التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٨

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٨

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0668-X
الصفحات: ٥٩٧

لكن الظاهر أن المراد به العموم ـ كما أشرنا ـ ويدخل فيه هؤلاء دخولا أوليا.

ثم حكى ـ سبحانه ـ الأسباب التي منعت بعض الناس من الإيمان فقال : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ. إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ ، أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً).

والمراد بالناس : كفار مكة ومن حذا حذوهم في الشرك والضلال والمراد بسنة الأولين : ما أنزله ـ سبحانه ـ بالأمم السابقة من عذاب بسبب إصرارها على الكفر والجحود.

والمعنى : وما منع الكفار من الإيمان وقت أن جاءهم الهدى عن طريق نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومن أن يستغفروا ربهم من ذنوبهم ، إلا ما سبق في علمنا ، من أنهم لا يؤمنون ، بل يستمرون على كفرهم حتى تأتيهم سنة الأولين ، أى : سنتنافى إهلاكهم بعذاب الاستئصال بسبب إصرارهم على كفرهم.

ويجوز أن يكون الكلام على حذف مضاف ، و «أن» وما بعدها في قوله (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ) في تأويل فاعل الفعل «منع».

والمعنى : وما منع الناس من الإيمان والاستغفار وقت مجيء الهدى إليهم ، إلا طلب إتيان سنة الأولين ، كأن يقولوا ـ كما حكى الله ـ تعالى ـ عن بعضهم : (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ).

فسنة الأولين أنهم طلبوا من أنبيائهم تعجيل العذاب ، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر.

وقوله : (أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً) بيان لعذاب آخر ينتظرونه.

وكلمة (قُبُلاً) قرأها عاصم والكسائي وحمزة ـ بضم القاف والباء ـ على أنها جمع قبيل وهو النوع فيكون المعنى : أو يأتيهم العذاب على صنوف وأنواع مختلفة ، ومن جهات متعددة يتلو بعضها بعضا.

وقرأها الباقون : (قُبُلاً) ـ بكسر القاف وفتح الباء ـ بمعنى عيانا ومواجهة.

والمعنى : أو يأتيهم العذاب عيانا وجهارا ، وأصله من المقابلة ، لأن المتقابلين يعاين ويشاهد كل منهما الآخر.

وهي على القراءتين منصوبة على الحالية من العذاب.

فحاصل معنى الآية الكريمة أن هؤلاء الجاحدين لا يؤمنون ولا يستغفرون إلا حين نزول العذاب الدنيوي بهم وهو ما اقتضته سنة الله ـ تعالى ـ في أمثالهم ، أو حين نزول أصناف العذاب بهم في الآخرة.

٥٤١

ثم بين ـ تعالى ـ وظيفة الرسل فقال : (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ).

أى : تلك هي وظيفة الرسل الكرام الذين نرسلهم لهداية الناس وإخراجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان.

فهم يبشرون المؤمنين بحسن العاقبة وجزيل الثواب ، وينذرون الفاسقين والكافرين بسوء العاقبة ، وشديد العقاب.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ) بيان لموقف الكافرين من الرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ.

ويجادل من المجادلة بمعنى المخاصمة والمنازعة. ومفعوله محذوف.

والباطل : هو الشيء الزائل المضمحل الذي هو ضد الحق والعدل. والحق هو الشيء الثابت القويم الذي تؤيده شريعة الله ـ عزوجل ـ.

والدحض : الطين الذي لا تستقر عليه الأقدام. فمعنى يدحضوا : يزيلوا ويبطلوا تقول العرب : دحضت رجل فلان ، إذا زلت وزلقت .. ومنه قوله ـ تعالى ـ : (حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ).

والمعنى : ويجادل الذين كفروا رسلهم بالجدال الباطل ، ليزيلوا به الحق الذي جاء به هؤلاء الرسل ويدحضوه ويبطلوه ، والله ـ تعالى ـ متم نوره ولو كره الكافرون ، فإن الباطل مهما طال فإن مصيره إلى الاضمحلال والزوال.

وقوله ـ تعالى ـ (وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً) معطوف على ما قبله لبيان رذيلة أخرى من رذائل هؤلاء الكافرين.

والمراد بآيات الله : تلك المعجزات التي أيد الله ـ تعالى ـ بها رسله سواء أكانت قولا أم فعلا ، ويدخل فيها القرآن دخولا أوليا.

أى : أن هؤلاء الكافرين لم يكتفوا بجدال رسلهم بالباطل ، بل أضافوا إلى ذلك أنهم اتخذوا الآيات التي جاء بها الرسل كدليل على صدقهم ، واتخذوا ما أنذروهم به من قوارع إذا ما استمروا على كفرهم. اتخذوا كل ذلك «هزوا» أى : اتخذوها محل سخريتهم ولعبهم ولهوهم واستخفافهم ، كما قال ـ سبحانه ـ : (وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً).

ثم بين ـ سبحانه ـ سوء عاقبة المعرضين عن التذكير وعن آيات الله فقال : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ).

٥٤٢

والاستفهام هنا للنفي والإنكار والمراد بالآيات آيات القرآن الكريم. لقوله ـ تعالى ـ بعد ذلك : (أَنْ يَفْقَهُوهُ).

والمراد بالنسيان : الترك والإهمال وعدم التفكر والتدبر في العواقب.

أى : ولا أحد أشد ظلما وبغيا. من إنسان ذكره مذكر ووعظه بآيات الله التي أنزلها على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأعرض عنها دون أن يقبلها أو يتأملها. بل نبذها وراء ظهره ، ونسى ما قدمت يداه من السيئات والمعاصي ، نسيان ترك وإهمال واستخفاف.

ثم بين ـ سبحانه ـ علة هذا الإعراض والنسيان فقال : (إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً ، وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً).

والأكنة : جمع كنان بمعنى غطاء والوقر الثقل والصمم. يقال فلان وقرت أذنه ، أى : ثقل سمعها وأصيبت بالصمم.

أى : إنا جعلنا على قلوب هؤلاء الظالمين المعرضين عن الحق ، أغطية تمنع قلوبهم عن وصول النور إليها ، وتحجبها عن فقه آياته ـ سبحانه ـ وجعلنا ـ أيضا ـ في آذانهم صمما وثقلا عن سماع ما ينفعهم وذلك يسبب استحبابهم العمى على الهدى ، وإيثارهم الكفر على الإيمان.

(وَإِنْ تَدْعُهُمْ) أيها الرسول الكريم (إِلَى الْهُدى) والرشد فلن ، يستجيبوا لك ، ولن (يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً) إلى الحق وإلى الصراط المستقيم ، بسبب زيغ قلوبهم ، واستيلاء الكفر والجحود والعناد عليها.

والضمير في قوله (أَنْ يَفْقَهُوهُ) يعود إلى الآيات ، وتذكيره وإفراده باعتبار المعنى ، إذ المراد منها القرآن الكريم.

وجاءت الضمائر في أول الآية بالإفراد ، كما في قوله ، (ذُكِّرَ) و (فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ) باعتبار لفظ «من» في قوله «ومن أظلم» وجاءت بعد ذلك بالجمع كما في قوله سبحانه ـ : (إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً ..) باعتبار المعنى.

وهذا الأسلوب كثير في القرآن الكريم ، ومنه قوله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ، قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً).

فالضمير في قوله : «يؤمن ويعمل ويدخله» جاء بصيغة الإفراد باعتبار لفظ «من» ، وفي قوله : (خالِدِينَ فِيها) جاء بصيغة الجمع باعتبار معنى «من».

ثم ساق ـ سبحانه ـ بعد ذلك ما يدل على سعة رحمته ، وعظيم فضله فقال : (وَرَبُّكَ

٥٤٣

الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ ، بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً).

أى : وربك ـ أيها الرسول الكريم ـ هو صاحب المغفرة الكثيرة ، وصاحب الرحمة التي وسعت كل شيء. لو يؤاخذ الناس بما كسبوا من الذنوب والمعاصي ، لعجل لهم العذاب بسبب ما يرتكبونه من كفر وآثام ، ولكنه ـ سبحانه ـ لم يعجل لهم العذاب رحمة منه وحلما.

وجملة «بل لهم موعد ..» معطوفه على مقدر ، فكأنه ـ سبحانه ـ قال : لكنه ـ سبحانه ـ لم يؤاخذهم ، بل جعل وقتا معينا لعذابهم ، لن يجدوا من دون هذا العذاب موئلا.

أى ملجأ يلتجئون إليه ، أو مكانا يعتصمون به.

فالموئل : اسم مكان. يقال : وأل فلان إلى مكان كذا يئل وألا .. إذا لجأ إليه ليعتصم به من ضر متوقع.

فالآية الكريمة تبين أن الله ـ تعالى ـ بفضله وكرمه لا يعاجل الناس. بالعقاب ، ولكنه ـ عزوجل ـ ليس غافلا عن أعمالهم ، بل يؤخرهم إلى الوقت الذي تقتضيه حكمته ، لكي يعاقبهم على ما ارتكبوه من ذنوب وآثام.

وفي معنى هذه الآية وردت آيات كثيرة ، منها قوله ـ تعالى ـ : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ ، وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى. فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً) (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ) (٢) ثم بين ـ سبحانه ـ سننه في الأمم الماضية فقال : (وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً).

واسم الإشارة «تلك» تعود إلى القرى المهلكة بسبب كفرها وفسوقها عن أمر ربها ، كقرى قوم نوح وهود وصالح ـ عليهم‌السلام ـ.

والقرى : جمع قرية والمراد بها أهلها الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والجحود.

أى : وتلك القرى الماضية التي أصر أهلها على الكفر والفسوق والعصيان أهلكناهم بعذاب الاستئصال في الدنيا ، بسبب هذا الكفر والظلم ، وجعلنا لوقت هلاكهم موعدا لا يتأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون.

__________________

(١) سورة فاطر الآية ٤٥.

(٢) سورة الرعد الآية ٦.

٥٤٤

ولفظ «تلك» مبتدأ ، والقرى صفة له أو عطف بيان ، وجملة (أَهْلَكْناهُمْ) هي الخبر.

وقوله (لَمَّا ظَلَمُوا) بيان للأسباب التي أدت بهم إلى الهلاك والدمار ، أى : أهلكناهم بسبب وقوع الظلم منهم واستمرارهم عليه.

وجيء باسم الإشارة «تلك» للإشعار بإن أهل مكة يمرون على تلك القرى الظالمة المهلكة ، ويعرفون أماكنهم معرفة واضحة عند أسفارهم من مكة إلى بلاد الشام. قال ـ تعالى ـ (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ. وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (١).

وقوله : (وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً) قرأ الجمهور ، لمهلكهم ، ـ بضم الميم وفتح اللام ـ على صيغة اسم المفعول ، وهو محتمل أن يكون مصدرا ميميا. أى : وجعلنا لإهلاكهم موعدا. ويحتمل أن يكون اسم زمان ، أى : وجعلنا لزمان إهلاكهم موعدا.

وقرأ حفص عن عاصم «لمهلكهم» بفتح الميم وكسر اللام ـ فيكون اسم زمان ، وقرأ شعبة عن عاصم. لمهلكهم» ـ بفتح الميم واللام ـ فيكون مصدرا ميميا.

وإلى هنا نجد الآيات الكريمة قد وضحت أن القرآن الكريم قد نوع الله ـ تعالى ـ فيه الأمثال لقوم يعقلون ، كما بينت أن الإنسان مجبول على المجادلة والمخاصمة. وأن المشركين قد أصروا على شركهم بسبب انطماس بصائرهم. وزيغهم عن الحق ، وأن الرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وظيفتهم البلاغ والتبشير والإنذار ، وأن عاقبة الجاحدين الذين ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم هي النار وبئس القرار ، وأن الله ـ تعالى ـ يمهل الظالمين ولا يهملهم ، فهو كما قال ـ سبحانه ـ (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ، وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) (٢).

* * *

ثم ساق ـ سبحانه ـ قصة فيها ما فيها من الأحكام والعظات ، ألا وهي قصة موسى ـ عليه‌السلام ـ مع عبد من عباد الله الصالحين ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (٦٠) فَلَمَّا بَلَغا

__________________

(١) سورة الصافات الآيتان ١٣٧ ، ١٣٨.

(٢) سورة الحجر الآيتان ٤٩ ، ٥٠.

٥٤٥

مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (٦١) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (٦٢) قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (٦٣) قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (٦٤) فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) (٦٥)

قال الإمام الرازي ما ملخصه : اعلم أن هذا ابتداء قصة ثالثة ذكرها الله ـ تعالى ـ في هذه السورة ، وهي أن موسى ـ عليه‌السلام ـ ذهب إلى الخضر ليتعلم منه ، وهذا وإن كان كلاما مستقلا في نفسه إلا أنه يعين على ما هو المقصود في القصتين السابقتين : أما نفع هذه القصة في الرد على الكفار الذين افتخروا على فقراء المسلمين ، فهو أن موسى مع كثرة علمه وعمله .. ذهب إلى الخضر لطلب العلم وتواضع له.

وأما نفع هذه القصة في قصة أصحاب الكهف ، فهو أن اليهود قالوا لكفار مكة : «إن أخبركم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن هذه القصة فهو نبي وإلا فلا ؛ وهذا ليس بشيء. لأنه لا يلزم من كونه نبيا أن يكون عالما بجميع القصص كما أن كون موسى نبيا لم يمنعه من الذهاب ليتعلم منه» (١).

وموسى ـ عليه‌السلام ـ هو ابن عمران ، وهو أحد أولى العزم من الرسل ، وينتهى نسبه إلى يعقوب ـ عليه‌السلام ـ.

وفتاه : هو يوشع بن نون ، وسمى بذلك لأنه كان ملازما لموسى ـ عليه‌السلام ـ ويأخذ عنه العلم.

__________________

(١) التفسير الكبير للفخر الرازي ج ٢١ ص ١٤٣.

٥٤٦

وقوله : (لا أَبْرَحُ) أى : لا أزال سائرا. ومنه قوله ـ تعالى ـ (لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ). من برح الناقص.

قال الجمل : واسمها مستتر وجوبا ، وخبرها محذوف ، تقديره : لا أبرح سائرا ، وقوله (حَتَّى أَبْلُغَ) .. غاية لهذا المقدر. ويحتمل أنها تامة فلا تستدعى خبرا ، بمعنى : لا أزول عما أنا عليه من السير والطلب ولا أفارقه حتى أبلغ ..» (١).

و (مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ) : المكان الذي فيه يلتقى البحر الأحمر بالبحر الأبيض المتوسط.

قال الآلوسى : والمجمع : الملتقى ، وهو اسم مكان .. والبحران : بحر فارس والروم ، كما روى عن مجاهد وقتادة وغيرهما وملتقاهما : مما يلي المشرق ولعل المراد مكان يقرب فيه التقاؤهما .. وقيل البحران : بحر الأردن وبحر القلزم ..» (٢).

وقال بعض العلماء : والأرجح ـ والله أعلم ـ أن مجمع البحرين : بحر الروم وبحر القلزم.

أى : البحر الأبيض والبحر الأحمر. ومجمعهما مكان التقائهما في منطقة البحيرات المرة وبحيرة التمساح. أو أنه مجمع خليجى العقبة والسويس في البحر الأحمر. فهذه المنطقة كانت مسرح تاريخ بنى إسرائيل بعد خروجهم من مصر ، وعلى أية حال فقد تركها القرآن مجملة فنكتفى بهذه الإشارة» (٣).

والمعنى : واذكر ـ أيها الرسول الكريم ـ لقومك لكي يعتبروا ويتعظوا وقت أن قال أخوك موسى ـ عليه‌السلام ـ لفتاه يوشع بن نون ، اصحبنى في رحلتي هذه فإنى لا أزال سائرا حتى أصل إلى مكان التقاء البحرين ، فأجد فيه بغيتي ومقصدي ، «أو أمضى» في سيرى «حقبا» أى : زمنا طويلا ، إن لم أجد ما أبتغيه هناك.

والحقب ـ بضم الحاء والقاف ـ جمعه أحقاب ، وفي معناه : الحقبة ـ بكسر الحاء ـ وجمعها حقب ـ كسدرة وسدر ـ والحقبة ـ بضم الحاء ـ وجمعها : حقب كغرفة وغرف ـ قيل : مدتها ثمانون عاما. وقيل سبعون. وقيل : زمان من الدهر مبهم غير محدد.

والآية الكريمة تدل بأسلوبها البليغ ، على أن موسى ـ عليه‌السلام ـ كان مصمما على بلوغ مجمع البحرين مهما تكن المشقة في سبيل ذلك ، ومهما يكن الزمن الذي يقطعه في سبيل

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ٣٢.

(٢) تفسير الآلوسي ج ١٥ ص ٣١٢.

(٣) في ظلال القرآن ج ١٥ ص ٢٢٨٧ للأستاذ سيد قطب.

٥٤٧

الوصول إلى غايته ، وهو يعبر عن هذا التصميم بما حكاه عنه القرآن بقوله : «أو أمضى حقبا».

وقد أشار الآلوسى ـ رحمه‌الله ـ إلى سبب تصميم موسى على هذه الرحلة فقال : وكأن منشأ عزيمة موسى ـ عليه‌السلام ـ على ما ذكره ما رواه الشيخان وغيرهما من حديث ابن عباس عن أبى بن كعب ، أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن موسى ـ عليه‌السلام ـ قام خطيبا في بنى إسرائيل فسئل : أى الناس أعلم؟ فقال : أنا. فعاتبه الله ـ تعالى ـ عليه ، إذ لم يرد العلم إليه ـ سبحانه ـ فأوحى الله ـ تعالى ـ إليه : إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك.

وفي رواية أخرى عنه عن أبى ـ أيضا ـ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن موسى ـ عليه‌السلام ـ سأل ربه فقال : أى رب إن كان في عبادك أحد هو أعلم منى فدلني عليه فقال له : «نعم في عبادي من هو أعلم منك ، ثم نعت له مكانه وأذن له في لقائه» (١).

ثم تقص علينا السورة الكريمة ما حدث بعد ذلك فتقول : (فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما. فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً).

والفاء في قوله : (فَلَمَّا بَلَغا) وفي قوله (فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ ..) هي الفصيحة.

والسرب : النفق الذي يكون تحت الأرض. أو القناة التي يدخل منها الماء إلى البستان لسقى الزرع.

والمعنى : وبعد أن قال موسى لفتاه ما قال ، أخذا في السير إلى مجمع البحرين ، فلما بلغا هذا المكان «نسيا حوتهما» أى : نسيا خبر حوتهما ونسيا تفقد أمره ، فحيي الحوت ، وسقط في البحر ، واتخذ «سبيله» أى طريقه «في البحر سربا».

أى : واتخذ الحوت طريقه في البحر ، فكان هذا الطريق مثل السرب أى النفق في الأرض بحيث يسير الحوت فيه ، وأثره واضح.

قال الإمام ابن كثير : قوله (فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما) وذلك أنه كان قد أمر بحمل حوت مملوح ـ أى مشوى ـ معه وقيل له : متى فقدت الحوت ، فهو ثمة ـ أى الرجل الصالح الذي هو أعلم منك يا موسى في هذا المكان ـ فسارا حتى بلغا مجمع البحرين. وهناك عين يقال لها عين الحياة ، فناما هناك ، وأصاب الحوت من رشاش ذلك الماء

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ٣١٣.

٥٤٨

فاضطرب ، وكان في مكتل مع يوشع ، وطفر من المكتل إلى البحر ، فاستيقظ يوشع ، وسقط الحوت في البحر ، وجعل يسير فيه ، والماء له مثل الطاق ـ أى مثل البناء المقوس كالقنطرة ـ لا يلتئم بعده ، ولهذا قال : (فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً) أى : مثل السرب في الأرض (١).

وقال الإمام البيضاوي : قوله «نسيا حوتهما» أى : نسى موسى أن يطلبه ويتعرف حاله ، ونسى يوشع أن يذكر له ما رأى من حياته ووقوعه في البحر (٢).

ثم بين ـ سبحانه ـ ما كان منهما بعد ذلك فقال : (فَلَمَّا جاوَزا) أى : المكان الذي فيه مجمع البحرين.

«قال» موسى ـ عليه‌السلام ـ لفتاه يوشع بن نون «آتنا غداءنا» أى : أحضر لنا ما نأكله من هذا الحوت المشوى الذي معنا : ثم علل موسى ـ عليه‌السلام ـ هذا الطلب بقوله : (لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً) أى : تعبا وإعياء.

واسم الإشارة «هذا» مشار به إلى سفرهما المتلبسين به.

قالوا : ولكن باعتبار بعض أجزائه ، فقد صح أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لم يجد موسى شيئا من التعب حتى جاوز المكان الذي أمر به» (٣).

وقوله ـ سبحانه ـ : (قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ) حكاية لما رد به يوشع على موسى ـ عليه‌السلام ـ عند ما طلب منه الغداء.

والاستفهام في قوله (أَرَأَيْتَ) للتعجب مما حدث أمامه من شأن الحوت حيث عادت إليه الحياة ، وقفز في البحر ، ومع ذلك نسى يوشع أن يخبر موسى عن هذا الأمر العجيب.

أى : قال يوشع لموسى ـ عليه‌السلام ـ : تذكر وانتبه واستمع إلى ما سألقيه عليك من خبر هذا الحوت ، أرأيت ما دهانى في وقت أن أوينا ولجأنا إلى الصخرة التي عند مجمع البحرين ، فإنى هناك نسيت أن أذكر لك ما شاهدته منه من أمور عجيبة ، فقد عادت إليه الحياة ، ثم قفز في البحر.

وقال (إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ) دون أن يذكر مجمع البحرين ، زيادة في تحديد المكان

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ١٧١.

(٢) تفسير البيضاوي ج ٢ ص ١٨.

(٣) تفسير الآلوسى ، ج ١٥ ص ٣١٧.

٥٤٩

وتعيينه. وأوقع النسيان على الحوت دون الغداء الذي طلبه منه موسى ، للإشعار بأن الغداء الذي طلبه موسى منه ، هو ذلك الحوت الذي فقداه.

وقوله (وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) جملة معترضة جيء بها لبيان ما يجرى مجرى السبب في وقوع النسيان منه.

وقوله (أَنْ أَذْكُرَهُ) بدل اشتمال من الهاء في «أنسانيه».

أى : وما أنسانى تذكيرك بما حدث من الحوت إلا الشيطان الذي يوسوس للإنسان ، بوساوس متعددة ، تجعله يذهل وينسى بعض الأمور الهامة.

وقوله (وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً) معطوف على قوله (فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ).

أى : نسيت أن أخبرك بأن الحوت عند ما أوينا إلى الصخرة عادت إليه الحياة ، واتخذ طريقه في البحر اتخاذا عجيبا ، حيث صار يسير فيه وله أثر ظاهر في الماء ، والماء من حوله كالقنطرة التي تنفذ منها الأشياء.

وعلى هذا تكون جملة ، «واتخذ سبيله في البحر عجبا» ، من بقية كلام يوشع للتعجب مما حدث من الحوت ، حيث عادت إليه الحياة بقدرة الله ـ تعالى ـ ، واتخذ طريقه في البحر بتلك الصورة العجيبة.

وقيل : إن هذه الجملة من كلام الله ـ تعالى ـ لبيان طرف آخر من أمر هذا الحوت العجيب ، بعد بيان أمره قبل ذلك بأنه اتخذ سبيله في البحر سربا.

ويبدو لنا أن الرأى الأول أرجح ، لأن سياق الآية يدل عليه ، لذا اكتفى به بعض المفسرين دون أن يشير إلى غيره.

قال الامام الرازي : قوله (وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً) فيه وجوه :

الأول : أن قوله (عَجَباً) صفة لمصدر محذوف ، كأنه قيل : واتخذ سبيله في البحر اتخاذا عجبا ، ووجه كونه عجبا ، انقلابه من المكتل وصيرورته حيا وإلقاء نفسه في البحر.

الثاني : أن يكون المراد منه ما ذكرنا من أنه ـ تعالى ـ جعل الماء عليه كالطاق وكالسراب.

الثالث : قيل إنه تم الكلام عند قوله (وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ) ثم قال بعده : (عَجَباً) والمقصود منه تعجب يوشع من تلك الحالة العجيبة التي رآها ، ثم من نسيانه لها .. (١).

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٢١ ص ١٤٧.

٥٥٠

وهنا يحكى القرآن ما يدل على أن موسى ـ عليه‌السلام ـ قد أدرك أنه تجاوز المكان الذي حدده له ربه ـ تعالى ـ للقاء العبد الصالح فقال : (قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ ، فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً).

أى قال موسى لفتاه : ذلك الذي ذكرته لي من أمر نسيانك لخبر الحوت هو الذي كنا نبغيه ونطلبه ، فإن العبد الصالح الذي نريد لقاءه موجود في ذلك المكان الذي فقدنا فيه الحوت.

(فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً) أى : فرجعا من طريقهما الذي أتيا منه ، يتتبعان آثارهما لئلا يضلا عنه ، حتى انتهيا عائدين مرة أخرى إلى موضع الصخرة التي فقد الحوت عندها.

وقصصا : من القص بمعنى اتباع الأثر. يقال : قص فلان أثر فلان قصا وقصصا إذا تتبعه.

ثم حكى القرآن ما تم لهما بعد أن عادا إلى مكانهما الأول فقال : (فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً).

أى : وبعد أن عادا إلى مكان الصخرة عند مجمع البحرين مرة أخرى وجدا «عبدا من عبادنا» الصالحين. والتنكير في «عبدا» للتفخيم ، والإضافة في «عبادنا» للتشريف والتكريم.

(آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا) أى : هذا العبد الصالح منحناه وأعطيناه رحمة عظيمة من عندنا وحدنا لا من عند غيرنا : واختصصناه بها دون غيره.

وهذه الرحمة تشمل النعم التي أنعم الله ـ تعالى ـ بها عليه ـ كنعمة الهداية والطاعة وغيرهما.

(وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) أى : وعلمناه من عندنا لا من عند غيرنا علما خاصا ، لا يتيسر إلا لمن نريد تيسيره ومنحه له.

والمراد بهذا العبد : الخضر ـ عليه‌السلام ـ كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة.

ومن العلماء من يرى أنه كان نبيا ، ومنهم من يرى أنه كان عبدا صالحا اختصه الله بلون معين من العلم اللدني.

أخرج البخاري وغيره عن أبى هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنما سمى الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء ، فإذا هي تهتز من خلفه خضراء» (١).

ويرى المحققون من العلماء أنه قد مات كما يموت سائر الناس. وإلى ذلك ذهب الإمام

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ٣١٩.

٥٥١

البخاري وشيخ الإسلام ابن تيمية ، وتلميذه ابن القيم وغيرهم.

ويرى آخرون أنه حي وسيموت في آخر الزمان.

قال ابن القيم : إن الأحاديث التي يذكر فيها أنه حي كلها كذب ، ولا يصح في ذلك حديث واحد. وهذه المسألة من المسائل التي فصل العلماء الحديث عنها. فارجع إلى أقوالهم فيها إن شئت (١).

ثم حكى ـ سبحانه ـ بعد ذلك ، ما دار بين موسى والخضر ـ عليهما‌السلام ـ بعد أن التقيا فقال ـ تعالى ـ :

(قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (٦٦) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٦٧) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (٦٨) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (٦٩) قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) (٧٠)

أى : قال موسى للخضر ـ عليهما‌السلام ـ بعد أن التقيا «هل أتبعك» أى : هل تأذن لي في مصاحبتك واتباعك. بشرط أن تعلمني من العلم الذي علمك الله إياه : شيئا أسترشد به في حياتي ، وأصيب به الخير في ديني.

فأنت ترى أن موسى ـ عليه‌السلام ـ قد راعى في مخاطبته للخضر أسمى ألوان الأدب اللائق بالأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ حيث خاطبه بصيغة الاستفهام الدالة على التلطف ، وحيث أنزل نفسه منه منزلة المتعلم من المعلم ، وحيث استأذنه في أن يكون تابعا له ، ليتعلم منه الرشد والخير.

قال بعض العلماء : في هذه الآية دليل على أن المتعلم تبع للعالم ، وإن تفاوتت المراتب ،

__________________

(١) راجع ابن كثير ج ٥ ص ١٧١. والآلوسى ج ١٥ ص ٣١٩ وأضواء البيان ج ٤ ص ١٥٧.

٥٥٢

ولا يظن أن في تعلم موسى من الخضر ما يدل على أن الخضر كان أفضل من موسى ، فقد يأخذ الفاضل عن الفاضل ، وقد يأخذ الفاضل عن المفضول ، إذا اختص الله ـ تعالى ـ أحدهما بعلم لا يعلمه الآخر ، فقد كان علم موسى يتعلق بالأحكام الشرعية والقضاء بظاهرها ، وكان علم الخضر يتعلق ببعض الغيب ومعرفة البواطن .. (١).

ثم حكى ـ سبحانه ـ ما رد به الخضر على موسى فقال : (قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً).

أى : قال الخضر لموسى إنك يا موسى إذا اتبعتنى ورافقتنى ، فلن تستطيع معى صبرا ، بأى وجه من الوجوه.

قال ابن كثير : أى : إنك لا تقدر يا موسى أن تصاحبني ، لما ترى من الأفعال التي تخالف شريعتك ، لأنى على علم من علم الله ـ تعالى ـ ما علمك إياه ، وأنت على علم من علم الله ـ تعالى ـ ما علمني إياه ، فكل منا مكلف بأمور من الله دون صاحبه ، وأنت لا تقدر على صحبتي» (٢).

وقوله : (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً) تعليل لعدم استطاعة الصبر معه.

أى : وكيف تصبر يا موسى على أمور ستراها منى. هذه الأمور ظاهرها أنها منكرات لا يصح السكوت عليها ، وباطنها لا تعلمه لأن الله لم يطلعك عليه؟

فالخبر بمعنى العلم. يقال : خبر فلان الأمر يخبره : أى : علمه. والاسم الخبر ، وهو العلم بالشيء ، ومنه الخبير ، أى : العالم.

وكأن الخضر يريد بهذه الجملة الكريمة أن يقول لموسى : إنى واثق من أنك لن تستطيع معى صبرا ، لأن ما سأفعله سيصطدم بالأحكام الظاهرة ، وبالمنطق العقلي ، وبغيرتك المعهودة فيك ، وأنا مكلف أن أفعل ما أفعل ، لأن المصلحة الباطنة في ذلك ، وهي تخفى عليك.

ولكن موسى ـ عليه‌السلام ـ الحريص على تعلم العلم النافع ، يصر على مصاحبة الرجل الصالح ، فيقول له في لطف وأدب ، مع تقديم مشيئة الله ـ تعالى ـ : (سَتَجِدُنِي ـ إِنْ شاءَ اللهُ ـ صابِراً ، وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً).

أى : قال موسى للخضر (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً) معك ، غير معترض عليك ، ولا أعصى لك أمرا من الأمور التي تكلفني بها.

__________________

(١) تفسير فتح البيان ج ٥ ص ٤٧٧.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ١٧٨.

٥٥٣

وقدم موسى ـ عليه‌السلام ـ المشيئة ، أدبا مع خالقه ـ عزوجل ـ واستعانة به ـ سبحانه ـ على الصبر وعدم المخالفة.

وهنا يحكى القرآن الكريم أن الخضر ، قد أكد ما سبق أن قاله لموسى ، وبين له شروطه إذا أراد مصاحبته ، فقال : (قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً).

أى : قال الخضر لموسى على سبيل التأكيد والتوثيق : يا موسى إن رافقتنى وصاحبتنى ، ورأيت منى أفعالا لا تعجبك ، لأن ظاهرها يتنافى مع الحق. فلا تعترض عليها ، ولا تناقشني فيها ، بل اتركني وشأنى ، حتى أبين لك في الوقت المناسب السبب في قيامي بتلك الأفعال ، وحتى أكون أنا الذي أفسره لك.

قالوا : «وهذا من الخضر تأديب وإرشاد لما يقتضى دوام الصحبة ، فلو صبر موسى ودأب لرأى العجب (١).

ثم تحكى السورة بعد ذلك ثلاثة أحداث فعلها الخضر ولكن موسى لم يصبر عليها ، بل اعترض وناقش ، أما الحادث الأول فقد بينه ـ سبحانه ـ بقوله :

(فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (٧١) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٢) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً) (٧٣)

وقوله : (فَانْطَلَقا) بيان لما حدث منهما بعد أن استمع كل واحد منهما إلى ما قاله صاحبه.

أى ؛ فانطلق موسى والخضر ـ عليهما‌السلام ـ على ساحل البحر ، ومعهما يوشع بن نون ، ولم يذكر في الآية لأنه تابع لموسى.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١١ ص ١٨.

٥٥٤

ويرى بعضهم أن موسى ـ عليه‌السلام ـ صرف فتاه بعد أن التقى بالخضر.

أخرج الشيخان عن ابن عباس : أنهما انطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرت بهما سفينة فكلموهم أن يحملوهم ، فعرفوا الخضر فحملوهما بغير نول : أى أجر ، (١).

وقوله : (حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها) بيان لما فعله الخضر بالسفينة.

أى : فانطلقا يبحثان عن سفينة ، فلما وجداها واستقرا فيها ، ما كان من الخضر إلا أن خرقها. قيل : بأن قلع لوحا من ألواحها.

وهنا ما كان من موسى إلا أن قال له على سبيل الاستنكار والتعجب مما فعله : (أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها ..). أى : أفعلت ما فعلت لتكون عاقبة الراكبين فيها الغرق والموت بهذه الصورة المؤلمة؟

(لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً) ، والإمر : الداهية. وأصله كل شيء شديد كبير ، ومنه قولهم : إن القوم قد أمروا. أى : كثروا واشتد شأنهم. ويقال : هذا أمر إمر ، أى : منكر غريب.

أى : قال موسى للخضر بعد خرقه للسفينة : لقد جئت شيئا عظيما ، وارتكبت أمرا بالغا في الشناعة. حيث عرضت ركاب السفينة لخطر الغرق.

وهنا أجابه الخضر بقوله : (أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) أى : ألم أقل لك سابقا إنك لن تسطيع مصاحبتي ، ولا قدرة لك على السكوت على تصرفاتي التي لا تعرف الحكمة من ورائها؟

ولكن موسى ـ عليه‌السلام ـ رد معتذرا لما فرط منه وقال : (لا تُؤاخِذْنِي) أيها العبد الصالح ، بما نسيت ، أى : بسبب نسياني لوصيتك في ترك السؤال والاعتراض حتى يكون لي منك البيان. (وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً) أى : ولا تكلفني من أمرى مشقة في صحبتي إياك.

يقال : أرهق فلان فلانا. إذا أتعبه وأثقل عليه وحمله مالا يطيقه.

والمراد : التمس لي عذرا بسبب النسيان ، ولا تضيق على الأمر ، فإن في هذا التضييق ما يحول بيني وبين الانتفاع بعلمك.

وكأن موسى ـ عليه‌السلام ـ الذي اعتزم الصبر وقدم المشيئة ، ورضى بشروط الخضر في

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ٣٣٥.

٥٥٥

المصاحبة .. كأنه قد نسى كل ذلك أمام المشاهدة العملية ، وأمام التصرف الغريب الذي صدر من الخضر دون أن يعرف له سببا.

وهكذا الطبيعة البشرية تلتقي في أنها تجد للتجربة العملية وقعا وطعما ، يختلف عن الوقع والطعم الذي تجده عند التصور النظري.

فموسى ـ عليه‌السلام ـ وعد الخضر بأنه سيصبر ... إلا أنه بعد أن شاهد مالا يرضيه اندفع مستنكرا.

أما الحادث الثاني الذي لم يستطع موسى أن يقف أمامه صامتا ، فقد حكاه القرآن في قوله :

(فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (٧٤) قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٥) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً) (٧٦)

أى : فانطلق موسى والخضر للمرة الثانية بعد خروجهما من السفينة ، وبعد أن قبل الخضر اعتذار موسى.

(حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً) في طريقهما ، ما كان من الخضر إلا أن أخذه (فَقَتَلَهُ).

وهنا لم يستطع موسى ـ عليه‌السلام ـ أن يصبر على ما رأى ، أو أن يكظم غيظه ، فقال باستنكار وغضب : (أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً) أى : طاهرة بريئة من الذنوب (بِغَيْرِ نَفْسٍ).

أى : بغير أن ترتكب ما يوجب قتلها ، لأنها لم تقتل غيرها حتى تقتص منها. أى : أن قتلك لهذا الغلام كان بغير حق.

(لَقَدْ جِئْتَ) أيها الرجل «شيئا نكرا» أى : منكرا عظيما. يقال. نكر الأمر ، أى : صعب واشتد. والمقصود : لقد جئت شيئا أشد من الأول في فظاعته واستنكار العقول له.

ومرة أخرى يذكره الخضر بالشرط الذي اشترطه عليه. وبالوعد الذي قطعه على نفسه ، فيقول له : (أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً).

٥٥٦

وفي هذه المرة لا يكتفى الخضر بقوله : (أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ ..) بل يضيف لفظ لك ، زيادة في التحديد والتعيين والتذكير.

أى : ألم أقل لك أنت يا موسى لا لغيرك على سبيل التأكيد والتوثيق : إنك لن تستطيع معى صبرا ، لأنك لم تحط علما بما أفعله.

ويراجع موسى نفسه. فيجد أنه قد خالف ما اتفق عليه مع الرجل الصالح مرتين ، فيبادر بإخبار صاحبه أن يترك له فرصة أخيرة فيقول : (إِنْ سَأَلْتُكَ) أيها الصديق (عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها) أى : بعد هذه المرة الثانية (فَلا تُصاحِبْنِي) أى : فلا تجعلني صاحبا أو رفيقا لك ، فإنك (قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً) أى : فإنك قد بلغت الغاية التي تكون معذورا بعدها في فراقي ، لأنى أكون قد خالفتك مرارا.

وهذا الكلام من موسى ـ عليه‌السلام ـ يدلك على اعتذاره الشديد للخضر ، وعلى شدة ندمه على ما فرط منه ، وعلى الاعتراف له بخطئه.

قال القرطبي : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا دعا لأحد بدأ بنفسه فقال يوما : «رحمة الله علينا وعلى موسى ، لو صبر على صاحبه لرأى العجب ، ولكنه قال : (إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي ..) (١).

ثم تسوق لنا السورة الكريمة الحادث الثالث والأخير في تلك القصة الزاخرة بالمفاجآت والعجائب فنقول :

(فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (٧٧) قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) (٧٨)

أى : فانطلق موسى والخضر ـ عليهما‌السلام ـ يتابعان سيرهما. حتى إذا أتيا أهل قرية قيل هي «أنطاكيه» ، وقيل : هي قرية بأرض الروم.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١١ ص ٢٣.

٥٥٧

(اسْتَطْعَما أَهْلَها) والاستطعام : سؤال الطعام. والمراد به هنا سؤال الضيافة لأنه هو المناسب لمقام موسى والخضر ـ عليهما‌السلام ـ ولأن قوله ـ تعالى ـ بعد ذلك : (فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما) يشهد له.

أى : فأبى وامتنع أهل تلك القرية عن قبول ضيافتهما بخلا منهم وشحا.

وقوله ـ تعالى ـ (فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ) معطوف على (أَتَيا) أى : وبعد أن امتنع أهل القرية عن استضافتهما ، تجولا فيها (فَوَجَدا فِيها جِداراً) أى : بناء مرتفعا (يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ) أى : ينهدم ويسقط (فَأَقامَهُ) أى الخضر بأن سواه وأعاد إليه اعتداله ، أو بأن نقضه وأخذ في بنائه من جديد.

وهنا لم يتمالك موسى ـ عليه‌السلام ـ مشاعره ، لأنه وجد نفسه أمام حالة متناقضة ، قوم بخلاء أشحاء لا يستحقون العون .. ورجل يتعب نفسه في إقامة حائط مائل لهم .. هلا طلب منهم أجرا على هذا العمل الشاق ، خصوصا وهما جائعان لا يجدان مأوى لهما في تلك القرية! لذا بادر موسى ـ عليه‌السلام ـ ليقول للخضر : (لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً).

أى : هلا طلبت أجرا من هؤلاء البخلاء على هذا العمل ، حتى تنتفع به. وأنت تعلم أننا جائعان وهم لم يقدموا لنا حق الضيافة.

فالجملة الكريمة تحريض من موسى للخضر على أخذ الأجر على عمله ، ولوم له على ترك هذا الأجر مع أنهما في أشد الحاجة إليه.

وكان هذا التحريض من موسى للخضر ـ عليهما‌السلام ـ هو نهاية المرافقة والمصاحبة بينهما ، ولذا قال الخضر لموسى : (هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) أى : هذا الذي قلته لي ، يجعلنا نفترق ، لأنك قد قلت لي قبل ذلك : (إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي) وها أنت تسألنى وتحرضنى على أخذ الأجر.

ومع ذلك فانتظر : سأنبئك ، قبل مفارقتي لك (بِتَأْوِيلِ) أى : بتفسير وبيان ما خفى عليك من الأمور الثلاثة التي لم تستطع عليها صبرا ، لأنك لم يكن عندك ما عندي من العلم بأسرارها الباطنة التي أطلعنى الله ـ تعالى ـ عليها.

ثم حكى القرآن الكريم ما قاله الخضر لموسى عليهما‌السلام ـ في هذا الشأن فقال ـ تعالى ـ

٥٥٨

(أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) (٧٩)

أى قال الخضر لموسى : (أَمَّا السَّفِينَةُ) التي خرقتها ولم ترض عنه ، (فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ) أى : لضعفاء من الناس لا يستطيعون دفع الظلم عنهم ، ولم يكن لهم مال يتعيشون منه سواها ، فكان الناس يركبون فيها ويدفعون لهؤلاء المساكين الأجر الذين ينتفعون به.

(فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها) أى : أن أجعلها ذات عيب بالخرق الذي خرقتها فيه ، ولم أرد أن أغرق أهلها كما ظننت يا موسى ، والسبب في ذلك : أنه (كانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ) ، ظالم ، من دأبه أن يتعقب السفن الصالحة الصحيحة ، ويستولى عليها ، ويأخذها اغتصابا وقسرا من أصحابها.

فهذا العيب الذي أحدثته في السفينة. كان سببا في نجاتها من يد الملك الظالم ، وكان سببا في بقائها في أيدى أصحابها المساكين.

فالضرر الكبير الذي أحدثته بها ، كان دفعا لضرر أكبر كان ينتظر أصحابها المساكين لو بقيت سليمة.

ويرى بعضهم أن المراد بالوراء الأمام. ويرى آخرون أن المراد به الخلف. وقال الزجاج : وراء : يكون للخلف والأمام. ومعناه : ما توارى عنك واستتر.

وظاهر قوله ـ تعالى ـ : (يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) ، يفيد أن هذا الملك كان يأخذ كل سفينة سواء أكانت صحيحة أم معيبة ، ولكن هذا الظاهر غير مراد. وإنما المراد : يأخذ كل سفينة سليمة. بدليل : فأردت أن أعيبها ، أى : لكي لا يأخذها ، ومن هنا قالوا : إن لفظ «سفينة» هنا موصوف لصفة محذوفة. أى : يأخذ كل سفينة صحيحة.

و «غصبا» ، منصوب على أنه مصدر مبين لنوع الأخذ. والغصب ـ من باب ضرب ـ : أخذ الشيء ظلما وقهرا.

ثم بين ـ سبحانه ـ ما رد به الخضر على موسى في اعتراضه على الحادثة الثانية فقال ـ تعالى ـ :

٥٥٩

(وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (٨٠) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً) (٨١)

أى : (وَأَمَّا الْغُلامُ) الذي سبق لي أن قتلته ، واعترضت على في قتله يا موسى (فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ) ولم يكن هو كذلك فقد أعلمنى الله ـ تعالى ـ أنه طبع كافرا.

(فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً) ، والخشية : الخوف الذي يشوبه تعظيم ، وأكثر ما يكون عن علم بما يخشى منه.

و «يرهقهما» من الإرهاق وهو أن يحمّل الإنسان ما لا يطيقه.

أى : فخشينا لو بقي حيا هذا الغلام أن يوقع أبويه في الطغيان والكفر ، لشدة محبتهما له ، وحرصهما على إرضائه.

(فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ) والإبدال : رفع شيء. وإحلال آخر محله.

أى : «فأردنا» بقتله «أن يبدلهما ربهما» بدل هذا الغلام الكافر الطاغي ، ولدا آخر «خيرا منه» أى من هذا الغلام ، زكاة «أى» طهارة وصلاحا «وأقرب رحما» أى : وأقرب في الرحمة بهما. والعطف عليهما ، والطاعة لهما.

ثم ختم ـ سبحانه ـ القصة ، ببيان ما قاله الخضر لموسى في تأويل الحادثة الثالثة فقال ـ تعالى ـ :

(وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) (٨٢)

٥٦٠