التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٨

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٨

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0668-X
الصفحات: ٥٩٧

وقوله ـ سبحانه ـ : (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) شروع في بيان تفاوت أحوال بنى آدم في الآخرة ، بعد بيان حالهم في الدنيا.

ولفظ (يَوْمَ) منصوب بفعل محذوف ، أى : واذكر يوم ندعو كل أناس بإمامهم. والمراد بإمامهم هنا : كتاب أعمالهم.

وقد اختار هذا القول الإمام ابن كثير ورجحه فقال : يخبر الله ـ تعالى ـ عن يوم القيامة ، أنه يحاسب كل أمة بإمامهم ، وقد اختلفوا في ذلك. فقال مجاهد وقتادة أى : بنبيهم ، وهذا كقوله ـ تعالى ـ : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) ...

وقال ابن زيد : بإمامهم أى بكتابهم الذي أنزل على نبيهم من التشريع ، واختاره ابن جرير ...

وروى العوفى عن ابن عباس في قوله : (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) أى : بكتاب أعمالهم ...

وهذا القول هو الأرجح لقوله ـ تعالى ـ : (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) ، وقال ـ تعالى ـ : (وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ) ..

ويحتمل أن المراد بإمامهم : أن كل قوم بمن يأتمون به ، فأهل الإيمان ائتموا بالأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ ، وأهل الكفر ائتموا بأئمتهم في الكفر ...

وفي الصحيحين : «لتتبع كل أمة ما كانت تعبد ، فيتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت ...» الحديث ...

ثم قال ـ رحمه‌الله ـ ولكن المراد هاهنا بالإمام ، هو كتاب الأعمال (١).

والمعنى : واذكر ـ أيها العاقل لتعتبر وتتعظ ـ يوم ندعو كل أناس من بنى آدم الذين كرمناهم وفضلناهم على كثير من خلقنا ، بكتاب أعمالهم الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.

ثم بين ـ سبحانه ـ حسن عاقبة الذين أخلصوا دينهم لله فقال ـ تعالى ـ : (فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ ، وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً).

أى : فمن أوتى من بنى آدم يوم القيامة ، كتابه بيمينه ، بأن ثقلت موازين حسناته على سيئاته ، فأولئك السعداء يقرءون كتابهم بسرور وابتهاج ، ولا ينقصون من أجورهم قدر

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٣ ص ٥٢.

٤٠١

فتيل ، وهو الخيط المستطيل في شق النواة ، وبه يضرب المثل في الشيء القليل ومن في قوله (فَمَنْ أُوتِيَ) يجوز أن تكون شرطية ، وأن تكون موصولة ، ودخلت الفاء في الخبر وهو «فأولئك» لشبهه بالشرط.

وجاء التعبير في قوله (أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) بالإفراد ، حملا على لفظ من ، وجاء التعبير بالجمع في (فَأُولئِكَ) حملا على معناها.

وفي قوله ـ سبحانه ـ (بِيَمِينِهِ) تشريف وتبشير لصاحب هذا الكتاب المليء بالإيمان والعمل الصالح وقال ـ سبحانه ـ : (فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ) بالإظهار ، ولم يقل : يقرءونه ، لمزيد العناية بهؤلاء السعداء ، ولبيان أن هذا الكتاب تبتهج النفوس بتكرار اسمه.

ثم بين ـ سبحانه ـ سوء عاقبة من أوتى كتابه بشماله فقال : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً).

والمراد بالعمى هنا : عمى القلب لا عمى العين ، بدليل قوله ـ تعالى ـ : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ).

والمعنى : ومن كان من بنى آدم في هذه الدنيا أعمى القلب ، مطموس البصيرة ، بسبب إيثاره الكفر على الإيمان ، فهو في الدار الآخرة أشد عمى ، وأضل سبيلا منه في الدنيا ، لأنه في الدنيا كان في إمكانه أن يتدارك ما فاته أما في الآخرة فلا تدارك لما فاته.

وعبر ـ سبحانه ـ عن الذي أوتى كتابه بشماله بقوله ـ (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى) للإرشاد إلى العلة التي بسببها أصابه الشقاء في الآخرة ، وهي ـ فقدانه النظر السليم ، وإيثاره الغي على الرشد ، والباطل على الحق ..

ومما يدل على أن المراد به من أوتى كتابه بشماله ، مقابلته لمن أوتى كتابه بيمينه ، كما جاء في آيات كثيرة منها قوله ـ تعالى ـ : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ : هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ. إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ. فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ. فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ. قُطُوفُها دانِيَةٌ. كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ. وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ : يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ) (١).

وبذلك نرى الآيات الكريمة قد ساقت لبنى آدم من التكريم والتفضيل ما من شأنه أن

__________________

(١) سورة الحاقة الآيات من ١٩ الى ٢٥.

٤٠٢

يحملهم على إخلاص العبادة لخالقهم ، وعلى امتثال أمره ، واجتناب نهيه ، لكي يكونوا من السعداء في دنياهم وآخرتهم.

ثم حكى ـ سبحانه ـ جانبا من المسالك الخبيثة ، التي سلكها المشركون مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لزحزحته عن التمسك بدعوته ، وكيف أن الله ـ تعالى ـ قد عصمه من كيدهم ، فقال ـ سبحانه ـ :

(وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (٧٣) وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (٧٤) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (٧٥) وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (٧٦) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً) (٧٧)

ذكر المفسرون في سبب نزول الآية الأولى من هذه الآيات روايات منها ما جاء عن سعيد بن جبير أنه قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستلم الحجر الأسود في طوافه ، فمنعته قريش وقالوا : لا ندعك تستلم حتى تلم بآلهتنا ... فأبى الله ـ تعالى ـ ذلك ، وأنزل عليه هذه الآية.

وروى عطاء عن ابن عباس قال : نزلت في وفد ثقيف ، أتوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسألوه شططا : وقالوا : متعنا بآلهتنا سنة حتى نأخذ ما يهدى لها. وحرم وادينا كما حرمت مكة ، حتى تعرف العرب فضلنا عليهم ... فنزلت هذه الآية (١).

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٠ ص ٢٩٩.

٤٠٣

و (إِنْ) في قوله (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ ...) مخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن.

وكاد من أفعال المقاربة. و (لَيَفْتِنُونَكَ) من الفتنة ، وأصلها الاختبار والامتحان. يقال : فتن الصائغ الذهب ، أى : اختبره ليعرف جيده من خبيثة ، ويقال : فتنت الرجل عن رأيه ، إذا أزلته عما كان عليه ، وهو المراد هنا.

والمعنى ؛ وإن شأن هؤلاء المشركين ، أنهم قاربوا في ظنهم الباطل ، وزعمهم الكاذب ، أن يخدعوك ويفتنوك ـ أيها الرسول الكريم ـ عما أوحينا إليك من هذا القرآن ، لكي تفترى علينا غيره ، وتتقول علينا أقوالا ما أنزل الله بها من سلطان.

وقوله : (وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً) بيان لحالهم مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو أنه أطاعهم فيما اقترحوه عليه.

قال الجمل ما ملخصه : «وإذا حرف جواب وجزاء يقدر بلو الشرطية. وقوله : (لَاتَّخَذُوكَ) جواب قسم محذوف تقديره : والله لاتخذوك ، وهو مستقبل في المعنى ، لأن إذا تقتضي الاستقبال ، إذ معناها المجازاة ، وهذا كقوله ـ تعالى ـ : (وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ) أى : ليظلوا (١).

والمعنى : لو أنك ـ أيها الرسول الكريم ـ وافقتهم على مقترحاتهم الفاسدة لأحبوا ذلك منك ، ولصاروا أصدقاء لك في مستقبل أيامك.

وقد بين القرآن الكريم في كثير من آياته ، أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعرض عن مقترحاتهم ورفضها ، ولم يلتفت إليها ، ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ ، قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي ، إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ ، إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ ، فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٢).

ثم بين ـ سبحانه ـ بعض مظاهر فضله على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً).

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٦٣٨.

(٢) تفسير الفخر الرازي ج ٥ ص ٤٢١.

٤٠٤

أى : ولو لا تثبيتنا إياك ـ أيها الرسول الكريم ـ على ما أنت عليه من الحق والصدق ، بأن عصمناك من كيدهم لقاربت أن تميل ميلا قليلا ، بسبب شدة احتيالهم وخداعهم.

قال بعض العلماء : وهذه الآية أوضحت غاية الإيضاح ، براءة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مقاربة الركون إلى الكفار ، فضلا عن نفس الركون ؛ لأن (لَوْ لا) حرف امتناع لوجود ، فمقاربة الركون منعتها (لَوْ لا) الامتناعية لوجود التثبيت من الله ـ تعالى ـ لأكرم خلقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاتضح يقينا انتفاء مقاربة الركون ـ أى الميل ـ ، فضلا عن الركون نفسه.

وهذه الآية تبين ما قبلها ، وأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يقارب الركون إليهم مطلقا. لأن قوله : (لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) أى : قاربت تركن إليهم ، هو عين الممنوع بلو لا الامتناعية (١).

ومما يشهد بأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يقارب الركون من مقترحات الكافرين ، قول ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معصوما ، ولكن هذا تعريف للأمة ، لئلا يركن أحد منهم إلى المشركين في شيء من أحكام الله ـ تعالى ـ وشرائعه.

وعن قتادة أنه قال : لما نزلت هذه الآية ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين».

ثم بين ـ سبحانه ـ ما كان سيترتب على الركون إليهم ـ على سبيل الفرض من عقاب فقال ـ تعالى ـ : (إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ، ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً).

والضعف : عبارة عن أن يضم إلى شيء مثله.

أى : لو قاربت ـ أيها الرسول الكريم ـ أن تركن إليهم أقل ركون ، أو تميل إليهم أدنى ميل ، لأنزلنا بك عذابا مضاعفا في الدنيا وعذابا مضاعفا في الآخرة ، ثم لا تجد لك بعد ذلك نصيرا ينصرك علينا ، أو ظهيرا يدفع عنك عذابنا ، أو يحميك منه ، كما قال ـ تعالى ـ : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ. لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ. ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ).

والسبب في تضعيف العذاب ، أن الخطأ يعظم بمقدار عظم صاحبه ، ويصغر بمقدار صغره ، ورحم الله القائل :

وكبائر الرجل الصغير صغائر

وصغائر الرجل الكبير كبائر

__________________

(١) تفسير أضواء البيان ج ٣ ص ٦٢١ للشيخ محمد الأمين الشنقيطى.

٤٠٥

والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو أعظم الخلق على الإطلاق ، لذا توعده الله ـ تعالى ـ بمضاعفة العذاب ، لو ركن إلى المشركين أدنى ركون.

وقريب من هذا المعنى قوله ـ تعالى ـ (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ ، وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) (١).

قال صاحب الكشاف : وفي ذكر الكيدودة وتقليلها ، مع إتباعها الوعيد الشديد بالعذاب المضاعف في الدارين ، دليل بين على أن القبيح يعظم قبحه بمقدار عظم شأن فاعله وارتفاع منزلته ، وفيه دليل على أن أدنى مداهنه للغواة ، مضادة لله وخروج عن ولايته ، وسبب موجب لغضبه ونكاله. فعلى المؤمن إذا تلا هذه الآيات أن يجثو عندها ويتدبرها فهي جديرة بالتدبر وبأن يستشعر الناظر فيها الخشية وازدياد التصلب في دين الله (٢).

ثم ذكر ـ سبحانه ـ مكيدة أخرى من مكايد المشركين ، وهي محاولتهم إخراج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بلده ، لكي يعكفوا على عبادة آلهتهم الباطلة دون أن ينهاهم عن ذلك أحد ، فقال ـ تعالى ـ : (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها ...).

قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه : قيل نزلت في اليهود إذ أشاروا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسكنى الشام ، بلاد الأنبياء وترك سكنى المدينة وهذا القول ضعيف لأن هذه الآية مكية وسكنى المدينة كان بعد ذلك ...

ثم قال : وقيل نزلت في كفار قريش ، حين هموا بإخراج الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بين أظهرهم ، فتوعدهم الله ـ تعالى ـ بهذه الآية : وأنهم لو أخرجوه لما لبثوا بعده بمكة إلا زمنا يسيرا ... (٣).

وما ذهب إليه ابن كثير ـ رحمه‌الله ـ من أن الآية مكية ، هو الذي تسكن إليه النفس. فيكون المعنى : (وَإِنْ كادُوا) أى : كفار مكة (لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ) أى : ليزعجونك ويحملونك على الخروج من الأرض التي على ترابها ولدت وفيها نشأت ، وهي أرض مكة.

وقوله : (وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً) بيان لسوء مصيرهم إذا ما أخرجوه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكة.

__________________

(١) سورة الأحزاب الآية ٣٠.

(٢) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٦٨٥.

(٣) تفسير ابن كثير ج ٣ ص ٥٣.

٤٠٦

أى : ولو أنهم استفزوك وأجبروك على الخروج إجبارا ، لما لبثوا (خِلافَكَ) أى : بعد خروجك إلا زمنا قليلا ، ثم يصيبهم ما يصيبهم من الهلاك والنقم.

ومع أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد خرج من مكة مهاجرا بأمر ربه إلا أنه ـ سبحانه ـ قد مكن نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه من مشركي مكة في غزوة بدر ، فقتلوا منهم سبعين ، وأسروا نحو ذلك ، وكانت المدة بين هجرته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين غزوة بدر تقل عن سنتين.

وهكذا حقق الله ـ تعالى ـ وعده لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنزل وعيده بأعدائه.

ثم بين ـ سبحانه ـ أن نصرة رسله سنة من سننه التي لا تتخلف فقال : (سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا ، وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً).

ولفظ (سُنَّةَ) منصوب على أنه مصدر مؤكد ، أى : سن الله ما قصه عليك سنة ، وهذه السنة هي أننا لا نترك بدون عقاب أمة أخرجت رسولها من أرضه ، وقد فعلنا ذلك مع الأقوام السابقين الذين أخرجوا أنبياءهم من ديارهم ولا تجد ـ أيها الرسول الكريم ـ لسنتنا وطريقتنا تحويلا أو تبديلا ، ولو لا أننا قد منعنا عن قومك عذاب الاستئصال لوجودك فيهم ، لأهلكناهم بسبب إيذائهم لك ، وتطاولهم عليك.

قال ـ تعالى ـ : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ...).

وبذلك نرى الآيات الكريمة قد حكت لنا جانبا من المسالك الخبيثة التي اتبعها المشركون مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما حكت لنا ألوانا من فضل الله ـ تعالى ـ على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث عصمه من أى ركون إليهم ووعده بالنصر عليهم.

ثم أرشد الله ـ تعالى ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى ما يعينه على التغلب على كيد المشركين ، وإلى ما يزيده رفعة في الدرجة ، وبشره بأن ما معه من حق ، سيزهق ما مع أعدائه من باطل فقال ـ تعالى ـ :

(أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (٧٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (٧٩) وَقُلْ رَبِّ

٤٠٧

أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (٨٠) وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) (٨١)

قال الإمام الرازي ما ملخصه : وفي نظم هذه الآيات مع ما قبلها وجوه ، الأول : أنه ـ تعالى ـ لما قرر الإلهيات والمعاد والنبوات ، أردفها بذكر الأمر بالطاعات. وأشرف الطاعات. بعد الإيمان الصلاة ؛ فلهذا أمر بها.

الثاني : أنه ـ تعالى ـ لما قال : (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها). أمره ـ تعالى ـ بالإقبال على عبادته لكي ينصره عليهم .. كما قال ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ. وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ...) (١).

وقوله ـ سبحانه ـ (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) أى : داوم ـ أيها الرسول الكريم ـ على إقامة الصلاة ، من وقت زوالها وميلها عن وسط السماء لجهة الغرب. يقال : دلكت الشمس تدلك ـ بضم اللام ـ إذا مالت وانتقلت من وسط السماء إلى ما يليه. ومادة دلك تدل على التحول والانتقال.

ولذلك سمى الدلاك بهذا الاسم. لأن يده لا تكاد تستقر على مكان معين من الجسم.

وتفسير دلوك الشمس هذا بمعنى ميلها وزوالها عن كبد السماء ، مروى عن جمع من الصحابة والتابعين منهم عمر بن الخطاب ، وابنه عبد الله ، وأنس ، وابن عباس ، والحسن ، ومجاهد.

وقيل المراد بدلوك الشمس هنا غروبها. وقد روى ذلك عن على ، وابن مسعود ، وابن زيد.

قال بعض العلماء : والقول الأول عليه الجمهور ، وقالوا : الصلاة التي أمر بها ابتداء من هذا الوقت ، هي صلاة الظهر ، وقد أيدوا هذا القول بوجوه منها : ما روى عن جابر أنه قال : طعم عندي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه. ثم خرجوا حين زالت الشمس ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا حين دلكت الشمس.

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٥ ص ١٢٧.

٤٠٨

ومن الوجوه ـ أيضا ـ النقل عن أهل اللغة ، فقد قالوا : إن الدلوك في كلام العرب : الزوال ، ولذا قيل للشمس إذا زالت. دالكة (١).

وقوله : (إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) أى : إلى شدة ظلمته.

قال القرطبي : يقال : غسق الليل غسوقا. وأصل الكلمة من السيلان. يقال : غسقت العين إذ سالت تغسق. وغسق الجرح غسقانا ، أى : سال منه ماء أصفر ... وغسق الليل : اجتماع الليل وظلمته.

وقال : أبو عبيدة : الغسق : سواد الليل ...» (٢).

والمراد من الصلاة التي تقام من بعد دلوك الشمس إلى غسق الليل : صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) معطوف على مفعول (أَقِمِ) وهو الصلاة.

والمراد بقرآن الفجر : صلاة الفجر. وسميت قرآنا ، لأن القراءة ركن من أركانها ، من تسمية الشيء باسم جزئه ، كتسمية الصلاة ركوعا وسجودا وقنوتا.

وقوله (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) تنويه بشأن صلاة الفجر ، وإعلاء من شأنها.

أى : داوم ـ أيها الرسول الكريم ـ على أداء صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء ، وداوم على صلاة الفجر ـ أيضا ـ فإن صلاتها مشهودة من الملائكة ومن الصالحين من عباد الله ـ عزوجل ـ.

قال الإمام ابن كثير ما ملخصه : وقد ثبتت السنة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تواترا من أفعاله وأقواله بتفاصيل هذه الأوقات على ما عليه أهل الإسلام اليوم ، مما تلقوه خلفا عن سلف ، وقرنا بعد قرن.

روى البخاري عن أبى هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد ، خمس وعشرون درجة ، وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر».

يقول أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم : (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً ....) (٣).

__________________

(١) تفسير آيات الأحكام ج ٣ ص ٦٠ للمرحوم الشيخ محمد على السائس.

(٢) تفسير القرطبي ج ١٠ ص ٣٠٤.

(٣) تفسير ابن كثير ج ٣ ص ٥٤.

٤٠٩

وقال الإمام الفخر الرازي : وفي الآية احتمال ، وهو أن يكون المراد من قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) الترغيب في أن تؤدى هذه الصلاة بالجماعة. ويكون المعنى : إن صلاة الفجر مشهودة بالجماعة الكثيرة» (١).

وقوله ـ سبحانه ـ (وَمِنَ اللَّيْلِ ، فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ) إرشاد إلى عبادة أخرى من العبادات التي تطهر القلب ، وتسمو بالنفس إلى مراقى الفلاح ، وتعينها على التغلب على الهموم والآلام.

والجار والمجرور (وَمِنَ اللَّيْلِ) متعلق بقوله (فَتَهَجَّدْ) أى. تهجد بالقرآن بعض الليل. أو متعلق بمحذوف تقديره : وقم قومة من الليل فتهجد ، و (مِنَ) للتبعيض.

قال الجمل : والمعروف في كلام العرب أن الهجود عبارة عن النوم بالليل. يقال : هجد فلان ، إذا نام بالليل.

ثم لما رأينا في عرف الشرع أنه يقال لمن انتبه بالليل من نومه وقام إلى الصلاة أنه متهجد ، وجب أن يقال : سمى ذلك متهجدا من حيث أنه ألقى الهجود. فالتهجد ترك الهجود وهو النوم ...» (٢).

والضمير في (بِهِ) يعود إلى القرآن الكريم ، المذكور في قوله ـ تعالى ـ (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) ، إلا أنه ذكر في الآية السابقة بمعنى الصلاة ، وذكر هنا بمعناه المشهور ، ففي الكلام ما يسمى في البلاغة بالاستخدام.

والنافلة : الزيادة على الفريضة ، والجمع نوافل. يقال : تنفل فلان على أصحابه ، إذا أخذ زيادة عنهم.

أى : واجعل ـ أيها الرسول الكريم ـ جانبا من الليل ، تقوم فيه ، لتصلي صلاة زائدة على الصلوات الخمس التي فرضها الله ـ تعالى ـ عليك وعلى أمتك.

قال ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً. نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً).

قالوا : وقيام الليل كان واجبا في حقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بصفة خاصة ، زيادة على الصلاة المفروضة.

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٥ ص ٤٢٩.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٦٤٢.

٤١٠

أخرج البيهقي في سننه عن عائشة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ثلاث هن على فرائض ، وهن لكم سنة : الوتر ، والسواك ، وقيام الليل».

ومن العلماء من يرى أن قيام الليل كان مندوبا في حقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما هو الشأن في أمته ، ومعنى (نافِلَةً لَكَ) أى : زيادة في رفع درجاتك ، فإن الله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، أما غيرك فقد شرعنا له النافلة تكفيرا لخطاياه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) بيان لما يترتب على أدائه للصلوات بخشوع وخضوع ، من سمو في المكانة ، ورفعة في الدرجة.

وكلمة عسى في كلام العرب تفيد التوقع ، أما في كلام الله ـ تعالى ـ فتفيد الوجوب والقطع.

قال الجمل : اتفق المفسرون على أن كلمة (عَسى) من الله ـ تعالى ـ تدخل فيما هو قطعى الوقوع ، لأن لفظ عسى يفيد الإطماع ، ومن أطمع إنسانا في شيء ، ثم حرمه ، كان عارا عليه والله ـ تعالى ـ أكرم من أن يطمع أحدا ثم لا يعطيه ما أطمعه فيه».

أى : داوم أيها الرسول الكريم على عبادة الله وطاعته لنبعثك يوم القيامة ونقيمك مقاما محمودا ، ومكانا عاليا ، يحمدك فيه الخلائق كلهم.

والمراد بالمقام المحمود هنا ، هو مقام الشفاعة العظمى يوم القيامة. ليريح الناس من الكرب الشديد ، في موقف الحساب.

وقد ساق الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية جملة من الأحاديث في هذا منها : ما أخرجه البخاري عن ابن عمر قال : إن الناس يصيرون يوم القيامة جثا ـ جمع جثوة كخطوة وخطا ـ أى جماعات ـ كل أمة تتبع نبيها ، يقولون : يا فلان اشفع ، يا فلان اشفع ، حتى تنتهي الشفاعة إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فذلك يوم يبعثه الله مقاما محمودا».

وروى الإمام أحمد والترمذي عن أبى بن كعب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا كان يوم القيامة ، كنت إمام الأنبياء وخطيبهم. وصاحب شفاعتهم غير فخر».

وروى ابن جرير عن أبى هريرة أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن قوله ـ تعالى ـ : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) فقال : «هو المقام الذي أشفع لأمتى فيه» (١).

وقال الآلوسى : والمراد بذلك المقام ، مقام الشفاعة العظمى في فصل القضاء حيث لا أحد

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٣ ص ٥٥.

٤١١

إلا وهو تحت لوائه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقد أخرج البخاري وغيره عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : إن الشمس لتدنو حتى يبلع العرق نصف الأذن ، فبينما هم كذلك ، استغاثوا بآدم ، فيقول : لست بصاحب ذلك ، ثم موسى فيقول كذلك. ثم محمد فيشفع فيقضى الله ـ تعالى ـ بين الخلق ، فيمشى صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى يأخذ بحلقة باب الجنة ، فيومئذ يبعثه الله ـ تعالى ـ مقاما محمودا ، يحمده أهل الجمع كلهم» (١).

ثم أمر الله ـ تعالى ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يكثر من اللجوء إليه عن طريق الدعاء ، بعد أن أمره بذلك عن طريق المداومة على الصلاة ، فقال ـ تعالى ـ : (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ ، وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ ، وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً).

والمدخل والمخرج ـ يضم الميم فيهما ـ مصدران بمعنى الإدخال والإخراج ، فهما كالمجرى والمرسى وإضافتهما إلى الصدق من إضافة الموصوف لصفته.

قال الآلوسى : واختلف في تعيين المراد من ذلك ، فأخرج الزبير بن بكار عن زيد بن أسلم ، أن المراد : بالإدخال : دخول المدينة ، وبالإخراج : الخروج من مكة ، ويدل عليه ما أخرجه أحمد ، والطبراني ، والترمذي وحسنه ، والحاكم وصححه ، وجماعة ، عن ابن عباس قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة ، ثم أمر بالهجرة ، فأنزل الله ـ تعالى ـ عليه هذه الآية. وبدأ بالإدخال لأنه الأهم ...

ثم قال : والأظهر أن المراد إدخاله ـ عليه الصلاة والسلام ـ إدخالا مرضيا في كل ما يدخل فيه ويلابسه من مكان أو أمر ، وإخراجه ـ من كل ما يخرج منه خروجا مرضيا ـ كذلك ـ ، فتكون الآية عامة في جميع الموارد والمصادر ...» (٢).

ويبدو لنا أن المعنى الذي أشار إليه الآلوسى ـ رحمه‌الله ـ بأنه الأظهر ، هو الذي تسكن إليه النفس ، ويدخل فيه غيره دخولا أوليا ، ويكون المعنى :

وقل ـ أيها الرسول الكريم ـ متضرعا إلى ربك : يا رب أدخلنى إدخالا مرضيا صادقا في كل ما أدخل فيه من أمر أو مكان ، وأخرجنى كذلك إخراجا طيبا صادقا من كل أمر أو مكان.

والمراد بالسلطان في قوله ـ تعالى ـ : (وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً) الحجة البينة الواضحة التي تقنع العقول ، والقوة الغالبة التي ترهب المبطلين.

__________________

(١) راجع تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ١٤٠.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ١٤٣.

٤١٢

أى : واجعل لي ـ يا إلهى ـ من عندك حجة تنصرني بها على من خالفني ، وقوة تعينني بها على إقامة دينك ، وإزالة الشرك والكفر.

وقد وضح صاحب الكشاف هذا المعنى فقال : قوله : (وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً) أى : حجة تنصرني على من خالفني ، أو ملكا وعزا قويا ناصرا للإسلام على الكفر ، مظهرا له عليه ، فأجيبت دعوته بقوله :

(وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ* لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ). ووعده لينزعن ملك فارس والروم فيجعله له.

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه استعمل «عتاب بن أسيد» على أهل مكة وقال : انطلق فقد استعملتك على أهل الله ، فكان شديدا على المريب. لينا على المؤمن ، وقال : لا والله لا أعلم متخلفا يتخلف عن الصلاة في جماعة إلا ضربت عنقه ، فإنه لا يتخلف عن الصلاة إلا منافق. فقال أهل مكة : يا رسول الله لقد استعملت على أهل الله «عتاب بن أسيد» أعرابيا جافيا.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنى رأيت فيما يرى النائم كأن عتاب بن أسيد أتى باب الجنة ، فأخذ بحلقة الباب فقلقلها قلقالا شديدا ، حتى فتح له فدخلها ، فأعز الله به الإسلام لنصرته المسلمين على من يريد ظلمهم ، فذلك السلطان النصير» (١).

وقال ابن كثير ـ بعد أن ساق بعض الأقوال في معنى الآية الكريمة ـ قوله : (وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً) قال الحسن البصري في تفسيرها : وعده ربه لينزعن ملك فارس والروم وليجعلنه له.

وقال قتادة فيها : إن نبي الله علم أن لا طاقة له بهذا الأمر إلا بسلطان. فسأل سلطانا نصيرا لكتاب الله. ولحدود الله ، ولفرائض الله ، ولإقامة دين الله ، فإن السلطان رحمة من الله جعله بين أظهر عباده ، ولو لا ذلك لأغار بعضهم على بعض فأكل شديدهم ضعيفهم ...

ثم قال ابن كثير : واختار ابن جرير قول الحسن وقتادة ، وهو الأرجح ، لأنه لا بد مع الحق من قهر لمن عاداه وناوأه ، ولهذا يقول ـ تعالى ـ : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ ، وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ، وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ ...).

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٦٨٨.

٤١٣

وفي الحديث (١) : «إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن» أى : ليمنع بالسلطان عن ارتكاب الفواحش والآثام ، ما لا يمتنع كثير من الناس عن ارتكابه بالقرآن وما فيه من الوعيد الأكيد ، والتهديد الشديد ، وهذا هو الواقع» (٢).

وفي قوله ـ تعالى ـ : (وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ) تصوير بديع لشدة القرب والاتصال بالله ـ تعالى ـ واستمداد العون منه ـ سبحانه ـ مباشرة ، واللجوء إلى حماه بدون وساطة من أحد.

ثم بشره ـ سبحانه ـ بأن النصر له آت لا ريب فيه فقال ـ تعالى ـ (وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً).

والحق في لغة العرب : الشيء الثابت الذي ليس بزائل ولا مضمحل. والباطل على النقيض منه.

والمراد بالحق هنا : حقائق الإسلام وتعاليمه التي جاء بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من عند ربه ـ عزوجل ـ.

والمراد بالباطل : الشرك والمعاصي التي ما أنزل الله بها من سلطان ، والمراد بزهوقه : ذهابه وزواله. يقال : فلان زهقت روحه ، إذا خرجت من جسده وفارق الحياة.

أى : وقل ـ أيها الرسول الكريم ـ على سبيل الشكر لربك ، والاعتراف له بالنعمة ، والاستبشار بنصره ، قل : جاء الحق الذي أرسلنى به الله ـ تعالى ـ وظهر على كل ما يخالفه من شرك وكفر ، وزهق الباطل ، واضمحل وجوده وزالت دولته ، إن الباطل كان زهوقا ، أى : كان غير مستقر وغير ثابت في كل وقت. كما قال ـ تعالى ـ : (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ. قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ) (٣).

وكما قال ـ سبحانه ـ : (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ ...) (٤).

وقد ذكر المفسرون عند تفسيرهم لهذه الآية أحاديث منها : ما أخرجه الشيخان عن ابن مسعود ـ رضى الله عنه ـ قال : دخل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة ـ عند فتحها ـ وحول البيت ستون وثلاثمائة صنم. فجعل يطعنها بعود في يده ويقول (جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً)(قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ).

__________________

(١) المشهور أن هذه العبارة من الأثر وليست حديثا.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٣ ص ٥٩.

(٣) سورة سبأ الآيتان ٤٨ ، ٤٩.

(٤) سورة الأنبياء الآية ١٨.

٤١٤

وأخرج ابن أبى شيبة وأبو يعلى وابن المنذر عن جابر قال : دخلنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة ، وحول البيت ثلاثمائة وستون صنما ، فأمر بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأكبت على وجهها. وقال (جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) (١).

وقال القرطبي : في هذه الآية دليل على كسر نصب المشركين ، وجميع الأوثان إذا غلب عليهم ، ويدخل بالمعنى كسر آلة الباطل كله ، وما لا يصلح إلا لمعصية الله كالطنابير والعيدان والمزامير التي لا معنى لها إلا اللهو بها عن ذكر الله تعالى .. (٢).

وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد أمرت المسلمين في شخص نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمداومة على كل ما يقربهم من الله ـ تعالى ـ ، ولا سيما الصلاة التي هي صلة بين العبد وربه ، وبشرت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمنحه المقام المحمود من ربه ـ عزوجل ، وبأن ما معه من حق وصدق ، سيزهق ما مع أعدائه من باطل وكذب ، فإن سنة الله ـ تعالى ـ قد اقتضت أن تكون العاقبة للمتقين.

ثم مدح ـ سبحانه ـ القرآن الكريم الذي أنزله على قلب نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين أحوال الإنسان في حالتي اليسر والعسر ، والرخاء والشدة ، وأن كل إنسان يعمل في هذه الدنيا على حسب طبيعته ونيته وميوله ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (٨٢) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (٨٣) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً) (٨٤)

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٣ ص ٥٩.

(٢) تفسير القرطبي ج ١٠ ص ٣١٤.

٤١٥

قال الفخر الرازي ـ رحمه‌الله ـ : اعلم أنه ـ تعالى ـ لما أطنب في شرح الإلهيات والنبوات ، والحشر والمعاد والبعث ، وإثبات القضاء والقدر ، ثم أتبعه بالأمر بالصلاة ، ونبه على ما فيها من الأسرار ، وإنما ذكر كل ذلك في القرآن ، أتبعه ببيان كون القرآن شفاء ورحمة. فقال ـ تعالى ـ : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ..).

ثم قال : ولفظة (مِنَ) هاهنا ليست للتبعيض ، بل هي للجنس كقوله : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ).

والمعنى : وننزل من هذا الجنس الذي هو قرآن ما هو شفاء ، فجميع القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين (١).

ومما لا شك فيه ، أن قراءة القرآن ، والعمل بأحكامه وآدابه وتوجيهاته .. شفاء للنفوس من الوسوسة ، والقلق ، والحيرة ، والنفاق ، والرذائل المختلفة ، ورحمة للمؤمنين من العذاب الذي يحزنهم ويشقيهم.

إنه شفاء ورحمة لمن خالطت قلوبهم بشاشة الإيمان ، فأشرقت بنور ربها ، وتفتحت لتلقى ما في القرآن من هدايات وإرشادات.

إنه شفاء للنفوس من الأمراض القلبية كالحسد والطمع والانحراف عن طريق الحق ، وشفاء لها من الأمراض الجسمانية.

قال القرطبي عند تفسيره لهذه الآية : اختلف العلماء في كونه ـ أى القرآن ـ شفاء على قولين :

أحدهما : أنه شفاء للقلوب بزوال الجهل عنها وإزالة الريب ، ولكشف غطاء القلب من مرض الجهل.

الثاني : أنه شفاء من الأمراض الظاهرة بالرقى والتعوذ ونحوه ، وقد روى الأئمة ـ واللفظ للدارقطنى ـ عن أبى سعيد الخدري قال : بعثنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سرية ثلاثين راكبا. قال : فنزلنا على قوم من العرب فسألناهم أن يضيفونا فأبوا. قال : فلدغ سيد الحي ، فأتونا فقالوا : أفيكم أحد يرقى من العقرب؟ قال : قلت : أنا نعم ، ولكن لا أفعل حتى تعطونا فقالوا : فإنا نعطيكم ثلاثين شاة. قال : فقرأت عليه (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) سبع مرات فبرئ. فبعثوا إلينا بالنّزل وبعثوا إلينا بالشاء. فأكلنا الطعام أنا وأصحابى ، وأبوا

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٥ ص ٤٣٢.

٤١٦

أن يأكلوا من الغنم ، حتى أتينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبرته الخبر ، فقال «ما يدريك أنها رقية»؟ قلت : يا رسول الله ، شيء ألقى في روعي. قال : «كلوا وأطعمونا من الغنم» (١).

والذي تطمئن إليه النفس أن قراءة القرآن الكريم ، والعمل بما فيه من هدايات وإرشادات وتشريعات .. كل ذلك يؤدى ـ بإذن الله تعالى ـ إلى الشفاء من أمراض القلوب ومن أمراض الأجسام.

قال بعض العلماء : وقوله ـ تعالى ـ في هذه الآية (ما هُوَ شِفاءٌ) يشمل كونه شفاء للقلب من أمراضه ، كالشك والنفاق وغير ذلك. وكونه شفاء للأجسام إذا رقى عليه به ، كما تدل له قصة الذي رقى الرجل اللديغ بالفاتحة ، وهي صحيحة مشهورة» (٢).

وبعد أن بين ـ سبحانه ـ أثر القرآن بالنسبة للمؤمنين ، أتبع ذلك ببيان أثره بالنسبة للظالمين ، فقال : (وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً).

أى : ولا يزيد ما ننزله من قرآن الظالمين إلا خسارا وهلاكا ، بسبب عنادهم وجحودهم للحق بعد إذ تبين.

قال الآلوسى : وإسناد الزيادة المذكورة إلى القرآن. مع أنهم المزدادون في ذلك لسوء صنيعهم ، باعتباره سببا لذلك ، وفيه تعجيب من أمره من حيث كونه مدارا للشفاء والشقاء.

كماء صار في الأصداف درا

وفي ثغر الأفاعى صار سما (٣)

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً ، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) (٤).

وقوله ـ تعالى ـ (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ ، وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) (٥).

ثم صور ـ سبحانه ـ حال الإنسان عند اليسر والعسر ، وعند الرخاء والشدة فقال

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٠ ص ٣١٦.

(٢) أضواء البيان ج ٣ ص ٦٢٤ للمرحوم الشيخ محمد الأمين الشنقيطى.

(٣) تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ١٤٦.

(٤) سورة التوبة ١٢٤ ، ١٢٥.

(٥) سورة فصلت الآية ٤٤.

٤١٧

ـ تعالى ـ : (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ ، وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً).

أى : (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ) بنعمة الصحة والغنى وما يشبههما مما يسره ويبهجه (أَعْرَضَ) عن طاعتنا وشكرنا (وَنَأى بِجانِبِهِ) أى : وابتعد عنا ، وولانا ظهره والنأى : البعد ، يقال : مكان ناء ، أى بعيد ، ونأى فلان عن الشيء نأيا : إذا ابتعد عنه.

وقوله ـ تعالى ـ : (نَأى بِجانِبِهِ) تأكيد للإعراض ، لأن الإعراض عن الشيء أن يوليه عرض وجهه ، والنأى بالجانب : أن يلوى عنه عطفه ، ويوليه ظهره ، ويظهر الاستكبار والغرور. وقوله ـ تعالى ـ : (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً) أى : وإذا مس الشر هذا الإنسان من فقر أو مرض ، كان يئوسا وقنوطا من رحمه‌الله ـ تعالى ـ.

فهو في حالة الصحة والغنى يبطر ويتكبر ويطغى. وفي حالة الفقر والمرض ييئس ويقنط ويستولى عليه الحزن والهم.

والمراد بالإنسان هنا جنسه ، إذ ليس جميع الناس على هذه الحالة ، وإنما منهم المؤمنون الصادقون الذين يشكرون الله ـ تعالى ـ على نعمه ، ويذكرونه ويطيعونه في السراء والضراء.

قال ـ تعالى ـ : (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ. وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ. إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) (١).

فأنت ترى أن الله ـ تعالى ـ قد استثنى الذين صبروا وعملوا الصالحات ، من رذيلة الجحود عند اليسر ، واليأس عند العسر.

قال الآلوسى ما ملخصه : والمراد بالإنسان في قوله ـ تعالى ـ (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ ...) جنسه ، إذ يكفى في صحة الحكم وجوده في بعض الأفراد ، ولا يضر وجود نقيض في البعض الآخر ، وقيل : المراد به الوليد بن المغيرة».

وفي إسناد المساس إلى الشر بعد إسناد الإنعام إلى ضميره ـ تعالى ـ إيذان بأن الخير مراد بالذات ، والشر ليس كذلك لأن ذلك هو الذي يقتضيه الكرم المطلق ، والرحمة الواسعة ، وإلى

__________________

(١) سورة هود الآيات من ٩ ـ ١١.

٤١٨

ذلك الإشارة بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم إن الخير بيديك والشر ليس إليك» (١).

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ) (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) (٣).

ثم بين ـ سبحانه ـ أنه لا يخفى عليه شيء من أحوال الناس وأعمالهم فقال : (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً).

والتنوين في قوله (كُلٌ) عوض عن المضاف إليه. أى : كل فرد.

وقوله : (شاكِلَتِهِ) : أى : طريقته ومذهبه الذي يشاكل ويناسب حاله في الهداية أو الضلالة. مأخوذ من قولهم : طريق ذو شواكل ، وهي الطرق التي تتشعب منه وتتشابه معه في الشكل ، فسميت عادة المرء بها ، لأنها تشاكل حاله.

قال القرطبي قوله (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) قال ابن عباس : على ناحيته. وقال مجاهد : على طبيعته.

وقال قتادة : على نيته وقال ابن زيد : على دينه. وقال الفراء : على طريقته ومذهبه الذي جبل عليه ..

وقيل : هو مأخوذ من الشكل. يقال : لست على شكلي ولا شاكلتى. فالشكل : هو المثل والنظير ، كقوله ـ تعالى ـ : (وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ).

والشكل ـ بكسر الشين ـ الهيئة. يقال : جارية حسنة الشكل. أى الهيئة. وهذه الأقوال كلها متقاربة (٤).

والمعنى : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ للناس : كل واحد منكم ـ أيها الناس ـ يعمل على شاكلته وطريقته التي تشاكل حاله ، وتناسب اتجاهه ، وتتلاءم مع سلوكه وعقيدته ، فربكم

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ١٤٧.

(٢) سورة فصلت الآية ٤٩.

(٣) سورة الروم الآية ٣٦.

(٤) تفسير القرطبي ج ١٠ ص ٣٢٢.

٤١٩

الذي خلقكم وتعهدكم بالرعاية ، أعلم بمن هو أهدى سبيلا ، وأقوم طريقا ، وسيجازى ـ سبحانه ـ الذين أساءوا بما عملوا ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى.

فالآية الكريمة تبشر أصحاب النفوس الطاهرة والأعمال الصالحة ، بالعاقبة الحميدة ، وتهدد المنحرفين عن طريق الحق ، المتبعين لخطوات الشيطان ، بسوء المصير ، لأن الله ـ تعالى ـ لا تخفى عليه خافية ، وسيجازى كل إنسان بما يستحقه (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ).

ثم ذكر ـ سبحانه ـ بعد ذلك جانبا من الأسئلة التي كانت توجه إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما ذكر الإجابة عليها لكي يجابه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بها السائلين ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٥) وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (٨٦) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (٨٧) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (٨٨) وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً) (٨٩)

ذكر المفسرون في سبب نزول قوله ـ تعالى ـ : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) روايات منها : ما أخرجه الشيخان عن عبد الله بن مسعود قال : بينما أنا أمشى مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حرث وهو متوكئ على عسيب ـ أى على عصا ـ إذ مر اليهود ، فقال بعضهم لبعض : سلوه عن الروح ، فقالوا : يا محمد ما لروح؟ فأمسك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يرد عليهم شيئا ، فعلمت أنه يوحى إليه ، فقمت مقامي ، فلما نزل الوحى قال : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ

٤٢٠