التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٨

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٨

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0668-X
الصفحات: ٥٩٧

الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ...).

قال الإمام ابن كثير بعد أن ذكر هذه الرواية وغيرها : وهذا السياق يقتضى فيما يظهر بادى الرأى ، أن هذه الآية مدنية ، وأنها نزلت حين سأله اليهود عن ذلك بالمدينة ، مع أن السورة كلها مكية.

وقد يجاب عن هذا بأنه قد تكون نزلت عليه بالمدينة مرة ثانية ، كما نزلت عليه بمكة قبل ذلك. أو أنه نزل عليه الوحى بأنه يجيبهم عما سألوه بالآية المتقدم إنزالها عليه ، وهي هذه الآية : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ...).

ومما يدل على نزول هذه الآية بمكة ما أخرجه الإمام أحمد عن ابن عباس قال : قالت قريش ليهود. أعطونا شيئا نسأل عنه هذا الرجل؟ فقالوا : سلوه عن الروح ، فسألوه فنزلت : ويسألونك عن الروح .. الآية» (١).

وكلمة الروح تطلق في القرآن الكريم على أمور منها :

الوحى ، كما في قوله ـ تعالى ـ : (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ...) (٢).

ومنها : القوة والثبات كما في قوله ـ تعالى ـ : (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ...) (٣).

ومنها : جبريل ، كما في قوله ـ تعالى ـ : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ...) (٤).

ومنها : القرآن كما في قوله ـ سبحانه ـ : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ...) (٥).

ومنها : عيسى ابن مريم ، كما في قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ...) (٦).

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٣ ص ٦٠.

(٢) سورة غافر الآية ١٥.

(٣) سورة المجادلة الآية ٢٢.

(٤) سورة الشعراء الآية ١٩٣ ، ١٩٤.

(٥) سورة الشورى الآية ٥٢.

(٦) سورة النساء الآية ١٧١.

٤٢١

وجمهور العلماء على أن المراد بالروح في قوله ـ تعالى ـ : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ...) ما يحيا به بدن الإنسان ، وبه تكون حياته ، وبمفارقته للجسد يموت الإنسان ، وأن السؤال إنما هو عن حقيقة الروح ، إذ معرفة حقيقة الشيء. تسبق معرفة أحواله.

وقيل المراد بالروح هنا : القرآن الكريم ، وقيل : جبريل ، وقيل : عيسى إلى غير ذلك من الأقوال التي أوصلها بعضهم إلى أكثر من عشرة أقوال.

ويبدو لنا أن ما ذهب إليه جمهور المفسرين ، أولى بالاتباع ، لأن قوله ـ تعالى ـ بعد ذلك : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) يؤيد هذا الاتجاه.

قال الآلوسى : الظاهر عند المنصف ، أن السؤال كان عن حقيقة الروح الذي هو مدار البدن الإنسانى ، ومبدأ حياته ، لأن ذلك من أدق الأمور التي لا يسع أحدا إنكارها ، ويشرئب الجميع إلى معرفتها ، وتتوافر دواعي العقلاء إليها ، وتكلّ الأذهان عنها ، ولا تكاد تعلم إلا بوحي ..» (١).

و (مِنْ) في قوله : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) بيانية. والمراد بالأمر هنا. الشأن.

والمعنى : ويسألك بعض الناس ـ أيها الرسول ـ عن حقيقة الروح ، قل لهم على سبيل الإرشاد والزجر : الروح شيء من جنس الأشياء التي استأثر الله ـ تعالى ـ وحده بعلم حقيقتها وجوهرها.

وقال ـ سبحانه ـ : (قُلِ الرُّوحُ) بالإظهار ، لكمال العناية بشأن المسئول عنه.

وإضافة كلمة (أَمْرِ) إلى لفظ الرب ـ عزوجل ـ ، من باب الاختصاص العلمي ، إذ الرب وحده هو العليم بشأنها ، وليس من باب الاختصاص الوجودي ، لأن الروح وغيرها من مخلوقات الله ـ تعالى ـ.

وفي هذه الإضافة ما فيها من تشريف المضاف ، حيث أضيف هذا الأمر إلى الله ـ تعالى ـ وحده.

قال القرطبي : وقوله ـ تعالى ـ (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) دليل على خلق الروح ، أى : هو أمر عظيم ، وشأن كبير من أمر الله ـ تعالى ـ ، مبهما له وتاركا تفصيله ، ليعرف الإنسان على القطع عجزه عن علم حقيقة نفسه مع العلم بوجودها. وإذا كان الإنسان في

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ١٥١.

٤٢٢

معرفة نفسه هكذا ، كان عجزه عن إدراك حقيقة الحق أولى. وحكمة ذلك تعجيز العقل عن إدراك معرفة مخلوق مجاور له ، دلالة على أنه عن إدراك خالقه أعجز (١).

وقوله : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) من جملة الجواب الذي أمر الله ـ تعالى ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يرد به على السائلين عن حقيقة الروح.

أى : وما أوتيتم ـ أيها السائلون عن الروح ـ من العلم إلا علما قليلا ، بالنسبة إلى علمه ـ تعالى ـ الذي وسع كل شيء ، ولا يخفى عليه شيء.

وإن علمكم مهما كثر فإنه لا يمكنه أن يتعلق بحقيقة الروح وأحوالها ، لأن ذلك شيء استأثر الله ـ تعالى ـ به وحده ، واقتضت حكمته ـ عزوجل ـ أن يجعله فوق مستوى عقولكم.

قال صاحب الظلال عند تفسيره لهذه الآية : والمنهج الذي سار عليه القرآن ـ وهو المنهج الأقوم ـ أن يجيب الناس عما هم في حاجة إليه ، وما يستطيع إدراكهم البشرى بلوغه ومعرفته ، فلا يبدد الطاقة العقلية التي وهبها الله لهم فيما لا ينتج ولا يثمر ، وفي غير مجالها الذي تملك وسائله ، وبعضهم عند ما سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الروح ، أمره الله أن يجيبهم بأن الروح من أمره ـ سبحانه ـ ...

وليس في هذا حجر على العقل البشرى أن يعمل ، ولكن فيه توجيها لهذا العقل أن يعمل في حدوده ، وفي مجاله الذي يدركه.

والروح غيب من غيب الله لا يدركه سواه .. ولقد أبدع الإنسان في هذه الأرض ما أبدع ، ولكنه وقف حسيرا أمام ذلك السر اللطيف ـ الروح ـ لا يدرى ما هو؟ ولا كيف جاء؟ ولا كيف يذهب؟ ولا أين كان ولا أين يكون ، إلا ما يخبر به العليم الخبير في التنزيل» (٢).

وقال بعض العلماء : وفي هذه الآية ما يزجر الخائضين في شأن الروح ، المتكلفين لبيان ماهيته ، وإيضاح حقيقته ، أبلغ زجر ، ويردعهم أعظم ردع ، وقد أطالوا المقال في هذا البحث ، بما لا يتسع له المقام ، وغالبه ، بل كله من الفضول الذي لا يأتى بنفع في دين أو دنيا ..

فقد استأثر الله ـ تعالى ـ بعلم الروح ، ولم يطلع عليه أنبياءه ، ولم يأذن لهم بالسؤال عنه ،

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٠ ص ٣٢٤.

(٢) في ظلال القرآن ج ١٥ ص ٣٥٧. للاستاذ سيد قطب ـ رحمه‌الله ـ.

٤٢٣

ولا البحث عن حقيقته ، فضلا عن أممهم المقتدين بهم ...» (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ مظهرا من مظاهر قدرته ، بعد أن بين أن الروح من أمره ، فقال ـ تعالى ـ : (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً).

واللام في قوله (وَلَئِنْ شِئْنا ...) موطئة لقسم محذوف ، جوابه (لَنَذْهَبَنَ).

أى : والله لئن شئنا لنذهبن بهذا القرآن الذي أوحيناه إليك ـ أيها الرسول الكريم ـ ، بحيث نزيله عن صدرك ، ومن صدور أتباعك ، ونمحوه من الصحف حتى لا يبقى له أثر إذ أن قدرتنا لا يعجزها ، ولا يحول دون تنفيذ ما نريده حائل ..

ثم لا تجد لك بعد ذلك من يكون وكيلا عنا في رد القرآن إليك بعد ذهابه ومحوه ، ومن يتعهد بإعادته بعد رفعه وإزالته.

قال الآلوسى : وعبر عن القرآن بالموصول في قوله (بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) ، تفخيما لشأنه ، ووصفا له بما في حيز الصلة ابتداء ، إعلاما بحاله من أول الأمر ، وبأنه ليس من قبيل كلام المخلوق ...» (٢).

وقوله : (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) استثناء واستدراك على قوله : (لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ..).

أى : والله إن شئنا إذهاب القرآن من صدرك لأذهبناه ، دون أن تجد أحدا يرده عليك ، لكننا لم نشأ ذلك بل أبقيناه في صدرك رحمة من ربك.

قال الجمل : وفي هذا الاستثناء قولان : أحدهما : أنه استثناء متصل : لأن الرحمة تندرج في قوله (وَكِيلاً).

أى : إلا رحمة منا فإنها إن نالتك فلعلها تسترده عليك والثاني : أنه منقطع ، فيتقدر بلكن أو ببل ، و (مِنْ رَبِّكَ) يجوز أن يتعلق بمحذوف صفة لرحمة ـ أى لكن رحمة ربك تركته غير مذهوب به (٣).

وقوله (إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً) بيان لما امتن الله به على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

أى : إن فضله كان عليك كبيرا ، حيث أنزل القرآن عليك ، وأبقاه في صدرك دون أن

__________________

(١) تفسير فتح البيان للشيخ صديق حسن خان ج ٥ ص ٤٠١.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ١٦٤.

(٣) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٦٤٦.

٤٢٤

يزيله منه ، وجعلك سيد ولد آدم ، وخاتم رسله ، وأعطاك المقام المحمود يوم القيامة.

قال صاحب الكشاف : وهذا امتنان عظيم من الله ـ تعالى ـ ببقاء القرآن محفوظا ، بعد المنة العظيمة في تنزيله وتحفيظه. فعلى كل ذي علم أن لا يغفل عن هاتين المنتين والقيام بشكرهما. وهما منة الله عليه بحفظه العلم ، ورسوخه في صدره ، ومنته عليه في بقاء المحفوظ» (١).

ثم أمر الله ـ تعالى ـ نبيه أن يتحدى المشركين بهذا القرآن فقال ـ تعالى ـ : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ، وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً).

أى : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ لهؤلاء المشركين الذين قالوا ـ كما حكى الله عنهم ـ (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) ، قل لهم على سبيل التحدي والتعجيز : والله لئن اجتمعت الإنس والجن ، واتفقوا على أن يأتوا بمثل هذا القرآن ، الذي أنزله الله ـ تعالى ـ من عنده على قلبي .. لا يستطيعون ذلك. ولو كان بعضهم لبعض مظاهرا ومعينا ومناصرا ، في تحقيق ما يتمنونه من الإتيان بمثله.

وخص ـ سبحانه ـ «الإنس والجن» بالذكر ، لأن المنكر كون القرآن من عند الله ، من جنسهما لا من جنس غيرهما كالملائكة ـ مثلا ـ ، فإنهم عباد مكرمون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، ولأن التحدي إنما هو للإنس والجن الذين أرسل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم ، لهدايتهم إلى الصراط المستقيم.

وقال ـ سبحانه ـ : (لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) فأظهر في مقام الإضمار ، ولم يكتف بأن يقول : لا يأتون به ، لدفع توهم أن يتبادر إلى الذهن أن له مثلا معينا ، وللإشعار بأن المقصود نفى المثل على أى صفة كانت هذه المثلية ، سواء أكانت في بلاغته ، أم في حسن نظمه ، أم في إخباره عن المغيبات ، أم في غير ذلك من وجوه إعجازه.

وقوله : (وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) معطوف على مقدر ، أى : لا يستطيعون الإتيان بمثله لو لم يكن بعضهم ظهيرا ونصيرا لبعض ، ولو كان بعضهم ظهيرا ونصيرا لبعض لما استطاعوا أيضا.

والمقصود أنهم لا يستطيعون الإتيان بمثله على أية حال من الأحوال ؛ وبأية صورة من

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٦٩١.

٤٢٥

الصور ، لأنه متى انتفى إتيانهم بمثله مع المظاهرة والمعاونة ، انتفى من باب الأولى الإتيان بمثله مع عدمهما. وقوله : (لِبَعْضٍ) متعلق بقوله (ظَهِيراً).

ولقد بين ـ سبحانه ـ في آيات أخرى أنهم لن يستطيعوا الإتيان بعشر سور من مثله ، بل بسورة واحدة من مثله.

قال ـ تعالى ـ : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ ، وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١).

وقال ـ سبحانه ـ : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ، وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٢).

ومع عجز المشركين عن الإتيان بسورة من مثل القرآن الكريم إلا أنهم استمروا في طغيانهم يعمهون ، وأبوا التذكر والتدبر ، ولقد صور ـ سبحانه ـ أحوالهم أكمل تصوير فقال : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ، فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً).

أى : ولقد صرفنا وكررنا ونوعنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ، أى : من كل معنى بديع ، هو كالمثل في بلاغته ، وإقناعه للنفوس ، وشرحه للصدور ، واشتماله على الفوائد الجملة ...

ومفعول : (صَرَّفْنا) محذوف ، والتقدير : ولقد صرفنا الهدايات والعبر بوجوه متعددة ..

وقوله ـ سبحانه ـ : (فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) بيان لموقف الفاسقين عن أمر ربهم من هدايات القرآن الكريم وتوجيهاته ، وأوامره ونواهيه.

أى : فأبى أكثر الناس الاستجابة لهديه ، وامتنعوا عن الإيمان بأنه من عند الله ـ تعالى ـ وجحدوا آياته وإرشاداته ، وعموا وصموا عن الحق الذي جاءهم به من نزّل عليه القرآن ، وهو رسول لله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال ـ سبحانه ـ : (فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ) بالإظهار في مقام الإضمار ، للتأكيد والتوضيح.

والمراد بأكثر الناس : أولئك الذين بلغهم القرآن الكريم ، واستمعوا إلى آياته وتوجيهاته وتشريعاته وآدابه ، ولكنهم استحبوا الكفر على الإيمان ، وآثروا الضلالة على الهداية.

__________________

(١) سورة هود الآية ١٣.

(٢) سورة البقرة الآية ٢٣.

٤٢٦

وعبر ـ سبحانه ـ بالأكثر ، إنصافا للقلة المؤمنة التي فتحت صدورها للقرآن ، فآمنت به ، وعملت بما فيه من أوامر ونواه ..

قال الجمل : فإن قيل : كيف جاز قوله (فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) حيث وقع الاستثناء المفرغ في الإثبات. مع أنه لا يصح ، إذ لا يصح أن تقول : ضربت إلا زبدا.

فالجواب : أن لفظة (فَأَبى) تفيد النفي ، فكأنه قيل : فلم يرضوا إلا كفورا (١).

وبذلك نرى الآيات الكريمة قد ساقت ما يدل على وحدانية الله ـ تعالى ـ وقدرته ، وعلمه ، وفضله على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى الناس ، وعلى أن هذا القرآن من عند الله ، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا.

ثم حكى ـ سبحانه ـ بعض المطالب المتعنتة التي طلبها المشركون من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال ـ تعالى ـ :

(وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (٩١) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (٩٢) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً) (٩٣)

ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات رواية طويلة ملخصها : أن نفرا من زعماء قريش اجتمعوا عند الكعبة ، وطلبوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجاءهم ، فقالوا له يا محمد : إنا قد بعثنا

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٦٤٧.

٤٢٧

إليك لنعذر فيك ، وإنا والله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك!! لقد شتمت الآباء ، وعبت الدين. وسفهت الأحلام ، وشتمت الآلهة ...

فإن كنت جئت بهذا الحديث تطلب مالا ، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا ، وإن كنت تطلب شرفا فينا ، سودناك علينا ، وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا ...

فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما بي شيء مما تقولون ، ولكن الله بعثني إليكم رسولا ، وأنزل على كتابا ، وأمرنى أن أكون بشيرا ونذيرا ، فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ، فإن تقبلوا منى فهو حظكم من الدنيا والآخرة ، وإن تردوه على أصبر لأمر الله ـ تعالى ـ حتى يحكم بيني وبينكم.

فقالوا له يا محمد : فإن كنت صادقا فيما تقول ، فسل لنا ربك الذي بعثك ، فليسير عنا هذا الجبل الذي قد ضيق علينا ، وليبسط لنا بلادنا ، ويفجر فيها الأنهار ، ويبعث من مضى من آبائنا ، فنسألهم عما تقول أحق هو أم باطل ..

وسله أن يبعث معك ملكا يصدقك ، واسأله أن يجعل لك جنانا وقصورا أو كنوزا من ذهب وفضة. تعينك على معاشك.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما بعثت بهذا. فقالوا : فأسقط السماء ـ كما زعمت ـ علينا كسفا ...

وقال أحدهم : لا أومن بك أبدا ، حتى تتخذ لك سلما إلى السماء ترقى فيه ، ونحن ننظر إليك ..

فانصرف صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنهم حزينا ، لما رأى من تباعدهم عن الهدى ، فأنزل الله عليه هذه الآيات تسلية له ...» (١).

والمعنى : وقال المشركون الذين لا يرجون لقاءنا لرسولنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم يا محمد : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ) ونتبعك فيما تدعونا إليه.

(حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) أى : حتى تخرج لنا من أرض مكة القليلة المياه ، (يَنْبُوعاً) أى : عينا لا ينضب ماؤها ولا يغور.

يقال : نبع الماء من العين ينبع ـ بتثليث الباء فيهما ـ إذا خرج وظهر وكثر.

وقرأ بعض السبعة (تَفْجُرَ) بالتخفيف ـ من باب نصر ـ وقرأ البعض الآخر (تَفْجُرَ) بتشديد الجيم ، من فجر بالتشديد ، والتضعيف للتكثير.

__________________

(١) راجع تفسير ابن جرير ج ١٥ ص ١١٠ وتفسير ابن كثير ج ٥ ص ١١٥ وتفسير القرطبي ج ١٠ ص ٣٢٨.

٤٢٨

والتعريف في لفظ (الْأَرْضِ) للعهد ، لأن المراد بها أرض مكة.

وعبر بكلمة (يَنْبُوعاً) للإشعار بأنهم لا يريدون من الماء ما يكفيهم فحسب ، وإنما هم يريدون ماء كثيرا لا ينقص في وقت من الأوقات ، إذ الياء زائدة للمبالغة.

وقوله ـ سبحانه ـ : (أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً) بيان لاقتراح آخر من مقترحاتهم السخيفة.

والمعنى : أو تكون لك بصفة خاصة يا محمد ، (جَنَّةٌ) أى : حديقة ملتفة الأغصان ، مشتملة على الكثير من أشجار النخيل والأعناب : تجرى الأنهار في وسطها جريا عظيما هائلا ..

وخصوا النخيل والأعناب بالذكر ـ كما حكى القرآن عنهم ـ ، لأن هذين الصنفين يعتبران من أهم الثمار عندهم ، ولأنهما على رأس الزروع المنتشرة في أراضيهم ، والتي لها الكثير من الفوائد.

وقوله : (خِلالَها) منصوب على الظرفية ، لأنه بمعنى وسطها وبين ثناياها.

والتنوين في قوله (تَفْجِيراً) للتكثير ، أى : تفجيرا كثيرا زاخرا ، بحيث تكون تلك الجنة الخاصة بك ، غنية بالمياه التي تنفعها وترويها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً ...) اقتراح ثالث من مقترحاتهم الفاسدة.

ولفظ (كِسَفاً) أى : قطعا جمع كسفة ـ بكسر الكاف وسكون السين ، يقال : كسفت الثوب أى : قطعته وهو حال من السماء ، والكاف في قوله : (كَما) صفة لموصوف محذوف.

والمعنى : أو تسقط أنت علينا السماء إسقاطا مماثلا لما هددتنا به ، من أن في قدرة ربك ـ عزوجل ـ أن ينزل علينا عذابا متقطعا من السماء.

ولعلهم يعنون بذلك قوله ـ تعالى ـ : (أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ، إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ ، أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ ...) (١).

وقيل : يعنون بذلك ، أنك وعدتنا أن يوم القيامة تنشق فيه السماء ، فعجل لنا ذلك في

__________________

(١) سورة سبأ الآية ٩.

٤٢٩

الدنيا ، وأسقطها علينا ، كما حكى عنهم القرآن ذلك في قوله ـ تعالى ـ (وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ ...) (١).

فهم يتعجلون العذاب ، والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يرجو لهم من الله ـ تعالى ـ الرحمة والهداية وتأخير العذاب عنهم ، لعله ـ سبحانه ـ أن يخرج من أصلابهم من يخلص له العبادة والطاعة.

وقوله ـ تعالى ـ (أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً) تسجيل لمطلب رابع من مطالبهم القبيحة.

قال الآلوسى : (قَبِيلاً) أى : مقابلا ، كالعشير والمعاشر ، وأرادوا ـ كما جاء عن ابن عباس ـ عيانا.

وهذا كقولهم : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا) ، وفي رواية أخرى عنه وعن الضحاك تفسير القبيل بالكفيل ، أى : كفيلا بما تدعيه. يعنون شاهدا يشهد لك بصحة ما قلته.

وهو على الوجهين حال من لفظ الجلالة .. وعن مجاهد : القبيل الجماعة كالقبيلة ، فيكون حالا من الملائكة ـ أى : أو تأتى بالله وبالملائكة قبيلة قبيلة (٢).

ثم حكى ـ سبحانه ـ بقية مطالبهم التي لا يقرها عقل سليم فقال : (أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ).

أى : من ذهب ، والزخرف يطلق في الأصل على الزينة ، وأطلق هنا على الذهب لأن الذهب أثمن ما يتزين به في العادة.

(أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ) أى : تصعد إليها. يقال : رقى فلان في السلم يرقى رقيا ورقيا أى صعد ، (وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ) وصعودك إليها مع مشاهدتنا لذلك (حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا) منها (كِتاباً نَقْرَؤُهُ) ونفهم ما فيه ، أى : يكون هذا الكتاب بلغتنا التي نفهمها وبأسلوب مخاطباتنا ، وفيه ما يدل دلالة قاطعة على أنك رسول من عند الله ـ تعالى ـ ، وما يدعونا إلى الإيمان بك.

ثم ختم ـ سبحانه ـ هذه الآيات ، بأن أمر نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يرد عليهم بما يخرس ألسنتهم ، فقال : (قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً).

__________________

(١) سورة الأنفال من ٣٢.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ١٦٩.

٤٣٠

أى : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ على سبيل التعجب من سوء تفكير هؤلاء الجاحدين : يا سبحان الله هل أنا إلا بشر كسائر البشر ، ورسول كسائر الرسل ، وليس من شأن من كان كذلك أن يأتى بتلك المطالب المتعنتة التي طلبتموها ، وإنما من شأنه أن يبلغ ما أمره الله بتبليغه من هدايات. تخرج الناس من ظلمات الكفر والجهل. إلى نور الإيمان والعلم.

فالاستفهام في قوله (هَلْ كُنْتُ ...) للنفي ، أى : ما كنت إلا رسولا كسائر الرسل ، وبشرا مثلهم.

وقوله (سُبْحانَ رَبِّي) يفيد التعجيب من فرط حماقتهم ، ومن بالغ جهلهم ، حيث طلبوا تلك المطالب ، التي تضمنت ما يعتبر من أعظم المستحيلات ، كطلبهم إتيان الله ـ عزوجل ـ والملائكة إليهم ، ورؤيتهم لذاته ـ سبحانه ـ ، على سبيل المعاينة والمقابلة.

وهذا التعنت والعناد الذي حكاه الله ـ تعالى ـ عن هؤلاء الجاحدين ، قد جاء ما يشبهه في آيات أخرى. كما جاء ما يدل على أنهم حتى لو أعطاهم الله ـ تعالى ـ مطالبهم. لما آمنوا ، ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى ، وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ، ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ* وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) (٢).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ* لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) (٣).

ثم حكى ـ سبحانه ـ بعد ذلك شبهة من شبهاتهم الفاسدة والمتعددة ، وهي زعمهم أن الرسول لا يكون من البشر بل يكون ملكا. وقد أمر الله ـ تعالى ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يرد عليهم بما يبطل مدعاهم فقال :

__________________

(١) سورة الأنعام الآية ١١١.

(٢) سورة يونس الآية ٩٦ ، ٩٧.

(٣) سورة الحجر الآية ١٤ ، ١٥.

٤٣١

(وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً (٩٤) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (٩٥) قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) (٩٦)

قال الفخر الرازي : اعلم أنه ـ تعالى ـ لما حكى شبهة القوم في اقتراح المعجزات الزائدة ، وأجاب عنها ، حكى عنهم شبهة أخرى ، وهي أن القوم استبعدوا أن يبعث الله إلى الخلق رسولا من البشر ، بل اعتقدوا أن الله ـ تعالى ـ لو أرسل رسولا إلى الخلق ، لوجب أن يكون ذلك الرسول من الملائكة ، فأجاب الله ـ تعالى ـ عن هذه الشبهة فقال : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا ...) (١).

والمراد بالناس هنا : المشركون منهم ، الذين استبعدوا واعتقدوا أن الرسول لا يكون من البشر ، ويدخل فيهم دخولا أوليا كفار مكة.

وجملة (أَنْ يُؤْمِنُوا) في محل نصب ، لأنها مفعول ثان لمنع.

وقوله : (إِلَّا أَنْ قالُوا) هو الفاعل ، و «إذ» ظرف للفعل منع ، أو لقوله : (أَنْ يُؤْمِنُوا).

والمعنى : وما صرف المشركين عن الإيمان بالدين الحق وقت أن جاءتهم به الرسل ، إلا اعتقاد هؤلاء المشركين أن الله ـ تعالى ـ لا يبعث إليهم رجلا من البشر لكي يبلغهم وحيه ، وإنما يبعث إليهم ملكا من الملائكة لكي يبلغهم ذلك.

وعبر عن اعتقادهم الباطل هذا بالقول فقال : (إِلَّا أَنْ قالُوا ..) للإشعار بأنه مجرد قول لاكته ألسنتهم ، دون أن يكون معهم أى مستند يستندون إليه لإثبات قبوله عند العقلاء.

وجاء التعبير عن اعتقادهم الباطل هذا بصيغة الحصر ، لبيان أنه مع بطلانه ـ هو من أهم

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٢١ ص ٥٨.

٤٣٢

الموانع والصوارف ، التي منعتهم وصرفتهم عن الدخول في الدين الحق ، الذي جاءتهم به الرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ ، وهذا لا يمنع أن هناك صوارف أخرى حالت بينهم وبين الإيمان كالحسد والعناد.

قال صاحب الكشاف : والمعنى. وما منعهم من الإيمان بالقرآن ، وبنبوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا شبهة تلجلجت في صدورهم ، وهي إنكارهم أن يرسل الله البشر. والهمزة في (أَبَعَثَ اللهُ) للإنكار ، وما أنكروه فخلافه هو المنكر عند الله ـ تعالى ـ لأن قضية حكمته ، أن لا يرسل ملك الوحى إلا إلى أمثاله ، أو إلى الأنبياء» (١).

والمتدبر في القرآن الكريم ، يرى أن هذه الشبهة ـ وهي إنكار المشركين كون الرسول بشرا ـ قد حكاها في آيات كثيرة منها قوله ـ تعالى ـ : (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ ...) (٢).

وقوله ـ تعالى ـ : (ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا ، فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا ، وَاسْتَغْنَى اللهُ ، وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) (٣).

ومما لا شك فيه أن هذه الشبهة تدل ، على أن هؤلاء الكافرين ، لم يدركوا قيمة بشريتهم وكرامتها عند الله ـ تعالى ـ ، وذلك بسبب انطماس بصائرهم ، وكثرة جهلهم ، وعكوفهم على موروثاتهم الفاسدة.

ولذا أمر الله ـ تعالى ـ بأن يرد عليهم بما يزهق هذه الشبهة فقال ـ سبحانه ـ (قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ ، لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً).

والمعنى : قل ـ يا محمد ـ لهؤلاء الجاهلين : لو ثبت ووجد ملائكة في الأرض ، يمشون على أقدامهم كما يمشى الإنس ، ويعيشون فوقها (مُطْمَئِنِّينَ) أى : مستقرين فيها مقيمين بها.

لو ثبت ذلك ، لاقتضت حكمتنا أن نرسل إليهم من السماء ملكا رسولا ، يكون من جنسهم ، ويتكلم بلسانهم ، وبذلك يتمكنون من مخاطبته ، ومن الأخذ عنه ، ومن التفاهم معه لأن الجنس إلى الجنس أميل ، والرسول يجب أن يكون من جنس المرسل إليهم ، فلو كان المرسل إليهم ملائكة ، لكان الرسول إليهم ملكا مثلهم ، ولو كان المرسل إليهم من البشر ، لكان الرسول إليهم بشرا مثلهم.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٤٩٩.

(٢) سورة يونس الآية ٢.

(٣) سورة التغابن الآية ٦.

٤٣٣

فكيف تطلبون أيها الجاهلون ـ أن يكون الرسول إليكم ملكا ، وتستبعدون أن يكون بشرا مع أنكم من البشر؟!!

قال الآلوسى : قوله : (لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً) أى : يعلمهم ما لا تستقل عقولهم بعلمه ، وليسهل عليهم الاجتماع به ، والتلقي منه ، وأما عامة البشر فلا يسهل عليهم ذلك ، لبعد ما بين الملك وبينهم ...» (١).

وهذا المعنى الذي وضحته الآية الكريمة ـ وهو أن الرسول يجب أن يكون من جنس المرسل إليهم ـ قد جاء ما يشبهه ويؤكده في آيات كثيرة منها قوله ـ تعالى ـ : (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ، وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ. وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ ، فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (٣).

وقوله ـ عزوجل : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ...) (٤).

ثم أمر الله ـ تعالى ـ نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم للمرة الثانية ، أن يحسم الجدال معهم ، بتفويض أمره وأمرهم إلى الله ـ عزوجل ـ ، فهو خير الحاكمين فقال : (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ، إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً).

أى : قل لهم في هذه المرة من جهتك ، بعد أن قلت لهم في المرة السابقة من جهتنا : قل لهم ـ أيها الرسول الكريم ـ يكفيني ويرضيني ويسعدني ، أن يكون الله ـ تعالى ـ هو الشهيد والحاكم بيني وبينكم يوم نلقاه جميعا فهو ـ سبحانه ـ يعلم أنى قد بلغتكم ما أرسلت به إليكم ، إنه ـ تعالى ـ كان وما زال خبيرا بصيرا. أى : محيطا إحاطة تامة بظواهرهم وبواطنهم ، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.

وفي هذه الآية الكريمة تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما أصابه منهم من أذى ، وتهديد لهم بسوء المصير ، حيث آذوا نبيهم الذي جاء لهدايتهم وسعادتهم.

وبذلك نرى الآيات الكريمة ، قد حكت بعض الشبهات الفاسدة التي تذرع بها الكافرون

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ١٧٣.

(٢) سورة الأنعام الآيتان ٨ ، ٩.

(٣) سورة الأنبياء الآية ٧.

(٤) سورة إبراهيم الآية ٤.

٤٣٤

في البقاء على كفرهم ، كما حكت ما اقتضته حكمته ـ سبحانه ـ في إرسال الرسل ، وهددت المصرين على كفرهم بسوء العاقبة.

ثم ساق ـ سبحانه ـ شبهة أخرى من شبهات المشركين التي حكاها عنهم كثيرا ، ورد عليها بما يبطلها ، وبين أحوالهم السيئة يوم القيامة ، بعد أن بين أن الهداية والإضلال من شأنه وحده فقال ـ تعالى ـ :

(وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (٩٧) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٩٨) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (٩٩) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً) (١٠٠)

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ) كلام مستأنف منه ـ تعالى ـ لبيان نفاذ قدرته ومشيئته.

أى : ومن يهده الله ـ تعالى ـ إلى طريق الحق ، فهو الفائز بالسعادة ، المهدى إلى كل مطلوب حسن ، (وَمَنْ يُضْلِلْ) أى : ومن يرد الله ـ تعالى ـ إضلاله (فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ) أيها الرسول الكريم (أَوْلِياءَ) أى : نصراء ينصرونهم ويهدونهم إلى طريق الحق (مِنْ دُونِهِ) عزوجل ، إذ أن الله ـ تعالى ـ وحده هو الخالق للهداية والضلالة ، على حسب ما تقتضيه حكمته ومشيئته.

٤٣٥

وجاء قوله ـ تعالى ـ (فَهُوَ الْمُهْتَدِ) بصيغة الإفراد حملا على لفظ (مَنْ) في قوله (وَمَنْ يَهْدِ اللهُ) وجاء قوله : (فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ) بصيغة الجمع حملا على معناها في قوله : (وَمَنْ يُضْلِلْ).

قالوا : ووجه المناسبة في ذلك ـ والله أعلم ـ أنه لما كان الهدى شيئا واحدا غير متشعب السبل ، ناسبه الإفراد ، ولما كان الضلال له طرق متشعبة ، كما في قوله ـ تعالى ـ : (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) ناسبه الجمع (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ الصورة الشنيعة التي يحشر عليها الضالون يوم القيامة فقال : (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ ، عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا ..).

والحشر : الجمع. يقال : حشرت الجند حشرا. أى جمعتهم. وقوله : (عَلى وُجُوهِهِمْ) حال من الضمير المنصوب في نحشرهم. وقوله : (عُمْياً ، وَبُكْماً وَصُمًّا) أحوال من الضمير المستكن في قوله (عَلى وُجُوهِهِمْ). أى : نجمع هؤلاء الضالين يوم القيامة ، حين يقومون من قبورهم ، ونجعلهم ـ بقدرتنا ـ يمشون على وجوههم ، أو يسحبون عليها ، إهانة لهم وتعذيبا ، ويكونون في هذه الحالة عميا لا يبصرون ، وبكما لا ينطقون ، وصما لا يسمعون.

قال الآلوسى ما ملخصه : قوله ـ تعالى ـ : (نَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ) إما مشيا ، بأن يزحفوا منكبين عليها. ويشهد له ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن أنس قال : قيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كيف يحشر الناس على وجوههم؟ فقال : «الذي أمشاهم على أرجلهم ، قادر على أن يمشيهم على وجوههم» ..

وإما سحبا بأن تجرهم الملائكة منكبين عليها ، كقوله ـ تعالى ـ : (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) ويشهد له ما أخرجه أحمد والنسائي والحاكم ـ وصححه ـ عن أبى ذر ، أنه تلا هذه الآية. (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ) فقال : حدثني الصادق المصدوق صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الناس يحشرون يوم القيامة على ثلاثة أفواج فوج طاعمين كاسين راكبين ، وفوج يمشون ويسعون ، وفوج تسحبهم الملائكة على وجوههم.

وجائز أن يكون الأمران في حالين : الأول : عند جمعهم وقبل دخولهم النار ، والثاني عند دخولهم فيها ...

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٦٤٩.

٤٣٦

ثم قال : وزعم بعضهم أن الكلام على المجاز ، وذلك كما يقال للمنصرف عن أمر وهو خائب مهموم : انصرف على وجهه .. وإياك أن تلتفت إلى ـ هذا الزعم ـ أو إلى تأويل نطقت السنة النبوية بخلافه ، ولا تعبأ بقوم يفعلون ذلك» (١).

فإن قيل : كيف نوفق بين هذه الآية التي تثبت لهؤلاء الضالين يوم حشرهم العمى والبكم والصمم ، وبين آيات أخرى تثبت لهم في هذا اليوم الرؤية والكلام والسمع ، كما في قوله ـ تعالى ـ : (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ ..).

وكما في قوله ـ سبحانه ـ : (دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً) وكما في قوله ـ عزوجل ـ : (سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً)؟

فالجواب : أن المراد في الآية هنا أنهم يحشرون عميا لا يرون ما يسرهم ، وبكما لا ينطقون بحجة تنفعهم ، وصما لا يسمعون ما يرضيهم ..

أو أنهم يحشرون كذلك ، ثم تعاد لهم حواسهم بعد ذلك عند الحساب وعند دخولهم النار.

أو أنهم عند ما يحشرون يوم القيامة ، ويرون ما يرون من أهوال ، تكون أحوالهم كأحوال العمى الصم البكم ، لعظم حيرتهم ، وشدة خوفهم ، وفرط ذهولهم.

ثم بين ـ سبحانه ـ مآلهم بعد الحشر والحساب فقال : (مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً).

ومعنى : (خَبَتْ) هدأت وسكن لهيبها. يقال : خبت النار تخبو إذا هدأ لهيبها.

أى : أن هؤلاء المجرمين مأواهم ومسكنهم ومقرهم جهنم ، كلما سكن لهيب جهنم وهدأ ، بأن أكلت جلودهم ولحومهم ، زدناهم توقدا ، بأن تبدل جلودهم ولحومهم بجلود ولحوم أخرى ، فتعود النار كحالتها الأولى ملتهبة مستعرة.

وخبو النار وسكونها لا ينقص شيئا من عذابهم ، وعلى ذلك فلا تعارض بين هذه الآية وبين قوله ـ عزوجل ـ (خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) (٢).

وفي هذه الآية ما فيها من عذاب للكافرين تقشعر من هوله الأبدان ، وترتجف من تصويره النفوس والقلوب ، نسأل الله ـ تعالى ـ بفضله ورحمته أن يجنبنا هذا المصير المؤلم.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ١٧٥.

(٢) سورة البقرة الآية ١٦٢.

٤٣٧

وقوله ـ عزوجل ـ : (ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا : أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً) بيان للأسباب التي أفضت بهم إلى تلك العاقبة السيئة.

أى : ذلك الذي نزل بهم من العذاب الشديد ، المتمثل في حشرهم على وجوههم وفي اشتعال النار بهم ، سببه أنهم كفروا بآياتنا الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا وقالوا بإنكار وجهالة : أإذا كنا عظاما نخرة ، ورفاتا أى وصارت أجسادنا تشبه التراب في تفتتها وتكسرها ، أإنا بعد ذلك لمعادون إلى الحياة ومبعوثون على هيئة خلق جديد.

فالآية الكريمة تحكى تصميمهم على الكفر ، وإنكارهم للبعث والحساب إنكارا لا مزيد عليه ، لذا كانت عقوبتهم شنيعة ، وعذابهم أليما. فقد سلط الله ـ تعالى ـ عليهم النار تأكل أجزاءهم ، وكلما سكن لهيبها ، أعادها الله ـ تعالى ـ ملتهبة مشتعلة على جلود أخرى لهم ، كما قال ـ تعالى ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً ، كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ ...) (١) ثم رد ـ سبحانه ـ على ما استنكروه من شأن البعث ردا يقنع كل ذي عقل سليم ، فقال ـ تعالى ـ (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ...).

والهمزة للاستفهام التوبيخي ، وهي داخلة على محذوف ، والمراد بمثلهم إياهم ، فيكون المعنى : أعموا عن الحق ، ولم يعلموا كما يعلم العقلاء ، أن الله ـ تعالى ـ الذي خلق السموات والأرض بقدرته ، وهما أعظم من خلق الناس ، قادر على إعادتهم إلى الحياة مرة أخرى بعد موتهم ، لكي يحاسبهم على أعمالهم في الدنيا.

إن عدم علمهم بذلك ، وإنكارهم له ، لمن أكبر الأدلة على جهلهم وانطماس بصيرتهم ، لأن من قدر على خلق ما هو أعظم وأكبر ـ وهو السموات والأرض فهو على إعادة ما هو دونه ـ وهو الناس ـ أقدر.

قال الشيخ الجمل ما ملخصه : قوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا ..) هذا رد لإنكارهم البعث ، ولما استبعدوه من شأنه ، يعنى أن من خلق السموات والأرض ، كيف يستبعد منه أن يقدر على إعادتهم بأعيانهم .. وأراد ـ سبحانه ـ .. بمثلهم : إياهم ، فعبر عن خلقهم بلفظ المثل كقول المتكلمين : إن الإعادة مثل الابتداء ، وذلك أن مثل الشيء مساو له في حاله ، فجاز أن يعبر به عن الشيء نفسه يقال : مثلك لا يفعل كذا ، أى : أنت لا تفعله.

ويجوز أن يكون المعنى أنه ـ سبحانه ـ قادر على أن يخلق عبيدا غيرهم يوحدونه ويقرون

__________________

(١) سورة النساء الآية ٥٦.

٤٣٨

بكمال حكمته ، ويتركون هذه الشبهات الفاسدة ، كما في قوله ـ تعالى ـ (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ، ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) والأول أشبه بما قبله (١).

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى ، بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ، بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ...) (٣).

وبعد أن أقام ـ سبحانه ـ الدليل الواضح على أن البعث حق ، وعلى أن إعادة الناس إلى الحياة بعد موتهم أمر ممكن ، أتبع ذلك ببيان أن لهذه الإعادة وقتا معلوما يجريه حسب حكمته ـ تعالى ـ فقال : (وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ).

أى : وجعل لهم ميقاتا محددا لا شك في حصوله ، وعند حلول هذا الميقات يخرجون من قبورهم للحساب والجزاء ، كما قال ـ تعالى ـ : (وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ. يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ، فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) (٤).

والجملة الكريمة وهي قوله : (وَجَعَلَ لَهُمْ ...) معطوفة على قوله (أَوَلَمْ يَرَوْا ..) لأنه في قوة قولك قد رأوا وعلموا.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت ؛ علام عطف قوله : (وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً)؟

قلت : على قوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا) لأن المعنى : قد علموا بدليل العقل ، أن من قدر على خلق السموات والأرض ، فهو قادر على خلق أمثالهم من الإنس لأنهم ليسوا بأشد خلقا منهن ، كما قال : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ) (٥).

وقوله ـ سبحانه ـ : (فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً) بيان لإصرارهم على جحود الحق مع علمهم بأنه حق.

أى : فأبى هؤلاء الظالمون المنكرون للبعث ، إلا جحودا له وعنادا لمن دعاهم إلى الإيمان به ، شأن الجاهلين المغرورين الذين استحبوا العمى على الهدى.

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٦٥١.

(٢) سورة الأحقاف الآية ٣٣.

(٣) سورة يس الآية ٨١.

(٤) سورة هود الآيتان ١٠٤ ، ١٠٥.

(٥) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٤٦٧.

٤٣٩

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآيات الكريمة بأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يجابه هؤلاء الظالمين بما جبلوا عليه من بخل وشح ، بعد أن طلبوا منه ما طلبوا من مقترحات متعنتة ، فقال ـ تعالى ـ : (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ ، وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً).

والمراد بخزائن رحمة ربي : أرزاقه التي وزعها على عباده ، ونعمه التي أنعم بها عليهم.

و (قَتُوراً) من التقتير بمعنى البخل. يقال : قتر فلان يقتر ـ بضم التاء وكسرها ـ إذا بالغ في الإمساك والشح.

أى : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ لهؤلاء الظالمين الذين أعرضوا عن دعوتك ، وطالبوك بما ليس في وسعك من تفجير الأرض بالأنهار ، ومن غير ذلك من مقترحاتهم الفاسدة ، قل لهم على سبيل التقريع والتبكيت : لو أنكم تملكون ـ أيها الناس ـ التصرف في خزائن الأرزاق التي وزعها الله على خلقه ، إذا لبخلتم وأمسكتم في توزيعها عليهم ، مخافة أن يصيبكم الفقر لو أنكم توسعتم في العطاء ، مع أن خزائن الله لا تنفد أبدا ، ولكن لأن البخل من طبيعتكم فعلتم ذلك.

قال بعضهم : وقوله : (لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ) فيه وجهان : أحدهما : أن المسألة من باب الاشتغال. فأنتم مرفوع بفعل مقدر يفسره هذا الظاهر ، لأن لو لا يليها إلا الفعل ظاهرا أو مضمرا. فهي كإن في قوله ـ تعالى ـ : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ) .. والأصل : لو تملكون ، فحذف الفعل لدلالة ما بعده عليه ـ والثاني : أنه مرفوع بكان ، وقد كثر حذفها بعد لو ، والتقدير : لو كنتم تملكون ... (١).

والمقصود بالإمساك هنا : إمساكهم عن العطاء في الدنيا ، وهذا لا ينافي قوله ـ تعالى ـ : (وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ ...) لأن ذلك حكاية عن أحوالهم في الآخرة عند ما يرون العذاب ، ويتمنون أن يفتدوا أنفسهم منه بأى شيء.

وقوله (إِذاً) ظرف لتملكون. وقوله (لَأَمْسَكْتُمْ) جواب لو ، وقوله (خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ) علة للإمساك والبخل.

وقوله : (وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً) أى : مبالغا في البخل والإمساك.

قال الإمام ابن كثير : والله ـ تعالى ـ يصف الإنسان من حيث هو ، إلا من وفقه الله

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٦٥١.

٤٤٠