التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٨

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٨

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0668-X
الصفحات: ٥٩٧

وهداه ، فإن البخل والجزع والهلع صفة له ، كما قال ـ تعالى ـ : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً. إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً. وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً. إِلَّا الْمُصَلِّينَ).

ولهذا نظائر كثيرة في القرآن الكريم ، وهذا يدل على كرمه ـ تعالى ـ وإحسانه. وقد جاء في الصحيحين : يد الله ملأى لا يغيضها نفقة ، سحاء الليل والنهار ، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض ، فإنه لم يغض ما في يمينه (١).

وقال الآلوسى : وقد بلغت هذه الآية من الوصف بالشح الغاية القصوى التي لا يبلغها الوهم ، حيث أفادت أنهم لو ملكوا خزائن رحمة الله ـ تعالى ـ التي لا تتناهى ، وانفردوا بملكها من غير مزاحم ، لأمسكوا عن النفقة من غير مقتض إلا خشية الفقر ، وإن شئت فوازن بقول الشاعر :

ولو ان دارك أنبتت لك أرضها

إبرا يضيق بها فناء المنزل

وأتاك يوسف يستعيرك إبرة

ليخيط قد قميصه لم تفعل

مع أن فيه من المبالغات ما يزيد على العشرة ، ترى التفاوت الذي لا يحصر ...» (٢).

ثم بين ـ سبحانه ـ ما يدل على أن العبرة في الإيمان ، ليست بعظم الخوارق ووضوحها ، وإنما العبرة بتفتح القلوب للحق ، واستعدادها لقبوله ، وساق ـ سبحانه ـ مثلا لذلك من قصة موسى ـ عليه‌السلام ـ فقد أعطاه من المعجزات البينة ما يشهد بصدقه ، ولكن فرعون وجنده لم تزدهم تلك المعجزات إلا كفرا وعنادا ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (١٠١) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (١٠٢) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ١٢٢.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ١٨١.

٤٤١

فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (١٠٣) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً) (١٠٤)

والمراد بالآيات التسع في قوله ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ ...) : العصا ، واليد ، والسنون ، والبحر ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ؛ والدم. قال ذلك ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم.

وقد جاء الحديث عن هذه الآيات في مواضع أخرى من القرآن الكريم ، منها قوله ـ تعالى ـ : (فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ. وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ ...) (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ : (فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) (٣).

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ ، آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) (٤).

والمعنى : لا تظن ـ أيها الرسول الكريم ـ أن إيمان هؤلاء المشركين من قومك ، متوقف على إجابة ما طلبوه منك. وما اقترحوه عليك من أن تفجر لهم من الأرض ينبوعا ، أو تكون لك جنة من نخيل وعنب .. إلخ. لا تظن ذلك :

فإن الخوارق مهما عظمت لا تنشئ الإيمان في القلوب الجاحدة الحاقدة ، بدليل أننا قد أعطينا أخاك موسى تسع معجزات ، واضحات الدلالة على صدقه في نبوته ، ولكن هذه المعجزات لم تزد المعاندين من قومه إلا كفرا على كفرهم ورجسا على رجسهم. فاصبر ـ أيها الرسول ـ على تعنت قومك وأذاهم ، كما صبر أولو العزم من الرسل قبلك.

وتحديد الآيات بالتسع ، لا ينفى أن هناك معجزات أخرى أعطاها الله ـ تعالى ـ

__________________

(١) سورة الشعراء الآيتان : ٣٢ ، ٣٣.

(٢) سورة الأعراف الآية ١٣٠.

(٣) سورة الشعراء الآية ٦٣.

(٤) سورة الأعراف الآية ١٣٢.

٤٤٢

لموسى ـ عليه‌السلام ـ إذ من المعروف عند علماء الأصول ، أن تحديد العدد بالذكر ، لا يدل على نفى الزائد عنه.

قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية : وهذا القول ـ المروي عن ابن عباس وغيره ـ ظاهر جلى حسن قوى .. فهذه الآيات التسع ، التي ذكرها هؤلاء الأئمة ، هي المرادة هنا ...

وقد أوتى موسى ـ عليه‌السلام ـ آيات أخرى كثيرة منها : ضربه الحجر بالعصا ، وخروج الماء منه .. وغير ذلك مما أوتوه بنو إسرائيل بعد خروجهم من مصر ، ولكن ذكر هنا هذه الآيات التسع التي شاهدها فرعون وقومه من أهل مصر وكانت حجة عليهم فخالفوها وعاندوها كفرا وجحودا.

ثم قال : وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة ، قال : سمعت عبد الله بن سلمة يحدث عن صفوان بن عسال المرادي قال : قال يهودي لصاحبه : اذهب بنا إلى هذا النبي حتى نسأله عن هذه الآية : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ ...) فسألاه : فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تشركوا بالله شيئا ، ولا تسرقوا ولا تزنوا ، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ، ولا تسخروا ، ولا تأكلوا الربا ، ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان ليقتله ، ولا تقذفوا محصنة ، ولا تفروا من الزحف» .. فقبّلا يديه ورجليه ...

ثم قال : «أما هذا الحديث فهو حديث مشكل. وعبد الله بن سلمة في حفظه شيء ، وتكلموا فيه ، ولعله اشتبه عليه التسع الآيات ، بالعشر الكلمات ، فإنها وصايا في التوراة ، لا تعلق لها بقيام الحجة على فرعون ...» (١).

والحق أن ما رجحه الإمام ابن كثير من أن المراد بالآيات التسع هنا : ما آتاه الله ـ تعالى ـ لنبيه موسى ـ عليه‌السلام ـ من العصا ، واليد ... هو الذي تسكن إليه النفس ، لأن قوله ـ تعالى ـ بعد ذلك (قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ ...) يؤيد أن المراد بها ما تقدم من العصا ، واليد ، والسنين .. ولأنها هي التي فيها الحجج ، والبراهين والمعجزات الدالة على صدق موسى ـ عليه‌السلام ـ. أما تلك الوصايا التي وردت في الحديث فلا علاقة لها بقيام الحجة على فرعون ـ كما قال الإمام ابن كثير.

هذا ، والخطاب في قوله ـ تعالى ـ : (فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ) يرى بعضهم أنه

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ١٢٣.

٤٤٣

للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسئولون هم المؤمنون من بنى إسرائيل كعبد الله بن سلام وأصحابه.

وعلى هذا التفسير يكون قوله (إِذْ جاءَهُمْ) ظرف لقوله (آتَيْنا) وجملة (فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ) معترضة بين العامل والمعمول.

والمعنى : ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات ، وقت أن أرسله الله ـ تعالى ـ إلى فرعون وقومه ، فاسأل ـ أيها الرسول الكريم ـ المؤمنين من بنى إسرائيل عن ذلك ، فستجد منهم الجواب عما جرى بين موسى وأعدائه عن طريق ما طالعوه في التوراة.

والمقصود بسؤالهم : الاستشهاد بهم حتى يزداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم ، لأن من شأن الأدلة إذا تضافرت وتعددت ، أن تكون أقوى وأثبت في تأييد المدعى.

قال الآلوسى : والمعنى : فاسأل يا محمد مؤمنى أهل الكتاب عن ذلك ، إما لأن تظاهر الأدلة أقوى ـ في التثبيت ـ ، وإما من باب التهييج والإلهاب ، وإما للدلالة على أنه أمر محقق عندهم ثابت في كتابهم. وليس المقصود حقيقة السؤال. بل كونهم ـ أعنى المسئولين ـ من أهل علمه ، ولهذا يؤمر مثلك بسؤالهم» (١).

ويرى آخرون أن الخطاب لموسى ـ عليه‌السلام ـ ، وعليه يكون السؤال إما بمعناه المشهور أو بمعنى الطلب ، ويكون قوله (إِذْ جاءَهُمْ) ظرفا لفعل مقدر.

والمعنى : ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات ، فقلنا له حين مجيئه إلى بنى إسرائيل : اسألهم عن أحوالهم مع فرعون ، أو اطلب منهم أن يؤمنوا بك ويصدقوك ، ويخرجوا معك حين تطلب من فرعون ذلك.

والفاء في قوله : (فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً) هي الفصيحة. إذ المعنى : فامتثل موسى أمرنا ، وسأل بنى إسرائيل عن أحوالهم ، وطلب من فرعون أن يرسلهم معه ، بعد أن أظهر له من المعجزات ما يدل على صدقه ، فقال فرعون لموسى على سبيل التعالي والتهوين من شأنه ـ عليه‌السلام ـ : يا موسى إنى لأظنك مسحورا.

أى : سحرت فخولط عقلك واختل ، وصرت تتصرف تصرفا يتنافى مع العقل السليم ، وتدعى دعاوى لا تدل على تفكير قويم.

فقوله (مَسْحُوراً) اسم مفعول. يقال : سحر فلان فلانا يسحره سحرا فهو مسحور ، إذا اختلط عقله.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ١٨٤.

٤٤٤

ويجوز أن يكون قوله (مَسْحُوراً) بمعنى ساحر ، فيكون المعنى : إنى لأطنك يا موسى ساحرا ، عليما بفنون السحر فقد أتيت بأشياء عجيبة يشير بذلك إلى انقلاب العصا حية بعد أن ألقاها ـ عليه‌السلام ـ.

وهذا شأن الطغاة في كل زمان ومكان ، عند ما يرون الحق قد أخذ يحاصرهم ، ويكشف عن ضلالهم وكذبهم ... يرمون أهله ـ زورا وبهتانا ـ بكل نقيصة.

وعند ما يحكى القرآن الكريم ما رد به موسى على فرعون فيقول : (قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ).

أى : قال موسى لفرعون ردا على كذبه وافترائه : لقد علمت يا فرعون أنه ما أوجد هذه الآيات التسع إلا الله ـ تعالى ـ خالق السموات والأرض ، وقد أوجدها ـ سبحانه ـ بصورة واضحة جلية ، حتى لكأتها البصائر في كشفها للحقائق وتجليتها.

فقوله (بَصائِرَ) حال من (هؤُلاءِ) أى : أنزل هذه الآيات حال كونها بينات واضحات تدلك على صدقى.

وفي هذا الرد توبيخ لفرعون على تجاهله الحقائق ، حيث كان يعلم علم اليقين أن موسى ـ عليه‌السلام ـ ليس مسحورا ولا ساحرا ، وأن الآيات التي جاء بها إنما هي من عند الله ـ تعالى ـ ، كما قال ـ سبحانه ـ : مخاطبا موسى : (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ، فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ ، إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ. فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً ، قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ. وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا ، فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) (١).

وقوله : (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً) توبيخ آخر لفرعون ، وتهديد له لأنه وصف نبيا من أنبياء الله ـ تعالى ـ بأنه مسحور.

ومثبورا بمعنى مهلك مدمر. يقال : ثبر الله ـ تعالى ـ الظالم يثبره ثبورا ، إذا أهلكه.

أو بمعنى مصروفا عن الخير. مطبوعا على الشر من قولهم : ما ثبرك يا فلان عن هذا الأمر؟ أى : ما الذي صرفك ومنعك عنه.

والظن هنا بمعنى اليقين ، والمعنى : وإنى لأعتقد يا فرعون أن مصيرك إلى الهلاك والتدمير ،

__________________

(١) سورة النمل الآيات ١٢ ـ ١٤.

٤٤٥

بسبب إصرارك على الكفر والطغيان ، من بعد إتيانى بالمعجزات الدالة على صدقى فيما أبلغه عن ربي الذي خلقني وخلقك وخلق كل شيء.

ثم حكى القرآن بعد ذلك ما هم به فرعون ، بعد أن أخرسه موسى ـ عليه‌السلام ـ بقوة حجته ، وثبات جنانه فقال : (فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ) ..

والاستفزاز : الإزعاج والاستخفاف ، والمراد ـ به هنا : الطرد والقتل.

والضمير المنصوب في (يَسْتَفِزَّهُمْ) يعود إلى موسى وقومه بنى إسرائيل.

أى : فأراد فرعون بعد أن وبخه موسى وهدده ، أن يطرده وقومه من أرض مصر التي يسكنون معه فيها. وأن يقطع دابرهم ، كما أشار إلى ذلك ـ سبحانه ـ في قوله : (وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ) (١).

ثم حكى ـ سبحانه ـ ما ترتب على ما أراده فرعون من استفزاز لموسى وقومه فقال : (فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً. وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ ...).

أى : أراد فرعون أن يطرد موسى وقومه من أرض مصر ، وأن يهلكهم .. فكانت النتيجة أن عكسنا عليه مكره وبغيه ، حيث أهلكناه هو وجنده بالغرق ، دون أن نستثنى منهم أحدا.

وقلنا من بعد هلاكه لبنى إسرائيل على لسان نبينا موسى ـ عليه‌السلام ـ : اسكنوا الأرض التي أراد أن يستفزكم منها فرعون وهي أرض مصر.

قال الآلوسى : وهذا ظاهر إن ثبت أنهم دخلوها بعد أن خرجوا منها ، وبعد أن أغرق الله فرعون وجنده. وإن لم يثبت فالمراد من بنى إسرائيل ذرية أولئك الذين أراد فرعون استفزازهم ، واختار غير واحد أن المراد من الأرض. الأرض المقدسة ، وهي أرض الشام (٢).

وعلى أية حال فالآية الكريمة تحكى سنة من سنن الله ـ تعالى ـ في إهلاك الظالمين ، وفي توريث المستضعفين الصابرين أرضهم وديارهم.

ورحم الله الإمام ابن كثير ، فقد قال عند تفسيره لهذه الآية. وفي هذا بشارة لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بفتح مكة. مع أن هذه السورة نزلت قبل الهجرة ، وكذلك وقع ، فإن أهل مكة هموا

__________________

(١) سورة الأعراف الآية ١٢٧.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ١٨٦.

٤٤٦

بإخراج الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم منها ، كما قال ـ تعالى ـ : (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها ...) ولهذا أورث الله ـ تعالى ـ رسوله مكة ، فدخلها ، وقهر أهلها ، ثم أطلقهم حلما وكرما ، كما أورث الله القوم الذين كانوا مستضعفين من بنى إسرائيل ، مشارق الأرض ومغاربها. وأورثهم بلاد فرعون ...» (١).

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآيات الكريمة بقوله : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً).

أى : فإذا جاء وعد الدار الآخرة ، أى : الموعد الذي حدده الله ـ تعالى ـ لقيام الساعة ، أحييناكم من قبوركم ، وجئنا بكم جميعا أنتم وفرعون وقومه مختلطين أنتم وهم ، ثم نحكم بينكم وبينهم بحكمنا العادل.

واللفيف : اسم جمع لا واحد له من لفظه ، ومعناه الجماعة التي اجتمعت من قبائل شتى.

يقال : هذا طعام لفيف ، إذا كان مخلوطا من جنسين فصاعدا.

وبذلك نرى الآيات الكريمة قد حكت لنا جانبا مما دار بين موسى ـ عليه‌السلام ـ وبين فرعون من محاورات ومجادلات ، وبينت لنا سنة من سنن الله ـ تعالى ـ التي لا تتخلف في نصرة المؤمنين ، ودحر الكافرين.

ثم عادت السورة الكريمة إلى التنويه بشأن القرآن الكريم ، وأثنت على المؤمنين من أهل الكتاب الذين تأثروا تأثرا بليغا عند سماعه ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (١٠٥) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (١٠٦) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (١٠٧) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ١٢٤.

٤٤٧

وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (١٠٨) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) (١٠٩)

قال الآلوسى : قوله ـ تعالى ـ : (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ ..) عود إلى شرح حال القرآن الكريم ، فهو مرتبط بقوله : (لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ..) وهكذا طريقة العرب في كلامها ، تأخذ في شيء وتستطرد منه إلى آخر ، ثم إلى آخر ، ثم إلى آخر ، ثم تعود إلى ما ذكرته أولا ، والحديث شجون ...» (١).

والمراد بالحق الأول : الحكمة الإلهية التي اقتضت إنزاله ، والمراد بالحق الثاني : ما اشتمل عليه هذا القرآن من عقائد وعبادات وآداب وأحكام ومعاملات ...

والباء في الموضعين للملابسة ، والجار والمجرور في موضع الحال من ضمير القرآن الذي دل الكلام على أن الحديث عنه.

والمعنى : وإن هذا القرآن ما أنزلناه إلا ملتبسا بالحق الذي تقتضيه حكمتنا ، وما أنزلناه إلا وهو مشتمل على كل ما هو حق من العقائد والعبادات وغيرهما. فالحق سداه ولحمته ، والحق مادته وغايته.

قال بعض العلماء : بين ـ جل وعلا ـ في هذه الآية الكريمة ، أنه أنزل هذا القرآن بالحق ، أى : ملتبسا به متضمنا له ، فكل ما فيه حق ، فأخباره صدق. وأحكامه عدل ، كما قال ـ تعالى ـ : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ ...) وكيف لا ، وقد أنزله ـ سبحانه ـ بعلمه ، كما قال ـ تعالى ـ (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ ، وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً).

وقوله (وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) يدل على أنه لم يقع فيه تغيير ولا تبديل في طريق إنزاله ، لأن الرسول المؤتمن على إنزاله قوى لا يغلب عليه ، حتى يغير فيه ، أمين لا يغير ولا يبدل ، كما أشار إلى هذا ـ سبحانه ـ بقوله : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ. ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ. مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) (٢).

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٠ ص ١٨٧.

(٢) أضواء البيان ج ص ٥٧٥ للشيخ محمد الأمين الشنقيطى رحمه‌الله.

٤٤٨

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً) ثناء على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي نزل عليه القرآن ، بعد الثناء على القرآن في ذاته.

أى : وما أرسلناك ـ أيها الرسول الكريم ـ إلا مبشرا لمن أطاعنا بالثواب ، وإلا منذرا لمن عصانا بالعقاب. ولم نرسلك لتخلق الهداية في القلوب ، فإن ذلك من شأن الله تعالى.

ثم بين ـ سبحانه ـ الحكم التي من أجلها أنزل القرآن مفصلا ومنجما ، فقال : (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً).

ولفظ : (قُرْآناً) منصوب بفعل مضمر أى : وآتيناك قرآنا.

وقوله : (فَرَقْناهُ) أى : فصلناه. أو فرقنا فيه بين الحق والباطل. أو أنزلناه منجما مفرقا.

قال الجمل : وقراءة العامة (فَرَقْناهُ) بالتخفيف. أى : بينا حلاله وحرامه ...

وقرأ على وجماعة من الصحابة وغيرهم بالتشديد وفيه وجهان : أحدهما : أن التضعيف للتكثير. أى : فرقنا آياته بين أمر ونهى وحكم وأحكام. ومواعظ وأمثال وقصص وأخبار. والثاني : أنه دال على التفريق والتنجيم» (١).

وقوله (عَلى مُكْثٍ) أى : على تؤدة وتمهل وحسن ترتيل ، إذ المكث التلبث في المكان ، والإقامة فيه انتظارا لأمر من الأمور.

والمعنى : «ولقد أنزلنا إليك ـ أيها الرسول ـ هذا القرآن ، مفصلا في أوامره ونواهيه ، وفي أحكامه وأمثاله ... ومنجما في نزوله لكي تقرأه على الناس على تؤدة وتأن وحسن ترتيل ، حتى يتيسر لهم حفظه بسهولة ، وحتى يتمكنوا من تطبيق تشريعاته وتوجيهاته تطبيقا عمليا دقيقا.

وهكذا فعل الصحابة ـ رضى الله عنهم ـ : فإنهم لم يكن القرآن بالنسبة لهم متعة عقلية ونفسية فحسب ، وإنما كان القرآن بجانب حبهم الصادق لقراءته وللاستماع إليه منهجا لحياتهم ، يطبقون أحكامه وأوامره ونواهيه وآدابه ... في جميع أحوالهم الدينية والدنيوية.

قال أبو عبد الرحمن السلمى : حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن ، أنهم كانوا يستقرئون عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يتركوها حتى يعملوا بما فيها «فتعلمنا القرآن والعمل جميعا».

__________________

(١) حاشية الجمل ج ٢ ص ٦٥١.

٤٤٩

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) أى : ونزلناه تنزيلا مفرقا منجما عليك يا محمد في مدة تصل إلى ثلاث وعشرين سنة ، على حسب ما تقتضيه حكمتنا ، وعلى حسب الحوادث والمصالح ، وليس من أجل تيسير حفظه فحسب.

ثم أمر الله ـ تعالى ـ نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يخاطب المشركين بما يدل على هوان شأنهم. وعلى عدم المبالاة بهم ، فقال ـ تعالى ـ : (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا ، إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً ...).

أى : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ لهؤلاء الجاهلين. الذين طلبوا منك ما هو خارج عن رسالتك ، والذين وصفوا القرآن بأنه أساطير الأولين : قل لهم : آمنوا بهذا القرآن أو لا تؤمنوا به ، لأن إيمانكم به ، لا يزيده كمالا ، وعدم إيمانكم به لا ينقص من شأنه شيئا ، فإن علماء أهل الكتاب الذين آتاهم الله العلم قبل نزول هذا القرآن ، وميزوا بين الحق والباطل ، كانوا إذا تلى عليهم هذا القرآن ، ـ كأمثال عبد الله بن سلام وأصحابه «يخرون للأذقان سجدا» أى : يسقطون على وجوههم ساجدين لله ـ تعالى ـ شكرا له على إنجاز وعده ، بإرسالك ـ أيها الرسول الكريم ـ وبإنزال القرآن عليك ، كما وعد بذلك ـ سبحانه ـ في كتبه السابقة.

فالجملة الكريمة : (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ..) تعليل لعدم المبالاة بهؤلاء المشركين الجاهلين ، والضمير في قوله : (مِنْ قَبْلِهِ) يعود إلى القرآن الكريم.

وقوله : (يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً) يدل على قوة إيمانهم ، وعلى سرعة تأثرهم بهذا القرآن ، فهم بمجرد تلاوته عليهم ، يسقطون على وجوههم ساجدين لله ـ تعالى ـ.

وخصت الأذقان بالذكر ، لأن الذقن أول جزء من الوجه يقرب من الأرض عند السجود ، ولأن ذلك يدل على نهاية خضوعهم لله ـ تعالى ـ وتأثرهم بسماع القرآن الكريم :

ثم حكى ـ سبحانه ـ ما يقولونه في سجودهم فقال : (وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً).

أى : ويقولون في سجودهم ، ننزه ربنا ـ عزوجل ـ عن كل ما يقوله الجاهلون بشأنه ، إنه ـ تعالى ـ كان وعده منجزا ومحققا لا شك في ذلك.

ثم كرر ـ سبحانه ـ مدحه لهم فقال : (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ ، وَيَزِيدُهُمْ) أى سماع القرآن (خُشُوعاً) وخضوعا لله ـ عزوجل.

٤٥٠

وكرر ـ سبحانه ـ خرورهم على وجوههم ساجدين لله ـ تعالى ـ لاختلاف السبب ، فهم أولا أسرعوا بالسجود لله تعظيما له ـ سبحانه ـ وشكرا له على إنجازه لوعده.

وهم ثانيا أسرعوا بالسجود ، لفرط تأثرهم بمواعظ القرآن الكريم.

فأنت ترى هاتين الآيتين قد أمرتا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإعراض عن المشركين ، وباحتقارهم وبازدراء شأنهم ، فإن الذين هم خير منهم وأفضل وأعلم قد آمنوا.

وفي ذلك ما فيه من التسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكأن الله ـ تعالى ـ يقول له : يا محمد تسلّ عن إيمان هؤلاء الجهلاء ، بإيمان العلماء.

هذا ، وقد أخذ العلماء من هاتين الآيتين أن البكاء من خشية الله ، يدل على صدق الإيمان ، وعلى نقاء النفس ، ومن الأحاديث التي وردت في فضل ذلك ، ما أخرجه الترمذي عن ابن عباس قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «عينان لا تمسهما النار : عين بكت من خشية الله ، وعين باتت تحرس في سبيل الله».

ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة الكريمة بآيتين دالتين على تفرده ـ سبحانه ـ بالتقديس والتعظيم والتمجيد والعبادة ، فقال ـ تعالى ـ :

(قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١١٠) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) (١١١)

ذكر المفسرون في سبب نزول قوله ـ تعالى ـ : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى ..) ذكروا روايات منها : ما أخرجه ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس قال : وصلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة ذات يوم فدعا الله ـ تعالى ـ فقال : يا الله ، يا رحمن ، فقال المشركون : انظروا إلى هذا الصابئ ينهانا أن ندعو إلهين وهو يدعو

٤٥١

إلهين فنزلت (١).

ومعنى : ادعوا ، سموا ، و (أَوِ) للتخيير. و (أَيًّا) اسم شرط جازم منصوب على المفعولية بقوله : (ادْعُوا) والمضاف إليه محذوف ، أى : أى الاسمين. و (تَدْعُوا) مجزوم على أنه فعل الشرط لأيّا ، وجملة (فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) واقعة موقع جواب الشرط ، و (ما) مزيدة للتأكيد. والحسنى : مؤنث الأحسن الذي هو أفعل تفضيل.

والمعنى : قل يا محمد للناس : سموا المعبود بحق بلفظ الله أو بلفظ الرحمن بأى واحد منهما سميتموه فقد أصبتم ، فإنه ـ تعالى ـ له الأسماء الأحسن من كل ما سواه ، وقال ـ سبحانه ـ : (فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) للمبالغة في كمال أسمائه ـ تعالى ـ وللدلالة على أنه ما دامت أسماؤه كلها حسنة ، فلفظ الله ولفظ الرحمن كذلك ، كل واحد منهما حسن.

وقد ذكر الجلالان عند تفسيرهما لهذه الآية ، أسماء الله الحسنى ، فارجع إليها إن شئت (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) تعليم من الله ـ تعالى ـ لنبيه كيفية أفضل طرق القراءة في الصلاة.

فالمراد بالصلاة هنا : القراءة فيها. والجهر بها : رفع الصوت أثناءها ، والمخافتة بها : خفضه بحيث لا يسمع. يقال : خفت الرجل بصوته إذا لم يرفعه ، والكلام على حذف مضاف.

والمعنى : ولا تجهر يا محمد في قراءتك خلال الصلاة ، حتى لا يسمعها المشركون فيسبوا القرآن ، ولا تخافت بها ، حتى لا يسمعها من يكون خلفك ، بل أسلك في ذلك طريقا وسطا بين الجهر والمخافتة.

ومما يدل على أن المراد بالصلاة هنا : القراءة فيها ، ما رواه الشيخان وغيرهما عن ابن عباس.

قال : نزلت ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مختف بمكة ، فكان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن ، فإذا سمع ذلك المشركون ، سبوا القرآن ، ومن أنزله ، ومن جاء به ، فأمره الله بالتوسط.

وقيل : المراد بالصلاة هنا : الدعاء. أى : لا ترفع صوتك وأنت تدعو الله ، ولا تخافت به. وقد روى ذلك عن عائشة ، فقد أخرج الشيخان عنها أنها نزلت في الدعاء.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ١٩١.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٦٥٦.

٤٥٢

ويبدو لنا أن التوجيهات التي بالآية الكريمة تتسع للقولين ، أى : أن على المسلم أن يكون متوسطا في رفع صوته بالقراءة في الصلاة ، وفي رفع صوته حال دعائه.

ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة الكريمة بهذه الآية : (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً ...).

أى : وقل ـ أيها الرسول الكريم ـ : الحمد الكامل ، والثناء الجميل ، لله ـ تعالى ـ وحده ، الذي لم يتخذ ولدا ؛ لأنه هو الغنى ، كما قال ـ تعالى ـ : (قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً ، سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ ، لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ..) (١).

ولم يكن له ، ـ سبحانه ـ (شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) بل هو المالك لكل شيء ، ليس له في هذا الكون من يزاحمه أو يشاركه في ملكه أو في عبادته. كما قال ـ تعالى ـ : (قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً. سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً) (٢).

وكما قال ـ عزوجل ـ : (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ ، وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ ، إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ ، وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ ، سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) (٣).

(وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِ) أى : ولم يكن له ـ سبحانه ـ ناصر ينصره من ذل أصابه أو نزل به ، لأنه ـ عزوجل ـ هو أقوى الأقوياء ، وقاهر الجبابرة ، ومذل الطغاة ، (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ).

(وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) أى : وعظمه تعظيما تاما كاملا ، يليق بجلاله عزوجل.

قال الإمام ابن كثير : عن قتادة أنه قال : ذكر لنا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يعلم أهله كبيرهم وصغيرهم هذه الآية. (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً ...).

ثم قال ابن كثير : وقد جاء في حديث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سماها آية العز (٤).

__________________

(١) سورة يونس الآية ٦٨.

(٢) سورة الإسراء الآية ٤٢ ، ٤٣.

(٣) سورة المؤمنون الآية ٩١.

(٤) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ١٢٩.

٤٥٣

وبعد : فهذا تفسير لسورة الإسراء نسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعله خالصا لوجهه ، ونافعا لعباده ، وشافعا لنا يوم نلقاه (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ).

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

المدينة المنورة ـ مساء الخميس ١٥ من جمادى الأولى سنة ١٤٠٤ ه‍

الموافق ١٦ من فبراير سنة ١٩٨٤ م

كتبه الراجي عفو ربه

د. محمد سيد طنطاوى

٤٥٤

تفسير

سورة الكهف

٤٥٥
٤٥٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدّمة

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله ، وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.

وبعد : فقد كان من فضل الله ـ عزوجل ـ على ، أن أعارتنى جامعة الأزهر إلى قسم الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.

وقد امتدت هذه الإعارة لمدة أربع سنوات ، من سنة ١٤٠٠ إلى ١٤٠٤ ه‍ ١٩٨٠ ـ ١٩٨٤ م.

وقد وفقني الله ـ تعالى ـ خلال هذه المدة ، أن أكتب ـ وأنا في الجوار الطيب ـ تفسيرا محررا ونافعا ـ إن شاء الله ـ لسور : يونس ، وهود ، ويوسف ، والرعد ، وإبراهيم ، والحجر ، والنحل ، والإسراء.

وها أنا ذا ـ وأنا في الأشهر الأخيرة من الإعارة ـ انتهى من كتابة تفسير سورة الكهف.

أسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه ، ونافعا لعباده ، وأن يعينني على خدمة كتابه الكريم ، وعلى السير في تفسيره حتى النهاية ، وأن يزيل من طريقي كل عقبة تمنعني من ذلك.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

المدينة المنورة ـ مساء الخميس ١٨ من رجب سنة ١٤٠٤ ه‍.

١٩ من إبريل سنة ١٩٨٤

م د / محمد سيد طنطاوى

٤٥٧
٤٥٨

تمهيد

١ ـ سورة الكهف هي السورة الثامنة عشرة في ترتيب سور المصحف ، فقد سبقتها في الترتيب سور : الفاتحة ، والبقرة ، وآل عمران .. إلخ.

أما ترتيبها في النزول ، فهي السورة الثامنة والستون ، فقد ذكر قبلها صاحب الإتقان سبعا وستين سورة ، كما ذكر أن نزولها كان بعد سورة الغاشية (١).

ومما ذكره صاحب الإتقان يترجح لدينا ، أن سورة الكهف من أواخر السور المكية التي نزلت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل الهجرة ، إذ من المعروف عند العلماء أن السور المكية زهاء اثنتين وثمانين سورة.

قال الآلوسي : سورة الكهف ، ويقال لها سورة أصحاب الكهف .. وهي مكية كلها في المشهور ، واختاره الداني .. وعدها بعضهم من السور التي نزلت جملة واحدة.

وقيل : مكية إلا قوله ـ تعالى ـ (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ ..) الآية.

وقيل هي مكية إلا أولها إلى قوله ـ تعالى ـ (جُرُزاً) وقيل : مكية إلا قوله ـ تعالى ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً ..) إلى آخر السورة.

وهي مائة وإحدى عشرة آية عند البصريين ، ومائة وعشر آيات عند الكوفيين ... (٢).

والذين تطمئن إليه النفس أن سورة الكهف كلها مكية ، وقد ذكر ذلك دون أن يستثنى منها شيئا الإمام ابن كثير ، والزمخشري ، وأبو حيان ، وغيرهم ، وفضلا عن ذلك فالذين قالوا بأن فيها آيات مدنية ، لم يأتوا بما يدل على صحة قولهم ، كما سيتبين لنا عند تفسير الآيات التي قيل بأنها مدنية.

٢ ـ وقد صدر الامام ابن كثير تفسيره لهذه السورة ، بذكر الأحاديث التي وردت في فضلها فقال ما ملخصه : ذكر ما ورد في فضلها ، والعشر الآيات من أولها وآخرها ، وأنها عصمة من الدجال.

__________________

(١) الإتقان في علوم القرآن ج ١ ص ٢٧ السيوطي.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ١٩٩.

٤٥٩

قال الامام أحمد : حدثنا يزيد ، أخبرنا همام بن يحيى ، عن قتادة ، عن سالم بن أبى الجعد ، عن معدان بن أبى طلحة ، عن أبى الدرداء عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف ، عصم من الدجال».

وفي رواية عن أبى الدرداء ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف عصم من فتنة الدجال».

وأخرج الحاكم عن أبى سعيد الخدري ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة ، أضاء له من النور ما بينه وبين الجمعتين (١)».

٣ ـ عرض إجمالى لسورة الكهف :

(أ) عند ما نقرأ سورة الكهف ، نراها في مطلعها تفتتح بالثناء على الله ـ تعالى ـ وبالتنويه بشأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبالقرآن الذي نزل عليه ثم تنذر الذين نسبوا إلى الله ـ عزوجل ـ مالا يليق به ، وتصمهم بأقبح ألوان الكذب ، ثم تنهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن التأسف عليهم ، بسبب إصرارهم على كفرهم.

قال ـ تعالى ـ : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً. قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ ، وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً. ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً. وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً. ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ ، كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً).

(ب) ثم ساقت السورة بعد ذلك فيما يقرب من عشرين آية قصة أصحاب الكهف ، فحكت أقوالهم عند ما التجأوا إلى الكهف ، وعند ما استقروا فيه واتخذوه مأوى لهم ، كما حكت جانبا من رعاية الله ، تعالى ، لهم ، ورحمته بهم .. ثم صورت أحوالهم وهم رقود ، وذكرت تساؤلهم فيما بينهم بعد أن بعثهم الله ـ تعالى ـ من رقادهم الطويل ، وإرسالهم أحدهم إلى المدينة لإحضار بعض الأطعمة ، وإطلاع الناس عليهم. وتنازعهم في أمرهم ، ونهى الله ـ تعالى ـ عن الجدال في شأنهم ، كما ذكرت المدة التي لبثوها في كهفهم.

قال ـ تعالى ـ (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً ، قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ ، وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً).

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٥ ص ١٣٠ طبعة دار الشعب.

٤٦٠