جابر بن عبد الله مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس في طلب حديث (١).

٣ ـ جواز إخبار الإنسان عما هو من مقتضى الطبيعة البشرية ، كالجوع والعطش والتعب والنسيان فقد قال موسى لفتاه : (آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً) ورد عليه فتاه بقوله : (أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ..).

وفي هذا الرد ـ أيضا ـ من الأدب ما فيه ، فقد نسب سبب النسيان إلى الشيطان ، وإن كان الكل بقضاء الله ـ تعالى ـ وقدره.

٤ ـ أن العلم على قسمين : علم مكتسب يدركه الإنسان باجتهاده وتحصيله .. بعد عون الله تعالى ـ له. وعلم لدنى يهبه الله ـ سبحانه ـ لمن يشاء من عباده فقد قال ـ تعالى ـ في شأن الخضر (وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) أى : علما خاصا أطلعه الله عليه يشمل بعض الأمور الغيبية.

٥ ـ أن على المتعلم أن يخفض جناحه للمعلم ، وأن يخاطبه بأرق العبارات وألطفها ، حتى يحصل على ما عنده من علم بسرور وارتياح.

قال بعض العلماء ما ملخصه : وتأمل ما حكاه الله عن موسى في قوله للخضر : (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً) فقد أخرج الكلام بصورة الملاطفة والمشاورة ، فكأنه يقول له : هل تأذن لي في ذلك أولا ، مع إقراره بأنه يتعلم منه ، بخلاف ما عليه أهل الجفاء أو

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١١ ص ١١.

٥٦٤

الكبر ، الذي لا يظهر للمعلم افتقاره إلى علمه .. (١).

٦ ـ أنه لا بأس على العالم ، إذا اعتذر للمتعلم عن تعليمه ، لأن المتعلم لا يطيق ذلك ، لجهله بالأسباب التي حملت العالم على فعل تلك الأمور التي ظاهرها يخالف الحق والعدل والمنطق العقلي ، وأن معرفة الأسباب تعين على الصبر.

فقد قال الخضر لموسى : (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً) فقد جعل الموجب لعدم صبره عدم إحاطته خبرا بالأمر.

٧ ـ إن من علامات الإيمان القوى ، أن يقدم الإنسان المشيئة عند الإقدام على الأعمال ، وأن العزم على فعل الشيء ليس بمنزلة فعله ، فقد قال موسى للخضر : (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) ومع ذلك فعند ما رأى منه أفعالا يخالف ظاهرها الحق والصلاح ، لم يصبر.

وأنه لا بأس على العالم أن يشترط على المتعلم أمورا معينة قبل أن يبدأ في تعليمه.

فقد قال الخضر لموسى : (فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً).

٨ ـ أنه يجوز دفع الضرر الأكبر بارتكاب الضرر الأصغر ، فإن خرق السفينة فيه ضرر ولكنه أقل من أخذ الملك لها غصبا ، وإن قتل الغلام شر ، ولكنه أقل من الشر الذي سيترتب على بقائه. وهو إرهاقه لأبويه ، وحملهما على الكفر.

كما يجوز للإنسان أن يعمل عملا في ملك غيره بدون إذنه بشرط أن يكون هذا العمل فيه مصلحة لذلك الغير كأن يرى حريقا في دار إنسان فيقدم على إطفائه بدون إذنه. ويدفع ضرر الحريق بضرر أقل منه ، فقد خرق الخضر السفينة ، لكي تبقى لأصحابها المساكين.

٩ ـ أن التأنى في الأحكام. والتثبت من الأمور ، ومحاولة معرفة العلل والأسباب ... كل ذلك يؤدى إلى صحة الحكم ، وإلى سلامة القول والعمل.

وصدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث يقول : «رحمة الله علينا وعلى موسى ، لو صبر على صاحبه لرأى العجب».

١٠ ـ أن من دأب العقلاء الصالحين. استعمال الأدب مع الله ـ تعالى ـ في التعبير ، فالخضر قد أضاف خرقه للسفينة إلى نفسه فقال : «فأردت أن أعيبها ..» وأضاف الخير الذي

__________________

(١) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ج ٥ ص ٢٣ للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي.

٥٦٥

فعله من أجل الغلامين اليتيمين إلى الله فقال : (فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) :

وشبيه بهذا ما حكاه الله ـ تعالى ـ عن صالحي الجن في قولهم : (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ ، أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً).

١١ ـ قال القرطبي : قوله ـ تعالى ـ (يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ) أى : قرب أن يسقط. وهذا مجاز وتوسع.

وقد فسره في الحديث بقوله «مائل» فكان فيه دليل على وجود المجاز في القرآن ، وهو مذهب الجمهور.

وجميع الأفعال التي حقها أن تكون للحي الناطق إذا أسندت إلى جماد أو بهيمة ، فإنما هي استعارة.

أى : لو كان مكانها إنسان لكان ممتثلا لذلك الفعل ، وهذا في كلام العرب وأشعارهم كثير ، كقول الأعشى :

أتنهون ولا ينهى ذوى شطط

كالطّعن يذهب فيه الزيت والفتل

والشطط : الجور والظلم ، يقول : لا ينهى الظالم عن ظلمه إلا الطعن العميق الذي يغيب فيه الفتل ـ فأضاف النهى إلى الطعن.

وذهب قوم إلى منع المجاز في القرآن فإن كلام الله عزوجل ـ وكلام رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حمله على الحقيقة أولى بذي الفضل والدين ، لأنه يقص الحق كما أخبر الله ـ تعالى ـ في كتابه .. (١).

وقد صرح صاحب أضواء البيان أنه لا مجاز في القرآن فقال ما ملخصه : قوله ـ تعالى ـ : (فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ).

هذه الآية من أكبر الأدلة التي يستدل بها القائلون : بأن المجاز في القرآن ، زاعمين أن إرادة الجدار الانقضاض لا يمكن أن تكون حقيقة وإنما هي مجاز.

وقد دلت آيات من كتاب الله على أنه لا مانع من أن تكون إرادة الجدار حقيقة ، لأن الله ـ تعالى ـ يعلم للجمادات إرادات وأفعالا وأقوالا لا يدركها الخلق ، كما صرح ـ تعالى ـ بأنه يعلم من ذلك مالا يعلمه خلقه في قوله ـ سبحانه ـ (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ..).

__________________

(١) راجع تفسير القرطبي ج ١١ ص ٢٥.

٥٦٦

فصرح بأننا لا نفقه تسبيحهم ، وتسبيحهم واقع عن إرادة لهم يعلمها ـ سبحانه ـ ونحن لا نعلمها.

ومن الأحاديث الدالة على ذلك ما ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنى لأعرف حجرا كان يسلم على بمكة». وما ثبت في صحيح البخاري من حنين الجذع الذي كان يخطب عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حزنا لفراقه.

فتسليم ذلك الحجر ، وحنين ذلك الجزع ، كلاهما بإرادة وإدراك يعلمه الله ونحن لا نعلمه .. (١).

١٢ ـ أن صلاح الآباء ينفع الأبناء. بدليل قوله ـ تعالى ـ : (وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً).

قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية : فيه دليل على أن الرجل الصالح يحفظ في ذريته وتشمل بركة عبادته ما ينفعهم في الدنيا والآخرة ، بشفاعته فيهم ، ورفع درجتهم إلى أعلى درجة في الجنة لتقر عينه بهم ، كما جاء في القرآن ووردت السنة به.

قال سعيد بن جبير عن ابن عباس : حفظا بصلاح أبيهما.

١٣ ـ أن على الصاحب أن لا يفارق صاحبه حتى يبين له الأسباب التي حملته على ذلك ، فأنت ترى أن الخضر قد قال لموسى : «هذا فراق بيني وبينك ، سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا» (٢) أى : قبل مفارقتي لك سأخبرك عن الأسباب التي حملتني على فعل ما فعلت مما لم تستطع معه صبرا.

ويفهم من ذلك أن موافقة الصاحب لصاحبه ـ في غير معصية الله ـ تعالى ـ على رأس الأسباب التي تعين على دوام الصحبة وتقويتها ، كما أن عدم الموافقة ، وكثرة المخالفة ، تؤدى إلى المقاطعة.

كما يفهم من ذلك ـ أيضا ـ أن المناقشة والمحاورة متى كان الغرض منها الوصول إلى الحق ، وإلى المزيد من العلم ، وكانت بأسلوب مهذب ، وبنية طيبة ، لا تؤثر في دوام المحبة والصداقة ، بل تزيدهما قوة وشدة.

نسأل الله ـ تعالى ـ أن يؤدبنا بأدبه ، وأن يجعل القرآن ربيع قلوبنا ، وأنس نفوسنا.

ثم ساق ـ سبحانه ـ قصة ذي القرنين ، وهي القصة الرابعة والأخيرة في السورة فقد سبقتها قصة أصحاب الكهف. وقصة صاحب الجنتين وقصة موسى والخضر.

__________________

(١) راجع أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن ج ٤ ص ١٧٨.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ١٨٣.

٥٦٧

استمع إلى القرآن الكريم وهو يقص علينا بأسلوبه البليغ المؤثر خبر ذي القرنين فيقول :

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (٨٣) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (٨٤) فَأَتْبَعَ سَبَباً (٨٥) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (٨٦) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (٨٧) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (٨٨) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٨٩) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (٩٠) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (٩١) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٩٢) حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (٩٣) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (٩٤) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (٩٥) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (٩٦)

٥٦٨

فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (٩٧) قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) (٩٨)

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ ..) معطوف على قصة موسى والخضر ـ عليهما‌السلام ـ عطف القصة على القصة.

قال البقاعي : كانت قصة موسى مع الخضر مشتملة على الرحلات من أجل العلم ، وكانت قصة ذي القرنين مشتملة على الرحلات من أجل الجهاد في سبيل الله ، ولما كان العلم أساس الجهاد تقدمت قصة موسى والخضر على قصة ذي القرنين .. (١).

والسائلون هم كفار قريش بتلقين من اليهود ، فقد سبق أن ذكرنا عند تفسيرنا لقصة أصحاب الكهف. أن اليهود قالوا لوفد قريش : سلوه ـ أى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ثلاث نأمركم بهن .. سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ماذا كان من أمرهم .. وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها .. وسلوه عن الروح.

وجاء التعبير بصيغة المضارع ـ مع أن الآيات نزلت بعد سؤالهم ـ لاستحضار الصورة الماضية ، أو للدلالة على أنهم استمروا في لجاجهم إلى أن نزلت الآيات التي ترد عليهم.

أما ذو القرنين ، فقد اختلفت في شأنه أقوال المفسرين اختلافا كبيرا ، لعل أقربها إلى الصواب ما أشار إليه الآلوسى بقوله : وذكر أبو الريحان البيروني في كتابه المسمى «بالآثار الباقية عن القرون الخالية» ، أن ذا القرنين هو أبو كريب الحميرى ، وهو الذي : افتخر به تبع اليمنى حيث قال :

قد كان ذو القرنين جدي مسلما

ملكا علا في الأرض غير مفند

بلغ المغارب والمشارق يبتغى

أسباب ملك من حكيم مرشد

ثم قال أبو الريحان : ويشبه أن يكون هذا القول أقرب ، لأن ملوك اليمن كانوا يلقبون بكلمة ذي. كذي نواس ، وذي يزن. إلخ. (٢).

__________________

(١) نظم الدرر للبقاعى ج ١٢ ص ١٢٨.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٦ ص ٢٧.

٥٦٩

ومن المقطوع به أن ذا القرنين هذا : ليس هو الإسكندر المقدونى الملقب بذي القرنين. تلميذ أرسطو ، فإن الإسكندر هذا كان وثنيا .. بخلاف ذي القرنين الذي تحدث عنه القرآن ، فإنه كان مؤمنا بالله ـ تعالى ـ ومعتقدا بصحة البعث والحساب.

والرأى الراجح أنه كان عبدا صالحا ، ولم يكن نبيا.

ويرى بعضهم أنه كان بعد موسى ـ عليه‌السلام ـ ، ويرى آخرون غير ذلك ومن المعروف أن القرآن الكريم يهتم في قصصه ببيان العبر والعظات المستفادة من القصة ، لا ببيان الزمان أو المكان للأشخاص.

وسمى بذي القرنين ـ على الراجح ـ لبلوغه في فتوحاته قرني الشمس من أقصى المشرق والمغرب.

والمعنى : ويسألك قومك ـ يا محمد ـ عن خبر ذي القرنين وشأنه.

«قل» لهم ـ على سبيل التعليم والرد على تحديهم لك. «سأتلو عليكم منه ذكرا».

والضمير في «منه» يعود على ذي القرنين و «من» للتبعيض.

أى : قل لهم : سأتلو عليكم من خبره ـ وسأقص عليكم من أنبائه عن طريق هذا القرآن الذي أوحاه الله إلى ما يفيدكم ويكون فيه ذكرى وعبرة لكم إن كنتم تعقلون.

ثم بين ـ سبحانه ـ ما أعطاه الله لذي القرنين من نعم فقال : (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً. فَأَتْبَعَ سَبَباً).

وقوله : «مكنا» من التمكين بمعنى إعطائه الوسائل التي جعلته صاحب نفوذ وسلطان في أقطار الأرض المختلفة. والمفعول محذوف ، أى : إنا مكنا له أمره من التصرف فيها كيف يشاء. بأن أعطيناه سلطانا وطيد الدعائم ، وآتيناه من كل شيء أراده في دنياه لتقوية ملكه «سببا» أى سبيلا وطريقا يوصله إلى مقصوده ، كآلات السير ، وكثرة الجند ، ووسائل البناء والعمران.

وهذه الأسباب التي أعطاها الله إياه ، لم يرد حديث صحيح بتفصيلها ، فعلينا أن نؤمن بأن الله ـ تعالى ـ قد أعطاه وسائل عظيمة لتدعيم ، ملكه ، دون أن نلتفت إلى ما ذكره هنا بعض المفسرين من إسرائيليات لا قيمة لها.

والفاء في قوله (فَأَتْبَعَ سَبَباً) فصيحة. أى : فأراد أن يزيد في تدعيم ملكه ، فسلك طريقا لكي يوصله إلى المكان الذي تغرب فيه الشمس.

٥٧٠

(حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ) أى حتى إذا وصل إلى منتهى الأرض المعمورة في زمنه من جهة المغرب.

(وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) أى : رآها في نظره عند غروبها ، كأنها تغرب في عين مظلمة ، وإن لم تكن هي في الحقيقة كذلك.

وهذا هو المعتاد لمن كان بينه وبين أفق الشمس ماء فإنه يراها كأنها تشرق منه وتغرب فيه ، كما أن الذي يكون في أرض ملساء واسعة ، يراها كأنها تطلع من الأرض وتغيب فيها.

وحمئة : أى : ذات حمأة وهي الطين الأسود. يقال : حمأت البئر تحمأ حمأ ، إذا صارت فيها الحمأة وهي الطينة السوداء.

وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : «وجدها نغرب في عين حامية» أى : حارة. اسم فاعل من حمى يحمى حميا.

(وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً) أى : ووجد عند تلك العين على ساحل البحر قوما.

الظاهر أن هؤلاء القوم كانوا من أهل الفترة ، فدعاهم ذو القرنين إلى عبادة الله ـ تعالى ـ وحده ، فيهم من آمن وفيهم من كفر ، فخيره الله ـ تعالى ـ فيهم فقال : (قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً).

أى : قال الله ـ تعالى ـ له عن طريق الإلهام ، أو على لسان ملك أخبره بذلك : يا ذا القرنين إما أن تعذب هؤلاء القوم الكافرين أو الفاسقين بالقتل أو غيره ، وإما أن تتخذ فيهم أمرا ذا حسن ، أو أمرا حسنا ، تقتضيه المصلحة والسياسة الشرعية.

ثم حكى الله ـ تعالى ـ عنه في الجواب ما يدل على سلامة تفكيره ، فقال : (قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ ..) أى : قال ذو القرنين في الرد على تخيير ربه له في شأن هؤلاء القوم ، يا رب : أما من ظلم نفسه بالإصرار على الكفر والفسوق والعصيان «فسوف نعذبه» في هذه الدنيا بالقتل وما يشبهه. ثم يرد هذا الظالم نفسه إلى ربه ـ سبحانه ـ فيعذبه في الآخرة عذابا «نكرا» أى : عذابا فظيعا عظيما منكرا وهو عذاب جهنم.

«وأما من آمن وعمل عملا صالحا» يقتضيه إيمانه «فله» في الدارين «جزاء الحسنى» أى : فله المثوبة الحسنى ، أو الفعلة الحسنى وهي الجنة.

«وسنقول له» أى لمن آمن وعمل صالحا «من أمرنا» أى مما نأمره به قولا «يسرا» لا صعوبة فيه ولا مشقة ولا عسر.

٥٧١

فأنت ترى أن ذا القرنين قد رد بما يدل على أنه قد اتبع في حكمه الطريق القويم ، والأسلوب الحكيم ، الذي يدل على قوة الإيمان ، وصدق اليقين ، وطهارة النفس.

إنه بالنسبة للظالمين ، يعذب ، ويقتص ، ويرهب النفوس المنحرفة ، حتى تعود إلى رشدها ، وتقف عند حدودها.

وبالنسبة للمؤمنين الصالحين ، يقابل إحسانهم بإحسان وصلاحهم بصلاح واستقامتهم بالتكريم والقول الطيب ، والجزاء الحسن.

وهكذا الحاكم الصالح في كل زمان ومكان : الظالمون والمعتدون .. يجدون منه كل شدة تردعهم وتزجرهم وتوقفهم عند حدودهم.

والمؤمنون والمصلحون يجدون منه كل تكريم وإحسان واحترام وقول طيب.

وقوله : (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً) بيان لما فعله بعد أن بلغ مغرب الشمس.

أى : وبعد أن بلغ مغرب الشمس ، ونال مقصده ، كر راجعا من جهة غروب الشمس إلى جهة شروقها.

(حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ) أى : حتى إذا كر راجعا وبلغ منتهى الأرض المعمورة في زمنه من جهة المشرق.

(وَجَدَها) أى الشمس (تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً) أى : لم نجعل لهم من دون الشمس ما يستترون به من البناء أو اللباس ، فهم قوم عراة يسكنون الأسراب والكهوف في نهاية المعمورة من جهة المشرق.

وقوله : (كَذلِكَ) خبر لمبتدأ محذوف ، أى : أمر ذي القرنين كذلك من حيث إنه آتاه الله من كل شيء سببا ، فبلغ ملك مشارق الأرض ومغاربها.

وقوله (وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً) بيان لشمول علم الله ـ تعالى ـ بأحوال ذي القرنين الظاهرة والباطنة ولأحوال غيره.

أى : كذلك كان شأن ذي القرنين. وقد أحطنا إحاطة تامة وعلمنا علما لا يعزب عنه شيء ، بما كان لدى ذي القرنين من جنود وقوة وآلات ... وغير ذلك من أسباب الملك والسلطان.

وقوله ـ سبحانه ـ : (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً) بيان لما فعله بعد أن بلغ مغرب الشمس ومشرقها.

أى : ثم بعد أن بلغ مغرب الشمس ومشرقها ... سار في طريق ثالث معترض بين المشرق والمغرب ، آخذا فيه (حَتَّى إِذا بَلَغَ) في مسيره ذلك (بَيْنَ السَّدَّيْنِ) أى : الجبلين ، وسمى الجبل سدا ، لأنه سد فجا من الأرض.

٥٧٢

قالوا : والسدان هما جبلان من جهة أرمينية وأذربيجان ، وقيل هما في نهاية أرض الترك مما يلي المشرق :

(وَجَدَ مِنْ دُونِهِما) أى : من دون السدين ومن ورائهما (قَوْماً) أى : أمة من الناس لغتهم لا تكاد تعرف لبعدهم عن بقية الناس ، ولذا قال ـ سبحانه ـ.

(لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً) أى : لا يكاد هؤلاء القوم يفهمون أو يقرءون ما يقوله الناس لهم ، لغرابة لغتهم وقلة فطنتهم ، ولا يعرف الناس ـ أيضا ـ ما يقوله هؤلاء القوم لهم ، لشدة عجمتهم.

(قالُوا) أى : هؤلاء القوم لذي القرنين : (يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ).

ويأجوج ومأجوج اسمان أعجميان ، قيل : مأخوذان من الأوجة وهي الاختلاط أو شدة الحر : وقيل : من الأوج وهو سرعة الجري.

واختلف في نسبهم ، فقيل : هم من ولد يافث بن نوح والترك منهم. وقيل : يأجوج من الترك ، ومأجوج من الديلم.

أى : قال هؤلاء القوم ـ الذين لا يكادون يفقهون قولا ـ لذي القرنين ، بعد أن توسموا فيه القوة والصلاح .. يا ذا القرنين إن قبيلة يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض بشتى أنواع الفساد والنهب والسلب.

وفي الصحيحين من حديث زينب بنت جحش ـ رضى الله عنها ـ قالت : استيقظ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من نومه وهو محمر وجهه وهو يقول : «لا إله إلا الله ، ويل للعرب من شر قد اقترب ، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه ، وحلق ـ بين أصابعه ـ قلت : يا رسول الله ، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال : نعم إذا كثر الخبث».

وقوله ـ تعالى ـ (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا) حكاية لما عرضه هؤلاء القوم على ذي القرنين من عروض تدل على ثقتهم فيه وحسن أدبهم معه ، حيث خاطبوه بصيغة الاستفهام الدالة على أنهم يفوضون الأمر إليه.

والخرج : اسم لما يخرجه الإنسان من ماله لغيره. وقرأ حمزة والكسائي خراجا : وهما بمعنى واحد ، وقيل الخرجة : الجزية. والخراج : اسم لما يخرجه عن الأرض.

أى : فهل نجعل لك مقدارا كبيرا من أموالنا على سبيل الأجر ، لكي تقيم بيننا وبين قبيلة يأجوج ومأجوج سدا يمنعهم من الوصول إلينا. ويحول بيننا وبينهم؟

٥٧٣

وهنا يرد عليهم ذو القرنين ـ كما حكى القرآن عنه بما يدل على قوة إيمانه وحرصه على إحقاق الحق وإبطال الباطل. فيقول (قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ ...).

أى : قال ذو القرنين لهؤلاء القوم الذين لا يكادون يفقهون قولا : إن ما بسطه الله ـ تعالى ـ لي من الرزق والمال والقوة .. خير من خرجكم ومالكم الذي تريدون أن تجعلوه لي في إقامة السد بينكم وبين يأجوج ومأجوج ، فوفروا عليكم أموالكم ، وقفو إلى جانبي (فَأَعِينُونِي) بسواعدكم وبآلات البناء (بِقُوَّةٍ) أى : بكل ما أتقوى به على المقصود وهو بناء السد ، لكي (أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ) وبين يأجوج ومأجوج «ردما».

أى : حاجزا حصينا. وجدارا متينا ، يحول بينكم وبينهم.

والردم : الشيء الذي يوضع بعضه فوق بعض حتى يتصل ويتلاصق. يقال : ثوب مردم ، أى : فيه رقاع فوق رقاع. وسحاب مردم ، أى : متكاتف بعضه فوق بعض. ويقال : ردمت الحفرة ، إذا وضعت فيها من الحجارة والتراب وغيرهما ما يسويها بالأرض.

قال ابن عباس : الردم أشد الحجاب.

وجملة (أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً) جواب الأمر في قوله : (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ).

ثم شرع في تنفيذ ما راموه منه من عون فقال لهم : (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ..).

والزبر ـ كالغرف ـ جمع زبره ـ كغرفة ـ وهي القطعة الكبيرة من الحديد وأصل الزبر. الاجتماع ومنه زبرة الأسد لما اجتمع من الشعر على كاهله. ويقال : زبرت الكتاب أى كتبته وجمعت حروفه.

أى : أحضروا لي الكثير من قطع الحديد الكبيرة ، فأحضروا له ما أراد (حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ) أى بين جانبي الجبلين. وسمى كل واحد من الجانبين صدفا. لكونه مصادفا ومقابلا ومحاذيا للآخر ، مأخوذ من قولهم صادفت الرجل : أى : قابلته ولاقيته ، ولذا لا يقال للمفرد صدف حتى يصادفه الآخر ، فهو من الأسماء المتضايفة كالشفع والزوج.

وقوله : (قالَ انْفُخُوا) أى النار على هذه القطع الكبيرة من الحديد الموضوع بين الصدفين.

وقوله : (حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً) أى : حتى إذا صارت قطع الحديد الكبيرة كالنار في احمرارها وشدة توهجها (قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) أى : نحاسا أو رصاصا مذابا ، وسمى بذلك لأنه إذا أذيب صار يقطر كما يقطر الماء.

أى : قال لهم أحضروا لي قطع الحديد الكبيرة ، فلما أحضروها له ، أخذ يبنى شيئا فشيئا

٥٧٤

حتى إذا ساوى بين جانبي الجبلين بقطع الحديد ، قال لهم : أوقدوا النار وانفخوا فيها بالكيران وما يشبهها لتسخين هذه القطع من الحديد وتليينها ، ففعلوا ما أمرهم به ، حتى صارت تلك القطع تشبه النار في حرارتها وهيئتها ، قال أحضروا لي نحاسا مذابا ، لكي أفرغه على تلك القطع من الحديد لتزداد صلابة ومتانة وقوة.

وبذلك يكون ذو القرنين قد لبى دعوة أولئك القوم في بناء السد. وبناه لهم بطريقة محكمة سليمة ، اهتدى بها العقلاء في تقوية الحديد والمبانى في العصر الحديث.

وكان الداعي له لهذا العمل الضخم ، الحيلولة بين هؤلاء القوم ، وبين يأجوج ومأجوج الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون.

ولقد أخبر القرآن الكريم بأن ذا القرنين بهذا العمل جعل يأجوج ومأجوج يقفون عاجزين أمام هذا السد الضخم المحكم فقال : (فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ ، وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً).

أى : فما استطاع قوم يأجوج ومأجوج أن يرتفعوا على ظهر السد ، أو يرقوا فوقه لملاسته وارتفاعه ، وما استطاعوا ـ أيضا ـ أن يحدثوا فيه نقبا أو خرقا لصلابته ومتانته وثخانته.

ووقف ذو القرنين أمام هذا العمل العظيم ، مظهرا الشكر لله ـ تعالى ـ ، والعجز أمام قدرته ـ عزوجل ـ شأن الحكام الصادقين في إيمانهم ، الشاكرين لخالقهم توفيقه إياهم لكل خير.

وقف ليقول بكل تواضع وخضوع لخالقه .. : (هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي).

أى : هذا الذي فعلته من بناء السد وغيره ، أثر من آثار رحمة ربي التي وسعت كل شيء.

(فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي) الذي حدده لفناء هذه الدنيا ونهايتها ، أو الذي حدده لخروجهم منه (جَعَلَهُ دَكَّاءَ) أى : جعل هذا السد أرضا مستوية ، وصيره مدكوكا أى : بمساواة الأرض. ومنه قولهم : ناقة دكاء أى : لا سنام لها.

(وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) أى : وكان كل ما وعد الله ـ تعالى ـ به عباده من ثواب وعقاب وغيرهما ، وعدا حقا لا يتخلف ولا يتبدل ، كما قال ـ سبحانه ـ : (وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).

وبذلك نرى في قصة ذي القرنين ما نرى من الدروس والعبر والعظات ، التي من أبرزها. أن التمكين في الأرض نعمة يهبها الله لمن يشاء من عباده. وأن السير في الأرض لإحقاق الحق وإبطال الباطل من صفات المؤمنين الصادقين ، وأن الحاكم العادل من صفاته : ردع الظالمين عن ظلمهم ، والإحسان إلى المستقيمين المقسطين ، والعمل على ما يجعلهم يزدادون استقامة

٥٧٥

وفضلا ، وأن من معالم الخلق الكريم ، أن يعين الإنسان المحتاج إلى عونه ، وأن يقدم له ما يصونه عن الوقوع تحت وطأة الظالمين المفسدين ، وأن من الأفضل أن يحتسب ذلك عند الله ـ تعالى ـ. وألا يطلب من المحتاج إلى عونه أكثر من طاقته.

كما أن من أبرز صفات المؤمنين الصادقين : أنهم ينسبون كل فضل إلى الله ـ تعالى ـ وإلى قدرته النافذة ، وأنهم يزدادون شكرا وحمدا له ـ تعالى ـ كلما زادهم من فضله ، وما أجمل وأحكم أن تختتم قصة ذي القرنين بقوله ـ تعالى ـ : (قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي ، فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا).

* * *

ثم تسوق السورة الكريمة بعد قصة ذي القرنين آيات تذكر الناس بأهوال يوم القيامة ، لعلهم يتوبون ويتذكرون.

استمع إلى السورة الكريمة وهي تصور ذلك فتقول :

(وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (٩٩) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (١٠٠) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (١٠١) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً) (١٠٢)

وقوله : (وَتَرَكْنا) بمعنى جعلنا وصيرنا ، والضمير المضاف في قوله «بعضهم» يعود إلى يأجوج ومأجوج ، والمراد «بيومئذ» : يوم تمام بناء السد الذي بناه ذو القرنين.

وقوله ـ سبحانه ـ (يَمُوجُ) من الموج بمعنى الاضطراب والاختلاط يقال : ماج البحر إذا اضطرب موجه وهاج واختلط. ويقال : ماج القوم إذا اختلط بعضهم ببعض وتزاحموا حائرين فزعين.

والمعنى وجعلنا وصيرنا بمقتضى حكمتنا وإرادتنا وقدرتنا ، قبائل يأجوج ومأجوج يموج

٥٧٦

بعضهم في بعض. أى : يتزاحمون ويضطربون من شدة الحيرة لأنهم بعد بناء السد ، صاروا لا يجدون مكانا ينفذون منه إلى ما يريدون النفاذ إليه ، فهم خلفه في اضطراب وهرج.

ويجوز أن يكون المراد بيومئذ : يوم مجيء الوعد بخروجهم وانتشارهم في الأرض ، وهذا الوعد قد صرحت به الآية السابقة في قوله ـ تعالى ـ (فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا).

فيكون المعنى : وتركنا قبائل يأجوج ومأجوج ، يوم جاء وعد الله بجعل السد مدكوكا ومتساويا مع الأرض ، يموج بعضهم في بعض ، بعد أن خرجوا منتشرين في الأرض ، وقد تزاحموا وتكاثروا واختلط بعضهم ببعض.

قال الفخر الرازي : اعلم أن الضمير في قوله «بعضهم» يعود إلى يأجوج ومأجوج. وقوله : (يومئذ) فيه وجوه :

الأول : أن يوم السد ماج بعضهم في بعض خلفه لما منعوا من الخروج.

الثاني : أنه عند الخروج يموج بعضهم في بعض. قيل : إنهم حين يخرجون من وراء السد يموجون مزدحمين في البلاد.

الثالث : أن المراد من قوله (يومئذ) يوم القيامة.

وكل ذلك محتمل ، إلا أن الأقرب أن المراد به : الوقت الذي جعل الله فيه السد دكا فعنده ماج بعضهم ونفخ في الصور ، وصار ذلك من آيات القيامة» (١).

وقال القرطبي : قوله ـ تعالى ـ : (وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) الضمير في (تَرَكْنا) لله ـ تعالى ـ أى : تركنا الجن والإنس يوم القيامة يموج بعضهم في بعض.

وقيل : تركنا يأجوج ومأجوج «يومئذ» أى : يوم كمال السد يموج بعضهم في بعض ، واستعارة الموج لهم عبارة عن الحيرة وتردد بعضهم في بعض.

وقيل : تركنا يأجوج ومأجوج يوم انفتاح السدّ يموجون في الدنيا مختلطين لكثرتهم. فهذه أقوال ثلاثة : أظهرها أوسطها وأبعدها آخرها. وحسن الأول ، لأنه تقدم ذكر القيامة في تأويل قوله ـ تعالى ـ (فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي) (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً) بيان لعلامة من علامات قيام الساعة.

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٢١ ص ١٧٢.

(٢) تفسير القرطبي ج ١١ ص ٦٥.

٥٧٧

والنفخ لغة : إخراج النفس من الفم لإحداث صوت معين. والصور : القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل ـ عليه‌السلام ـ نفخة الصعق والموت ، ونفخة البعث والنشور ، كما قال ـ تعالى ـ : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ، ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) (١).

والمعنى : وتركنا يأجوج ومأجوج يموج بعضهم في بعض. وأمرنا إسرافيل بالنفخ في الصور ، فجمعناهم وجميع الخلائق جمعا تاما ، دون أن نترك أحدا من الخلائق بدون إعادة إلى الحياة ، بل الكل مجموعون ليوم عظيم هو يوم البعث والحساب.

والمراد بالنفخ هنا : النفخة الثانية التي يقوم الناس بعدها من قبورهم للحساب ، كما أشارت إلى ذلك آية سورة الزمر السابقة.

وفي التعبير بقوله : (فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً). أى : جمعناهم جمعا تاما كاملا لا يشذ عنه أحد ، ولا يفلت منه مخلوق ، كما قال ـ سبحانه ـ : (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ. إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ).

هذا ، وهنا مسألة تكلم عنها العلماء ، وهي وقت خروج يأجوج ومأجوج.

فمنهم من يرى أنه لا مانع من أن يكونوا قد خرجوا ، بدليل ما جاء في الحديث الصحيح من أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : ويل للعرب من شر قد اقترب. فتح اليوم من سد يأجوج ومأجوج مثل هذا ، وحلق أى بين أصابعه.

ولأن الآيات الكريمة تقول : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ ..) ووعد الله لا مانع من أن يكون قد أتى.

قال الشيخ القاسمى : والغالب أن المراد بخروجهم هذا خروج المغول التتار. وهم من نسل يأجوج ومأجوج ـ وهو الغزو الذي حصل منهم للأمم في القرن السابع الهجري. وناهيك بما فعلوه إذ ذاك في الأرض من فساد ..» (٢).

وقال الشيخ المراغي عند تفسير قوله ـ تعالى ـ : (وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) وقد جاء وعده ـ تعالى ـ بخروج جنكيزخان وسلائله فعاثوا في الأرض فسادا .. وأزالوا معالم الخلافة من بغداد .. (٣).

__________________

(١) سورة الزمر الآية ٦٨.

(٢) تفسير القاسمى ج ١١ ص ١٤١٤.

(٣) تفسير المراغي ج ١٦ ص ٢٠.

٥٧٨

وقال صاحب الظلال : «وبعد ، فمن يأجوج ومأجوج؟ وأين هم الآن؟ وماذا كان من أمرهم وماذا سيكون؟

كل هذه أسئلة تصعب الإجابة عليها على وجه التحقيق ، فنحن لا نعرف عنهم إلا ما ورد في القرآن ، وفي بعض الأثر الصحيح.

والقرآن يذكر في هذا الموضع ما حكاه من قول ذي القرنين : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا).

وهذا النص لا يحدد زمانا ووعد الله بمعنى وعده بدك السد ، ربما يكون قد جاء منذ أن هجم التتار وانساحوا في الأرض. ودمروا الممالك تدميرا.

وفي موضع آخر من سورة الأنبياء : (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ. وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُ).

وهذا النص ـ أيضا ـ لا يحدد زمانا معينا لخروجهم ، فاقتراب الوعد الحق ، بمعنى اقتراب الساعة قد وقع منذ زمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد جاء في القرآن : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) والزمان في الحساب الإلهى غيره في حساب البشر ، فقد تمر بين اقتراب الساعة ووقوعها ملايين السنين أو القرون.

وإذا فمن الجائز أن يكون السد قد فتح ما بين : «اقتربت الساعة» ، ويومنا هذا. وتكون غارات المغول والتتار التي اجتاحت الشرق ، هي انسياح يأجوج ومأجوج .. وكل ما نقوله ترجيح لا يقين (١).

هذه بعض حجج القائلين بأنه لا مانع من أن يكون يأجوج ومأجوج قد خرجوا.

وهناك فريق آخر من العلماء ، يرون أن يأجوج ومأجوج لم يخرجوا بعد ، وأن خروجهم إنما يكون قرب قيام الساعة.

ومن العلماء الذين أيدوا ذلك صاحب أضواء البيان ، فقد قال ـ رحمه‌الله ـ ما ملخصه :

اعلم أن هذه الآية : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ) وآية الأنبياء : (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ) قد دلتا في الجملة على أن السد الذي بناه ذو القرنين ، دون يأجوج ومأجوج ، إنما يجعله الله دكا عند مجيء الوقت الموعود بذلك فيه. وقد دلتا على أنه بقرب يوم

__________________

(١) في ظلال القرآن ج ١٦ ص ٢٢٩٣.

٥٧٩

القيامة .. لأن المراد بيومئذ في قوله (وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) أنه يوم مجيء وعد ربي بخروجهم وانتشارهم في الأرض.

وآية الأنبياء تدل في الجملة على ما ذكرنا هنا. وذلك يدل على بطلان قول من قال : إنهم «روسيا» وأن السد فتح منذ زمن طويل.

والاقتراب الذي جاء في قوله ـ تعالى ـ (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) وفي الحديث : «ويل للعرب من شر قد اقترب» لا يستلزم اقترانه من دك السد ، بل يصح اقترابه مع مهلة.

وهذه الآيات لا يتم الاستدلال بها على أن يأجوج ومأجوج لم يخرجوا بعد ـ إلا بضميمة الأحاديث النبوية لها.

ومن ذلك ما رواه الإمام مسلم في صحيحه في ذلك ، وفيه : خروج الدجال وبعث عيسى ، وقتله للدجال .. ثم يبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون.

فينحاز عيسى ومن معه من المؤمنين إلى الطور .. ثم يرسل الله على يأجوج ومأجوج النغف في رقابهم فيموتون.

وهذا الحديث الصحيح قد رأيت فيه تصريح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن الله يوحى إلى عيسى ابن مريم بخروج يأجوج ومأجوج بعد قتله الدجال فمن يدعى أنهم «روسيا» وأن السد قد اندك منذ زمان ، فهو مخالف لما أخبر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مخالفة صريحة لا وجه لها ، ولا شك أن كل خبر يخالف الصادق المصدوق صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو باطل ، لأن نقيض الخبر الصادق. كاذب ضرورة كما هو معلوم.

ولم يثبت في كتاب الله ولا في سنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيء يعارض هذا الحديث الذي رأيت صحة سنده ، ووضوح دلالته على المقصود ..» (١).

والذي يبدو لنا أن ما ذهب إليه صاحب أضواء البيان ، أقرب إلى الحق والصواب للأسباب التي ذكرها ، ولقرينة تذييل الآيات التي تحدثت عن يأجوج ومأجوج عن أهوال يوم القيامة.

ففي سورة الكهف يقول الله ـ تعالى ـ في أعقاب الحديث عنهم (وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ، وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً).

وفي سورة الأنبياء يقول الله ـ تعالى ـ : (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ. وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ ..).

__________________

(١) راجع تفسير أضواء البيان ج ٤ ص ١٨١ وما بعدها للشيخ محمد الأمين الشنقيطى.

٥٨٠