التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٨

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٨

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0668-X
الصفحات: ٥٩٧

وهكذا الإيمان الحق ، يجعل المؤمن يعتز بعقيدته ، ويتجه إلى الله وحده الذي تعنو له الجباه ، ويرجو منه وحده ما هو خير من بساتين الدنيا وزينتها.

ثم يختتم ـ سبحانه ـ هذه القصة ببيان العاقبة السيئة التي حلت بذلك الرجل الجاحد المغرور صاحب الجنتين فيقول.

(وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (٤٢) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (٤٣) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً) (٤٤)

أى : وكانت نتيجة جحود صاحب الجنتين لنعم ربه ، أن أهلكت أمواله وأبيدت كلها. فصار يقلب كفيه ظهرا لبطن أسفا وندما ، على ما أنفق في عمارتها وتزيينها من أموال كثيرة ضاعت هباء ، ومن جهد كبير ذهب سدى.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ) معطوف على مقدر محذوف لدلالة السباق والسياق عليه.

وأصل الإحاطة مأخوذة من إحاطة العدو بعدوه من جميع جوانبه لإهلاكه واستئصاله.

والمعنى : فحدث ما توقعه الرجل الصالح من إرسال الحسبان على بستان صاحبه الجاحد المغرور «وأحيط بثمره» بأن هلكت أمواله وثماره كلها.

وجاء الفعل «أحيط» مبنيا للمجهول ، للإشعار بأن فاعله متيقن وهو العذاب الذي أرسله الله ـ تعالى ـ أى : وأحاط العذاب بجنته.

وقوله : (فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها) تصوير بديع لما اعتراه من غم وهم وحسرة وندامة. وتقليب اليدين عبارة عن ضرب إحداهما على الأخرى ، أو أن يبدي ظهرهما ثم بطنهما ويفعل ذلك مرارا ، وأيّا ما كان ففعله هذا كناية عن الحسرة الشديدة ، والندم العظيم.

٥٢١

«وهي» أى الجنة التي أنفق فيها ما أنفق (خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) أى : ساقطة ومتهدمة على دعائمها وعلى سقوفها.

وأصل الخواء السقوط والتهدم. يقال : خوى البيت إذا سقط. كما يطلق على الخلاء من الشيء. يقال : خوى بطن فلان من الطعام أى : خلا منه ، وخوت الدار إذا خلت من سكانها.

والعروش جمع عرش ، وهو سقف البيت.

والمقصود أن الجنة بجميع ما اشتملت عليه ، صارت حطاما وهشيما تذروه الرياح. وجملة : «ويقول يا ليتني لم أشرك يربى أحدا» معطوفة على جملة «يقلب كفيه ..».

أى : صار يقلب كفيه حسرة وندامة لهلاك جنته ، ويقول زيادة في الحسرة والندامة : يا ليتني اتبعت نصيحة صاحبي فلم أشرك مع ربي ـ سبحانه ـ أحدا في العبادة أو الطاعة.

وهكذا حال أكثر الناس ، يذكرون الله ـ تعالى ـ عند الشدائد والمحن ، وينسونه عند السراء والعافية.

والمتدبر لهذه الآية الكريمة يراها قد صورت فجيعة الرجل الجاحد في جنته تصويرا واقعيا بديعا.

فقد جرت عادة الإنسان أنه إذا نزل به ما يدهشه ويؤلمه. أن يعجز عن النطق في أول وهلة. فإذا ما أفاق من دهشته بدأ في النطق والكلام.

وهذا ما حدث من ذلك الرجل ـ كما صوره القرآن الكريم ـ فإنه عند ما رأى جنته وقد تحطمت أخذ يقلب كفيه حسرة وندامة دون أن ينطق ، ثم بعد أن أفاق من صدمته جعل يقول : يا ليتني لم أشرك بربي أحدا.

فيا له من تصوير بديع. يدل على أن هذا القرآن من عند الله ـ تعالى ـ.

ثم ختم ـ سبحانه ـ هذه القصة ببيان عظيم قدرته ونفاذ إرادته فقال.

(وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً. هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ ، هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً).

أى : ولم تكن لهذا الجاحد المغرور بعد أن خوت جنته على عروشها ، عشيرة أو أعوان ينصرونه ، أو يدفعون عنه ما حل به ، وإنما القادر على ذلك هو الله ـ تعالى ـ وحده ،

٥٢٢

وما كان هذا الرجل الذي جحد نعم ربه منتصرا لأنه ـ سبحانه ـ قد حجب عنه كل وسيلة تؤدى إلى نصره وعونه ، بسبب إيثاره الغي على الرشد ، والكفر على الإيمان.

فالآية الكريمة تبين بجلاء ووضوح ، عجز كل قوة عن نصرة ذلك الرجل المخذول سوى قوة الله ـ عزوجل ـ ، وعجز ذلك الرجل في نفسه عن رد انتقام الله ـ تعالى ـ منه.

وقوله ـ سبحانه ـ : (هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ ..) تقرير وتأكيد للآية السابقة. ولفظ هنالك ظرف مكان.

وكلمة «الولاية» قرأها الجمهور بفتح الواو ، بمعنى الموالاة والصلة والنصرة كما قرأ الجمهور كلمة «الحق» بالجر على أنها نعت للفظ الجلالة.

فيكون المعنى : في ذلك المقام وتلك الحال تكون الولاية ـ أى الموالاة والصلة ـ من كل الناس ، لله ـ تعالى ـ وحده إذ الكافر عند ما يرى العذاب يعترف بوحدانية الله ـ تعالى ـ كما قال ـ سبحانه ـ (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ. فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) (١).

ويجوز أن يكون المعنى : في ذلك المقام وتلك الحال تكون الولاية أى الموالاة لله ـ تعالى ـ وحده ، فيوالي المؤمنين برحمته ومغفرته وينصرهم على أعدائهم ، كما قال ـ سبحانه ـ (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا ، وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) (٢).

وقرأ حمزة والكسائي : (الْوَلايَةُ) بكسر الواو ، بمعنى الملك والسلطان كما قرأ أبو عمرو والكسائي لفظ (الْحَقِ) بالرفع على أنه نعت للولاية.

فيكون المعنى : في ذلك المقام تكون الولاية الحق ، والسلطان الحق ، لله رب العالمين ، كما قال ـ سبحانه ـ : (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ ، وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً) (٣).

قال بعض العلماء : وقوله «هنالك» يرى بعضهم أنه متعلق بما بعده ، والوقف تام على قوله (وَما كانَ مُنْتَصِراً).

ويرى آخرون أنه متعلق بما قبله.

فعلى القول الأول يكون الظرف «هنالك» عامله ما بعده أى : الولاية كائنة لله هنالك.

__________________

(١) سورة غافر الآيتان ٨٤ ، ٨٥.

(٢) سورة محمد الآية ١١.

(٣) سورة الفرقان الآية ٢٦.

٥٢٣

وعلى القول الثاني فالعامل في الظرف اسم الفاعل الذي هو «منتصرا». أى : لم يكن انتصاره واقعا هنالك (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً) أى : هو ـ عزوجل ـ خير إثابة وإعطاء لأوليائه ، وخير عاقبة لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى.

وعاقبة الأمر : آخره وما يصير إليه منتهاه. و «ثوابا» و «عقبا» منصوبان على التمييز ، بعد صيغة التفضيل «خير» التي حذفت منها الهمزة تخفيفا لكثرة الاستعمال كما قال ابن مالك ـ رحمه‌الله ـ :

وغالبا أغناهم خير وشر

عن قولهم أخير منه وأشر

وبذلك نرى أن هذه القصة التي ضربها الله ـ تعالى ـ مثلا للأخيار والأشرار قد بينت لنا بأسلوب بليغ أخاذ ، صور عاقبة الجاحدين المغرورين ؛ وحسن عاقبة الشاكرين المتواضعين ، كما بينت لنا الآثار الطيبة التي تترتب على الإيمان والعمل الصالح ، والآثار السيئة التي يفضى إليها الكفر وسوء العمل ، كما بينت لنا أنّ المتفرد بالولاية والقدرة هو الله ـ عزوجل ـ فلا قوة إلا قوته ، ولا نصر إلا نصره ، ولا مستحق للعبادة أحد سواه ، ولا ثواب أفضل من ثوابه ولا عاقبة لأوليائه خير من العاقبة التي يقدرها لهم ، وصدق ـ سبحانه ـ حيث يقول : (هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ ، هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً).

ثم تنتقل السورة الكريمة من ضرب المثل الجزئى الشخصي ، إلى ضرب مثال آخر عام كلى ، فبينت أن الحياة الدنيا في قصرها وذهاب زينتها .. كتلك الجنة التي أصبحت حطاما ، بعد اخضرارها وكثرة ثمرها ، كما بينت أن هناك زينة فانية ، وأن هنالك أعمالا صالحة باقية قال ـ تعالى ـ :

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (٤٥)

__________________

(١) تفسير أضواء البيان ج ٥ ص ١٠٨.

٥٢٤

الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً) (٤٦)

قال الإمام الرازي : اعلم أن المقصود : اضرب لهم مثلا آخر يدل على حقارة الدنيا ، وقلة بقائها. والكلام متصل بما تقدم من قصة المشركين المتكبرين على فقراء المؤمنين ..» (١).

والمعنى. واذكر لهم ـ أيها الرسول الكريم ـ ما يشبه هذه الحياة الدنيا في حسنها ونضارتها ، ثم في سرعة زوال هذا الحسن والنضارة ، لكي لا يركنوا إليها ، ولا يجعلوها أكبر همهم ، ومنتهى آمالهم.

وقوله : (كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ ..) بيان للمثل الذي شبه الله ـ تعالى ـ به الحياة الدنيا أى : مثلها في ازدهارها ثم في زوال هذا الازدهار ، كهيئة أو كصفة ماء أنزلناه بقدرتنا من السماء ، في الوقت الذي نريد إنزاله فيه.

(فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ) والاختلاط والخلط : امتزاج شيئين فأكثر بعضهما ببعض.

أى : كماء أنزلناه من السماء ، فاختلط وامتزج بهذا الماء نبات الأرض ، فارتوى منه ، وصار قويا بهيجا يعجب الناظرين إليه.

وفي التعبير بقوله : (فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ) دون قوله : فاختلط بنبات الأرض إشارة إلى كثرة الماء النازل من السماء ، وإلى أنه السبب الأساسى في ظهور هذا النبات ، وفي بلوغه قوته ونضارته.

وقوله : (فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ) بيان لما صار إليه هذا النبات من يبوسته وتفتته ، بعد اخضراره وشدته وحسنه.

قال القرطبي ما ملخصه : «هشيما» أى متكسرا متفتتا ، يعنى بانقطاع الماء عنه ، فحذف ذلك إيجازا لدلالة الكلام عليه ، والهشم ، كسر الشيء اليابس. والهشيم من النبات : اليابس المتكسر .. ورجل هشيم : ضعيف البدن.

و «تذروه الرياح» أى تفرقه وتنسفه .. يقال : ذرت الريح الشيء تذروه ذروا ، إذا طارت به وأذهبته» (٢).

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٢١ ص ١٣٠.

(٢) تفسير القرطبي ج ١٠ ص ٤١٣.

٥٢٥

أى : فأصبح النبات بعد اخضراره ، يابسا متفتتا ، تفرقه الرياح وتنسفه وتذهب به حيث شاءت وكيف شاءت.

فأنت ترى أن الآية الكريمة قد شبهت حال الدنيا في حسنها وجمال رونقها ، ثم في سرعة زوالها وفنائها بعد ذلك ، بحال النبات الذي نزل عليه الماء فاخضر واستوى على سوقه ، ثم صار بعد ذلك يابسا متفتتا تذهب به الرياح حيث شاءت.

والتعبير بالفاء في قوله ـ سبحانه ـ فاختلط. فأصبح .. يزيد الأسلوب القرآنى جمالا وبلاغة ، لأن فاء التعقيب هنا تدل على قصر المدة التي استمر فيها النبات نضرا جميلا ، ثم صار هشيما تذروه الرياح.

وهكذا الحياة تبدو للمتشبثين بها ، جميلة عزيزة ، ولكنها سرعان ما تفارقهم ويفارقونها ، حيث ينزل بهم الموت فيجعل آمالهم تحت التراب.

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية بقوله ، (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً) أى : وكان الله ـ تعالى ـ وما زال ـ على كل شيء من الأشياء التي من جملتها الإنشاء والإفناء ؛ كامل القدرة ، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.

وقد ذكر ـ سبحانه ـ ما يشبه هذه الآية في سور كثيرة ، ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ ، حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ ، وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها ، أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ، كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ القيمة الحقيقة للمال وللبنين فقال : (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا).

والمال : اسم لكل ما يتموله الإنسان ويتملكه من النقود والعقار والحرث والأنعام .. إلخ والبنون : جمع ابن.

والزينة : مصدر. والمراد بها هنا ، ما في الشيء من محاسن ترغب الإنسان في حبه.

أى : المال والبنون زينة يتزين بها الإنسان في هذه الحياة الدنيا ، ويتباهى بها على غيره.

وإنما كانا كذلك ، لأن في المال ـ كما يقول القرطبي ـ جمالا ونفعا ، وفي البنين قوة ودفعا.

__________________

(١) سورة يونس الآية ٢٤.

٥٢٦

قال الآلوسى : وتقديم المال على البنين ـ مع كونهم أعز منه عند أكثر الناس لعراقته فيما نيط به من الزينة والإمداد وغير ذلك .. ولأنه زينة بدونهم من غير عكس فإن من له بنون بغير مال فهو في أضيق حال ..» (١).

وفي التعبير بقوله ـ سبحانه ـ زينة ، بيان بديع. وتعبير دقيق لحقيقتهما ، فهما زينة وليسا قيمة ، فلا يصح أن توزن بهما أقدار الناس ، وإنما توزن أقدار الناس بالإيمان والعمل الصالح ، كما قال ـ تعالى ـ (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ).

ولذا جاء التعقيب منه ـ سبحانه ـ بقوله : (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً).

أى : المال والبنون زينة يتزين ويتفاخر بها كثير من الناس في هذه الحياة الدنيا ، وإذا كان الأمر كذلك في عرف كثير منهم. فإن الأقوال الطيبة ، والأعمال الحسنة ، هي الباقيات الصالحات ، التي تبقى ثمارها للإنسان ، وتكون عند الله ـ تعالى ـ (خَيْرٌ) من الأموال والأولاد ، ثوابا وجزاء وأجرا (وَخَيْرٌ أَمَلاً) حيث ينال بها صاحبها في الآخرة ما كان يؤمله ويرجوه في الدنيا من فوز بنعيم الجنة ، أما المال والبنون فكثيرا ما يكونان فتنة.

وقد ساق الإمام ابن كثير جملة من الآثار في تعيين المراد بالباقيات الصالحات فقال : قال ابن عباس وسعيد بن جبير وغير واحد من السلف : والباقيات الصالحات : الصلوات الخمس.

وقال عطاء بن أبى رياح وسعيد بن جبير عن ابن عباس : (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ) : سبحان الله والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر .. (٢).

ويبدو لنا أن قوله ـ تعالى ـ : (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ) لفظ عام ، يشمل كل قول ، أو عمل يرضى الله ـ عزوجل ـ ويدخل في ذلك دخولا أوليا : الصلوات الخمس وغيرها مما ذكره المفسرون من أقوال.

وسمى ـ سبحانه ـ ما يرضيه. من أقوال ، وأعمال بالباقيات الصالحات لأنها باقية لصاحبها غير زائلة ولا فانية ، بخلاف زينة الحياة الدنيا فإنها زائلة فانية.

قال الإمام ابن جرير ـ رحمه‌الله ـ وأولى الأقوال بالصواب قول من قال : هن جميع أعمال الخير .. لأن ذلك كله من الصالحات التي تبقى لصاحبها في الآخرة ، وعليها يجازى

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ٢٨٦.

(٢) راجع تفسير ابن كثير ج ٥ ص ١٥٧.

٥٢٧

ويثاب. وإن الله ـ عزوجل ـ لم يخصص من قوله (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ ..) بعضا دون بعض في كتاب ، ولا بخبر عن رسوله الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١).

ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن أهوال يوم القيامة ، ذلك اليوم الذي تنفع فيه الباقيات الصالحات ، وليس الأموال ولا الأولاد ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (٤٧) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (٤٨) وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) (٤٩)

والظرف في قوله : ـ تعالى ـ (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ) منصوب بفعل محذوف تقديره : «اذكر».

والمراد بتسيير الجبال : اقتلاعها من أماكنها ، وصيرورتها كالعهن المنفوش.

أى : واذكر ـ أيها العاقل ـ لتعتبر وتتعظ ، أهوال يوم القيامة ، يوم نقتلع الجبال من أماكنها ، ونذهب بها حيث شئنا ، ونجعلها في الجو كالسحاب ، كما قال ـ سبحانه ـ : (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ).

وكما قال ـ عزوجل ـ : (وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً).

__________________

(١) راجع تفسير ابن جرير ج ١٥ ص ١٦٧.

٥٢٨

وقوله : (وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً ..) بيان لحالة ثانية من أهوال يوم القيامة.

أى : وترى ـ أيها المخاطب ـ الأرض ظاهرة للأعين دون أن يسترها شيء من جبل ، أو شجر ، أو بنيان.

يقال : برز الشيء بروزا ، أى : خرج إلى البراز ـ بفتح الباء ـ أى : الفضاء وظهر بعد الخفاء.

قال ـ تعالى ـ : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ. وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً ، فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ).

ثم بين ـ سبحانه ـ حالة ثالثة من أهوال يوم القيامة فقال : (وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً).

أى : وحشرنا الخلائق جميعا ، بأن جمعناهم في المكان المحدد لجمعهم ، دون أن نترك منهم أحدا ، بل أخرجناهم جميعا من قبورهم لنحاسبهم على أعمالهم.

والفعل «نغادر» من المغادرة بمعنى الترك ، ومنه الغدر لأنه ترك الوفاء والأمانة وسمى الغدير من الماء غديرا ، لأن السيل ذهب وتركه.

ثم تذكر السورة الكريمة حالة رابعة من أهوال يوم القيامة ، هي حالة العرض بعد حالة الجمع فتقول : (وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا).

أى : وأحضروا جميعا إلى ربك مصفوفين في صف واحد أو في صفوف متعددة ، ليقضى فيهم ـ سبحانه ـ بقضائه العادل.

قال الآلوسى : أخرج ابن مندة في التوحيد عن معاذ بن جبل ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله ـ تعالى ـ ينادى يوم القيامة ، يا عبادي : أنا الله لا إله إلا أنا أرحم الراحمين. وأحكم الحاكمين ، وأسرع الحاسبين. أحضروا حجتكم ويسروا جوابكم. فإنكم مسئولون محاسبون. يا ملائكتي أقيموا عبادي صفوفا على أطراف أنامل أقدامهم للحساب».

وفي الحديث الصحيح : «يجمع الله ـ تعالى ـ الأولين والآخرين في صعيد واحد صفوفا يسمعهم الداعي وينفذهم البصر ..» (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ..) مقول لقول محذوف ، وجملة «كما خلقناكم» نعت لمصدر محذوف.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ٢٨٩.

٥٢٩

والمعنى : ونقول لمنكري البعث والحساب بعد عرضهم علينا على سبيل التوبيخ والتأنيب : لقد جئتمونا ـ أيها المكذبون ـ مجيئا كائنا كمجيئكم عند خلقنا إياكم أول مرة. أى حفاة عراة لا مال معكم ولا ولد.

وعبر ـ سبحانه ـ بالماضي في قوله : (لَقَدْ جِئْتُمُونا ..) لتحقق الوقوع وتنزيله منزلة الواقع بالفعل.

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ. وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ ، وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ. لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) (١).

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية بالانتقال من توبيخهم هذا إلى توبيخ أشد وأقسى فقال : (بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً).

أى : بل زعمتم أيها المكذبون بالبعث ـ أن لن نجعل لكم زمانا أو مكانا نجازيكم فيه على أعمالكم ، وأنكرتم إنكارا مصحوبا بقسم أننا لا نبعث من يموت.

قال ـ تعالى ـ : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٢).

ثم صور ـ سبحانه ـ أحوال المجرمين عند ما يرون مصيرهم السيئ فقال ـ تعالى ـ : (وَوُضِعَ الْكِتابُ ، فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ ، وَيَقُولُونَ : يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها).

والمراد بالكتاب : جنسه ، فيشمل جميع الصحف التي كتبت فيها أعمال المكلفين في دار الدنيا.

أى : وأحضرت صحائف أعمال العباد ، ووضعت في ميزانهم «فترى» ـ أيها المخاطب ـ «المجرمين» كافة ، مشفقين ، خائفين ، مما فيه من جرائم وذنوب «ويقولون» على سبيل التفجع والتحسر عند معاينتهم لثقل ميزان سيئاتهم ، وخفة ميزان حسناتهم.

«يا ويلتنا». والويلة : الهلاك وحلول الشر والقبح والحسرة ، وهو ـ أى لفظ الويلة ـ : مصدر لا فعل له من لفظه.

وهذا النداء على التشبيه بشخص يطلب إقباله.

__________________

(١) سورة الأنعام الآية ٩٤.

(٢) سورة النحل الآية ٣٨.

٥٣٠

أى : ويقولون بأسف وندامة وحسرة : يا هلاكنا أقبل فهذا أوان إقبالك.

ثم يقولون على سبيل التعجب والدهشة من دقة ما اشتمل عليه هذا الكتاب : (ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها)؟

أى : أى شيء ثبت لهذا الكتاب ، حيث نراه لا يترك معصية صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها علينا ، وسجلها في صحف أعمالنا.

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بما يدل على شمول علمه. ونفاذ قدرته وكمال عدله ، فقال : (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً ، وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً).

أى : ووجدوا ما عملوه في الدنيا حاضرا ومسطورا في صحائف أعمالهم ، ولا يظلم ربك أحدا من العباد ، وإنما يجازى كل إنسان على حسب ما يستحقه من ثواب أو عقاب كما قال ـ سبحانه ـ : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ، وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها ، وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) (١).

وكما قال ـ عزوجل ـ : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ ، وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها ، وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) (٢).

قال الإمام ابن كثير وقوله : (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) أى : فيحكم بين عباده في أعمالهم جميعها ، ولا يظلم أحدا من خلقه ، بل يغفر ويصفح ويرحم ، ويعذب من يشاء ، بقدرته وحكمته وعدله.

وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد أخبرنا همام بن يحيى ، عن القاسم بن عبد الواحد المكي ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : بلغني حديث عن رجل سمعه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاشتريت بعيرا ثم شددت عليه رحلي ، فسرت إليه شهرا ، حتى قدمت عليه الشام ، فإذا عبد الله بن أنيس ، فقلت للبواب : قل له جابر على الباب ، فقال : ابن عبد الله؟ فقلت : نعم ، فخرج يطأ ثوبه ، فاعتنقنى واعتنقته ، فقلت : حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في القصاص فخشيت أن تموت أو أموت قبل أن أسمعه ، فقال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : يحشر الله ـ عزوجل ـ الناس يوم القيامة ، عراة غرلا بهما ، أى : ليس معهم شيء ، ثم يناديهم بصوت يسمعه من

__________________

(١) سورة الأنبياء آية ٤٧.

(٢) سورة النساء آية ٤٠.

٥٣١

بعد ، كما يسمعه من قرب : أنا الملك ، أنا الديان ، لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار ، وله عند أحد من أهل الجنة حق ، حتى أقصه منه ، أى : حتى أمكنه من أخذ القصاص ، وهو أن يفعل به مثل فعله ، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ، وله عند رجل من أهل النار حق ، حتى أقصه منه ، حتى اللطمة.

قال : قلنا : كيف وإنما نأتى الله ـ عزوجل ـ عراة غرلا بهما؟ قال : بالحسنات والسيئات (١).

وبعد أن وضح ـ سبحانه ـ من أهوال الحشر ما تخشع له النفوس ، وتهتز له القلوب ، أتبع ذلك بالنهى عن اتخاذ إبليس وذريته أولياء ، وببيان جانب من المصير الأليم الذي ينتظر المجرمين وشركاءهم فقال ـ تعالى ـ :

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (٥٠) ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (٥١) وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (٥٢) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً) (٥٣)

فقوله ـ سبحانه ـ : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ، فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ). تذكير لبنى آدم بالعداوة القديمة بين أبيهم آدم وبين إبليس وذريته.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ١٦٢.

٥٣٢

والمقصود بهذا التذكير تحذيرهم من وساوسه ، وحضهم على مخالفته ، كما قال ـ تعالى ـ : (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ، إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) (١).

والملائكة : جمع ملك. وهم ـ كما وصفهم الله تعالى ـ : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (٢).

وآدم : اسم لأبى البشر ، قيل : إنه اسم عبراني مشتق من أدمه بمعنى التراب.

والسجود لغة : التذلل والخضوع. وخص في الشرع بوضع الجبهة على الأرض بقصد العبادة.

وإبليس اسم مشتق من الإبلاس ، وهو الحزن الناشئ عن شدة اليأس وفعله أبلس ، والراجح أنه اسم أعجمى. ومنعه من الصرف للعلمية والعجمة.

والمعنى ـ واذكر ـ أيها العاقل ـ لتعتبر وتتعظ ، وقت أن قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ، سجود تحية واحترام وتوقير ، لا سجود عبادة وطاعة لأن ذلك لا يكون إلا لله رب العالمين. فامتثلوا أمرنا وسجدوا جميعا ، كما قال ـ تعالى ـ : (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ).

وجاء العطف في قوله (فَسَجَدُوا) بالفاء المفيدة للتعقيب ، للإشارة إلى أن الملائكة قد بادروا بالامتثال بدون تردد ، استجابة لأمر خالقهم ـ عزوجل.

وقوله ـ تعالى ـ (إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) بيان لموقف إبليس من أمر الله تعالى ، وهو أنه أبى واستكبر وامتنع عن السجود لآدم. وظاهر الآية يفيد أن سبب فسقه عن أمر ربه : كونه من الجن لا من الملائكة إذ من المقرر في علم الأصول ؛ أن الفاء من الحروف الدالة على التعليل ، كما في قولهم ، سرق فقطعت يده.

والمعنى : امتثل الملائكة جميعا أمرنا فسجدوا لآدم ، إلا إبليس فإنه أبى واستكبر ولم يسجد ؛ لأنه كان من الجن ولم يكن من الملائكة «ففسق عن أمر ربه» أى. فخرج بذلك عن طاعتنا ، واستحق لعنتنا وغضبنا.

وأصل الفسق : الخروج عن الطاعة مأخوذ من قولهم : فسق الرطب فسوقا إذا خرج عن قشره وهو أعم من الكفر ، فيقال للعاصي فاسق ، وللكافر فاسق.

__________________

(١) سورة فاطر الآية ٦.

(٢) سورة التحريم الآية ٦.

٥٣٣

قال بعض العلماء ما ملخصه : والخلاف في كون إبليس من الملائكة أولا مشهور عند أهل العلم.

وحجة من قال إنه ليس منهم أمران : أحدهما : عصمة الملائكة من ارتكاب الكفر الذي ارتكبه إبليس ، فهم ـ كما قال الله عنهم : (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ).

والثاني : أن الله ـ تعالى ـ صرح في هذه الآية الكريمة بأنه كان من الجن ، والجن غير الملائكة. قالوا : وهو نص قرآنى في محل النزاع.

واحتج من قال بأنه منهم ، بما تكرر في الآيات القرآنية من قوله : (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ) قالوا : فإخراجه بالاستثناء من لفظ الملائكة دليل على أنه منهم ، والظواهر إذا كثرت صارت بمنزلة النص ومن المعلوم أن الأصل في الاستثناء الاتصال لا الانقطاع.

قالوا : ولا حجة لمن خالفنا في قوله ـ تعالى ـ (كانَ مِنَ الْجِنِ) ، لأن الجن قبيلة من الملائكة ، خلقوا من بين الملائكة من نار السموم.

وأظهر الحجج في المسألة. حجة من قال : إنه ليس من الملائكة ، لأن قوله ـ تعالى ـ (إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِ) هو أظهر شيء في الموضوع من نصوص الوحى ، والعلم عند الله ـ تعالى ـ (١).

ومن المفسرين الذين يدل كلامهم على أن إبليس لم يكن من الملائكة. الإمام ابن كثير ، فقد قال ـ رحمه‌الله ـ قوله : (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِ) أى : خانه أصله ، فإنه خلق من مارج من نار ، وأصل خلق الملائكة من نور ، كما ثبت في صحيح مسلم ، عن عائشة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «خلقت الملائكة من نور ، وخلق إبليس من مارج من نار ، وخلق آدم مما وصف لكم». فعند الحاجة نضح كل إناء بما فيه ، وخانه الطبع عند الحاجة ، وذلك أنه قد توسم بأفعال الملائكة ، وتشبه بهم ، وتعبد وتنسك فلهذا دخل في خطابهم ، وعصى بالمخالفة.

ونبه ـ تعالى ـ هاهنا على أنه «من الجن» أى : «أنه خلق من نار ..» (٢).

__________________

(١) تفسير أضواء البيان ج ٤ ص ١٢٠.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ١٦٣.

٥٣٤

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بالإنكار والتوبيخ والتعجيب ممن يتبع خطوات إبليس وذريته فقال : (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ، بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً).

أى : أفبعد أن ظهر لكم ـ يا بنى آدم ـ ما ظهر من فسوق إبليس عن أمر ربه ، تتخذونه وذريته الذين نهجوا نهجه ، أولياء ، وأصفياء من دوني ، فتطيعونهم بدل أن تطيعوني ، والحال أن إبليس وذريته لكم عدو؟

لا شك أن من يفعل ذلك منكم يكون قد استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير ، وآثر الغي على الرشد ، والضلالة على الهداية ، والفسوق على الإيمان!!.

فالجملة الكريمة تستبعد من كل عاقل ، أن يطيع إبليس وذريته ، بعد أن تبين له عداوتهم إياه ، وحرصهم على إيقاعه في موارد الهلكة والسوء.

وقوله : (وَذُرِّيَّتَهُ) يدل على أن لإبليس ذرية ، إلا أن الطريقة التي بواسطتها كانت له الذرية ، لم يرد بها نص صحيح يعتمد عليه ، لذا وجب تفويض علمها إلى ـ الله تعالى ـ.

قال الآلوسى عند تفسيره لهذه الآية : والظاهر أن المراد من الذرية الأولاد فتكون الآية دالة على أن له أولادا ، وبذلك قال جماعة .. وعن قتادة أنه قال : إنه ينكح وينسل كما ينسل بنو آدم.

ثم قال الآلوسى : ولا يلزمنا أن نعلم كيفية ولادته ، فكثير من الأشياء مجهول الكيفية عندنا ، ونقول (٢) به.

وقوله ـ تعالى ـ : (بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) حكم منه ـ سبحانه ـ بسوء التفكير والمصير على المتخذين إبليس وذريته أولياء من دونه ـ تعالى ـ وبئس فعل يفيد الذم ، والبدل : العوض عن الشيء.

أى بئس للظالمين ، الواضعين للشيء في غير موضعه ، ما فعلوه من تركهم طاعة الله ـ تعالى ـ وأخذهم في مقابل ذلك طاعة إبليس وذريته.

والمخصوص بالذم محذوف دل عليه المقام والتقدير : بئس البدل والعوض عن طاعة الله ـ تعالى ـ طاعة إبليس وذريته.

ثم ساق ـ سبحانه ـ ما يدل على كمال علمه وقدرته ، وعلى عجز وجهالة المعبودين من دونه ، فقال ـ تعالى ـ : (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ).

__________________

(٢) تفسير الآلوسي ج ١٥ من ٢٩٥.

٥٣٥

والضمير في قوله «ما أشهدتهم» يعود إلى إبليس وذريته ، والإشهاد : بمعنى الإحضار والإعلام.

أى : ما أشهدت إبليس وذريته خلق السموات والأرض ، لأنى خلقتهما دون أن أستعين في خلقهما بأحد ، أو لأنى خلقتهما قبل خلقهم ، (وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ) أى : ولا أشهدت بعضهم خلق بعض ، لأنى لا أستعين بأحد حين أخلق ما أشاء ، ولا أستشير أحدا حين أقدر ما أشاء.

وما دام الأمر كذلك فكيف تتخذونهم أولياء وشركاء من دوني وأنا الخالق لكل شيء ، والقاهر فوق كل شيء؟.

فالجملة الكريمة استئناف مسوق لبيان كمال علمه وقدرته ـ سبحانه ـ ، ولبيان عدم استحقاق إبليس وذريته للاتخاذ المذكور في أنفسهم ، بعد بيان المواقع والصوارف التي تمنع وتصرف عن اتخاذهم أولياء ، من خباثة أصلهم ، وفسوقهم عن أمر ربهم.

وهذا المعنى الذي صرحت به الآية الكريمة من تفرد الله ـ تعالى ـ بالخلق والقدرة. قد جاء في آيات أخرى منها قوله ـ تعالى ـ (هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ، بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (١).

وقوله ـ سبحانه ـ (وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً) مؤكد لما قبله من تفرده ـ سبحانه ـ بالخلق والقدرة والعلم.

والعضد ـ بفتح العين وضم الضاد ـ في الأصل ، يطلق على العضد المعروف ما بين المرفق إلى الكتف ، ويستعار للمعين والناصر فيقال : فلان عضدي ، أى : نصيرى.

ومنه قوله ـ تعالى ـ لنبيه موسى ـ عليه‌السلام ـ (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ) أى : سنقويك ونعينك بأخيك هارون وذلك لأن اليد قوامها العضد ، فإذا فقدته أصابها العجز.

أى : وما كنت متخذ المضلين عن سبيلي أعوانا وأنصارا في شأن من شئونى ، وخص ـ سبحانه ـ المضلين بالذكر ، زيادة في ذمهم وتوبيخهم ، وتقريعا لأمثالهم ، لأنه ـ عزوجل ـ ليس له أعوان ولا أنصار فيما يفعله لا من المضلين ولا من المهتدين.

ولم يقل ـ سبحانه ـ وما كنت متخذهم .. بالإضمار ، كما قال : (ما أَشْهَدْتُهُمْ) بل

__________________

(١) سورة لقمان الآية ١١.

٥٣٦

أظهر في مقام الإضمار ، لتسجيل الضلال عليهم ، حتى ينصرف عنهم كل عاقل ، وللتنبيه على أن الضالين المضلين لا تصح الاستعانة بهم.

ولقد حكى الله ـ تعالى ـ عن نبيه موسى ـ عليه‌السلام ـ براءته من المجرمين فقال : (قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) (١).

والظهير : الناصر والمعين لغيره.

ثم ساقت السورة الكريمة مشهدا من مشاهد القيامة ـ يكشف عن سوء المصير الذي ينتظر الشركاء وينتظر المجرمين. فقال ـ تعالى ـ : (وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ ...).

أى : واذكر ـ أيها العاقل ـ يوم يقول الله ـ تعالى ـ للمجرمين والكافرين على سبيل التوبيخ والتقريع : أيها الكافرون ، نادوا شركائى الذين زعمتم أنهم ينفعونكم ويشفعون لكم في هذا الموقف العصيب «فدعوهم» أى : فأطاعوا أمر خالقهم ، ودعوا شركاءهم لكي يستغيثوا بهم «فلم يستجيبوا لهم» أى : فلم يجدوا منهم أدنى استجابة فضلا عن النفع أو العون.

وقوله : (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً) أى : وجعلنا بين الداعين والمدعوين مهلكا يشتركون فيه جميعا وهو جهنم.

فالموبق : اسم مكان من وبق وبوقا ـ كوثب وثوبا ـ أو وبق وبقا كفرح فرحا ـ إذا هلك. ويقال فلان أوبقته ذنوبه : أى أهلكته. ومنه قوله ـ تعالى ـ : (أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا) أى يهلكهن. ومنه الحديث الشريف : «كل يغدو فموبق نفسه» ـ أى مهلكها ـ ومنه أيضا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اجتنبوا السبع الموبقات» أى : المهلكات.

وقيل : الموبق اسم واد في جهنم فرق الله به بينهم ، أى بين الداعين والمدعوين.

وقيل : كل حاجز بين شيئين فهو موبق.

قال ابن جرير ـ رحمه‌الله ـ بعد أن ذكر جملة من الأقوال في ذلك : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، القول الذي ذكرناه من أن الموبق بمعنى المهلك وذلك أن العرب تقول في كلامها : قد أوبقت فلانا إذا أهلكته ..» (٢).

__________________

(١) سورة القصص الآية ١٧.

(٢) تفسير ابن جرير ج ١٥ ص ١٧٢.

٥٣٧

ثم بين ـ سبحانه ـ حالة المجرمين عند ما يبصرون النار فقال : (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً).

ورأى هنا بصرية. والظن بمعنى اليقين والعلم ، لأنهم أبصروا الحقائق ، وشاهدوا واقعهم الأليم مشاهدة لا لبس فيها ولا خفاء.

أى : وشاهد المجرمون بأعينهم النار ، فأيقنوا أنهم مخالطوها وواقعون فيها. بسبب سوء أعمالهم ، وانكشاف الحقائق أمامهم ، ولم يجدوا عنها مصرفا أى مكانا ينصرفون إليه ، ويعتصمون به ليتخذوه ملجأ لهم منها.

فالمصرف : اسم مكان للجهة التي ينصرف إليها الإنسان للنجاة من ضر أحاط به.

وعبر ـ سبحانه ـ عن رؤيتهم للنار بالفعل الماضي ، لتحقق الوقوع.

وقال ـ سبحانه ـ (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ) فوضع المظهر موضع المضمر ، لتسجيل الإجرام عليهم ، ولزيادة الذم لهم.

وقد ذكر ـ سبحانه ـ هنا أن المجرمين يرون النار ، وذكر في آية أخرى أنها تراهم ـ أيضا ـ قال ـ تعالى ـ : (إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً) (١).

وبذلك نرى الآيات الكريمة قد حكت لنا فسوق إبليس عن أمر ربه ، وحذرتنا من اتخاذه وليا ، ومن الانقياد لوسوسته وإغراءاته ، كما حكت لنا جانبا من أحوال المشركين وشركائهم ، وكيف أن الشركاء قد تخلوا عن عابديهم في هذا اليوم العصيب ، بعد أن أحاطت النار بالجميع ، وأيقن المجرمون أنه لا فكاك لهم منها ، ولا نجاة لهم من لهيبها.

نسأل الله ـ تعالى ـ بفضله وكرمه أن ينجينا من هذا الموقف الرهيب.

ثم مدحت السورة الكريمة القرآن ، فوصفته بأن الله ـ تعالى ـ قد أكثر فيه من ضرب الأمثال ، ونوعها لتشمل جميع الأحوال ، وبينت سنة الله ـ تعالى ـ في الأمم السابقة ، كما بينت وظيفة الرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وسوء عاقبة المكذبين لهم ، ومظاهر رحمة الله ـ تعالى ـ بالناس.

استمع إلى السورة الكريمة وهي تحكى كل هذه المعاني بأسلوبها البليغ المؤثر فتقول :

__________________

(١) سورة الفرقان الآية ١٢.

٥٣٨

(وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (٥٤) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (٥٥) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (٥٦) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (٥٧) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (٥٨) وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً) (٥٩)

وقوله ـ سبحانه ـ (صَرَّفْنا) من التصريف بمعنى التنويع والتكرير.

والمثل : هو القول الغريب السائر في الآفاق الذي يشبه مضربه مورده.

وقد أكثر القرآن من ضرب الأمثال لإيضاح المعنى الخفى وتقريب الأمر المعقول من الأمر المحسوس ، وعرض الأمر الغائب في صورة الحاضر.

والمعنى : ولقد كررنا ورددنا ونوعنا في هذا القرآن من أجل هداية الناس ، ورعاية مصلحتهم ومنفعتهم ، من كل مثل من الأمثال التي تهدى النفوس ، وتشفى القلوب ، لعلهم

٥٣٩

بذلك يسلكون طريق الحق ، ويتركون طريق الباطل.

فالمقصود بهذه الجملة الكريمة ، الشهادة من الله ـ تعالى ـ بأن هذا القرآن الذي أنزله ـ سبحانه ـ على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه من الأمثال الكثيرة المتنوعة النافعة ، ما يرشد الناس إلى طريق الحق والخير ، متى فتحوا قلوبهم له. وأعملوا عقولهم لتدبره وفهمه.

ومفعول «صرفنا» محذوف ، و «من» لابتداء الغاية ، أى : ولقد صرفنا البينات والعبر والحكم في هذا القرآن ، من أنواع ضرب المثل لمنفعة الناس ليهتدوا ويذكروا.

ثم بين ـ سبحانه ـ موقف الإنسان من هذه الأمثال فقال : (وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً).

والمراد بالإنسان : الجنس ، ويدخل فيه الكافر والفاسق دخولا أوليا.

والجدل : الخصومة والمنازعة مع الغير في مسألة من المسائل.

أى : وكان الإنسان أكثر شيء مجادلة ومنازعة لغيره ، أى : أن جدله أكثر من جدل كل مجادل.

قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية : ولقد بينا للناس في هذا القرآن ، ووضحنا لهم الأمور ، وفصلناها ، كيلا يضلوا عن الحق .. ومع هذا البيان ، فالإنسان كثير المجادلة والمعارضة للحق بالباطل ، إلا من هدى الله وبصره لطريق النجاة.

قال الإمام أحمد : حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب. عن الزهري قال : أخبرنى على بن الحسين ، أن الحسين بن على أخبره ، أن على بن أبى طالب أخبره. أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم طرق عليا وفاطمة ليلة فقال : «ألا تصليان؟ فقلت : يا رسول الله ، إنما أنفسنا بيد الله .. فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا. فانصرف حين قلت ذلك ولم يرفع إلى بشيء ثم سمعته وهو مول يضرب فخذه ويقول : وكان الإنسان أكثر شيء جدلا» (١).

وفي التعبير عن الإنسان في هذه الجملة بأنه «شيء» وأنه «أكثر شيء جدلا» إشعار لهذا الإنسان بأن من الواجب عليه أن يقلل من غروره وكبريائه. وأن يشعر بأنه خلق من مخلوقات الله الكثيرة ، وأن ينتفع بأمثال القرآن ومواعظه وهداياته .. لا أن يجادل فيها بالباطل.

ومنهم من يرى أن المراد بالإنسان هنا : الكافر ، أو شخص معين ، قيل : هو النضر بن الحارث ، وقيل : أبى بن خلف.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ١٦٧.

٥٤٠