التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٨

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٨

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0668-X
الصفحات: ٥٩٧

(ج) ثم أمرت السورة الكريمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم برعاية الفقراء من أصحابه. ومدحتهم بأنهم يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه .. كما أمرته بأن يجهر بكلمة الحق ، فمن شاء بعد ذلك فليؤمن ومن شاء فليكفر ، فإن الله ـ تعالى ـ قد أعد لكل فريق ما يستحقه من ثواب أو عقاب.

قال ـ تعالى ـ (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ ، وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ ، إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها ، وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً).

(د) ثم ضربت السورة الكريمة مثلا للشاكرين والجاحدين ، وصورت بأسلوب بليغ مؤثر تلك المحاورة الرائعة التي دارت بين صاحب الجنتين الغنى المغرور ، وبين صديقه الفقير المؤمن الشكور ، وختمت هذه المحاورة ببيان العاقبة السيئة لهذا الجاهل الجاحد.

استمع إلى القرآن وهو يبين ذلك بأسلوبه فيقول : (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ ، فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها ، وَيَقُولُ : يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً. وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً).

(ه) ثم أتبعت السورة هذا المثل للرجلين ، بمثال آخر لزوال الحياة الدنيا وزينتها ، وببيان أحوال الناس يوم القيامة ، وأحوال المجرمين عند ما يرون صحائف أعمالهم وقد خلت من كل خير.

قال ـ تعالى ـ : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ ، فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ ، فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ ، وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً ، الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً. وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً).

(و) وبعد أن ذكرت السورة الكريمة طرفا من قصة آدم وإبليس ، وبينت أن هذا القرآن قد صرف الله فيه للناس من كل مثل ، وحددت وظيفة المرسلين عليهم الصلاة والسلام.

بعد كل ذلك ساقت في أكثر من عشرين آية قصة موسى مع الخضر ـ عليهما‌السلام ـ وحكت ما دار بينهما من محاورات. انتهت بأن قال الخضر لموسى : (وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ، ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً).

(ز) ثم جاءت بعد قصة موسى والخضر ـ عليهما‌السلام ـ قصة ذي القرنين في ست

٤٦١

عشرة آية ، بين الله ، تعالى ، فيها جانبا من النعم التي أنعم بها على ذي القرنين ، ومن الأعمال العظيمة التي مكنه ـ سبحانه ـ من القيام بها.

قال ـ تعالى ـ (حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً. قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا. قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً).

(ح) ثم ختمت السورة الكريمة ببيان ما أعده ـ سبحانه ـ للكافرين من سوء العذاب وما أعده للمؤمنين من جزيل الثواب ، وببيان مظاهر قدرته ، ـ عزوجل ـ التي توجب على كل عاقل أن يخلص له العبادة والطاعة.

قال ـ تعالى ـ : (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً. الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً. أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً. ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً. خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً. قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي ، وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً. قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ. فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً).

٤ ـ وبعد : فهذا عرض إجمالى لأهم الموضوعات التي اشتملت عليها سورة الكهف ، ومن هذا العرض نرى :

(أ) أن القصص قد اشتمل على جانب كبير من آياتها ، ففي أوائلها نرى قصة أصحاب الكهف ، وبعدها قصة الرجلين اللذين جعل الله لأحدهما جنتين من أعناب. ثم بعد ذلك جاء طرف من قصة آدم وإبليس ، ثم جاءت قصة موسى والخضر ـ عليهما‌السلام ـ ثم ختمت بقصة ذي القرنين.

وقد وردت هذه القصص في أكثر من سبعين آية ، من سورة الكهف المشتملة على عشر آيات بعد المائة.

(ب) اهتمت السورة الكريمة بإقامة الأدلة على وحدانية الله ـ تعالى ـ وعلى صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يبلغه عنه ، وعلى إثبات أن هذا القرآن من عنده ـ تعالى.

نرى ذلك في أمثال قوله ـ تعالى ـ (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً. قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ).

٤٦٢

الافتتاح ، إلا أن لكل سورة طريقتها في بيان الأسباب التي من شأنها أن تقنع الناس ، بأن المستحق للحمد المطلق هو الله ـ تعالى ـ وحده (١).

وإنما كان الحمد مقصورا في الحقيقة على الله ـ تعالى ـ ، لأن كل ما يستحق أن يقابل بالثناء فهو صادر عنه ، ومرجعه إليه ؛ إذ هو الخالق لكل شيء ، وما يقدم إلى بعض الناس من حمد جزاء إحسانهم ، فهو في الحقيقة حمد لله ، لأنه ـ سبحانه ـ هو الذي وفقهم لذلك ، وأعانهم عليه.

وقد بين بعض المفسرين الحكمة في افتتاح بعض السور بلفظ الحمد دون المدح أو الشكر فقال ما ملخصه : «أعلم أن المدح أعم من الحمد ، وأن الحمد أعم من الشكر ، أما بيان أن المدح أعم من الحمد ، فلأن المدح يحصل للعاقل ولغير العاقل ، فقد يمدح الرجل لعقله ، ويمدح اللؤلؤ لحسن شكله.

وأما الحمد فإنه لا يحصل إلا للفاعل المختار ، على ما يصدر منه من الإنعام ، فثبت أن المدح أعم من الحمد.

وأما بيان أن الحمد أعم من الشكر ، فلأن الحمد عبارة عن تعظيم الفاعل لأجل ما صدر عنه من الإنعام ، سواء أكان ذلك الإنعام واصلا إليك أم إلى غيرك ، وأما الشكر فهو عبارة عن تعظيمه لأجل إنعام وصل إليك وحدك ، فثبت أن الحمد أعم من الشكر.

وكان قوله (الْحَمْدُ لِلَّهِ) تصريحا بأن المؤثر في وجود العالم هو الفاعل المختار ، الذي وصلت نعمه إلى جميع خلقه ، لا إلى بعضهم .. ، (٢).

وقوله : (الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً. قَيِّماً ..) بيان للأسباب التي توجب على الناس أن يجعلوا حمدهم وعبادتهم لله ـ تعالى ـ وحده ، إذ الوصف بالموصول ، يشعر بعلية ما في حيز الصلة لما قبله.

والعوج ـ بكسر العين ـ أكثر ما يكون استعمالا في المعاني ، تقول ، هذا كلام لا عوج فيه ، أى : لا ميل فيه.

أما العوج ـ بفتح العين ـ فأكثر ما يكون استعمالا في الأعيان تقول : هذا حائط فيه عوج.

وقوله : (قَيِّماً) أى : مستقيما معتدلا لا ميل فيه ولا زيغ وهما ـ أى : عوجا وقيما ـ

__________________

(١) راجع تفسيرنا لسورة الأنعام ص ٢٧.

(٢) راجع تفسير الفخر الرازي لأول سورة الأنعام ج ٤ ص ٣. طبعة المطبعة الشرقية سنة ١٣٣٤ ه‍.

٤٦٣

حالان من الكتاب ويصح أن يكون قوله (قَيِّماً) منصوبا بفعل محذوف أى : جعله قيما.

والمعنى : الحمد الكامل ، والثناء الدائم ، لله ـ تعالى ـ وحده ، الذي أنزل على عبده محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم القرآن الكريم ، ولم يجعل فيه شيئا من العوج أو الاختلاف أو التناقض ، لا في لفظه ، ولا في معناه ، وإنما جعله في أسمى درجات الاستقامة والإحكام.

وإنما أمر الله ـ تعالى ـ الناس بأن يحمدوه لإنزال الكتاب على عبده محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن في هذا الكتاب من الهدايات ما يخرجهم من الظلمات إلى النور ، وما يسعدهم في دينهم ودنياهم وآخرتهم.

وفي التعبير عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالعبد ، مضافا إلى ضميره ـ تعالى ـ ، تعظيم وتشريف له صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإشعار بأنه مهما سمت منزلته ، وعلت مكانته «فهو عبد الله ـ تعالى ـ ، وأن الذين عبدوا أو أشركوا مع الله ـ تعالى ـ بعض مخلوقاته ، قد ضلوا ضلالا بعيدا.

والتعبير عن القرآن الكريم بالكتاب ، إشارة إلى كماله وشهرته ، أى : أنزل ـ سبحانه ـ على عبده محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الكتاب الكامل في بابه ، الغنى عن التعريف ، الحقيق باختصاص هذا الاسم به ، المعروف بهذا الاسم من بين سائر الكتب.

والمراد به إما جميع القرآن الكريم سواء منه ما نزل فعلا وما هو مترقب النزول ، وإما ما نزل منه فقط حتى نزول هذه الآية فيكون من باب التعبير عن البعض بالكل تحقيقا للنزول للجميع.

وجاء لفظ «عوجا» بصيغة التنكير ، ليشمل النهى جميع أنواع الميل والعوج ، إذ النكرة في سياق النفي تعم ، أى : لم يجعل له ـ سبحانه ـ أى شيء من العوج. وقوله : (قَيِّماً) تأكيد في المعنى لقوله ـ سبحانه ـ : (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) لأنه قد يكون الشيء مستقيما في الظاهر ، إلا أنه لا يخلو عن اعوجاج في حقيقة الأمر ، ولذا جمع ـ سبحانه ـ بين نفى العوج ، وإثبات الاستقامة.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما فائدة الجمع بين نفى العوج وإثبات الاستقامة ، وفي أحدهما غنى عن الآخر؟

قلت : فائدته التأكيد ، فرب مستقيم مشهود له بالاستقامة ، ولا يخلو من أدنى عوج عند السبر والتصفح ، وقيل : قيما على سائر الكتب ، مصدقا لها ، شاهدا بصحتها ، وقيل : قيما بمصالح العباد وما لا بد لهم منه من الشرائع (١).

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٤٧٢.

٤٦٤

وشبيه بهذه الآية في مدح القرآن الكريم قوله ـ تعالى ـ : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ..) (٢).

وقوله ـ عزوجل : (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (٣).

وقوله ـ تعالى ـ : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (٤).

ثم شرع ـ سبحانه ـ في بيان وظيفة القرآن الكريم ، بعد أن وصفه بالاستقامة والإحكام ، فقال : (لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ ...).

والإنذار : الإعلام المقترن بتخويف وتهديد ، فكل إنذار إعلام ، ولبس كل إعلام إنذارا.

واللام في قوله (لِيُنْذِرَ) متعلقة بأنزل ، والبأس : العذاب ، وهو المفعول الثاني للفعل ينذر ، ومفعوله الأول محذوف.

والمعنى : أنزل ـ سبحانه ـ على عبده الكتاب حالة كونه لم يجعل له عوجا بل جعله مستقيما ، لينذر الذين كفروا عذابا شديدا ، صادرا من عنده ـ تعالى ـ.

والتعبير بقوله (مِنْ لَدُنْهُ) يشعر بأنه عذاب ليس له دافع ، لأنه من عند الله تعالى ـ القاهر فوق عباده.

أما وظيفة القرآن بالنسبة للمؤمنين ، فقد بينها ـ سبحانه ـ بعد ذلك في قوله : (وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ. أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً. ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً).

أى : أنزل الله هذا القرآن ، ليخوف به الكافرين من عذابه ، وليبشر به المؤمنين الذين يعملون الأعمال الصالحات ، أن لهم من خالقهم ـ عزوجل ـ أجرا حسنا هو الجنة ونعيمها ، (ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً) أى : مقيمين فيه إقامة باقية دائمة لا انتهاء لها ، فالضمير في قوله (فِيهِ) يعود إلى الأجر الذي يراد به الجنة.

__________________

(١) سورة إبراهيم الآية ٢.

(٢) سورة الإسراء الآية ٩.

(٣) سورة الزمر الآية ٢٧ ، ٢٨.

(٤) سورة النساء الآية ٨٢.

٤٦٥

قال ـ تعالى ـ : (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا) (١).

ثم خص ـ سبحانه ـ بالإنذار فرقة من الكافرين ، نسبوا إلى الله ـ تعالى ـ ما هو منزه عنه ، فقال : (وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً. ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ : كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً).

فقوله ـ سبحانه ـ هنا : (وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً ..) معطوف على قوله قبل ذلك (لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ) من باب عطف الخاص على العام لأن الإنذار في الآية الأولى يشمل جميع الكافرين ومن بينهم الذين نسبوا إلى الله ـ تعالى ـ الولد.

والمراد بهم اليهود والنصارى ، وبعض مشركي العرب ، قال ـ تعالى ـ (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ ، وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) (٢).

وقال ـ سبحانه ـ : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) (٣).

قال الآلوسي : وترك ـ سبحانه ـ إجراء الموصول على الموصوف هنا ، حيث لم يقل وينذر الكافرين الذين قالوا .. كما قال في شأن المؤمنين : ويبشر المؤمنين الذين .. للإيذان بكفاية ما في حيز الصلة في الكفر على أقبح الوجوه. وإيثار صيغة الماضي في الصلة ، للدلالة ، على تحقيق صدور تلك الكلمة القبيحة عنهم فيما سبق (٤).

وقوله ـ تعالى ـ : (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ) توبيخ لهم على تفوههم بكلام يدل على إيغالهم في الجهل والبهتان.

أى : ما نسبوه إلى الله ـ تعالى ـ من الولد ، ليس لهم بهذه النسبة علم ، وكذلك ليس لآبائهم بهذه النسبة علم ، لأن ذلك مستحيل له ـ تعالى ـ ، كما قال ـ عزوجل ـ : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ ، وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ ، سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ. بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ ، وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ ، وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٥).

و «من» في قوله : (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ) مزيدة لتأكيد النفي ، والجملة مستأنفة ،

__________________

(١) سورة مريم الآية ٩٧.

(٢) سورة التوبة الآية ٣٠.

(٣) سورة النحل الآية ٥٧.

(٤) تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ٢٠٣.

(٥) سورة الأنعام الآيتان ١٠٠ ، ١٠١.

٤٦٦

و «لهم» خبر مقدم ، و «من علم» مبتدأ مؤخر ، وقوله (وَلا لِآبائِهِمْ) معطوف على الخبر.

أى : ما لهم بذلك شيء من العلم أصلا ، وكذلك الحال بالنسبة لآبائهم ، فالجملة الكريمة تنفى ما زعموه نفيا يشملهم ويشمل الذين سبقوهم وقالوا قولهم.

قال الكرخي : فإن قيل : اتخاذ الولد محال في نفسه ، فكيف قال : (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ؟) فالجواب أن انتفاء العلم بالشيء قد يكون للجهل بالطريق الموصل إليه ، وقد يكون لأنه في نفسه محال لا يمكن تعلق العلم به ، ونظيره قوله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ) (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) ذم شديد لهم على ما نطقوا به من كلام يدل على فرط جهلهم ، وعظم كذبهم.

وكبر : فعل ماض لإنشاء الذم ، فهو من باب نعم وبئس ، وفاعله ضمير محذوف ، مفسّر بالنكرة بعده وهي قوله (كَلِمَةً) المنصوبة على أنها تمييز ، والمخصوص بالذم محذوف.

والتقدير : كبرت هي كلمة خارجة من أفواههم تلك المقالة الشنعاء التي تفوهوا بها ، وهي قولهم : اتخذ الله ولدا فإنهم ما يقولون إلا قولا كاذبا محالا على الله ـ تعالى ـ ومخالفا للواقع ؛ ومنافيا للحق والصواب.

وفي هذا التعبير ما فيه من استعظام قبح ما نطقوا به ، حيث وصفه ـ سبحانه ـ بأنه مجرد كلام لاكته ألسنتهم ، ولا دليل عليه سوى كذبهم وافترائهم.

قال صاحب الكشاف : قوله (كَبُرَتْ كَلِمَةً) قرئ ، كبرت كلمة بالرفع على الفاعلية ، وبالنصب على التمييز ، والنصب أقوى وأبلغ ، وفيه معنى التعجب كأنه قيل : ما أكبرها كلمة.

وقوله (تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) صفة للكلمة تفيد استعظاما لاجترائهم على النطق به ، وإخراجها من أفواههم ، فإن كثيرا مما يوسوسه الشيطان في قلوب الناس ويحدثون أنفسهم به من المنكرات ، لا يتمالكون أن يتفوهوا به ، ويطلقوا به ألسنتهم ، بل يكظمون عليه تشوّرا من إظهاره ؛ فكيف بهذا المنكر؟

فإن قلت : إلام يرجع الضمير في «كبرت»؟ قلت : إلى قولهم اتخذ الله ولدا. وسميت

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ٤.

٤٦٧

كلمة كما يسمون القصيدة بها (١).

وشبيه بهذه الآية في استعظام ما نطقوا به من قبح قوله ـ تعالى ـ : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً ، لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا ، تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا. أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً. وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) (٢).

ثم ساق ـ سبحانه ـ ما يسلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما أصابه من حزن بسبب إعراض المشركين عن دعوة الحق ، فقال ـ تعالى ـ : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً).

قال بعض العلماء ما ملخصه : اعلم ـ أولا ـ أن لفظة لعل تكون للترجى في المحبوب ، وللإشفاق في المحذور. واستظهر أبو حيان أن لعل هنا للإشفاق عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يبخع نفسه لعدم إيمانهم.

وقال بعضهم إن لعل هنا للنهى. أى لا تبخع نفسك لعدم إيمانهم .. وهو الأظهر ، لكثرة ورود النهى صريحا عن ذلك ، قال ـ تعالى ـ : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ ..) (٣).

وقوله (باخِعٌ) من البخع ، وأصله أن تبلغ بالذبح البخاع ـ بكسر الباء ـ وهو عرق يجرى في الرقبة. وذلك أقصى حد الذبح. يقال : بخع فلان نفسه بخعا وبخوعا. أى : قتلها من شدة الغيظ والحزن ، وقوله : (عَلى آثارِهِمْ) أى : على أثر توليهم وإعراضهم عنك ، وقوله (أَسَفاً) أى : هما وغما مع المبالغة في ذلك ، وهو مفعول لأجله.

والمعنى : لا تهلك نفسك ـ أيها الرسول الكريم ـ هما وغما ، بسبب عدم إيمان هؤلاء المشركين. وبسبب إعراضهم عن دعوتك (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) ، و (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ).

قال الزمخشري : شبهه ـ سبحانه ـ وإياهم حين تولوا عنه ولم يؤمنوا به ، وما داخله من الوجد والأسف على توليهم ، برجل فارقته أحبته وأعزته فهو يتساقط حسرات على آثارهم ؛ ويبخع نفسه وجدا عليهم ، وتلهفا على فراقهم (٤).

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٤٧٢.

(٢) سورة مريم الآيات من ٨٨ ـ ٩٢.

(٣) أضواء البيان ج ٤ ص ١٤ الشيخ محمد الأمين الشنقيطى.

(٤) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٤٧٣.

٤٦٨

وقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ، وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً) تعليل للنهى المقصود من الترجي في قوله : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ ...) وزيادة في تسليته صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما أصابه من غم وحزن بسبب إصرار الكافرين على كفرهم.

أى : إنا بمقتضى حكمتنا ـ أيها الرسول الكريم ـ قد جعلنا ما على الأرض من حيوان ونبات وأنهار وبنيان .. زينة لها ولأهلها (لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) أى : لنختبرهم عن طريق ما جعلنا زينة للأرض ولأهلها : أيهم أتبع لأمرنا ونهينا ، وأسرع في الاستحابة لطاعتنا ، وأبعد عن الاغترار بشهواتها ومتعها. وإنا ـ أيضا ـ بمقتضى حكمتنا ، لجاعلون ما عليهم من هذه الزينة في الوقت الذي نريده لنهاية هذه الدنيا ، «صعيدا» ، أى : ترابا «جرزا» أى : لا نبات فيه ، يقال أرض جرز ، أى : لا تنبت ، أو كان بها نبات ثم زال.

ويقال : جرزت الأرض : إذا ذهب نباتها بسبب القحط ، أو الجراد الذي أتى على نباتها قال تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ ، فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ) (١).

والمقصود من الآيتين : الزيادة في تثبيت قلب النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وفي تسليته عما لحقه من حزن بسبب إصرار الكافرين على كفرهم.

فكأنه ـ سبحانه ـ يقول له : امض أيها الرسول الكريم في تبليغ ما أوحيناه إليك ، ولا تبال بإصرار الكافرين على كفرهم ، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات ، فإن حكمتنا قد اقتضت أن نجعل ما على الأرض من كل ما يصلح أن يكون زينة لها ولهم ؛ موضع ابتلاء واختبار للناس ، ليتميز المحسن من المسيء ، كما اقتضت حكمتنا ـ أيضا أن نصير ما على هذه الأرض عند انقضاء عمر الدنيا ترابا قاحلا لا نبات فيه ، ويعقب ذلك الجزاء على الأعمال ، وسننتقم لك من أعدائك (فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً. إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً).

وفي التعبير عما على الأرض بالزينة ، إشارة إلى أن ما عليها مهما حسن شكله ، وعظم ثمنه .. فهو إلى زوال ، شأنه في ذلك شأن ما يتزين به الرجال والنساء من ملابس وغيرها ، يتزينون بها لوقت ما ثم يتركونها وتتركهم.

وقوله (لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) تعليل لما اقتضته حكمته من جعل ما على الأرض زينة لها.

__________________

(١) سورة السجدة. الآية ٢٧.

٤٦٩

أى : فعلنا ذلك لنختبر الناس على ألسنة رسلنا ، أيهم أحسن عملا ، بحيث يكون عمله مطابقا لما جئت به ـ أيها الرسول الكريم ـ ، وخالصا لوجهنا ، ومبنيا على أساس الإيمان والعقيدة الصحيحة.

قال تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً).

وفي الحديث الشريف : «إن الدنيا حلوة خضرة ، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون ، واتقوا الدنيا ، واتقوا النساء ، فإن أول فتنة بنى إسرائيل كانت في النساء».

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً) زيادة في التزهيد في زينتها ، حيث إن مصيرها إلى الزوال ، وحض على التزود من العمل الصالح الذي يؤدى بالإنسان إلى السعادة الباقية الدائمة.

وبذلك نرى الآيات الكريمة ، قد قررت أن الثناء الكامل إنما هو لله ـ عزوجل ـ ، وأن الكتاب الذي أنزله على عبده ونبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا عوج فيه ولا ميل ، وأن وظيفة هذا الكتاب إنذار الكافرين بالعقاب ، وتبشير المؤمنين بالثواب ، كما أن من وظيفته تثبيت قلبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتسليته عما أصابه من أعدائه ، ببيان أن الله ـ تعالى ـ قد جعل هذه الدنيا بما فيها من زينة ، دار اختبار وامتحان ليتبين المحسن من المسيء ، وليجازى ـ سبحانه ـ الذين أساءوا بما عملوا ، ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى.

ثم ساق ـ سبحانه ـ بعد ذلك قصة أصحاب الكهف ، وبين أن قصتهم ليست عجيبة بالنسبة لقدرته ـ عزوجل ـ فقد أوجد ـ سبحانه ـ ما هو أعجب وأعظم من ذلك ، فقال ـ تعالى ـ :

(أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (٩) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (١٠) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي

٤٧٠

الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (١١) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً) (١٢)

قال الإمام الرازي : اعلم أن القوم تعجبوا من قصة أصحاب الكهف ، وسألوا عنها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على سبيل الامتحان ، فقال ـ تعالى ـ : (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً)؟ لا تحسبن ذلك فإن آياتنا كلها عجب فإن من كان قادرا على خلق السموات والأرض ، وعلى تزيين الأرض بما عليها من نبات وحيوان ومعادن ، ثم يجعلها بعد ذلك صعيدا جرزا خالية من الكل ، كيف يستبعد من قدرته وحفظه ورحمته حفظ طائفة من الناس مدة ثلاثمائة سنة وأكثر في النوم ..» (١).

وعلى ذلك يكون المقصود بهذه الآيات الكريمة ، بيان أن قصة أصحاب الكهف ليست شيئا عجبا بالنسبة لقدرة الله ـ تعالى ـ.

وقد ذكر المفسرون في سبب نزول قصة أصحاب الكهف روايات ملخصها : أن قريشا بعثت النضر بن الحارث ، وعقبة بن أبى معيط ، إلى أحبار اليهود بالمدينة ، فقالوا لهم : سلوهم عن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وصفوا لهم صفته ، وأخبروهم بقوله ، فإنهم أهل الكتاب الأول. وعندهم من العلم ما ليس عندنا من علم الأنبياء.

فخرجا حتى قدما المدينة ، فسألا أحبار اليهود عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووصفوا لهم أمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا لهما سلوه عن ثلاث نأمركم بهن. فإن أخبركم بهن ، فهو نبي مرسل وإن لم يفعل فالرجل متقول.

سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ماذا كان من خبرهم. فإنهم قد كان لهم حديث عجيب.

وسلوه عن رجل طواف طاف المشارق والمغارب ماذا كان من خبره؟ وسلوه عن الروح ، ما هو؟ فإن أخبركم بذلك فهو نبي فاتبعوه.

فأقبل النضر وعقبة حتى قدما على قريش. فقالا : يا معشر قريش ، قد جئناكم بفصل

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٢١ ص ٨٢.

٤٧١

ما بينكم وبين محمد ، قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور.

ثم جاءوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا يا محمد أخبرنا ، ثم سألوه عما قالته لهم يهود.

فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سأجيبكم غدا بما سألتم عنه ولم يستثن ـ : أى. ولم يقل إن شاء الله ـ فانصرفوا عنه.

ومكث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خمس عشرة ليلة. لا يحدث الله إليه في ذلك وحيا ، ولا يأتيه جبريل ـ عليه‌السلام ـ حتى أرجف أهل مكة وقالوا : وعدنا محمد غدا ، واليوم خمسة عشر قد أصبحنا فيها ، لا يخبرنا بشيء عما سألناه عنه. وحتى أحزن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكث الوحى عنه ، وشق عليه ما تكلم به أهل مكة ، ثم جاءه جبريل من عند الله بسورة أصحاب أصحاب الكهف ، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم ، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية والرجل الطواف ، وقول الله ـ تعالى ـ (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ، وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) (١).

والخطاب في قوله ـ تعالى ـ (أَمْ حَسِبْتَ ..) للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويدخل فيه غيره من المكلفين.

و «أم» في هذه الآية هي المنقطعة ، وتفسر عند الجمهور بمعنى بل والهمزة ، أى : بل أحسبت ، وعند بعض العلماء تفسر بمعنى بل ، فتكون للانتقال من كلام إلى آخر ، أى : بل حسبت. ويرى بعضهم أنها هنا بمعنى الهمزة التي للاستفهام الإنكارى أى : أحسبت أن أصحاب الكهف والرقيم.

والكهف : هو النقب المتسع في الجبل ، فإن لم يكن فيه سعة فهو غار ، وجمعه كهوف.

والمراد به هنا : ذلك الكهف الذي اتخذه هؤلاء الفتية مستقرا لهم.

وأما الرقيم فقد ذكروا في المراد به أقوالا متعددة منها : أنه اسم كلبهم ، ومنها أنه اسم الجبل أو الوادي الذي كان فيه الكهف ، ومنها أنه اسم القرية التي خرج منها هؤلاء الفتية.

ولعل أقرب الأقوال إلى الصواب أن المراد به اللوح الذي كتبت فيه أسماؤهم وأنسابهم وقصتهم ، فيكون الرقيم بمعنى المرقوم ـ فهو فعيل بمعنى مفعول ـ ومأخوذ من رقمت الكتاب إذا كتبته.

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٥ ص ١٣٢.

٤٧٢

ومنه قوله ـ تعالى ـ (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ. وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ. كِتابٌ مَرْقُومٌ) (١). أى مكتوب.

قال بعض العلماء : والظاهر أن أصحاب الكهف والرقيم : طائفة واحدة أضيفت إلى شيئين : أحدهما : معطوف على الآخر ، خلافا لمن قال أن أصحاب الكهف طائفة ، وأصحاب الرقيم طائفة أخرى ، وأن الله قص على نبيه في هذه السورة الكريمة قصة أصحاب الكهف ، ولم يذكر له شيئا عن أصحاب الرقيم. وخلافا لمن زعم أن أصحاب الكهف هم الثلاثة الذين سقطت عليهم صخرة فسدّت عليهم باب الكهف فدعوا الله بصالح أعمالهم فانفرجت ، وهم البار بوالديه ، والعفيف ، والمستأجر ، وقصتهم مشهورة ثابتة في الصحيح ، إلا أن تفسير الآية بأنهم هم المراد بعيد كما ترى» (٢).

والمعنى : أظننت ـ أيها الرسول الكريم ـ أن ما قصصناه عليك من شأن هؤلاء الفتية ، كان من بين آياتنا الدالة على قدرتنا شيئا عجبا؟ لا ، لا تظن ذلك فإن قدرتنا لا يعجزها شيء.

ثم حكى ـ سبحانه ـ ما قالوه عند ما حطوا رحالهم في الكهف فقال : إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا : (رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً. وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً).

و «إذ» هنا ظرف منصوب بفعل تقديره : اذكر.

و «أوى» فعل ماض ـ من باب ضرب ـ تقول : أوى فلان إلى مسكنه يأوى ، إذا نزله بنفسه. واستقر فيه.

و «الفتية» : جمع قلة لفتى. وهو وصف للإنسان عند ما يكون في مطلع شبابه.

وقوله : (وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا) : من التهيئة بمعنى : تيسير الأمر وتقريبه وتسهيله حتى لا يخالطه عسر أو مشقة.

والمراد بالأمر هنا : ما كانوا عليه من تركهم لأهليهم ومساكنهم ، ومن مفارقتهم لما كان عليه أعداؤهم من عقائد فاسدة.

__________________

(١) سورة المطففين الآيات ١٨ ـ ٢٠.

(٢) تفسير أضواء البيان ج ٤ ص ٢٠.

٤٧٣

والرشد : الاهتداء إلى الطريق المستقيم مع البقاء عليه. وهو ضد الغي. يقال : رشد فلان يرشد رشدا ورشادا ، إذا أصاب الحق.

أى : واذكر ـ أيها الرسول الكريم ـ للناس ليعتبروا ، وقت أن خرج هؤلاء الفتية من مساكنهم ، تاركين كل شيء خلفهم من أجل سلامة عقيدتهم فالتجأوا إلى الكهف ، واتخذوه مأوى لهم ، وتضرعوا إلى خالقهم قائلين : يا ربنا آتنا من لدنك رحمة ، تهدى بها قلوبنا ، وتصلح بها شأننا ، وتردّيها الفتن عنا ، كما نسألك يا ربنا أن تهيئ لنا من أمرنا الذي نحن عليه ـ وهو : فرارنا بديننا. وثباتنا على إيماننا ـ ما يزيدنا سدادا وتوفيقا لطاعتك.

وقال ـ سبحانه ـ : (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ ..) بالإظهار ـ مع أنه قد سبق الحديث عنهم بأنهم أصحاب الكهف لتحقيق ما كانوا عليه من فتوة ، وللتنصيص على وصفهم الدال على قلتهم ، وعلى أنهم شباب في مقتبل أعمارهم ، ومع ذلك ضحوا بكل شيء في سبيل عقيدتهم.

والتعبير بالفعل (أَوَى) يشعر بأنهم بمجرد عثورهم على الكهف. ألقوا رحالهم فيه واستقروا به استقرار من عثر على ضالته ، وآثروه على مساكنهم المريحة ، لأنه واراهم عن أعين القوم الظالمين.

والتعبير بالفاء في قوله ـ سبحانه ـ (فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً ..) يدل على أنهم بمجرد استقرارهم في الكهف ابتهلوا إلى الله ـ تعالى ـ بهذا الدعاء الجامع لكل خير.

والتنوين في قوله : (رَحْمَةً) : للتهويل والتنويع. أى : آتنا يا ربنا من عندك وحدك لا من غيرك. رحمة عظيمة شاملة لجميع أحوالنا وشئوننا. فهي تشمل الأمان في المنزل ، والسعة في الرزق ؛ والمغفرة للذنب.

قال القرطبي ما ملخصه : هذه الآية صريحة في الفرار بالدين وهجرة الأهل والأوطان .. خوف الفتنة ، ورجاء السلامة بالدين والنجاة من فتنة الكافرين .. (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ ما حدث لهؤلاء الفتية بعد أن لجئوا إلى الكهف ، وبعد أن دعوا الله بهذا الدعاء الشامل لكل خير. فقال : (فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً).

وأصل الضرب في كلام العرب يرجع إلى معنى التقاء ظاهر جسم ، بظاهر جسم آخر بشدة.

__________________

(١) راجع تفسير القرطبي ج ١٠ ص ٣٦٠.

٤٧٤

يقال : ضرب فلان بيده الأرض إذا ألصقها بها بشدة ، وتفرعت عن هذا المعنى معان أخرى ترجع إلى شدة اللصوق.

والمراد بالضرب هنا النوم الطويل الذي غشاهم الله ـ تعالى ـ به فصاروا لا يحسون شيئا مما حولهم ، ومفعول ضربنا محذوف.

والمعنى : بعد أن استقر هؤلاء الفتية في الكهف ، وتضرعوا إلينا بهذا الدعاء العظيم ، ضربنا على آذانهم وهم في الكهف حجابا ثقيلا مانعا من السماع ، فصاروا لا يسمعون شيئا يوقظهم ، واستمروا في نومهم العميق هذا (سِنِينَ) ذات عدد كثير ، بينها ـ سبحانه ـ بعد ذلك في قوله : (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً).

وخص ـ سبحانه ـ الآذان بالضرب ، مع أن مشاعرهم كلها كانت محجوبة عن اليقظة ، لأن الآذان هي الطريق الأول للتيقظ. ولأنه لا يثقل النوم إلا عند ما تتعطل وظيفة السمع.

وقد ورد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند ما علم أن رجلا لا يستيقظ مبكرا أن قال في شأنه : «ذلك رجل قد بال الشيطان في أذنه» أى : فمنعها من التبكير واليقظة قبل طلوع الشمس.

والتعبير بالضرب ـ كما سبق أن أشرنا ـ للدلالة على قوة المباشرة ، وشدة اللصوق واللزوم ، ومنه قوله تعالى ـ (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ) أى : التصقتا بهم التصاقا لا فكاك لهم منه ، ولا مهرب لهم عنه.

ثم بين ـ سبحانه ـ ما حدث لهم بعد هذا النوم الطويل فقال : (ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً).

وأصل البعث في اللغة : إثارة الشيء من محله وتحريكه بعد سكون. ومنه قولهم : بعث فلان الناقة ـ إذا أثارها من مبركها للسير ، ويستعمل بمعنى الإيقاظ وهو المقصود هنا من قوله : (بَعَثْناهُمْ) أى : أيقظناهم بعد رقادهم الطويل.

وقوله (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ) بيان للحكمة التي من أجلها أيقظهم الله من نومهم.

وكثير من المفسرين على أن الحزبين أحدهما : أصحاب الكهف والثاني : أهل المدينة الذين أيقظ الله أهل الكهف من رقادهم في عهدهم ، وكان عندهم معرفة بشأنهم.

وقيل : هما حزبان من أهل المدينة الذين بعث هؤلاء الفتية في زمانهم ، إلا أن أهل هذه المدينة كان منهم حزب مؤمن وآخر كافر.

وقيل : هما حزبان من المؤمنين كانوا موجودين في زمن بعث هؤلاء الفتية ، وهذان الحزبان اختلفوا فيما بينهم في المدة التي مكثها هؤلاء الفتية رقودا.

٤٧٥

والذي تطمئن إليه النفس أن الحزبين كليهما من أصحاب الكهف ، لأن الله ـ تعالى ـ قد قال بعد ذلك ـ (وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ) أى الفتية (لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ ، قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ ، قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ، قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ ..).

قال الآلوسى : (ثُمَّ بَعَثْناهُمْ) أى : أيقظناهم وأثرناهم من نومهم (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ) أى : منهم ، وهم القائلون (لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) والقائلون (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ).

وقيل : أحد الحزبين الفتية الذين ظنوا قلة زمان لبثهم ، والثاني أهل المدينة الذين بعث الفتية على عهدهم وكان عندهم تاريخ غيبتهم .. والظاهر الأول لأن اللام للعهد ، ولا عهد لغير من سمعت (١).

والمراد بالعلم في قوله (لِنَعْلَمَ ..) إظهار المعلوم ، أى ثم بعثناهم لنعلم ذلك علما يظهر الحقيقة التي لا حقيقة سواها للناس.

ويجوز أن يكون العلم هنا بمعنى التمييز ، أى : ثم بعثناهم لنميز أى الحزبين أحصى لما لبثوا أبدا.

فهو من باب ذكر السبب وإرادة المسبب ، إذ العلم سبب للتمييز.

ولفظ «أحصى» يرى صاحب الكشاف ومن تابعه أنه فعل ماض ، ولفظ «أمدا» مفعوله ، و «ما» في قوله (لِما لَبِثُوا) مصدرية ، فيكون المعنى ، ثم بعثناهم لنعلم أى الحزبين أضبط أمدا ـ أى مدة ـ للبثهم في الكهف.

قال صاحب الكشاف : و «أحصى» فعل ماض ، أى : أيهم أضبط «أمدا» لأوقات لبثهم.

فإن قلت : فما تقول فيمن جعله من أفعل التفضيل؟ قلت : ليس بالوجه السديد ، وذلك أن بناءه من غير الثلاثي المجرد ليس بقياس .. والقياس على الشاذ في غير القرآن ممتنع فكيف به .. (٢).

وبعضهم يرى أن لفظ «أحصى» صيغة تفضيل ، وأن قوله «أمدا» منصوب على أنه تمييز وفي إظهار هذه الحقيقة للناس ، وهي أن الله ـ تعالى ـ قد ضرب النوم على آذان هؤلاء الفتية

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ٢١٢.

(٢) راجع الكشاف ج ٢ ص ٤٧٤.

٤٧٦

وقوله ـ تعالى ـ : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ).

وفي غير ذلك من الآيات التي حكت لنا تلك القصص المتعددة.

(ج) برز في السورة عنصر الموازنة والمقارنة بين حسن عاقبة الأخيار وسوء عاقبة الأشرار ، ترى ذلك في قصة أصحاب الكهف ، وفي قصة الرجلين وفي قصة ذي القرنين.

وفي الآيات التي ذكرت الكافرين وسوء مصيرهم ، ثم أعقبت ذلك يذكر المؤمنين وحسن مصيرهم كما برز فيها عنصر التسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتهوين من شأن أعدائه (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً).

كما برز فيها التصوير المؤثر لأهوال يوم القيامة كما في قوله ـ تعالى ـ : (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً. وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ).

والخلاصة : أن سورة الكهف قد ـ ساقت ـ بأسلوبها البليغ الذي يغلب عليه طابع القصة ـ ألوانا من التوجيهات السامية ، التي من شأنها أنها تهدى إلى العقيدة الصحيحة ، وإلى السلوك القويم. وإلى الخلق الكريم ، وإلى التفكير السليم الذي يهدى إلى الرشد ، وإلى كل ما يوصل إلى السعادة في الدنيا والآخرة.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

٤٧٧

التفسير

قال ـ تعالى ـ :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (٢) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (٣) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً (٤) ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (٥) فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (٦) إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (٧) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً) (٨)

سورة الكهف هي إحدى السور الخمس ، التي افتتحت بتقرير الحقيقة الأولى في كل دين ، وهي أن المستحق للحمد المطلق ، والثناء التام ، هو الله رب العالمين.

والسور الأربع الأخرى التي افتتحت بقوله ـ تعالى ـ : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) هي : الفاتحة ، والأنعام ، وسبأ ، وفاطر.

وقد بينا عند تفسيرنا لسورة الأنعام ، أن هذه السور وإن كانت قد اشتركت في هذا

٤٧٨

ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا ، ثم بعثهم بعد ذلك دون أن يتغير حالهم ، أقول : في إظهار هذه الحقيقة دليل واضح على قدرة الله ـ تعالى ـ وعلى وجوب إخلاص العبادة له ، وعلى أن البعث بعد الموت حق لا ريب فيه.

وبذلك تكون هذه الآيات قد ساقت لنا قصة أصحاب الكهف على سبيل الإجمال والاختصار ، ثم جاءت آيات بعد ذلك لتحكى لنا قصتهم على سبيل التفصيل والبسط ، وهذه الآيات هي قوله ـ تعالى ـ.

(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (١٣) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (١٤) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً (١٥) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً) (١٦)

أى : «نحن» وحدنا يا محمد ، نقص عليك وعلى أمتك خبر هؤلاء الفتية قصصا لحمته وسداه الحق والصدق ، لأنه قصص من ربك الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.

وقوله : (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً) كلام مستأنف جواب عن سؤال تقديره ما قصتهم وما شأنهم بالتفصيل؟

أى : إنهم فتية أخلصوا العبادة لخالقهم ، وأسلموا وجوههم لبارئهم ، وآمنوا بربوبيته ـ

٤٧٩

سبحانه ـ إيمانا عميقا ثابتا ، فزادهم الله ببركة هذا الإخلاص والثبات على الحق ، هداية على هدايتهم ، وإيمانا على إيمانهم.

وقوله ـ سبحانه ـ (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِ) إيماء إلى أن قصة هؤلاء الفتية كانت معروفة لبعض الناس ، إلا أن معرفتهم بها كانت مشوبة بالخرافات والأباطيل.

قال ابن كثير : ما ملخصه : ذكر الله ـ تعالى ـ أنهم كانوا فتية ـ أى شبابا ـ ، وهم أقبل للحق من الشيوخ ، الذين عتوا في دين الباطل ، ولهذا كان اكثر المستجيبين لله ولرسوله شبابا ، وأما المشايخ من قريش ، فعامتهم بقوا على دينهم ، ولم يسلم منهم إلا القليل.

واستدل غير واحد من الأئمة كالبخارى وغيره بقوله (وَزِدْناهُمْ هُدىً) إلى أن الإيمان يزيد وينقص .. (١).

ثم حكى ـ سبحانه ـ جانبا من مظاهر هدايته لهم فقال : (وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا).

وأصل الربط : الشد ، يقال ، ربطت الدابة ، أى : شددتها برباط ، والمراد به هنا : ما غرسه الله في قلوبهم من قوة ، وثبات على الحق ، وصبر على فراق أهليهم ، ومنه قولهم : فلان رابط الجأش ، إذا كان لا يفزع عند الشدائد والكروب.

والمراد بقيامهم : عقدهم العزم على مفارقة ما عليه قومهم من باطل ، وتصميمهم على ذلك تصميما لا تزحزحه الخطوب مهما كانت جسيمة.

ويصح أن يكون المراد بقيامهم : وقوفهم في وجه ملكهم الجبار بثبات وقوة ، دون أن يبالوا به عند ما أمرهم بعبادة ما يعبده قومهم ، وإعلانهم دين التوحيد ، ونبذهم لكل ما سواه من شرك وضلال.

قال القرطبي ما ملخصه : قوله ـ تعالى ـ (إِذْ قامُوا) يحتمل ثلاثة معان. أحدها : أن يكون هذا وصف مقامهم بين يدي الملك الكافر ، وهو مقام يحتاج إلى الربط على القلب حيث خالفوا دينه ، ورفضوا ما دعاهم إليه.

والمعنى الثاني فيما قيل : إنهم أولاد عظماء تلك المدينة فخرجوا واجتمعوا وراءها من غير ميعاد ، وتعاهدوا على عبادة الله وحده.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ١٣٦.

٤٨٠