التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٨

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٨

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0668-X
الصفحات: ٥٩٧

ثم بين ـ سبحانه ـ على وجه اليقين ، المدة التي قضاها أصحاب الكهف راقدين في كهفهم ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (٢٥) قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً) (٢٦)

أى : أن أصحاب الكهف مكثوا في كهفهم راقدين ثلاثمائة سنين ، وازدادوا فوق ذلك تسع سنين.

فالآية الكريمة إخبار منه ـ سبحانه ـ عن المدة التي لبثها هؤلاء الفتية مضروبا على آذانهم.

وقوله : (قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا) تقرير وتأكيد لكون المدة التي لبثوها هي ما سبق بيانه في الآية السابقة.

فكأنه ـ سبحانه ـ يقول : هذا هو فصل الخطاب في المدة التي لبثوها راقدين في كهفهم ، وقد أعلمك الله ـ تعالى ـ بذلك ـ أيها الرسول الكريم ـ ، وما أعلمك به فهو الحق الصحيح الذي لا يحوم حوله شك ، فلا تلتفت إلى غيره من أقوال الخائضين في أمر هؤلاء الفتية ، فإن الله ـ تعالى ـ هو الأعلم بحقيقة ذلك.

ويرى بعضهم أن قوله ـ تعالى ـ : (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ) حكاية لكلام أهل الكتاب في المدة التي لبثها أهل الكهف نياما في كهفهم ، وأن قوله (قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا) للرد عليهم.

وقد حكى الإمام ابن كثير القولين. ورجح الأول منهما فقال : هذا خبر من الله ـ تعالى ـ لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمقدار ما لبث أصحاب الكهف في كهفهم ، منذ أن أرقدهم الله إلى أن بعثهم

٥٠١

وأعثر عليهم أهل ذلك الزمان. كان مقداره ثلاثمائة سنين وتسع سنين بالهلالية وهي ثلاثمائة سنة بالشمسية ، فإن تفاوت ما بين كل مائة سنة بالقمرية إلى الشمسية ثلاث سنين ، فلهذا قال بعد الثلاثمائة (وَازْدَادُوا تِسْعاً).

وقال قتادة في قوله : (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ..) وهذا قول أهل الكتاب وقد رده الله ـ تعالى ـ بقوله : (قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا).

وفي هذا الذي قاله قتادة نظر ، فإن الذي بأيدى أهل الكتاب أنهم لبثوا ثلاثمائة سنة من غير تسع ولو كان الله ـ تعالى ـ قد حكى قولهم لما قال : (وَازْدَادُوا تِسْعاً) ، وظاهر الآية أنه خبر عن الله لا حكاية عنهم .. (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) تأكيد لاختصاصه ـ عزوجل ـ بعلم المدة التي لبثوها ، أى : له ـ سبحانه ـ وحده علم ما خفى وغاب من أحوال السموات والأرض ، وأحوال أهلهما ، كما قال ـ تعالى ـ : (إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ).

وقوله ـ سبحانه ـ : (أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ) صيغتا تعجب : أى : ما أبصره وما أسمعه ـ تعالى ـ والمراد أنه ـ سبحانه ـ لا يغيب عن بصره وسمعه شيء.

وجاءت هذه الجملة الكريمة بصيغة التعجب للدلالة على أن أمره ـ تعالى ـ في الإدراك خارج عما عليه إدراك المبصرين والسامعين. إذ لا يحجبه شيء ، ولا يتفاوت عنده لطيف وكثيف ، وصغير وكبير ، وجلى وخفى.

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بقوله : (ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً).

أى : ليس لأهل السموات ولا لأهل الأرض ولا لغيرهما غير الله ـ تعالى ـ نصير ينصرهم ، أو ولى يلي أمرهم. ولا يشرك ـ سبحانه ـ في حكمه أو قضائه أحدا كائنا من كان من خلقه. كما قال ـ تعالى ـ (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ).

هذا ، وقد ذكر المفسرون عند تفسيرهم لهذه الآيات مسائل منها.

(أ) مكان الكهف الذي لجأ إليه هؤلاء الفتية ، والزمن الذي ظهروا فيه ، أما مكان الكهف فللعلماء فيه أقوال : من أشهرها أنه كان بالقرب من مدينة تسمى «أفسوس» وهي

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ١٤٦.

٥٠٢

من مدن تركيا الآن ، قالوا إنها تبعد عن مدينة «أزمير» بحوالى أربعين ميلا ، وتعرف الآن باسم : «أيازبوك».

وقيل : إنه كان ببلدة تدعى «أبسس» ـ بفتح الهمزة وسكون الباء وضم السين ـ وهذه البلدة من ثغور «طرسوس» بين مدينة حلب بسوريا ، وبلاد أرمينية وأنطاكية.

وقيل : إنه كان ببلدة تسمى «بتراء» بين خليج العقبة وفلسطين .. إلى غير ذلك من الأقوال الكثيرة ، التي لا نرى داعيا لذكرها ، لقلة فائدتها.

وأما الزمن الذي ظهروا فيه ، فيرى كثير من المفسرين أنه كان في القرن الثالث الميلادى في عهد الإمبراطور الرومانى «دقيانوس» الذي كان يحمل الناس حملا على عبادة الأصنام ، ويعذب من يخالف ذلك.

(ب) العبر والعظات والأحكام التي تؤخذ من هذه القصة ـ ومن أهمها :

١ ـ إثبات صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يبلغه عن ربه ، حيث أخبر ـ عن طريق ما أوحاه الله إليه من قرآن ـ عن قصة هؤلاء الفتية ، وبين وجه الحق في شأنهم ورد على ما خاضه الخائضون في أمرهم ، وصدق الله إذ يقول : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ ...).

٢ ـ الكشف عن جانب من بلاغة القرآن الكريم في قصصه ، حيث ساق هذه القصة مجملة في الآيات الأربع الأولى منها ، ثم ساقها مفصلة بعد ذلك تفصيلا حكيما. وفي ذلك ما فيه من تمكن أحداثها وهداياتها في القلوب.

والمرشد العاقل هو الذي ينتفع بهذا الأسلوب القرآنى في وعظه وإرشاده.

٣ ـ بيان أن الإيمان متى استقر في القلوب ، هان كل شيء في سبيله. فهؤلاء الفتية آثروا الفرار بدينهم ، على البقاء في أوطانهم ، لكي تسلم لهم عقيدتهم .. فهم كما قال ـ سبحانه ـ في شأنهم : (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً).

٤ ـ بيان أن على المؤمن أن يلجأ إلى الله بالدعاء ـ لا سيما عند الشدائد والكروب ، وأنه متى اتقى الله ـ تعالى ـ وأطاعه ، جعل له ـ سبحانه ـ من كل ضيق فرجا ، ومن كل هم مخرجا ، ورزقه من حيث لا يحتسب ، وصانه من السوء.

فهؤلاء الفتية عند ما لجئوا إلى الكهف ، تضرعوا إلى الله بقولهم : (رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً).

فأجاب الله دعاءهم ، حيث ضرب على آذانهم في الكهف سنين عددا ، وجعل الشمس

٥٠٣

لا تصل إليهم مع أنهم في فجوة من الكهف ، وصان أجسادهم من البلى والتعفن بأن قلبهم ذات اليمين وذات الشمال ، وأنام كلبهم بعتبة باب الكهف حتى لكأنه حارس لهم : وألقى الهيبة عليهم بحيث لو رآهم الرائي لولى منهم فرارا. ولملئ قلبه رعبا من منظرهم.

وسخر أصحاب النفوذ والقوة للدفاع عنهم. وللتعبير عن تكريمهم لهم بقولهم : (لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً).

٥ ـ بيان أن التفكير السليم ـ المصحوب بالنية الطيبة والعزيمة الصادقة ، يؤدى إلى الاهتداء إلى الحق ، وأن القلوب النقية الطاهرة تتعاون على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان. وأن فضح الباطل والكشف عن زيفه .. دليل على سلامة اليقين.

فهؤلاء الفتية اجتمعوا على الحق ، وربط الله على قلوبهم إذ قاموا للوقوف في وجه الباطل ، وهداهم تفكيرهم السليم إلى أن المستحق للعبادة هو ربهم رب السموات والأرض ، وأن من يعبد غيره يكون قد افترى على الله كذبا.

وأن اعتزال الكفر يوصل إلى نشر الرحمة ، والظفر بالسداد والتوفيق. ولذا تواصوا فيما بينهم بقولهم : (فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ ، وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً).

٦ ـ بيان أن مباشرة الأسباب المشروعة لا تنافى التوكل على الله.

فهؤلاء الفتية عند ما خرجوا من ديارهم ، أخذوا معهم بعض النقود ، وبعد بعثهم من رقادهم أرسلوا أحدهم إلى المدينة ليحضر لهم طعاما طاهرا حلالا ، وأوصوه بالتلطف في أخذه وعطائه وبكتمان أمره وأمرهم حتى لا يعرف الأعداء مكانهم.

وهكذا العقلاء ، لا يمنعهم توكلهم على الله ـ تعالى ـ من أخذ الحيطة والحذر في كل شئونهم التي تستدعى ذلك.

٧ ـ إقامة أوضح الأدلة وأعظمها على أن البعث حق. فقد أطلع الله ـ تعالى ـ الناس على هؤلاء الفتية ، ليوقنوا بأنه ـ سبحانه ـ قادر على إحياء الموتى .. لأن من يقدر على بعث الراقدين من رقادهم بعد مئات السنين ، فهو قادر على إحياء الموتى يوم القيامة.

٨ ـ بيان أن من الواجب على المؤمن إذا أراد فعل شيء أن يقرن ذلك بمشيئة الله ـ تعالى ـ لأنه ـ سبحانه ـ بيده الأمر كله ، وصدق الله إذ يقول : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ).

هذه بعض العظات والأحكام التي ترشدنا إليها هذه القصة ، وقد ذكرنا جانبا آخر منها

٥٠٤

خلال تفسيرنا للآيات التي اشتملت عليها. ومن أراد المزيد فليرجع إلى ما كتبه المفسرون في ذلك (١).

ثم أمر الله ـ تعالى ـ نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمداومة التلاوة لما أوحاه إليه ـ سبحانه ـ ، فإن فيه فصل الخطاب وبالحفاوة بالمؤمنين الصادقين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى ، وبإعلان كلمة الحق فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر فقال ـ تعالى ـ :

(وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٧) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (٢٨) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (٢٩) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (٣٠) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ

__________________

(١) راجع تفسير الفخر الرازي ج ٢١ ص ٨١ ، وتفسير القرطبي ج ١٠ ص ٣٥٦ وتفسير الآلوسى ج ١٥ ص ٢٠٩ ، وتفسير أضواء البيان ج ٤ ص ١٨.

٥٠٥

مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً) (٣١)

قال الإمام الرازي ما ملخصه : قوله ـ تعالى ـ : (وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ ..) اعلم أن من هذه الآية إلى قصة موسى ـ عليه‌السلام ـ والخضر ، كلام واحد في قصة واحدة وذلك أن أكابر كفار قريش احتجوا وقالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن أردت أن نؤمن بك فاطرد هؤلاء الفقراء .. فنهاه الله عن طردهم لأنه مطلوب فاسد .. ثم إنه ـ سبحانه ـ أمره بالمواظبة على تلاوة كتابه ، وأن لا يلتفت إلى اقتراح المقترحين ، وتعنت المتعنتين (١).

قوله ـ سبحانه ـ : (وَاتْلُ) ... فعل أمر من التلاوة بمعنى القراءة.

أى : وعليك أيها الرسول الكريم ـ أن تواظب وتداوم على قراءة ما أوحيناه إليك من هذا القرآن الكريم ، وأن تتبع إرشاداته وتوجيهاته ، فإن في ذلك ما يهديك إلى الطريق الحق ، وما يغنيك عن السؤال والاستفتاء ، قال ـ تعالى ـ : (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ ، وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً ، يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ) (٢).

وصيغة الأمر في قوله ـ سبحانه ـ : (وَاتْلُ ..) لإبقاء الفعل لا لإيجاده ، كما في قوله ـ تعالى ـ : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ).

و «من» في قوله (مِنْ كِتابِ رَبِّكَ) بيانية.

وقوله : (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) أى : ليس في هذا الكون أحد في إمكانه أن يغير أو يبدل شيئا من الكلمات التي أوحاها الله ـ تعالى ـ إليك ـ أيها الرسول الكريم ـ ، لأننا قد تكفلنا بحفظ هذا الكتاب الذي أوحيناه إليك.

قال ـ تعالى ـ : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٣).

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٢١ ص ١١٤.

(٢) سورة فاطر الآية ٢٩.

(٣) سورة الأنعام الآية ١١٥.

٥٠٦

وقال ـ سبحانه ـ (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (١).

فالجملة الكريمة وهي قوله ـ سبحانه ـ (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) نفت قدرة أحد على تبديل كلمات الله ، لأن أخبارها صدق ، وأحكامها عدل ، وإنما الذي يقدر على التغيير والتبديل هو الله ـ تعالى ـ وحده.

والضمير في «كلماته» يعود على الله ـ تعالى ـ ، أو على الكتاب.

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بقوله : (وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً).

وأصل الملتحد : مكان الالتحاد وهو افتعال من اللحد بمعنى الميل. ومنه اللحد في القبر ، لأنه ميل في الحفر. ومنه قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا ..) أى : يميلون في آياتنا.

فالمراد بالملتحد : المكان الذي يميل فيه إلى ملجأ للنجاة.

والمعنى : وداوم أيها الرسول الكريم على تلاوة ما أوحيناه إليك من كتابنا الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، واعلم أنك إن خالفت ذلك لن تجد غير الله ـ تعالى ـ ملجأ تلجأ إليه ، أو مأوى تأوى إليه ، لكي تنجو مما يريده بك.

فالجملة الكريمة تذييل قصد به التحذير الشديد ـ في شخص الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكل من يقصر في تلاوة كتاب الله ، أو يحاول التبديل في ألفاظه ومعانيه.

ثم ساقت السورة الكريمة لونا من الأدب السامي ، والتوجيه العالي ، حيث بينت أن أولى الناس بالرعاية والمجالسة هم المؤمنون الصادقون ، وأمرت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يصبر نفسه معهم ، فقال ـ تعالى ـ : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ، وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا ..).

وقد ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآية روايات منها : أنها نزلت في أشراف قريش ، حين طلبوا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يجلس معهم وحده ، ولا يجالسهم مع ضعفاء أصحابه كبلال وعمار وابن مسعود. وليفرد أولئك بمجلس على حدة ، فنهاه الله ـ تعالى ـ عن ذلك .. وأمره أن يصبر نفسه في الجلوس مع هؤلاء الفقراء فقال : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ). (٢).

__________________

(١) سورة الحجر الآية ٩.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ١٤٨.

٥٠٧

وصبر النفس معناه : حبسها وتثبيتها على الشيء ، يقال : صبرت فلانا أصبره صبرا ، أى : حبسته.

والغداة : أول النهار. والعشى. آخره.

والمعنى : عليك ـ أيها الرسول الكريم ـ أن تحبس نفسك وتعودها على مجالسة أصحابك (الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) أى : يعبدونه ويتقربون إليه بشتى أنواع القربات ، في الصباح والمساء ، ويداومون على ذلك ، دون أن يريدوا شيئا من وراء هذه العبادة ، سوى رضا الله ـ تعالى ـ عنهم ورحمته بهم.

وفي تخصيص الغداة والعشى بالذكر : إشعار بفضل العبادة فيهما : لأنهما محل الغفلة والاشتغال بالأمور الدنيوية غالبا.

ويصح أن يكون ذكر هذين الوقتين المقصود به مداومة العبادة. وإلى هذا المعنى أشار الآلوسى بقوله : قوله : (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) أى : يعبدونه دائما. وشاع استعمال مثل هذه العبارة للدوام. وهي نظير قولهم : ضرب زيد الظهر والبطن. يريدون به ضرب جميع البدن. وأبقى غير واحد اللفظين على ظاهرهما أى : يعبدونه في طرفي النهار (١).

وقوله : (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) مدح لهم بالإخلاص والبعد عن الرياء والمباهاة .. فهم لا يتقربون إلى الله ـ تعالى ـ بالطاعات من أجل دنيا يصيبونها. أو من أجل إرضاء الناس.

وإنما هم يبتغون بعبادتهم رضا الله ـ تعالى ـ وحده ، لا شيئا آخر من حظوظ الدنيا.

وقوله ـ سبحانه ـ (وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا ..) نهى له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عن الغفلة عنهم ، بعد أمره بحبس نفسه عليهم.

والفعل (تَعْدُ) بمعنى تصرف. يقال عداه عن الأمر عدوا إذا صرفه عنه وشغله.

أى : احبس نفسك مع هؤلاء المؤمنين الصادقين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه ـ سبحانه ـ ولا تصرف عيناك النظر عنهم ، وتتجاوزهم إلى غيرهم من الأغنياء ، طمعا في إسلامهم.

فالمراد بإرادة الحياة الدنيا الحرص على مجالسة أهل الغنى والجاه حبا في إيمانهم.

وجملة (تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) في موضع الحال من الضمير المضاف إليه في قوله

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ٢٦٢.

٥٠٨

(عَيْناكَ) ، وإنما ساغ ذلك لأن المضاف هنا جزء من المضاف إليه.

وقوله ـ تعالى ـ (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) نهى آخر مؤكد لما قبله من حبس نفسه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على هؤلاء المؤمنين الفقراء ، وعدم صرف نظره عنهم إلى غيرهم من المتغطرسين الأغنياء.

والفرط ـ بضم الفاء والراء ـ : مجاوزة الحد ، ونبذ الحق والصواب ، واتباع الباطل والضلال. أى : ولا تطع ـ أيها الرسول الكريم ـ في تنحية المؤمنين الفقراء عن مجلسك أقوال أولئك الغافلين عن طاعتنا وعبادتنا لاستحواذ الشيطان عليها ، والذين اتبعوا أهواءهم فآثروا الغي على الرشد. والذين كان أمرهم. فرطا أى : مخالفا للحق ، ومجاوزا للصواب ، ومؤديا للضياع والخسران.

قال ابن جرير ـ بعد أن ذكر جملة من الأقوال في معنى قوله ـ تعالى ـ : (فُرُطاً) : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال معناه : ضياعا وهلاكا. من قولهم : أفرط فلان في هذا الأمر إفراطا ، إذا أسرف فيه. وتجاوز قدره. وكذلك قوله : (وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً). معناه : وكان أمر هذا الذي أغفلنا قلبه عن ذكرنا في الرياء والكبر واحتقار أهل الإيمان سرفا قد تجاوز حده ، فضيع بذلك الحق وهلك» (١).

فالآية الكريمة تسوق للناس توجيها حكيما في بيان القيم الحقيقية للناس ؛ وهي أنها تتمثل في الإيمان والتقوى ، لا في الغنى والجاه.

فالمؤمن الصادق في إيمانه ، الكريم في أخلاقه .. هو الذي يحرص على مخالطة أهل الإيمان والتقوى. ولا يمنعه فقرهم من مجالستهم ومصاحبتهم ومؤانستهم والتواضع لهم ، والتقدم إليهم بما يسرهم ويشرح صدورهم.

ولقد ربي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه على هذا الخلق الكريم ، روى الشيخان عن سهل بن سعد الساعدي قال : مر رجل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لرجل عنده جالس : «ما رأيك في هذا؟ فقال : رجل من أشرف الناس ، هذا والله حرىّ إن خطب أن يزوج ، وإن شفع أن يشفع. فسكت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم مرّ رجل آخر : فقال له صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما رأيك في

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ١٥ ص ١٥٦.

٥٠٩

هذا»؟ فقال : يا رسول الله ، هذا رجل من فقراء المسلمين هذا والله حرى إن خطب أن لا يزوج ، وإن شفع ألا يشفع ، وإن قال أن لا يسمع لقوله. فقال : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هذا خير من ملء الأرض من مثل هذا» (١).

ثم أمر الله ـ تعالى ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يجهر بكلمة الحق في وجوه المستكبرين ، فقال. (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ ..).

أى : وقل : أيها الرسول ـ لهؤلاء الذين أغفلنا قلوبهم عن ذكرنا ، واتبعوا أهواءهم ، وكان أمرهم فرطا ، قل لهم : هذا الذي جئتكم به من قرآن هو الحق من ربكم وخالقكم .. فقوله : (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ) خبر لمبتدأ محذوف.

أو أن لفظ (الْحَقُ) مبتدأ ، والجار والمجرور خبره. أى : الحق الذي جئتكم به في هذا القرآن العظيم ، كائن مبدؤه من ربكم ، وليس من أحد سواه.

وليس المراد من قوله (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) التخيير بين الإيمان والكفر ، بل المراد به التهديد والتخويف ، بدليل قوله ـ تعالى ـ بعد ذلك (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً) .. إلخ.

أى : قل لهم جئتكم من ربكم بالحق الذي يجب اتباعه ، فمن شاء أن يؤمن به فليفعل فإن عاقبته الخير والثواب ، ومن شاء أن يكفر به فليكفر فإن عاقبته الخسران والعقاب ، كما بين ـ سبحانه ـ ذلك في قوله : (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها).

والسرادق : كل ما أحاط بغيره ، كالحائط أو السور الذي يحيط بالبناء ، فيمنع من الوصول إلى ما بداخله.

أى : إنا هيأنا وأعددنا للكافرين بهذا الحق نارا مهولة عظيمة ، أحاط بهم سياجها إحاطة تامة ؛ بحيث لا يستطيعون الخروج منه ، وإنما هم محصورون بداخله. كما ينحصر الشيء بداخل ما يحدق به من كل جانب.

وقوله : (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ، بِئْسَ الشَّرابُ ، وَساءَتْ مُرْتَفَقاً) بيان لما ينزل بهم من عذاب عند ما يطلبون الغوث مما هم فيه من كروب.

والمهل في اللغة : يطلق على ما أذيب من جواهر الأرض. كالحديد ، والرصاص ،

__________________

(١) رياض الصالحين للإمام النووي ص ١٣١ باب فضل ضعفة المسلمين.

٥١٠

والنحاس ، ونحو ذلك كما يطلق ـ أيضا ـ على الماء الغليظ كدردي الزيت أى : ما تعكر منه. وقيل. هو نوع من القطران أو السم.

والمرتفق : المتكأ ، من الارتفاق وهو الاتكاء على مرفق اليد.

أى : إن هؤلاء الكافرين ، إن يطلبوا الغوث عما هم فيه من كرب وعطش ، يغاثوا بماء كالمهل في شدة حرارته ونتنه وسواده ، هذا الماء (يَشْوِي الْوُجُوهَ) أى : يحرقها.

(بِئْسَ الشَّرابُ) ذلك الماء الذي يغاثون به «وساءت» النار منزلا ينزلون به ، ومتكأ يتكئون عليه.

فالآية الكريمة تصور ما ينزل بهؤلاء الظالمين من عذاب ، تصويرا ترتجف من هوله الأبدان ، ويدخل الرعب والفزع على النفوس.

قال بعضهم : فإن قيل ، أى إغاثة لهم في ماء كالمهل مع أنه من أشد العذاب ، وكيف قال ـ سبحانه ـ ، (يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ)؟

فالجواب : إن هذا من أساليب اللغة العربية التي نزل بها القرآن ونظيره من كلام العرب قول عمرو بن معد يكرب.

وخيل قد دلفت لها بخيل

تحية بينهم ضرب وجيع

أى : لا تحية لهم إلا الضرب الوجيع ، وإذا كان هؤلاء الظالمون لا يغاثون إلا بماء كالمهل ، علم من ذلك أنهم لا إغاثة لهم مطلقا» (١).

والمخصوص بالذم في قوله : (بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً) محذوف ، بئس الشراب ذلك الماء الذي يغاثون به ، وساءت النار مكانا للارتفاق والاتكاء.

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك حسن عاقبة المؤمنين فقال : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً).

ثم بين ـ سبحانه ـ ما أعده لهؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات من ألوان النعيم فقال : (أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ).

ولفظ «عدن» بمعنى إقامة لا رحيل بعدها ولا تحول. وأصله من عدن فلان بالمكان. إذ أقام به واستقر فيه.

__________________

(١) تفسير أضواء البيان ج ٤ ص ٩٦.

٥١١

أى : أولئك الذين عمروا دنياهم بالإيمان والعمل الصالح لهم جنات يقيمون فيها إقامة دائمة ، تجرى من تحت مساكنهم الأنهار.

(يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ) والأساور : جمع سوار. وهو نوع من الحلي يلبس بزند اليد.

أى : يلبسون في تلك الجنات أساور من ذهب على سبيل التزين والتكريم.

ولا مانع من أن يضاف إلى هذه الأساور الذهبية ، أساور أخرى من فضة ، وثالثة من لؤلؤ كما في قوله ـ تعالى ـ : (وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ) (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً ..) (٢).

وفي الصحيحين عن أبى هريرة أن رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء».

وقوله (وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ) معطوف على ما قبله.

والسندس : ما رق من الحرير واحده سندسة.

والإستبرق : ما غلظ منه وثخن ، واحده إستبرقة.

أى : يتزينون في الجنات بأساور من ذهب ، ويلبسون فيها ثيابا خضرا من رقيق الحرير ومن غليظه.

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية بقوله : (مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً).

والأرائك : جمع أريكة. وهو كل ما يتكأ عليه من سرير أو فراش.

أى : متكئين في الجنات على الأرائك شأن المتنعمين المترفهين «نعم الثواب» ذلك الذي وعدهم الله ـ تعالى ـ به وهو الجنة «وحسنت» تلك الأرائك في الجنات «مرتفقا».

أى : متكأ ومقرا ومجلسا ومسكنا.

وبذلك نرى الآية الكريمة قد اشتملت على ألوان متعددة من التكريم والثواب لأولئك المؤمنين الذين عمروا دنياهم بالعمل الصالح.

__________________

(١) سورة الدهر الآية ٢١.

(٢) سورة الحج الآية ٢٣.

٥١٢

فقد بشرهم ـ سبحانه ـ بجنات عدن ، ثم بشرهم ثانيا بأن الأنهار تجرى من تحتهم ، ثم بشرهم ثالثا بأنهم يحلون فيها من أساور من ذهب ، ثم بشرهم رابعا بأنهم يلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق ، ثم بشرهم خامسا ، بأنهم يتكئون في تلك الجنات على الأرائك.

وفي هذه البشارات ما فيها من الحض على المسارعة إلى العمل الصالح ، الذي يرفع درجات المؤمن إلى أعلى عليين ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم ، نسأل الله ـ تعالى ـ أن يرزقنا هذا الفضل ، فهو أكرم مسئول ، وأعظم مأمول.

ثم ساقت السورة الكريمة مثلا للنفس الإنسانية المغرورة المتفاخرة بزينة الحياة الدنيا ، الجاحدة لنعم الله ... وللنفس الإنسانية المتواضعة ، المعتزة بعقيدتها السليمة ، الشاكرة لربها ... لكي يكون في هذا المثل عبرة وعظة لمن كان له قلب ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (٣٢) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (٣٣) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (٣٤) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (٣٥) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً) (٣٦)

والمثل في اللغة : الشبيه والنظير ، وهو في عرف القرآن الكريم : الكلام البليغ المشتمل على تشبيه بديع.

وضرب المثل : إيراده ، وعبر عن إيراده بالضرب ، لشدة ما يحدث عنه من التأثير في نفس السامع.

٥١٣

أى : واضرب ـ أيها الرسول الكريم ـ مثلا للمؤمنين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه ، وللكافرين الذين غرتهم الحياة الدنيا ، ليهلك من هلك عن بينة ، ويحيا من حي عن بينة.

قال الآلوسى : والمراد بالرجلين : إما رجلان مقدران على ما قيل ، وضرب المثل لا يقتضى وجودهما. وإما رجلان موجودان وهو المعول عليه. فقيل هما رجلان من بنى إسرائيل أحدهما : كافر .. والآخر : مؤمن.

ثم قال : والمراد ضربهما مثلا للفريقين المؤمنين والكافرين ، لا من حيث أحوالهما المستفادة مما ذكر آنفا ، بل من أن للمؤمنين في الآخرة كذا ، وللكافرين فيها كذا ، من حيث عصيان الكفرة مع تقلبهم في نعم الله ، وطاعة المؤمنين مع مكابدتهم مشاق الفقر» (١).

أى : واضرب لهم مثلا من حيثية العصيان مع النعمة ، والطاعة مع الفقر ، حال رجلين : (جَعَلْنا لِأَحَدِهِما) وهو الكافر (جَنَّتَيْنِ) أى : بستانين ، ولم يعين ـ سبحانه ـ مكانهما ، لأنه لم يتعلق بهذا التعيين غرض.

ثم بين ما اشتملت عليه هاتان الجنتان من خيرات فقال : (مِنْ أَعْنابٍ) جمع عنب ، والعنبة الحبة منه. والمراد : من كروم متنوعة.

وقوله : (وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً) بيان لما أضيف إلى الجنتين من مناظر تزيدهما بهجة وفائدة.

والحف بالشيء : الإحاطة به. يقال : فلان حفه القوم ، أى : أحاطوا به ، ومنه قوله ـ تعالى ـ : (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ ...).

أى : جعلنا لأحد الرجلين ، وهو الكافر منهما جنتين من أعناب ، وأحطناهما بنخل ليكون كالحماية النافعة لهما ، وجعلنا في وسطهما زرعا وبذلك تكون الجنتان جامعتين للأقوات والفواكه ، مشتملتين على ما من شأنه أن يشرح الصدر ، ويفيد الناس.

ثم ذكر ـ سبحانه ـ ما يزيد من جودة الجنتين ، ومن غزارة خيرهما فقال : (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً ، وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً) وكلتا : اسم مفرد اللفظ مثنى المعنى عند البصريين ، وهو المذهب المشهور ، ومثنى لفظا ومعنى عند غيرهم.

أى : أن كل واحدة من الجنتين (آتَتْ أُكُلَها) أى : أعطت ثمارهما التي يأكلها الناس

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ٢٧٣.

٥١٤

من العنب والتمر وغيرهما من صنوف الزرع (وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً) أى ولم تنقص من هذا المأكول شيئا في سائر السنين ، بل كان أكل كل واحدة منهما وافيا كثيرا في كل سنة ، على خلاف ما جرت به عادة البساتين ، فإنها في الغالب تكثر ثمارها في أحد الأعوام وتقل في عام آخر.

وفي التعبير بكلمة (تَظْلِمْ) بمعنى تنقص وتمنع ، مقابلة بديعة لحال صاحبهما الذي ظلم نفسه بجحوده لنعم الله ـ تعالى ـ واستكباره في الأرض.

وقوله (وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً) أى : وشققنا في وسطهما نهرا ليمدهما بما يحتاجان إليه من ماء بدون عناء وتعب.

فأنت ترى أن الله ـ تعالى ـ قد وصف هاتين الجنتين بما يدل على جمال منظرهما ، وغزارة عطائهما ، وكثرة خيراتهما ، واشتمالهما على ما يزيدهما بهجة ومنفعة.

ثم بين ـ سبحانه ـ أن صاحب هاتين الجنتين كانت له أموال أخرى غيرهما فقال : (وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ).

قال الآلوسى ما ملخصه : (وَكانَ لَهُ) أى : للأحد المذكور وهو صاحب الجنتين «ثمر» أى أنواع أخرى من المال .. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي .. «ثمر» بضم الثاء والميم ، وهو جمع ثمار ـ بكسر الثاء ـ .. أى : أموال كثيرة من الذهب والفضة والحيوان وغير ذلك ، وبذلك فسره ابن عباس وقتادة وغيرهما ..» (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً) حكاية لما تفوه به هذا الكافر من ألفاظ تدل على غروره وبطره.

والمحاورة : المراجعة للكلام من جانبين أو أكثر. يقال : تحاور القوم ، إذا تراجعوا الكلام فيما بينهم. ويقال : كلمته فما أحار إلى جوابا ، أى : مارد جوابا.

والنفر : من ينفر ـ بضم الفاء ـ مع الرجل من قومه وعشيرته لقتال عدوه.

أى : فقال صاحب الجنتين لصاحبه المؤمن الشاكر : أنا أكثر منك مالا وأعز منك عشيرة وحشما وأعوانا.

وهذا شأن المطموسين المغرورين ، تزيدهم شهوات الدنيا وزينتها .. بطرا وفسادا في الأرض.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ٢٧٤.

٥١٥

وما أصدق قول قتادة ـ رضى الله عنه ـ : «تلك ـ والله ـ أمنية الفاجر : كثرة المال وعزة النفر» ، ثم انتقل صاحب الجنتين من غروره هذا إلى غرور أشد. حكاه القرآن في قوله : (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ : ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً. وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً ، وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً).

أى : أن هذا الكافر لم يكتف بتطاوله على صاحبه المؤمن ، بل سار به نحو جنته حتى دخلها وهو ظالم لنفسه بسبب كفره وجحوده وغروره.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : فلم أفرد الجنة بعد التثنية؟ قلت : معناه ودخل ما هو جنته ، ماله جنة غيرها : يعنى أنه لا نصيب له في الجنة التي وعدها الله للمؤمنين ، فما ملكه في الدنيا هو جنته لا غير ، ولم يقصد الجنتين ولا واحدة منهما.

وقوله (وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) أى : وهو معجب بما أوتى مفتخر به ، كافر لنعمة ربه ، معرض بذلك نفسه لسخط الله ، وهو أفحش الظلم .. (١).

وقوله : (قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً) أى : قال هذا الكافر لصاحبه : ما أظن أن هذه الجنة تفنى أو تهلك أبدا.

يقال : باد الشيء يبيد بيدا وبيودا : إذا هلك وفنى.

ثم ختم هذا الكافر محاورته لصاحبه بقوله : (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) أى : كائنة ومتحققة. فهو قد أنكر البعث وما يترتب عليه من حساب بعد إنكاره لفناء جنته ، ثم أكد كلامه بجملة قسمية فقال : (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي) أى : والله لئن رددت إلى ربي على سبيل الفرض والتقدير كما أخبرتنى يا صاحبي بأن هناك بعثا وحسابا (لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها) أى : من هذه الجنة (مُنْقَلَباً) أى : مرجعا وعاقبة. اسم مكان من الانقلاب بمعنى الرجوع والانصراف عن الشيء إلى غيره.

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ).

والمتدبر لحال صاحب الجنتين يراه ، ـ أولا ـ قد زعم أن مدار التفاضل هو الثروة والعشيرة ، ويراه ـ ثانيا ـ قد بنى حياته على الغرور والبطر ، واعتقاد الخلود لزينة الحياة

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٤٨٤.

٥١٦

الدنيا ، ويراه ـ ثالثا ـ قد أنكر البعث والحساب ، والثواب والعقاب.

ويراه ـ رابعا ـ قد توهم أن غناه في الدنيا سيكون معه مثله في الآخرة :

قال صاحب الكشاف : وأخبر عن نفسه بالشك في بيدودة جنته ، لطول أمله ، واستيلاء الحرص عليه ، وتمادى غفلته ، واغتراره بالمهلة ، واطراحه النظر في عواقب أمثاله ، وترى أكثر الأغنياء من المسلمين ، وإن لم يطلقوا بمثل هذا ألسنتهم ، فإن ألسنة أحوالهم ناطقة به ، منادية عليه.

وأقسم على أنه إن رد إلى ربه ـ على سبيل الفرض والتقدير ـ ليجدن في الآخرة خيرا من جنته في الدنيا ، تطمعا وتمنيا على الله ..» (١).

ثم حكى ـ سبحانه ـ بعد ذلك ما قاله الرجل المؤمن لصاحب الجنتين ، الذي نطق بأفحش ، وأفجر الفجور ، فقال ـ تعالى ـ :

(قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (٣٧) لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (٣٨) وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (٣٩) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (٤٠) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً) (٤١)

أى : قال الرجل الفقير المؤمن ، في رده على صاحبه الجاحد المغرور ، منكرا عليه كفره قال له على سبيل المحاورة والمجاوبة : يا هذا (أَكَفَرْتَ) بالله الذي «خلقك» بقدرته

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٤٨٤.

٥١٧

«من تراب». أى : خلق أباك الأول من تراب ، كما قال : سبحانه (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ ، خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (١).

(ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) أى : خلق أباك آدم من تراب ، ثم أوجدك أنت من نطفة عن طريق التناسل والمباشرة بين الذكر والأنثى.

(ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً) أى : ثم صيرك إنسانا كاملا ، ذا صورة جميلة ، وهيئة حسنة. كما قال ـ سبحانه ـ : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ).

والاستفهام في قوله : (أَكَفَرْتَ ..) للإنكار والاستبعاد ، لأن خلق الله ـ تعالى ـ له من تراب ثم نطفة ، ثم تسويته إياه رجلا ، يقتضى منه الإيمان بهذا الخالق العظيم ، وإخلاص العبادة له ، وشكره على نعمائه.

قالوا : ولا يستلزم قول صاحب الجنتين قبل ذلك : (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً). أنه كان مؤمنا ، لأنه قال ذلك على سبيل الفرض والتقدير ، لا على سبيل الاعتقاد واليقين ، بدليل تردده في إمكان قيام الساعة ، ولأن اعترافه بوجود الله ـ تعالى ـ لا يستلزم الإيمان الحق ، فالكفار كانوا يعترفون بأن الله ـ تعالى ـ هو الخالق للسموات والأرض ، ومع هذا يشركون معه في العبادة آلهة أخرى.

وجاء التعبير بحرف «ثم» في الآية ، للاشارة إلى أطوار خلق الإنسان التي فصلها ـ سبحانه ـ في آيات أخرى ، منها قوله ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً ، فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً ، فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً ، فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ، ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ ، فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (٢).

ثم يعلن الرجل الصالح موقفه بشجاعة ووضوح ، فيقول لصاحبه صاحب الجنتين : (لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي ، وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً).

أى : إن كنت أنت يا هذا قد كفرت بالله الذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا ، فإنى لست بكافر ، ولكني أنا مؤمن ، أعترف له بالعبادة والطاعة وأقول : هو الله ـ

__________________

(١) سورة آل عمران الآية ٥٨.

(٢) سورة المؤمنون الآيات من ١٣ ـ ١٤.

٥١٨

تعالى ـ وحده ربي ، ولا أشرك معه أحدا من خلقه لا في الربوبية ، ولا في الألوهية ، ولا في الذات ولا في الصفات.

وقوله ـ سبحانه ـ في هذه الآية (لكِنَّا ...) أصله : «لكن أنا» أى : لكن أنا أقول هو الله ربي. فحذفت همزة «أنا» وأدغمت نون «لكن» في نون أنا بعد حذف الهمزة.

وجمهور القراء يقرءون في الوصل «لكن» بدون ألف بعد النون المشددة وقرأ أبو عامر في الوصل «لكنا» بالألف ـ أما في حالة الوقف فقد اتفق الجميع على إثبات الألف.

قال صاحب الكشاف : قوله : (لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي) أصله : لكن أنا فحذفت الهمزة ، وألقيت حركتها على نون لكن ، فتلاقت النونان فكان الإدغام ، ونحوه قول القائل :

وترميننى بالطّرف أى أنت مذنب

وتقليننى ، لكنّ إياك لا أقلى

أى : لكن أنا لا أقليك.

و «هو» ضمير الشأن : أى : والشأن أن الله ربي : والجملة خبر أنا. والراجع منها إليه ياء الضمير.

فإن قلت : هو استدراك لأى شيء؟ قلت : لقوله «أكفرت ..» قال لأخيه أنت كافر بالله ، لكني مؤمن موحد ، كما تقول : زيد غائب لكن عمرا حاضر» (١).

ثم أرشده إلى ما كان يجب عليه أن يقوله عند دخوله جنته فقال : (وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ ...).

قال الإمام ابن كثير : هذا تحضيض وحث على ذلك. أى : هلا إذ أعجبتك جنتك حين دخلتها ونظرت إليها ، حمدت الله على ما أنعم به عليك وأعطاك من المال والولد ما لم يعط غيرك وقلت (ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ) ، ولهذا قال بعض السلف : من أعجبه شيء من حاله أو ولده أو ماله ، فليقل : ما شاء الله لا قوة إلا بالله .. وهذا مأخوذ من هذه الآية الكريمة. وقد روى فيه حديث مرفوع .. فعن أنس ـ رضى الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أنعم الله على عبد نعمة من أهل أو مال أو ولد فيقول : ما شاء الله لا قوة إلا بالله ، فيرى فيه آفة دون الموت» (٢).

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٤٨٥.

(٢) تفسير ابن كثير ج ١٥ ص ١٥٤.

٥١٩

وقال الآلوسى : وقوله : «ما شاء الله ، أى : الأمر ما شاء الله ، أو ما شاء الله ـ تعالى ـ كائن ، على أن «ما» موصولة مرفوعة المحل. إما على أنها خبر مبتدأ محذوف. أو على أنها مبتدأ محذوف الخبر .. وأيما كان فالمراد تحضيضه على الاعتراف بأن جنته وما فيها بمشيئة الله ـ تعالى ـ إن شاء أبقاها وإن شاء أبادها (١).

وبعد أن حضه على الشكر لله ـ تعالى ـ رد على افتخاره وغروره بقوله ـ كما حكى القرآن عنه ـ : (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً. فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ).

أى : إن ترن ـ أيها المغرور ـ أنا أقل منك في المال والولد فإنى أرجو الله الذي لا يعجزه شيء ، أن يرزقني ما هو خير من جنتك في الدنيا والآخرة.

(وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ) أى : عذابا من جهة السماء كالصواعق والسموم وغيرها مما يشاء الله ـ تعالى ـ إرساله عليها من المهلكات التي تذرها قاعا صفصفا.

قال صاحب الكشاف : والحسبان مصدر كالغفران والبطلان بمعنى الحساب. أى : ويرسل عليها مقدارا قدره الله وحسبه ، وهو الحكم بتخريبها.

«فتصبح» بعد اخضرارها ونضارتها «صعيدا» أى : أرضا «زلقا» أى : جرداء ملساء لا نبات فيها ، ولا يثبت عليها قدم.

والمراد أنها تصير عديمة النفع من كل شيء حتى من المشي عليها. يقال : مكان زلق ، أى : دحض ، وهو في الأصل مصدر زلقت رجله تزلق زلفا ، ومعناه : الزلل في المشي لوحل ونحوه.

(أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً) أى : غائرا ذاهبا في الأرض. فالغور مصدر وصف به على سبيل المبالغة وهو بمعنى الفاعل. يقال : غار الماء يغور غورا : أى : سفل في الأرض وذهب فيها.

ومنه قوله ـ تعالى ـ : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً ، فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ).

(فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً) أى : فلن تستطيع أن تحصل عليه أو تطلبه بأية حيلة من الحيل ، لأنه لا يقدر على الإتيان بهذا الماء الغائر إلا الله ـ عزوجل ـ.

وإلى هنا نجد أن الرجل المؤمن قد رد على صاحبه الكافر ، بما يذكره بمنشئه ، وبما يوجهه إلى الأدب الذي يجب أن يتحلى به مع خالقه ورازقه ، وبما يحذره من سوء عاقبة بطره.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٥ ص ٢٧٩.

٥٢٠