التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٨

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٨

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0668-X
الصفحات: ٥٩٧

والمعنى الثالث : أن يعبر بالقيام عن انبعاثهم بالعزم إلى الهروب إلى الله ـ تعالى ـ ومنابذة الناس ، كما تقول : قام فلان إلى أمر كذا ، إذا عزم عليه بغاية الجد (١).

وعلى أية حال فالجملة الكريمة تفيد أن هؤلاء الفتية كانت قلوبهم ثابتة راسخة ، مطمئنة إلى الحق الذي اهتدت إليه ، معتزة بالإيمان الذي أشربته ، مستبشرة بالإخاء الذي جمع بينها على غير ميعاد ، وصدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ يقول : «الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف».

ثم حكى ـ سبحانه ـ ما قالوه بعد أن استقر الإيمان في نفوسهم فقال : (فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً ..).

أى : أعلنوا براءتهم من كل خضوع لغير الله ـ عزوجل ـ حين قاموا في وجه أعدائهم ، وقالوا بكل شجاعة وجرأة : ربنا ـ سبحانه ـ هو رب السموات والأرض ، وهو خالقهما وخالق كل شيء ، ولن نعبد سواه أى معبود آخر.

ونفوا عبادتهم لغيره ـ سبحانه ـ بحرف ـ «لن» للإشعار بتصميمهم على ذلك في كل زمان وفي كل مكان ، إذ النفي بلن أبلغ من النفي بغيرها.

قال الآلوسى : وقد يقال ؛ إنهم أشاروا بالجملة الأولى ـ وهي : ربنا رب السموات والأرض ـ إلى توحيد الربوبية ، وأشاروا بالجملة الثانية ـ لن ندعو من دونه إلها ـ إلى توحيد الألوهية ، وهما أمران متغايران ، وعبدة الأوثان لا يقولون بهذا ، ويقولون بالأول : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) وحكى ـ سبحانه ـ عنهم أنهم يقولون : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) وصح أنهم كانوا يقولون : لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ (لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً) تأكيد لبراءتهم من كل عبادة لغير الله ـ تعالى ـ.

والشطط : مصدر معناه مجاوزة الحد في كل شيء ، ومنه : أشط فلان في السّوم إذا جاوز الحد ، وأشط في الحكم إذا جاوز حدود العدل : وهو صفة لموصوف محذوف ، وفي الكلام قسم مقدر ، واللام في «لقد» واقعة في جوابه ، و «إذا» حرف جواب وجزاء فتدل على شرط مقدر.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٠ ص ٣٦٥.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ٢١٩.

٤٨١

أى : ربنا رب السموات والأرض ، لن ندعو من دونه إلها. ولو فرض أننا دعونا وعبدنا من دونه إلها آخر ، والله لنكونن في هذه الحالة قد قلنا إذا قولا شططا ، أى : بعيدا بعدا واضحا عن دائرة الحق والصواب.

والآية الكريمة تدل على قوة إيمان هؤلاء الفتية ، وعلى أن من كان كذلك ثبت الله ـ تعالى ـ قلبه ، وقواه على تحمل الشدائد ، كما تدل على أن من أشرك مع الله ـ تعالى ـ إلها آخر ، يكون بسبب هذا الإشراك ، قد جاء بأمر شطط بعيد كل البعد عن الحق والصواب وصدق الله إذ يقول : (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) (١).

ثم حكى ـ سبحانه ـ عن هؤلاء الفتية أنهم لم يكتفوا بإعلان إيمانهم الصادق ، بل أضافوا إلى ذلك استنكارهم لما عليه قومهم من شرك فقال : (هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ ..).

و «هؤلاء» مبتدأ ، و «قومنا» عطف بيان ، وجملة «اتخذوا من دونه آلهة» هي الخبر.

و «لو لا» للتحضيض ، وهو الطلب بشدة والمقصود بالتحضيض هنا : الإنكار والتعجيز ، إذ من المعلوم أن قومهم لن يستطيعوا أن يقيموا الدليل على صحة ما هم عليه من شرك.

والمراد بالسلطان البين : الحجة الواضحة.

أى : أن أولئك الفتية بعد أن اجتمعوا ، وتعاهدوا على عبادة الله ـ تعالى ـ وحده ، ونبذ الشرك والشركاء قالوا على سبيل الإنكار والاحتقار لما عليه قومهم : هؤلاء قومنا بلغ بهم السفه والجهل ، أنهم اتخذوا مع الله ـ تعالى ـ أصناما يشركونها معه في العبادة ، هلا أتى هؤلاء السفهاء بحجة ظاهرة تؤيد دعواهم بأن هذه الأصنام تصلح آلهة لا شك أنهم لن يستطيعوا ذلك.

قال صاحب الكشاف وقوله : (لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ) تبكيت لأن الإتيان بالسلطان على صحة عبادة الأوثان محال ، وهو دليل على فساد التقليد ، وأنه لا بد في الدين من حجة حتى يصح ويثبت (٢).

__________________

(١) سورة الحج الآية ٣١.

(٢) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٤٧٤.

٤٨٢

وشبيه بهذه الآية في تعجيز المشركين وتجهيلهم قوله تعالى : (قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا ، إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ، وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ، أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ ، أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ، ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٢) :

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بما يدل على تكذيبهم لقومهم ، ووصفهم إياهم بالظلم فقال : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً).

أى : لا أحد أشد ظلما من قوم افتروا على الله ـ تعالى ـ الكذب ، حيث زعموا أن له شريكا في العبادة والطاعة ، مع انه ـ جل وعلا ـ منزه عن الشريك والشركاء : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ).

ثم حكى ـ سبحانه ـ بعد ذلك ما تناجوا به فيما بينهم ، بعد أن وضح موقفهم وضوحا صريحا حاسما ، وبعد أن أعلنوا كلمة التوحيد بصدق وقوة .. فقال ـ تعالى ـ : (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ ، فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً).

و «إذ» يبدو أنها هنا للتعليل. والاعتزال : تجنب الشيء سواء أكان هذا التجنب بالبدن أم بالقلب. و «ما» في قوله (وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) اسم موصول في محل نصب معطوف على الضمير في قوله (اعْتَزَلْتُمُوهُمْ) وقوله : (إِلَّا اللهَ) استثناء متصل ، بناء على أن القوم كانوا يعبدون الله ـ تعالى ـ ويشركون معه في العبادة الأصنام. و «من» قالوا إنها بمعنى البدلية.

وقوله : (مِرْفَقاً) من الارتفاق : بمعنى الانتفاع ، وقرأ نافع وابن عامر مرفقا ـ بفتح الميم وكسر الفاء.

والمعنى : أن هؤلاء الفتية بعد أن أعلنوا كلمة التوحيد ، وعقدوا العزم على مفارقة قومهم المشركين تناجوا فيما بينهم وقالوا : ولأجل ما أنتم مقدمون عليه من اعتزالكم لقومكم الكفار ، واعتزالكم الذي يعبدونه من دون الله ؛ لأجل ذلك فالجأوا إلى الكهف ، واتخذوه

__________________

(١) سورة الأنعام الآية ١٤٨.

(٢) سورة الأحقاف الآية ٤.

٤٨٣

مأوى ومستقرا لكم ، ينشر لكم ربكم الكثير من الخير بفضله ورحمته ، ويهيئ لكم بدلا من أمركم الصعب. أمرا آخر فيه اليسر والنفع.

وفي التعبير بقولهم ـ كما حكى القرآن عنهم .. (يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ ..) دلالة واضحة على صدق إيمانهم وحسن ظنهم الذي لا حدود له ، بربهم ـ عزوجل ـ فهم عند ما فارقوا أهليهم وأموالهم وزينة الحياة ، وقرروا اللجوء إلى الكهف الضيق الخشن المظلم .. لم ييأسوا من رحمة الله ، بل أيقنوا أن الله ـ تعالى ـ سيرزقهم فيه الخير الوفير ، وييسر لهم ما ينتفعون به ، ببركة إخلاصهم وصدق إيمانهم.

وهكذا الإيمان الصادق ، يجعل صاحبه يفضل المكان الخالي من زينة الحياة ، من أجل سلامة عقيدته ، على المكان المليء باللين والرخاء الذي يحس فيه بالخوف على عقيدته.

فالآية الكريمة تدل على أن اعتزال الكفر والكافرين من أجل حماية الدين ، يؤدى إلى الظفر برحمة الله وفضله وعطائه العميم وصدق الله إذ يقول في شأن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا. فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا. وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) (١).

ثم تنتقل السورة الكريمة إلى الحديث عن أحوال هؤلاء الفتية بعد أن استقروا في الكهف وبعد أن ألقى الله ـ تعالى ـ عليهم بالنوم الطويل فتقول :

(وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (١٧) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ

__________________

(١) سورة مريم الآيات ٤٨ ـ ٥٠.

٤٨٤

باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً) (١٨)

قال الآلوسى : قوله : (وَتَرَى الشَّمْسَ ..) بيان لحالهم بعد ما أووا إلى الكهف .. والخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لكل أحد ممن يصلح ، وهو للمبالغة في الظهور ، وليس المراد الإخبار بوقوع الرؤية ، بل المراد الإخبار بكون الكهف لو رأيته ترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين ...» (١).

وقوله (تَزاوَرُ) من الزور بمعنى الميل. ومنه قولهم : زار فلان صديقه ، أى : مال إليه. ومنه شهادة الزور ، لأنها ميل عن الحق إلى الباطل. ويقال : فلان أزور ، إذا كان مائل الصدر ، ويقال : تزاور فلان عن الشيء ، إذا انحرف عنه.

وفي هذا اللفظ ثلاث قراءات سبعية. فقد قرأ ابن عامر «تزور» بزنة تحمر. وقرأ الكوفيون ـ عاصم وحمزة والكسائي ـ «تزاور» بفتح الزاى ـ وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «تزّاور» بتشديد الزاى ـ. وأصله تتزاور فحذفت إحدى التاءين تخفيفا.

ومعنى : «تقرضهم» تقطعهم وتتجاوزهم وتتركهم ، من القرض بمعنى القطع والصرم ، يقال : قرض المكان ، أى : عدل عنه وتركه.

والمعنى : إنك ـ أيها المخاطب ـ لو رأيت أهل الكهف ، لرأيتهم على هذه الصورة ، وهي أن الشمس إذا طلعت من مشرقها ، مالت عن كهفهم جهة اليمين ، وإذا غربت ، تراها عند غروبها ، تميل عنهم كذلك ، فهي في الحالتين لا تصل إليهم ، حماية من الله ـ تعالى ـ لهم ، حتى لا تؤذيهم بحرها ، بأن تغير ألوانهم ، وتبلى ثيابهم.

وقوله : (وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ) جملة حالية. أى : والحال أنهم في مكان متسع من الكهف وهو وسطه ، والفجوة : هي المكان المتسع ، مأخوذة من الفجا ، وهو تباعد ما بين الفخذين ، ومنه قولهم : رجل أفجى ، وامرأة فجواء.

وللمفسرين في تأويل هذه الآية اتجاهان لخصهما الإمام الرازي فقال : للمفسرين هنا قولان : أولهما : أن باب ذلك الكهف كان مفتوحا إلى جانب الشمال ، فإذا طلعت الشمس

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ٢٢١ ـ بتصريف يسير.

٤٨٥

كانت على يمين الكهف ، وإذا غربت كانت على شماله ، فضوء الشمس ما كان يصل إلى داخل الكهف ، وكان الهواء الطيب والنسيم الموافق يصل.

والثاني : يرى أصحابه أنه ليس المراد ذلك ، وإنما المراد أن الشمس إذا طلعت منع الله ـ تعالى ـ ضوءها من الوقوع عليهم ، وكذا القول في حال غروبها ، وكان ذلك فعلا خارقا للعادة ، وكرامة عظيمة خص الله بها أصحاب الكهف ..» (١).

ومن هذين الرأيين يتبين لنا أن أصحاب الرأى الأول ، يرجعون عدم وصول حر الشمس إلى هؤلاء الفتية إلى أسباب طبيعية حماهم الله ـ تعالى ـ بها ومن بينها أن الكهف كان مفتوحا إلى جهة الشمال.

أما أصحاب الرأى الثاني فيردون عدم وصول أشعة الشمس إليهم إلى أسباب غير طبيعية ، بمعنى أن الفتية كانوا في متسع من الكهف ، أى : في مكان تصيبه الشمس ، إلا أن الله ـ تعالى ـ بقدرته التي لا يعجزها شيء ، منع ضوء الشمس وحرها من الوصول إليهم ، خرقا للعادة على سبيل التكريم لهم.

ومع وجاهة الرأيين ، إلا أن النفس أميل إلى الرأى الثاني ، لأن قوله ـ تعالى ـ (وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ) يشير إلى أنهم مع اتساع المكان الذي ينامون فيه ـ وهو الفجوة ـ لا تصيبهم الشمس لا عند الطلوع ولا عند الغروب ، وهذا أمر خارق للعادة ، ويدل على عجيب حالهم ، كما أن قوله ـ تعالى ـ بعد ذلك (ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ) يشعر بأن أمر هؤلاء الفتية فيه غرابة ، وليس أمرا عاديا مألوفا.

قال الآلوسى : وأكثر المفسرين على أنهم لم تصبهم الشمس أصلا ، وإن اختلفوا في منشأ ذلك واختار جمع منهم ، أنه لمحض حجب الله ـ تعالى ـ الشمس على خلاف ما جرت به العادة ، والإشارة تؤيد ذلك أتم تأييد ، والاستبعاد مما لا يلتفت إليه ، لا سيما فيما نحن فيه ، فإن شأن أصحاب الكهف كله على خلاف العادة ..» (٢).

وعلى هذا الرأى الثاني يكون اسم الإشارة في قوله : (ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ) إلى ما فعله الله ـ تعالى ـ معهم ، من حجب ضوء الشمس عنهم مع أنهم في متسع من الكهف.

أى : ذلك الذي فعلناه معهم من آياتنا الدالة على قدرتنا الباهرة ، وإرادتنا التي لا يعجزها شيء.

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٢١ ص ٩٩.

(٢) تفسير الآلوسي ج ١٥ ص ٢٢٣.

٤٨٦

وأما على الرأى الأول فيكون اسم الإشارة مرجعه إلى ما سبق من الحديث عنهم ، كهدايتهم إلى التوحيد ، وإخراجهم من بين عبدة الأوثان ، ولجوئهم إلى الكهف ، وجعل باب الكهف على تلك الكيفية ، إلى غير ذلك مما ذكر ـ سبحانه ـ عنهم.

أى : ذلك الذي ذكرناه لك عنهم ـ أيها الرسول الكريم ـ هو من آيات الله الدالة على وحدانيته وقدرته.

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية بقوله : (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً).

أى : من يهده الله إلى طريق الحق ، ويوفقه إلى الصواب ، فهو المهتد ، أى فهو الفائز بالحظ الأوفر في الدارين ، ومن يضلله الله ـ تعالى ـ عن الطريق المستقيم ، فلن تجد له ـ يا محمد ـ نصيرا ينصره ، ومرشدا يرشده إلى طريق الحق.

كما قال تعالى ـ : (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (١).

وكما قال ـ سبحانه ـ : (وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ ...) (٢).

ثم صور ـ سبحانه ـ بعد ذلك مشهدا عجيبا من أحوال هؤلاء الفتية فقال : (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ ..).

والحسبان بمعنى الظن ، والأيقاظ جمع يقظ وهو ضد النائم ، والرقود : جمع راقد والمراد به هنا : النائم.

أى : وتظنهم ـ أيها المخاطب لو قدر لك أن تراهم ـ أيقاظا منتبهين ، والحال أنهم رقود أى : نيام.

وقالوا : وسبب هذا الظن والحسبان ، أن عيونهم كانت مفتوحة ، وأنهم كانوا يتقلبون من جهة إلى جهة ، كما قال ـ تعالى ـ بعد ذلك : (وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ).

أى : ونحركهم وهم رقود إلى الجهة التي تلى أيمانهم ، وإلى الجهة التي تلى شمائلهم ، رعاية منا لأجسامهم حتى لا تأكل الأرض شيئا منها بسبب طول رقادهم عليها.

وعدد مرات هذا التقليب لا يعلمه إلا الله ـ تعالى ـ وما أورده المفسرون في ذلك لم يثبت

__________________

(١) سورة الأعراف الآية ١٧٨.

(٢) سورة الإسراء الآية ٩٧.

٤٨٧

عن طريق النقل الصحيح ، لذا ضربنا صفحا عنه.

ثم بين ـ سبحانه ـ حالة ـ كلبهم فقال : (وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ).

والمراد بالوصيد ـ على الصحيح ـ فناء الكهف قريبا من الباب ، أو هو الباب نفسه ، ومنه قول الشاعر : بأرض فضاء لا يسد وصيدها. أى : لا يسد بابها.

أى : وكلبهم الذي كان معهم في رحلتهم ماد ذراعيه بباب الكهف حتى لكأنه يحرسهم ويمنع من الوصول إليهم.

وما ذكره بعض المفسرين هنا عن اسم الكلب وصفاته ، لم نهتم بذكره لعدم فائدته.

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية بقوله : (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً).

أى. لو عاينتهم وشاهدتهم ـ أيها المخاطب ـ لأعرضت بوجهك عنهم من هول ما رأيت. ولملئ قلبك خوفا ورعبا من منظرهم.

وقد أخذ العلماء من هذه الآية أحكاما منها : أن صحبة الأخيار لها من الفوائد ما لها.

قال ابن كثير ـ رحمه‌الله ـ ربض كلبهم على الباب كما جرت به عادة الكلاب وهذا من سجيته وطبيعته حيث يربض ببابهم كأنه يحرسهم ، وكان جلوسه خارج الباب. لأن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب ـ كما ورد في الصحيح .. وشملت كلبهم بركتهم ، فأصابه ما أصابهم من النوم على تلك الحال ، وهذا فائدة صحبة الأخيار ، فإنه صار لهذا الكلب ذكر وخبر وشأن (١).

وقال القرطبي ـ رحمه‌الله ـ ما ملخصه : قال ابن عطية : وحدثني أبى قال : سمعت أبا الفضل الجوهري في جامع مصر يقول على منبر وعظه سنة تسع وستين وأربعمائة : إن من أحب أهل الخير نال من بركتهم ، كلب أحب أهل فضل وصحبهم فذكره الله في محكم تنزيله.

قلت ـ أى القرطبي ـ : إذا كان بعض الكلاب نال هذه الدرجة العليا بصحبة ومخالطة الصلحاء والأولياء حتى أخبر الله بذلك في كتابه ، فما ظنك بالمؤمنين المخالطين المحبين للأولياء. والصالحين!! بل في هذا تسلية وأنس للمؤمنين المقصرين عن درجات الكلمات : المحبين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآله خير آل.

روى في الصحيح عن أنس قال : بينا أنا ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خارجان من المسجد ،

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ١٤١.

٤٨٨

فلقينا رجل عند سدة المسجد ، فقال : يا رسول الله. متى الساعة؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما أعددت لها؟ قال : فكأن الرجل استكان ، ثم قال : يا رسول الله ، ما أعددت لها كثير صلاة ولا صيام ولا صدقة ، ولكني أحببت الله ورسوله : قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فأنت مع من أحببت». وفي رواية قال أنس : فما فرحنا بعد الإسلام فرحا أشد من قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «فأنت مع من أحببت».

قال أنس. فأنا أحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر ، فأرجو أن أكون معهم ، وإن لم أعمل بأعمالهم.

قلت : وهذا الذي تمسك به أنس يشمل من المسلمين كل ذي نفس ، فلذلك تعلقت أطماعنا بذلك ، وإن كنا مقصرين ، ورجونا رحمة الرحمن ، وإن كنا غير مستأهلين. (١).

ثم حكى ـ سبحانه ـ حال هؤلاء الفتية بعد أن أعاد إليهم الحياة ، فذكر بعض أقوالهم فيما بينهم فقال ـ تعالى ـ :

(وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (١٩) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً) (٢٠)

وقوله ـ سبحانه ـ : وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم ، بيان للعلة التي من أجلها بعث أصحاب الكهف من نومهم الطويل.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٠ ص ٣٧٢.

٤٨٩

أى : وكما أنمناهم تلك المدة الطويلة ، بعثناهم من نومهم بعدها ، ليسأل بعضهم بعضا ، وكأنهم قد أحسوا بأن نومهم قد طال.

والاقتصار على التساؤل الذي حصل الإيقاظ من أجله ، لا ينفى أن يكون هناك أسباب أخرى غيره حصل من أجلها إيقاظهم ، وإنما أفرده ـ سبحانه ـ بالذكر لاستتباعه لسائر الآثار الأخرى.

ثم حكى ـ سبحانه ـ بعض تساؤلهم فقال : (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ) أى : كم مكثتم مستغرقين في النوم في هذا الكهف.

فأجابه بعضهم بقوله : (لَبِثْنا يَوْماً) لظنهم أن الشمس قد غربت ، فلما رأوها لم تغرب بعد قالوا : (أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) أى : مكثنا نائمين بعض ساعات اليوم.

ويصح أن تكون أو للشك. أى قال بعضهم في الرد على سؤال السائل كم لبثتم ، لبثنا في النوم يوما أو بعض يوم ، لأننا لا ندري على الحقيقة كم مكثنا نائمين.

ثم حكى القرآن أن بعضهم رد علم مقدار مدة نومهم على جهة اليقين إلى الله ـ تعالى ـ فقال : (قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ) أى : ربكم وحده هو العليم بمقدار الزمن الذي قضيتموه نائمين في هذا الكهف.

قال الآلوسى : وهذا رد منهم على الأولين ، على أحسن ما يكون من مراعاة حسن الأدب ، وبه كما قيل يتحقق التحزب إلى الحزبين المعهودين فيما سبق في قوله ـ تعالى ـ (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ) (١).

وقال بعضهم : وقد استدل ابن عباس على أن عدد الفتية سبعة بهذه الآية ، لأنه قد قال في الآية : قال قائل منهم ، وهذا واحد ، وقالوا في جوابه : لبثنا يوما ، أو بعض يوم وهو جمع وأقله ثلاثة ، ثم قالوا : ربكم أعلم بما لبثتم ، وهذا قول جمع آخرين فصاروا سبعة (٢).

ثم بين ـ سبحانه ـ ما قالوه بعد أن تركوا الحديث في مسألة الزمن الذي قضوه نائمين في الكهف فقال ـ تعالى ـ : (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ ، وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً).

أى : كفوا عن الحديث في مسألة المدة التي نمتموها ، فعلمها عند الله ، وابعثوا أحدكم

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ٢٢٩.

(٢) تفسير فتح البيان ج ٥ ص ٥٣٤.

٤٩٠

«بورقكم». أى : بدراهمكم المضروبة من الفضة ، (إِلَى الْمَدِينَةِ) التي يوجد بها الطعام الذي نحن في حاجة إليه ، والتي هي أقرب مكان إلى الكهف.

قالوا : والمراد بها مدينتهم التي كانوا يسكنونها قبل أن يلجئوا إلى الكهف فرارا بدينهم.

(فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً) أى : ومتى وصل إلى المدينة ، فليتفقد أسواقها ، وليتخير أى أطعمتها أحل وأطهر وأجود وأكثر بركة.

(فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ) أى : فليأتكم بما يسد جوعكم من ذلك الأزكى طعاما ، فيكون الضمير في «منه» للطعام الأزكى.

ويصح أن يكون للدراهم المضروبة المعبر عنها «بورقكم» ، أى : فليأتكم بدلا منها بطعام تأكلونه ، وليتلطف ، أى : وليتكلف اللطف في الاستخفاء ، والدقة في استعمال الحيل حال دخوله وخروجه من المدينة ، حتى لا يعرفه أحد من أهلها.

(وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً) أى : ولا يفعلن فعلا يؤدى إلى معرفة أحد من أهل المدينة بنا.

وقوله : (إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً) تعليل للأمر والنهى السابقين.

أى : قولوا لمن تختارونه لشراء طعامكم من المدينة : عليه أن يتخير أزكى الطعام ، وعليه كذلك أن لا يخبر أحدا بأمركم من أهل المدينة ، لأنهم (إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ) أى : يطلعوا عليكم. أو يظفروا بكم.

وأصل معنى ظهر. أى : صار على ظهر الأرض. ولما كان ما عليها مشاهدا متمكنا منه ، استعمل تارة في الاطلاع ، وتارة في الظفر والغلبة ، وعدى بعلى.

(يَرْجُمُوكُمْ) أى إن يعرفوا مكانكم ، يرجموكم بالحجارة حتى تموتوا (أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ) الباطلة التي نجاكم الله ـ تعالى ـ منها.

(وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً) أى : وإن عدتم إليها بعد إذ نجاكم الله ـ تعالى ـ منها وعصمكم من اتباعها ، فلن تفلحوا إذا أبدا ، لا في الدنيا ولا في الآخرة.

وهكذا نجد هاتين الآيتين تصوران لنا بأسلوب مؤثر بليغ حال الفتية وهم يتناجون فيها بينهم ، بعد أن استيقظوا من رقادهم الطويل.

٤٩١

ونراهم في تناجيهم ـ بعد أن تركوا الحديث عن المدة التي لبثوها في نومهم ـ نراهم حذرين خائفين ، ولا يدرون أن الأعوام قد كرت. وأن عجلة الزمن قد دارت ، وأن أجيالا قد تعاقبت ، وأن مدينتهم التي يعرفونها قد تغيرت معالمها. وأن أعداءهم الكافرين قد زالت دولتهم.

ثم تمضى السورة الكريمة لتحدثنا عن مشهد آخر من أحوال هؤلاء الفتية. مشهد تتجلّى فيه قدرة الله ـ تعالى ـ على أبلغ وجه ، كما تتجلى فيه حكمته ووحدانيته ، استمع إلى القرآن الكريم وهو يحدثنا عن ذلك فيقول :

(وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) (٢١)

فقوله ـ سبحانه ـ : (وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ ، وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها) بيان للحكمة التي من أجلها أطلع الله ـ تعالى ـ الناس على هؤلاء الفتية.

قال الآلوسى ما ملخصه : وأصل العثور السقوط للوجه ، يقال : عثر عثورا وعثارا إذا سقط لوجهه ، ومنه قولهم في المثل : الجواد لا يكاد يعثر. ثم تجوز به في الاطلاع على أمر من غير طلبه.

وقال بعضهم : لما كان كل عاثر ينظر إلى موضع عثرته ، ورد العثور بمعنى الاطلاع والعرفان ، فهو في ذلك مجاز مشهور بعلاقة السببية.

ومفعول «أعثرنا» محذوف لقصد العموم ، أى : وكذلك أطلعنا الناس عليهم ، (١).

والمعنى : وكما أنمناهم تلك المدة الطويلة ، وبعثناهم هذا البعث الخاص ، أطلعنا الناس

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ٢٣٢.

٤٩٢

عليهم ليعلم هؤلاء الناس عن طريق المعاينة والمشاهدة ، (أَنَّ وَعْدَ اللهِ) بالبعث (حَقٌ) وصدق وليعلموا كذلك أن الساعة ، أى القيامة ، آتية لا ريب فيها ، ولا شك في حصولها ، فإن من شاهد أهل الكهف ، وعرف أحوالهم ، أيقن بأن من كان قادرا على إنامتهم تلك المدة الطويلة ثم على بعثهم بعد ذلك. فهو قادر على إعادة الحياة إلى الموتى ، وعلى بعث الناس يوم القيامة للحساب والجزاء.

وقد ذكروا في كيفية إطلاع الناس عليهم روايات ملخصها : أن زميلهم الذي أرسلوه بالدراهم إلى السوق ليشتري لهم طعاما عند ما وصل إلى سوق المدينة ، عمد إلى رجل ممن يبيع الطعام ، فدفع إليه ما معه من نقود لكي يأخذ في مقابلها طعاما ، فلما رأى البائع النقود أنكرها ـ لأنها مصنوعة منذ زمن بعيد ـ وأخذ يطلع عليها بقية التجار ، فقالوا له : أين وجدت هذه الدراهم؟ فقال لهم : بعت بها أمس شيئا من التمر ، وأنا من أهل هذه المدينة ، وقد خرجت أنا وزملائى إلى الكهف خوفا من إيذاء المشركين لنا ، فأخذوه إلى ملكهم وقصوا عليه قصته. فسر الملك به ، وذهب معه إلى الكهف ليرى بقية زملائه فلما رآهم سلم عليهم .. ثم أماتهم الله ـ تعالى ـ» (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ ما كان من أمرهم بعد وفاتهم واختلاف الناس في شأنهم ، فقال : (إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ ، فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ).

والظرف «إذ» متعلق بمحذوف تقديره : اذكر ، و «يتنازعون» من التنازع بمعنى التخاصم والاختلاف ، والضمير في «أمرهم» يعود إلى الفتية.

والمعنى : لقد قصصنا عليك ـ أيها الرسول الكريم ـ قصة هؤلاء الفتية. وبينا لك أحوالهم عند رقادهم ، وبعد بعثهم من نومهم ، وبعد الإعثار عليهم ، وكيف أن الذين عثروا عليهم صاروا يتنازعون في شأنهم. فمنهم من يقول إنهم وجدوا في زمن كذا ، ومنهم من يقول إنهم مكثوا في كهفهم كذا سنة ، ومنهم من يقول نبنى حولهم بنيانا صفته كذا.

ويجوز أن يكون الضمير في «أمرهم» يعود إلى الذين أطلعهم الله على الفتية ، فيكون المعنى : اذكر وقت تنازع هؤلاء الذين عثروا على الفتية وتخاصمهم فيما بينهم ، حيث إن بعضهم كان مؤمنا. وبعضهم كان كافرا ، وبعضهم كان يؤمن يبعث الأرواح والأجساد ، وبعضهم كان يؤمن ببعث الأجساد فقط.

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٥ ص ١٤٢.

٤٩٣

وقوله ـ تعالى ـ : (فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً) تفسير للمتنازع فيه ، وبيان لما قاله بعض الذين اطلعوا على أمر الفتية.

أى اختلف الذين عثروا على الفتية فقال بعضهم : ابنوا على باب كهفهم بنيانا. حتى لا يصل الناس إليهم ، وحتى نصونهم من الأذى.

وقوله ـ تعالى ـ : (رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ) يحتمل أنه حكاية لكلام طائفة من المتنازعين في شأن أصحاب الكهف ، وقد قالوه ليقطعوا النزاع في شأنهم ، وليفوضوا أمرهم إلى الله ـ تعالى ـ.

ويحتمل أن يكون من كلام الله ـ تعالى ـ ردا للخائضين في شأنهم.

أى : اتركوا أيها المتنازعون ما أنتم فيه من تنازع ، فإنى أعلم منكم بحال أصحاب الكهف.

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بقوله : (قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً).

أى : أن الذين أعثرهم الله على أصحاب الكهف قال بعضهم : ابنوا على هؤلاء الفتية بنيانا يسترهم .. وقال الذين غلبوا على أمرهم ، وهم أصحاب الكلمة النافذة ، والرأى المطاع ، لنتخذن على هؤلاء الفتية مسجدا ، أى : معبدا تبركا بهم.

قال الآلوسى : واستدل بالآية على جواز البناء على قبور الصلحاء ، واتخاذ مسجد عليها ، وجواز الصلاة في ذلك وممن ذكر ذلك الشهاب الخفاجي في حواشيه على البيضاوي. وهو قول باطل عاطل ، فاسد كاسد. فقد روى أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج».

وزاد مسلم : «ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد فإنى أنهاكم عن ذلك».

وروى الشيخان عن أبى هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ..» (١).

__________________

(١) راجع تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ٢٣٧.

٤٩٤

ثم حكت السورة بعد ذلك ما أثير من جدل حول عدد أصحاب الكهف وأمرت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يكل ذلك إلى الله ـ تعالى ـ وحده ، فقال ـ سبحانه ـ :

(سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً) (٢٢)

أى : سيختلف ـ الناس في عدة أصحاب الكهف ـ أيها الرسول الكريم ـ فمن الناس من سيقول إن عدتهم ثلاثة رابعهم كليهم ، ومنهم من يقول : إنهم خمسة سادسهم كلبهم.

فالضمير في قوله (سَيَقُولُونَ) وفي الفعلين بعده. يعود لأولئك الخائضين في قصة أصحاب الكهف وفي عددهم ، على عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال الجمل : قيل إنما أتى بالسين في هذا لأن في الكلام طيا وإدماجا تقديره : فإذا أجبتهم عن سؤالهم عن قصة أهل الكهف ، فسلهم عن عددهم فإنهم سيقولون ثلاثة.

ولم يأت بها في بقية الأفعال ، لأنها معطوفة على ما فيه السين فأعطيت حكمه من الاستقبال (١).

وقال صاحب الكشاف ، فإن قلت : لما ذا جاء بسين الاستقبال في الأول دون الآخرين؟.

قلت : فيه وجهان : أن تدخل الآخرين في حكم السين ، كما تقول : قد أكرم وأنعم.

تريد معنى التوقع في الفعلين جميعا ، وأن تريد بيفعل معنى الاستقبال الذي هو صالح له (٢).

وقوله ، ثلاثة. خبر لمبتدأ محذوف ، أى : هم ثلاثة.

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ١٦.

(٢) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٤٧٨.

٤٩٥

وقوله ـ تعالى ـ : (رَجْماً بِالْغَيْبِ) رد على القائلين بأنهم ثلاثة رابعهم كلبهم ، وعلى القائلين بأنهم خمسة سادسهم كلبهم.

وأصل الرجم : الرمي بالحجارة ، والمراد به هنا : القول بالظن والحدس والتخمين بدون دليل أو برهان.

قال صاحب الكشاف قوله : (رَجْماً بِالْغَيْبِ) ، أى : رميا بالخبر الخفى وإتيانا به. كقوله (وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) أى : يأتون به. أو وضع الرجم ، موضع الظن فكأنه قيل ظنا بالغيب. لأنهم أكثروا أن يقولوا : رجم بالظن ، مكان قولهم : ظن. حتى لم يبق عندهم فرق بين العبارتين. ألا ترى إلى قول زهير : وما هو عنها بالحديث المرجم .. أى : المظنون» (١).

وقوله : (رَجْماً) منصوب بفعل مقدر. والباء في (بِالْغَيْبِ) للتعدية.

أى : يرمون رميا بالخبر الغائب عنهم ، والذي لا اطلاع لهم على حقيقته ، شأنهم في ذلك شأن من يرمى بالحجارة التي لا تصيب المرمى المقصود.

ثم حكى ـ سبحانه ـ القول الذي هو أقرب الأقوال إلى الصواب فقال : (وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ).

أى : وبعض الناس ـ وهم المؤمنون ـ يقولون إن عدد أصحاب الكهف سبعة أفراد وثامنهم كلبهم.

قال ابن كثير : ـ يقول ـ تعالى ـ مخبرا عن اختلاف الناس في عدة أصحاب الكهف. فحكى ثلاثة أقوال ، فدل على أنه لا قائل برابع. ولما ضعف القولين الأولين بقوله : «رجما بالغيب».

أى : قول بلا علم ، كمن يرمى إلى مكان لا يعرفه ، فإنه لا يكاد يصيب. وإذا أصاب فبلا قصد ، ثم حكى الثالث وسكت عليه أو قرره بقوله : (وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) دل على صحته ، وأنه هو الواقع في نفس الأمر» (٢).

وقال الآلوسى ما ملخصه : والجملة الواقعة بعد العدد في قوله ـ تعالى ـ : (وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) في موضع الصفة له ، والواو الداخلة على الجملة الواقعة صفة للنكرة.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٤٧٨.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ١٤٣.

٤٩٦

كما تدخل في الواقعة حالا عن المعرفة في قولك : جاءني رجل ومعه آخر ، ومررت بزيد وفي يده سيف ، ومنه قوله ـ تعالى ـ : (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ).

وفائدتها توكيد لصوق الصفة بالموصوف ، والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت مستقر وهي التي أذنت هنا بأن قائلى ما ذكر ، قالوه عن ثبات علم ، وطمأنينة نفس ، ولم يرجموا بالظن كما رجم غيرهم فهو الحق دون القولين الأولين ... (١).

ثم أمر الله ـ تعالى ـ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يخبر الخائضين في عدة أصحاب الكهف ، بما يقطع التنازع الذي دار بينهم فقال : (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ).

أى : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ لمن خاضوا في عدة أصحاب الكهف : ربي ـ عزوجل ـ أقوى علما منكم بعدتهم ـ أيها المتنازعون ، فإنكم إن علمتم عنهم شيئا علما ظنيا. فإن علم ربي بهم هو علم تفصيلي يقيني لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.

ثم أثبت ـ سبحانه ـ علم عددهم لقليل من الناس فقال : (ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ) أى : ما يعلم عدة أصحاب الكهف إلا عدد قليل من الناس.

ولا تعارض بين هذه الجملة وبين سابقتها ، لأن علم هذا العدد القليل من الناس بعدة أصحاب الكهف ، هو علم إجمالى ظني .. أما علم الله ـ تعالى ـ فهو علم تفصيلي يقيني شامل لجميع الأزمنة.

فضلا عن أن علم هؤلاء القلة من الناس بعدة أصحاب الكهف ، نابع من إعلام الله ـ تعالى ـ لهم عن طريق الوحى كالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو من يطلعه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على عدتهم.

قال ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ : أنا من أولئك القليل ، كانوا سبعة ، ثم ذكر أسماءهم.

ثم نهى الله ـ تعالى ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الجدال المتعمق في شأنهم ، كما نهاه عن استفتاء أحد في أمرهم فقال ـ تعالى ـ : (فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً. وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً).

والمراء : هو الجدال والمحاجة فيما فيه مرية ، أى : تردد. مأخوذ من مريت الناقة إذا كررت مسح ضرعها للحلب.

__________________

(١) تفسير الآلوسي ج ١٥ ص ٢٤١.

٤٩٧

والاستفتاء : طلب الفتيا من الغير. والفاء في قوله (فَلا تُمارِ) للتفريع.

أى : إذا كان الشأن كما أخبرناك عن حال أصحاب الكهف ، فلا تجادل في أمرهم أحدا من الخائضين فيه إلا جدالا واضحا لا يتجاوز حدود ما قصصناه عليك ـ أيها الرسول الكريم ـ ولا تطلب الفتيا في شأنهم من أحد ، لأن ما قصصناه عليك من خبرهم ، يغنيك عن السؤال. وعن طلب الإيضاح من أهل الكتاب أو من غيرهم.

ثم نهى الله ـ تعالى ـ نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الإخبار عن فعل شيء في المستقبل إلا بعد تقديم مشيئة الله ـ عزوجل ـ فقال :

(وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً) (٢٤)

قال القرطبي : قال العلماء : عاتب الله ـ تعالى ـ نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على قوله للكفار حين سألوه عن الروح والفتية وذي القرنين : غدا أخبركم بجواب أسئلتكم ، ولم يستثن في ذلك.

فاحتبس الوحى عنه خمسة عشر يوما حتى شق ذلك عليه ، وأرجف الكفار به ، فنزلت عليه هذه السورة مفرّجة. وأمر في هذه الآية ألا يقول في أمر من الأمور إنى أفعل غدا كذا وكذا ، إلا أن يعلق ذلك بمشيئة الله ـ عزوجل ـ حتى لا يكون محققا لحكم الخبر ، فإنه إذا قال : لأفعلن ذلك ولم يفعل : كان كاذبا ، وإذا قال ، لأفعلن ذلك ـ إن شاء الله ـ خرج عن أن يكون محققا للمخبر عنه (١).

والمراد بالغد : ما يستقبل من الزمان ، ويدخل فيه اليوم الذي يلي اليوم الذي أنت فيه دخولا أوليا. وعبر عما يستقبل من الزمان بالغد للتأكيد.

أى : ولا تقولن ـ أيها الرسول الكريم ـ لأجل شيء تعزم على فعله في المستقبل : إنى فاعل ذلك الشيء غدا ، إلا وأنت مقرن قولك هذا بمشيئة الله ـ تعالى ـ وإذنه ، بأن تقول :

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٠ ص ٣٨٥.

٤٩٨

سأفعل هذا الشيء غدا بإذن الله ومشيئته ، فإن كل حركة من حركاتك ـ ومن حركات غيرك ـ مرهونة بمشيئة الله ـ تعالى ـ وإرادته ، وما يتعلق بمستقبلك ومستقبل غيرك من شئون ، هو في علم الله ـ تعالى ـ وحده.

وليس المقصود من الآية الكريمة نهى الإنسان عن التفكير في أمر مستقبله ، وإنما المقصود نهيه عن الجزم بما سيقع في المستقبل ، لأن ما سيقع علمه عند الله ـ تعالى ـ وحده.

والعاقل من الناس هو الذي يباشر الأسباب التي شرعها الله ـ تعالى ـ سواء أكانت هذه الأسباب تتعلق بالماضي أم بالحاضر أم بالمستقبل ، ثم يقرن كل ذلك بمشيئة الله ـ تعالى ـ وإرادته. فلا يقول : سأفعل غدا كذا وكذا لأننى أعددت العدة لذلك ، وإنما يقول : سأفعل غدا كذا وكذا إذا شاء الله ـ تعالى ـ ذلك وأراد ، وأن يوقن بأن إرادة الله فوق إرادته ، وتدبيره ـ سبحانه ـ فوق كل تدبير.

وكم من أمور أعد الإنسان لها أسبابها التي تؤدى إلى قضائها .. ثم جاءت إرادة الله ـ تعالى ـ فغيرت ما أعده ذلك الإنسان ، لأنه لم يستشعر عند إعداده للأسباب أن. إرادة الله ـ تعالى ـ فوق إرادته ، وأنه ـ سبحانه ـ القادر على خرق هذه الأسباب ، وخرق ما تؤدى إليه ، ولأنه لم يقل عند ما يريد فعله في المستقبل ، إن شاء الله.

وقوله : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) تأكيد لما قبله أى : لا تقولن أفعل غدا إلا ملتبسا بقول : إن شاء الله ، واذكر ربك ـ سبحانه ـ إذا نسيت تعليق القول بالمشيئة ، أى : عند تذكرك بأنك لم تقرن قولك بمشيئة الله ، فأت بها.

قال الآلوسى : قوله (وَاذْكُرْ رَبَّكَ) أى : مشيئة ربك ، فالكلام على حذف مضاف ، إذا نسيت ، أى : إذا فرط منك نسيان ذلك ثم تذكرته. فهو أمر بالتدارك عند التذكر .. (١).

وقال بعض العلماء ما ملخصه : للمفسرين في تفسير قوله ـ تعالى ـ : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) قولان :

الأول ـ أن هذه الجملة مرتبطة ومتعلقة بما قبلها : والمعنى : إنك إن قلت سأفعل غدا كذا ونسيت أن تقول إن شاء الله ، ثم تذكرت بعد ذلك فقل : إن شاء الله.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ٢٤٩.

٤٩٩

أى : اذكر ربك معلقا على مشيئته ما تقول إنك ستفعله غدا إذا تذكرت بعد النسيان.

وهذا القول هو الظاهر ، لأنه يدل عليه ما قبله ، وهو قوله ـ تعالى ـ : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) وهو قول الجمهور.

الثاني : أن هذه الجملة لا تعلق لها بما قبلها ، وأن المعنى : إذا وقع منك النسيان لشيء فاذكر ربك ، لأن النسيان من الشيطان ، كما قال ـ تعالى ـ عن فتى موسى : (وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ....) (١).

وعلى هذا القول يكون المراد بالذكر : التسبيح والاستغفار ، وعلى الأول المراد به أن تقول : إن شاء الله أو ما يشبه ذلك.

والمقصود من هذه الآية الكريمة بيان أن تعليق الأمور بمشيئة الله ـ تعالى ـ هو الذي يجب أن يفعل ، لأنه ـ تعالى ـ لا يقع شيء إلا بمشيئته فإذا نسى المسلم ثم تذكر ، فإنه يقول : إن شاء الله ، ليخرج بذلك من عهدة عدم التعليق بالمشيئة ، وبذلك يكون قد فوض أمره إلى الله ـ تعالى ـ.

وليس المقصود بها التحلل من يمين قد وقعت ، لأن تداركها قد فات بالانفصال ، ولأن الاستثناء المتأخر لا أثر له ولا تحل به اليمين.

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بقوله : (وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً) أى : قدم ـ أيها الرسول الكريم ـ مشيئة ربك عند إرادة فعل شيء ، وأت بها إذا نسيت ذلك عند التذكر ، وقل عسى أن يوفقني ربي ويهديني ويدلني على شيء أقرب في الهداية والإرشاد من هذا الذي قصصته عليكم من أمر أصحاب الكهف.

قال صاحب الكشاف : وقوله : (لِأَقْرَبَ مِنْ هذا ..) اسم الإشارة يعود إلى نبأ أصحاب الكهف : ومعناه : لعل الله يؤتينى من البينات والحجج على أنى نبي صادق ، ما هو أعظم في الدلالة وأقرب رشدا من نبأ أصحاب الكهف.

وقد فعل ـ سبحانه ـ ذلك ، حيث آتاه من قصص الأنبياء ، والإخبار بالغيوب ، ما هو أعظم من ذلك وأدل ، (٢).

__________________

(١) أضواء البيان ج ٤ ص ٧٧.

(٢) تفسير الكشف ج ٢ ص ٤٨٠.

٥٠٠