التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٨

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٨

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0668-X
الصفحات: ٥٩٧

قال القرطبي قوله : (وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً) فيه خمسة أقوال : الأول : العبر والمعجزات التي جعلها الله على أيدى الرسل ، من دلائل الإنذار تخويفا للمكذبين. الثاني : أنها آيات الانتقام تخويفا من المعاصي. الثالث : أنها تقلب الأحوال من صغر إلى شباب ثم إلى تكهل ثم إلى مشيب ، لتعتبر بتقلب أحوالك فتخاف عاقبة أمرك. الرابع : القرآن ، الخامس : الموت الذريع» (١).

والمعنى : وما نرسل رسلنا ملتبسين بالآيات والمعجزات الدالة على صدقهم ، إلا تخويفا لأقوامهم من سوء تكذيبهم لها. فإنهم إن كذبوها يصيبهم من العذاب ما يصيبهم.

ثم ذكر ـ سبحانه ـ ما يزيد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثباتا على ثباته ، ويقينا على يقينه ، وما يدل على شمول علمه ـ تعالى ـ ونفاذ قدرته ، وبليغ حكمته فقال : (وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ ...).

أى : واذكر ـ أيها الرسول الكريم ـ وقت أن قلنا لك على لسان وحينا. إن ربك ـ عزوجل ـ قد أحاط بالناس علما وقدرة. فهم في قبضته ، وتحت تصرفه ، وقد عصمك منهم ، فامض في طريقك. وبلغ رسالة ربك ، دون أن تخشى من كفار مكة أو من غيرهم ، عدوانا على حياتك ، فقد عصمك ـ سبحانه ـ منهم.

وفي هذه الجملة ما فيها من التسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومن التبشير له ولأصحابه ، بأن العاقبة ستكون لهم ، ومن الحض لهم على المضي في طريقهم دون أن يخشوا أحدا إلا الله.

والمراد بالرؤيا في قوله ـ تعالى ـ : (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) : ما رآه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعاينه بعينيه من عجائب ، ليلة الإسراء والمعراج.

أى : وما جعلنا ما رأيته وعاينته ليلة إسرائنا بك من غرائب ، إلا فتنة للناس. ليتميز قوى الإيمان من ضعيفه ، وسليم القلب من مريضه.

وأطلق ـ سبحانه ـ على ما أراه لنبيه ليلة الإسراء لفظ الرؤيا مع أنه كان يقظة «لأن هذا اللفظ يطلق حقيقة على رؤيا المنام ، وعلى رؤية اليقظة ليلا فإنه قد يقال لرؤية العين رؤيا ، كما في قول الشاعر يصف صائدا : وكبر للرؤيا وهش فؤاده .. أى : وسر لرؤيته للصيد الذي سيصيده. أو أطلق عليه لفظ الرؤيا على سبيل التشبيه بالرؤيا المنامية ، نظرا لما رآه في

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٠ ص ٢٨١.

٣٨١

تلك الليلة من عجائب سماوية وأرضية ، أو أطلق عليه ذلك بسبب أن ما رآه قد كان ليلا. وقد كان في سرعته كأنه رؤيا منامية.

وكان ما رآه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تلك الليلة فتنة للناس ، لأنه لما قص عليهم ما رآه ، ارتد بعضهم عن الإسلام ، وتردد البعض الآخر في قبوله ، وضاقت عقولهم عن تصديقه ، زاعمة أنه لا يمكن أن يذهب صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، ثم يعرج إلى السموات العلا .. ثم يعود إلى مكة ، كل ذلك في ليلة واحدة.

وبعضهم يرى أن المراد بالرؤيا هنا : ما رآه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أنه سيدخل مكة هو وأصحابه ..

وبعضهم يرى أن المراد بها هنا : ما أراه الله ـ تعالى ـ لنبيه في منامه ، من مصارع المشركين قبل غزوة بدر ؛ فقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل بدء المعركة : والله لكأنى أنظر إلى مصارع القوم. ثم أومأ إلى الأرض وقال : هذا مصرع فلان. وهذا مصرع فلان.

والذي نرجحه هو الرأى الأول ، لأنه هو الظاهر من معنى الآية الكريمة ، ولأنه على الرأيين الثاني والثالث يترجح أن الآية مدنية ، لأن غزوة بدر وفتح مكة كانا بعد الهجرة ، والتحقيق أن هذه الآية مكية.

قال القرطبي ما ملخصه : قوله ـ تعالى ـ : (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ..) لما بين أن إنزال آيات القرآن تتضمن التخويف ، ضم إليه ذكر آية الإسراء ، وهي المذكورة في صدر السورة. وفي البخاري والترمذي عن ابن عباس في قوله ـ تعالى ـ : (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) قال : هي رؤيا عين أريها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة أسرى به إلى بيت المقدس ...

وكانت الفتنة ارتداد قوم كانوا أسلموا حين أخبرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه أسرى به.

وقيل : كانت رؤيا نوم. وهذه الآية تقضى بفساده ، وذلك أن رؤيا المنام لا فتنة فيها ، وما كان أحد لينكرها.

وعن ابن عباس قال : الرؤيا التي في هذه الآية ، رؤيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه يدخل مكة في سنة الحديبية ـ فرده المشركون عن دخولها في تلك السنة ـ ، فافتتن بعض المسلمين لذلك ، فنزلت هذه الآية .. وفي هذا التأويل ضعف. لأن السورة مكية ، وتلك الرؤيا كانت بالمدينة ...» (١).

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٠ ص ٢٨٢.

٣٨٢

المشركين كانوا يستمعون إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند قراءته للقرآن.

فقال : قال محمد بن إسحاق في السيرة : حدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ، أنه حدّث أن أبا سفيان بن حرب ، وأبا جهل بن هشام ، والأخنس بن شريق .. خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يصلى بالليل في بيته ، فأخذ كل واحد منهم مجلسا يستمع فيه ، وكل لا يعلم بمكان صاحبه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا. حتى إذا جمعتهم الطريق ، تلاوموا ، وقال بعضهم لبعض : لا تعودوا ، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا ، ثم انصرفوا.

حتى إذا كانت الليلة التالية ، عاد كل رجل منهم إلى مجلسه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا. حتى إذا جمعتهم الطريق ، قال بعضهم لبعض مثل ما قال أول مرة ، ثم انصرفوا.

حتى إذا كانت الليلة الثالثة ، أخذ كل رجل منهم مجلسه. فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، فجمعهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض لا نبرح حتى نتعاهد لا نعود فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا.

فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان بن حرب في بيته ، فقال : أخبرنى يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقال أبو سفيان : يا أبا ثعلبة ، والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها ، وسمعت أشياء ما عرفت معناها. ولا ما يراد بها.

فقال الأخنس : وأنا والذي حلفت به ، قال : ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل. فدخل عليه بيته فقال : يا أبا الحكم ، ما رأيك فيما سمعت من محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قال : ماذا سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف : أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا ، وأعطوا فأعطينا ، حتى إذا تجاثينا على الركب ، وكنا كفرسي رهان قالوا : منّا نبي يأتيه الوحى من السماء ، فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه. قال : فقام عنه الأخنس وتركه (١).

ثم حكى ـ سبحانه ـ أقوالهم الباطلة ، في شأن البعث والحساب يوم القيامة ورد عليها بما يزهق باطلهم ، فقال ـ تعالى ـ :

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ٨١ طبعة دار الشعب ـ القاهرة.

٣٨٣

(وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٤٩) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (٥٠) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (٥١) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً) (٥٢)

قال الإمام الرازي : اعلم أنه تعالى لما تكلم أولا في الإلهيات ، ثم أتبعه بذكر شبهاتهم في النبوات ، ذكر في هذه الآية شبهات القوم في إنكار المعاد والبعث والقيامة .. (١).

والرفات : ما تكسر وبلى من كل شيء كالفتات. يقال : رفت فلان الشيء يرفته ـ بكسر الفاء وضمها ـ ، إذا كسره وجعله يشبه التراب.

والاستفهام في قوله ـ تعالى ـ : (أَإِذا كُنَّا ...) وفي قوله (أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ..) للاستبعاد والإنكار.

أى : وقال الكافرون المنكرون لوحدانية الله ـ تعالى ـ ، ولنبوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وللبعث والحساب ، قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على سبيل الإنكار والاستبعاد ، أإذا كنا يا محمد ، عظاما بالية ، ورفاتا يشبه التراب في تفتته ودقته ، أإنا لمعادون إلى الحياة مرة أخرى ، بحيث تعود إلينا أرواحنا ، وتدب الحياة فينا ثانية ، ونبعث على هيئة خلق جديد ، غير الذي كنا عليه في الدنيا؟.

وقولهم هذا ، يدل على جهلهم المطبق ، بقدرة الله ـ تعالى ـ التي لا يعجزها شيء ، وكرر ـ سبحانه ـ الاستفهام في الآية الكريمة ، للإشعار بإيغالهم في الجحود والإنكار.

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٢٠ ص ٢٢٤.

٣٨٤

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) معطوف على الرؤيا.

أى : وما جعلنا الرؤيا التي أريناك والشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس.

والمراد بالشجرة الملعونة هنا : شجرة الزقوم ، المذكورة في قوله ـ تعالى ـ : (أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ. إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ. إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ ، طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ) (١).

والمراد بلعنها : لعن الآكلين منها وهم المشركون ، أو هي ملعونة لأنها تخرج في أصل الجحيم. أو هي ملعونة لأن طعامها مؤذ وضار ، والعرب تقول لكل طعام ضار : إنه ملعون.

قال الآلوسى : وروى في جعلها فتنة لهم : أنه لما نزل في شأنها في سورة الصافات وغيرها ما نزل ، قال أبو جهل وغيره : هذا محمد يتوعدكم بنار تحرق الحجارة ، ثم يقول ينبت فيها الشجر. وما نعرف الزقوم إلا بالتمر والزبد ، ثم أمر جارية له فأحضرت تمرا وزبدا ، وقال لأصحابه : تزقموا.

وافتتن بهذه الآية أيضا بعض الضعفاء ، ولقد ضلوا في ذلك ضلالا بعيدا ... (٢).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً) تذييل قصد به بيان ما جبل عليه هؤلاء المشركون من جحود ، وقسوة قلب ...

أى : ونخوف هؤلاء المشركين بعذاب الدنيا ، وبعذاب الآخرة وبشجرة الزقوم التي طلعها كأنه رءوس الشياطين ... فما يزيدهم هذا التخويف والتهديد إلا طغيانا متجاوزا في ضخامته وكبره كل حد ، وكل عقل سليم.

وعبر ـ سبحانه ـ بصيغة المضارع الدالة على الاستقبال ، مع أن تخويفهم وازدياد طغيانهم قد وقعا ، للإشعار بالتجدد والاستمرار.

وبذلك نرى الآيات الكريمة قد ساقت من سنن الله ـ تعالى ـ في خلقه ، ومن فضله على هذه الأمة ، ومن تبشيره وإنذاره ، ووعده ووعيده ، ما يزيد المؤمنين إيمانا على إيمانهم ، وما يصرف الطاغين عن طغيانهم لو كانوا يعقلون.

__________________

(١) سورة الصافات الآيات ٦١ ـ ٦٥.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ١٠٦.

٣٨٥

ثم ساق ـ سبحانه ـ جانبا من قصة آدم وإبليس ، لزيادة التسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللإشعار بأن الحسد والغرور ، كما منعا إبليس من السجود لآدم ، فقد منعا مشركي مكة من الإيمان بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال ـ تعالى ـ :

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (٦١) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (٦٢) قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (٦٣) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (٦٤) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً) (٦٥)

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ...) تذكير لبنى آدم بما جرى بين أبيهم وبين إبليس ، ليعتبروا ويتعظوا ، ويستمروا على عداوتهم لإبليس وجنده.

أى : واذكروا ـ يا بنى آدم ـ وقت أن قلنا للملائكة (اسْجُدُوا لِآدَمَ) سجود تحية وتكريم ، فسجدوا امتثالا لأمر الله ـ تعالى ـ ، بدون تردد أو تلعثم ، (إِلَّا إِبْلِيسَ) فإنه أبى السجود لآدم ـ عليه‌السلام ـ و (قالَ) بتكبر وعصيان لأمر ربه ـ عزوجل ـ : (أَأَسْجُدُ) وأنا المخلوق من نار (لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً) أى : أأسجد لمن خلقته من طين ، مع أننى أفضل منه.

والتعبير بقوله (فَسَجَدُوا) بفاء التعقيب ، يفيد أن سجودهم ـ عليهم‌السلام ـ كان في

٣٨٦

أعقاب أمر الله ـ تعالى ـ لهم مباشرة ، بدون تأخير أو تسويف.

وقوله ـ تعالى ـ : (قالَ أَأَسْجُدُ ...) استئناف بيانى ، فكأنه قيل : فماذا كان موقف إبليس من هذا الأمر؟ فكان الجواب أن إبليس فسق عن أمر ربه وقال ما قال.

والاستفهام في (أَأَسْجُدُ) للإنكار والتعجب ، لأن يرى ـ لعنه الله ـ أنه أفضل من آدم.

وقوله : (طِيناً) منصوب بنزع الخافض أى : من طين.

وقد جاء التصريح بإباء إبليس عن السجود لآدم ، بأساليب متنوعة ، وفي آيات متعددة ، منها قوله ـ تعالى ـ : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ، فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ. إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) (٢).

ثم فصل ـ سبحانه ـ ما قاله إبليس في اعتراضه على السجود لآدم فقال : (قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ ، لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ، لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً).

ورأى هنا علمية فتتعدى إلى مفعولين ، أولهما (هذَا) والثاني محذوف لدلالة الصلة عليه ، والكاف حرف خطاب مؤكد لمعنى التاء قبله ، والاسم الموصول (الَّذِي) بدل من (هذَا) أو صفة له ، والمراد من التكريم في قوله (كَرَّمْتَ عَلَيَ) : التفضيل.

والمعنى : قال إبليس في الرد على خالقه ـ عزوجل ـ : أخبرنى عن هذا الإنسان المخلوق من الطين ، والذي فضلته على ، لما ذا فضلته على وأمرتنى بالسجود له مع أننى أفضل منه ، لأنه مخلوق من طين ، وأنا مخلوق من نار!!

وجملة هذا الذي كرمت على ، واقعة موقع المفعول الثاني.

ومقصود إبليس من هذا الاستفهام ، التهوين من شأن آدم ـ عليه‌السلام ـ والتقليل من منزلته. ولم يجبه ـ سبحانه ـ على سؤاله ، تحقيرا له. وإهمالا لشخصه ، بسبب اعتراضه على أمر خالقه ـ عزوجل ـ.

ثم أكد إبليس كلامه فقال : (لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً).

__________________

(١) سورة البقرة الآية ٣٤.

(٢) سورة الحجر الآيتان ٣٠ ، ٣١.

٣٨٧

إذ أن اللام في قوله (لَئِنْ ...) موطئة للقسم ، وجوابه لأحتنكن.

وأصل الاحتناك : الاستيلاء على الشيء ؛ أو الاستئصال له. يقال : حنك فلان الدابة يحتنكها ـ بكسر النون ورفعها ـ إذا وضع في حنكها ـ أى في ذقنها ـ الرسن ليقودها به. ويقال : احتنك الجراد الأرض ، إذا أكل نباتها وأتى عليه.

والمعنى : قال إبليس ـ متوعدا ومهددا ـ : لئن أخرتن ـ يا إلهى ـ إلى يوم القيامة ، لأستولين على ذرية آدم ، ولأقودنهم إلى ما أشاء من المعاصي والشهوات ، إلا عددا قليلا منهم فإنى لا أستطيع ذلك بالنسبة لهم ، لقوة إيمانهم ، وشدة إخلاصهم.

وهذا الذي ذكره ـ سبحانه ـ عن إبليس في هذه الآية من قوله : (لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً) شبيه به قوله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ ، وَعَنْ أَيْمانِهِمْ ، وَعَنْ شَمائِلِهِمْ ، وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) (١).

وقوله ـ تعالى ـ (قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (٢).

قال بعض العلماء : وقول إبليس في هذه الآية : (لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ ...) قاله ظنا منه أنه سيقع. وقد تحقق له هذا الظن ـ في كثير من بنى آدم ـ كما قال ـ تعالى ـ (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٣).

وقوله ـ تعالى ـ (قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً) بيان لما توعد الله ـ سبحانه ـ به إبليس وأتباعه.

والأمر في قوله (اذْهَبْ) للإهانة والتحقير. أى : قال الله ـ تعالى ـ لإبليس (اذْهَبْ) مطرودا ملعونا ، وقد أخرناك إلى يوم القيامة ، فافعل ما بدا لك مع بنى آدم ، فمن أطاعك منهم ، فإن جهنم جزاؤك وجزاؤهم ، جزاء مكملا متمما لا نقص فيه.

وقال ـ سبحانه ـ (فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ) مع أنه قد تقدم غائب ومخاطب في قوله (فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ) ، تغليبا لجانب المخاطب ـ وهو إبليس ـ على جانب الغائب وهم أتباعه. لأنه هو السبب في إغواء هؤلاء الأتباع.

وقوله : (جَزاءً) مفعول مطلق ، منصوب بالمصدر قبله.

__________________

(١) سورة الأعراف الآية ١٧.

(٢) سورة ص الآيتان ٨٢ ، ٨٣.

(٣) سورة سبأ الآية ٢٠.

٣٨٨

وقوله (مَوْفُوراً) اسم مفعول ، من قولهم وفر الشيء فهو وافر وموفور أى : مكمل متمم. وهو صفة لقوله : (جَزاءً).

وهذا الوعيد الذي توعد الله ـ تعالى ـ به إبليس وأتباعه ، جاء ما يشبههه في آيات كثيرة ، منها قوله ـ سبحانه ـ : (قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ. لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ).

ثم أضاف ـ سبحانه ـ إلى إهانته وتحقيره لإبليس أوامر أخرى ، فقال ـ تعالى ـ : (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ ، وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ ، وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ ، وَعِدْهُمْ ، وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً).

قال الجمل : أمر الله ـ تعالى ـ إبليس بأوامر خمسة ، القصد بها : التهديد والاستدراج ، لا التكليف ، لأنها كلها معاص ، والله لا يأمر بها (١).

وهذه الأوامر الخمسة هي : اذهب ، واستفزز ... وأجلب ... وشاركهم ... وعدهم.

وقوله : واستفزز ، من الاستفزاز ، بمعنى الاستخفاف والإزعاج ، يقال : استفز فلان فلانا إذا استخف به ، وخدعه ، وأوقعه فيما أراده منه. ويقال : فلان استفزه الخوف ، إذا أزعجه.

وقوله : (وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ) أصل الإجلاب : الصياح بصوت مسموع. يقال : أجلب فلان على فرسه وجلب عليه ، إذا صاح به ليستحثه على السرعة في المشي.

قال الآلوسى : قوله (وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ) أى : صح عليهم من الجلبة وهي الصياح. قاله الفراء وأبو عبيدة. وقال الزجاج : أجلب على العدو : جمع عليه الخيل. وقال ابن السكيت : جلب عليه : أعان عليه. وقال ابن الأعرابى : أجلب على الرجل ، إذا توعده الشر ، وجمع عليه الجمع.

والخيل : يطلق على الأفراس حقيقة ولا واحد له من لفظه ، وعلى الفرسان مجازا ، وهو المراد هنا.

ومنه قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بعض غزواته لأصحابه : «يا خيل الله اركبي». والرجل ـ بكسر الجيم ـ بمعنى راجل ـ كحذر بمعنى حاذر ـ هو الذي يمشى رجلا ، أى غير راكب ...» (٢).

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٦٣٤.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ١١١.

٣٨٩

والمعنى. قال الله ـ تعالى ـ لإبليس : اذهب أيها اللعين مذءوما مدحورا. فإن جهنم هي الجزاء المعد لك ولأتباعك من ذرية آدم ، وافعل ما شئت معهم من الاستفزاز والخداع والإزعاج ولهو الحديث وأجلب عليهم ما تستطيع جلبه من مكايد ، وما تقدر عليه من وسائل ، كأن تناديهم بصوتك ووسوستك إلى المعاصي ، وكأن تحشد جنودك على اختلاف أنواعهم لحربهم وإغوائهم وصدهم عن الطريق المستقيم.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما معنى استفزاز إبليس بصوته ، وإجلابه بخيله ورجله؟

قلت : هو كلام وارد مورد التمثيل شبهت حاله في تسلطه على من يغويه ، بمغوار أوقع على قوم ، فصوت بهم صوتا يستفزهم من أماكنهم ، ويقلقهم عن مراكزهم ، وأجلب عليهم بجنده ، من خيالة ورجالة حتى استأصلهم ، وقيل : بصوته ، أى : بدعائه إلى الشر ، وبخيله ، ورجله : أى كل راكب وماش من أهل العبث. وقيل : يجوز أن يكون لإبليس خيل ورجال» (١).

وعلى أية حال ، فالجملة الكريمة تصوير بديع ، لعداوة إبليس لآدم وذريته ، وأنه معهم في معركة دائمة ، يستعمل فيها كل وسائل شروره ، ليشغلهم عن طاعة ربهم ، وليصرفهم عن الصراط المستقيم ، ولكنه لن يستطيع أن يصل إلى شيء من أغراضه الفاسدة ، ماداموا معتصمين بدين ربهم ـ عزوجل ـ.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ) ، معطوف على ما قبله.

أى : وشاركهم في الأموال ، بأن تحضهم على جمعها من الطرق الحرام ، وعلى إنفاقها في غير الوجوه التي شرعها الله ، كأن يستعملوها في الربا والرشوة وغير ذلك من المعاملات المحرمة.

وشاركهم في الأولاد : بأن تحثهم على أن ينشئوهم تنشئة تخالف تعاليم دينهم الحنيف وبأن تيسر لهم الوقوع في الزنا الذي يترتب عليه ضياع الأنساب ، وبأن تظاهرهم على أن يسموا أولادهم بأسماء يبغضها الله ـ عزوجل ـ ، إلى غير ذلك من وساوسك التي تغرى الآباء بأن يربوا أبناءهم تربية يألفون معها الشرور والآثام ، والفسوق والعصيان.

قال الإمام ابن جرير بعد أن ساق عددا من الأقوال في ذلك : وأولى الأقوال بالصواب أن

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٦٧٨.

٣٩٠

يقال : كل مولود ولدته أنثى ، عصى الله فيه ، بتسميته بما يكرهه الله ، أو بإدخاله في غير الدين الذي ارتضاه الله ، أو بالزنا بأمه ، أو بقتله أو وأده ، أو غير ذلك من الأمور التي يعصى الله بفعله به أو فيه ، فقد دخل في مشاركة إبليس فيه ، من ولد ذلك الولد له أو منه ، لأن الله لم يخصص بقوله : (وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ) معنى الشركة فيه ، بمعنى دون معنى ، فكل ما عصى الله فيه أو به ، أو أطيع الشيطان فيه أو به فهو مشاركة ...» (١).

وقد علق الإمام ابن كثير على كلام ابن جرير بقوله : وهذا الذي قاله ـ ابن جرير ـ متجه ، فقد ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يقول الله ـ عزوجل ـ إنى خلقت عبادي حنفاء ، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ، وحرمت عليهم ما أحللت لهم».

وفي الصحيحين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لو أن أحدهم إذا أراد أن يأتى أهله قال : باسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا ، فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره الشيطان أبدا» (٢).

وقوله : (وَعِدْهُمْ) أى : وعدهم بما شئت من المواعيد الباطلة الكاذبة. كأن تعدهم بأن الدنيا هي منتهى آمالهم. فعليهم أن يتمتعوا بها كيف شاءوا ، بدون تقيد بشرع أو دين أو خلق. وكأن تعدهم بأنه ليس بعد الموت حساب أو ثواب أو عقاب ، أو جنة أو نار ...

وقوله سبحانه (وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) تحذير من الله تعالى لعباده من اتباع الشيطان ، ومن السير وراء خطواته.

وأصل الغرور تزين الباطل بما يوهم أنه حق. يقال : غر فلان فلانا فهو يغره غرورا إذا خدعه ، وأصله من الغرّ ، وهو الأثر الظاهر من الشيء ، ومنه غرة الفرس لأنها أبرز ما فيه. ولفظ (غُرُوراً) صفة لموصوف محذوف.

والتقدير : وعدهم ـ أيها الشيطان ـ بما شئت من الوعود الكاذبة ، وما يعد الشيطان بنى آدم إلا وعدا غرورا.

ويجوز أن يكون مفعولا لأجله فيكون المعنى : وما يعدهم الشيطان إلا من أجل الغرور والمخادعة.

وفي الجملة الكريمة التفات من الخطاب إلى الغيبة ، إهمالا لشأن الشيطان ، وبيانا لحاله مع بنى آدم ؛ حتى يحترسوا منه ويحذروه.

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ١٥ ص ٨٣.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٣ ص ٥٠.

٣٩١

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآيات بغرس الطمأنينة في قلوب المؤمنين الصادقين ، فقال ـ تعالى ـ : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ ، وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً).

أى : إن عبادي الصالحين الذين أخلصوا دينهم لي ، ليس لك ـ يا إبليس ـ تسلط واقتدار على إغوائهم وإضلالهم ، وصرفهم عن السبيل الحق إلى السبيل الباطل.

قال ـ تعالى ـ : (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) (١).

وقال ـ سبحانه ـ (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ ، إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) (٢).

والإضافة في قوله (إِنَّ عِبادِي ...) للتشريف والتكريم حيث خصهم ـ سبحانه ـ بهذا اللون من الرعاية والحماية.

وقوله (وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً) أى : وكفى بربك وكيلا يتوكلون عليه ، ويفوضون إليه أمورهم ، ويعتصمون به لكي يقيهم وساوس الشيطان ونزغاته.

قال الإمام ابن كثير : قوله : (وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً) أى : حافظا ومؤيدا ونصيرا.

روى الإمام أحمد عن أبى هريرة أن رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن المؤمن لينضى شيطانه ـ أى ليقهره ـ كما ينضى أحدكم بعيره في السفر» (٣).

وقال الجمل في حاشيته : وهذه الآية تدل على أن المعصوم من عصمه الله. وأن الإنسان لا يمكنه أن يحترز بنفسه عن مواقع الضلال ، لأنه لو كان الإقدام على الحق ، والإحجام عن الباطل إنما يحصل للإنسان من نفسه ، لوجب أن يقال : وكفى بالإنسان نفسه في الاحتراز عن الشيطان. فلما لم يقل ذلك ، بل قال : وكفى بربك وكيلا. علمنا أن الكل من الله. ولهذا قال المحققون : لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله ، ولا قوة على طاعته إلا بقوته. (٤).

وبعد أن بين ـ سبحانه ـ لبنى آدم ما يبيته إبليس من عداوة وبغضاء ، أتبع ذلك ببيان جانب من نعمه ـ تعالى ـ عليهم في البر والبحر وفي السراء والضراء فقال ـ عزوجل ـ :

__________________

(١) سورة النحل الآيتان ٩٩ ، ١٠٠.

(٢) سورة الحجر الآية ٤٢.

(٣) تفسير ابن كثير ج ٣ ص ٥٠.

(٤) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٦٢٥.

٣٩٢

(رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٦٦) وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (٦٧) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (٦٨) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً) (٦٩)

وقوله ـ تعالى ـ : (رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ...) بيان لمظهر من مظاهر رحمة الله ـ تعالى ـ بعباده ، وفضله عليهم.

و (يُزْجِي) من الإزجاء ، وهو السوق شيئا فشيئا. يقال أزجى فلان الإبل ، إذا ساقها برفق ، وأزجت الريح السحاب ، أى : ساقته سوقا رفيقا ، ومنه قوله ـ تعالى ـ : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ...).

و (الْفُلْكَ) ما عظم من السفن. قال الجمل ما ملخصه : ويستعمل لفظ الفلك للواحد والجمع ، ويذكر ويؤنث. قال ـ تعالى ـ : (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) فأفرد وذكر. وقال ـ سبحانه ـ : (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ) ، فأنث ، ويحتمل الإفراد والجمع. قال ـ تعالى ـ : (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ ...) فجمع ... (١).

و (الْبَحْرِ) يطلق على الماء الكثير عذبا كان أو ملحا. وأكثر ما يكون إطلاقا على الماء الملح.

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٦٣٦.

٣٩٣

أى : اذكروا ـ أيها الناس ـ لتعتبروا وتشكروا ربكم الذي من مظاهر نعمته عليكم ، أنه يسوق لكم ـ بلطفه وقدرته ـ السفن التي تركبونها في البحر لكي تطلبوا من وراء ركوبها الرزق الذي يصلح معاشكم ، والذي هو لون من ألوان فضل الله عليكم.

وقوله : لتبتغوا من فضله ، تعليل لإزجاء الفلك ، وتصريح بوجوه النفع التي تفضل الله ـ تعالى ـ بها عليهم.

وقوله : (إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) تعليل ثان لهذا الإزجاء.

أى : يزجى لكم الفلك في البحر ، لتطلبوا من وراء ذلك ما ينفعكم ، ولأنه ـ سبحانه ـ كان أزلا وأبدا ، بكم دائم الرحمة والرأفة.

ثم انتقل ـ سبحانه ـ من الحديث عن مظاهر نعمه عليهم ، في حال سوق السفن ودفعها بهم في البحر برفق وأناة ، إلى بيان رعايته لهم في حال اضطرابها وتعرضها للغرق ، بسبب هيجان البحر وارتفاع أمواجه ، فقال ـ تعالى ـ : (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ ...).

والمس : اتصال أحد الشيئين بآخر على وجه الإحساس والإصابة ، والمراد به هنا : ما يعتريهم من خوف وفزع ، وهم يرون سفينتهم توشك على الغرق.

والمراد بالضر هنا : اضطراب الفلك ، وارتفاع الأمواج ، واشتداد العواصف ، وتعرضهم للموت من كل مكان.

المعنى : وإذا أحاطت بكم الأمواج من كل جانب وأنتم على ظهور سفنكم وأوشكتم على الغرق .. ذهب وغاب عن خواطركم وأذهانكم ، كل معبود سوى الله ـ عزوجل ـ لكي ينقذكم مما أنتم فيه من بلاء ، بل إياه وحده ـ سبحانه ـ تدعون ليكشف عنكم ما نزل بكم من سوء.

فالجملة الكريمة تصوير مؤثر بديع لبيان أن الإنسان عند الشدائد والمحن لا يتجه بدعائه وضراعته إلا إلى الله ـ تعالى ـ وحده.

قال القرطبي : (ضَلَ) معناه ؛ تلف وفقد وهي عبارة عن تحقير لمن يدعى إلها من دون الله. والمعنى في هذه الآية : أن الكفار إنما يعتقدون في أصنامهم أنها شافعة ، وأن لها فضلا ، وكل واحد منهم بالفطرة يعلم علما لا يقدر على مدافعته أن الأصنام لا فعل لها في الشدائد ،

٣٩٤

فوقّفهم الله من ذلك على حالة البحر حيث تنقطع الحيل» (١).

وقال الإمام ابن كثير : يخبر تبارك وتعالى أن الناس إذا مسهم ضر دعوه منيبين إليه مخلصين له الدين ، ولهذا قال ـ تعالى ـ : (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) أى : ذهب عن قلوبكم كل ما تعبدون غير الله ـ تعالى ـ كما اتفق لعكرمة بن أبى جهل ، لما ذهب فارا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين فتح مكة ، فذهب هاربا فركب في البحر ليدخل الحبشة ، فجاءتهم ريح عاصف ، فقال القوم بعضهم لبعض : إنه لا يغنى عنكم إلا أن تدعو الله وحده.

فقال عكرمة في نفسه : والله إن كان لا ينفع في البحر غيره ، فإنه لا ينفع في البر غيره ، اللهم لك على عهد لئن أخرجتنى منه ، لأذهبن فلأضعن يدي في يد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلأجدنه رءوفا رحيما. فخرجوا من البحر ، فرجع إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأسلم وحسن إسلامه ـ رضى الله عنه» (٢).

وقوله ـ تعالى ـ : (فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً) بيان لطبيعة الإنسان إلا من عصم الله.

أى : فلما نجاكم الله ـ تعالى ـ بلطفه وإحسانه : من الغرق ، وأوصلكم سالمين إلى البر ، أعرضتم عن طاعته ، وتركتم دعاءه والضراعة إليه ، وكان الإنسان الفاسق عن أمر ربه ، (كَفُوراً) أى : كثير الكفران والجحود لنعم ربه ـ عزوجل ـ.

قال الآلوسي ما ملخصه : وقوله : (وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً) كالتعليل للإعراض ، ويعلم منه حكم أولئك المخاطبين ، وفيه قال الآلوسي ما ملخصه : وقوله : (وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً) كالتعليل للإعراض ، ويعلم منه حكم أولئك المخاطبين ، وفيه لطافة حيث أعرض ـ سبحانه ـ عن خطابهم بخصوصهم ، وذكر أن جنس الإنسان مجبول على الكفران ، فلما أعرضوا أعرض الله ـ تعالى ـ عنهم» (٣).

وفي معنى هذه الآية جاءت آيات كثيرة. منها قوله ـ تعالى ـ (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ، فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) (٤).

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٠ ص ٢٩١.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٣ ص ٥٠.

(٣) تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ١١٦.

(٤) سورة العنكبوت الآية ٦٥.

٣٩٥

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ. فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ، وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ) (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ أن قدرته لا يعجزها شيء ، لا في البحر ولا في البر ولا في غيرهما فقال : (أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ، ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً) والهمزة في قوله (أَفَأَمِنْتُمْ) للاستفهام الإنكارى ، والفاء عاطفة على محذوف ، والتقدير : أنجوتم فأمنتم.

وقوله (يَخْسِفَ) من الخسف وهو انهيار الأرض بالشيء ، وتغييبه في باطنها و (جانِبَ الْبَرِّ) ناحية أرض ، وسماه ـ سبحانه ـ جانبا ، لأن البحر يمثل جانبا من الأرض ، والبر يمثل جانبا آخر.

والحاصب : الريح الشديدة ، التي ترمى بالحصباء ، وهي الحجارة الصغيرة. يقال. حصب فلان فلانا ، إذا رماه بالحصباء.

والمعنى : أنجوتم من الغرق ـ أيها الناس ـ ففرحتم وأمنتم ونسيتم أن الله ـ تعالى ـ إذا كان قد أنجاكم من الغرق ، فهو قادر على أن يخسف بكم جانب الأرض ، وقادر كذلك على أن يرسل عليكم ريحا شديدة ترميكم بالحصباء التي تهلككم ؛ ثم لا تجدوا لكم وكيلا تكلون إليه أموركم ، ونصيرا ينصركم ويحفظكم من عذاب الله ـ تعالى ـ.

إن كنتم قد أمنتم عذاب الله بعد نجاتكم من الغرق ، فأنتم جاهلون ، لأن قدرة الله ـ تعالى ـ لا يعجزها أن تأخذكم أخذ عزيز مقتدر سواء كنتم في البحر أم في البر أم في غيرهما ، إذ جميع جوانب هذا الكون في قبضة الله ـ تعالى ـ وتحت سيطرته.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت فما معنى ذكر الجانب؟ قلت : معناه ، أن الجوانب والجهات كلها في قدرته سواء ، وله في كل جانب برا كان أو بحرا سبب مرصد من أسباب الهلكة ، ليس جانب البحر وحده مختصا بذلك ، بل إن كان الغرق في جانب البحر ، ففي جانب البر ما هو مثله وهو الخسف ، لأنه تغييب تحت التراب ، كما أن الغرق تغييب تحت الماء فالبر والبحر عنده سيان ، يقدر في البر على نحو ما يقدر عليه في البحر ، فعلى العاقل أن يستوي خوفه من الله في جميع الجوانب وحيث كان» (٢).

ثم ساق ـ سبحانه ـ مثالا آخر للدلالة على شمول قدرته ، فقال ـ تعالى ـ :

__________________

(١) سورة لقمان الآية ٣٢.

(٢) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٦٧٩.

٣٩٦

(أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى ، فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ ، فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ، ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً).

و (أَمْ) هنا يجوز أن تكون متصلة ؛ بمعنى : أى الأمرين حاصل. ويجوز أن تكون منقطعة بمعنى : بل.

والقاصف من الريح : هو الريح العاتية الشديدة التي تقصف وتحطم كل ما مرت به من أشجار وغيرها. يقال : قصف فلان الشيء ، إذا كسره.

والتبيع : فعيل بمعنى فاعل ، وهو المطالب غيره بحق سواء أكان هذا الحق دينا أم ثأرا أم غيرهما ، مع مداومته على هذا الطلب.

والمعنى : بل أأمنتم ـ أيها الناس ـ (أَنْ يُعِيدَكُمْ) الله ـ تعالى ـ (فِيهِ) أى : في البحر ، لسبب من الأسباب التي تحملكم على العودة إليه مرة أخرى (فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ) ـ سبحانه ـ وأنتم في البحر (قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ) العاتية الشديدة التي تحطم سفنكم (فَيُغْرِقَكُمْ) بسبب كفركم وجحودكم لنعمه ، (ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً) أى : إننا من السهل علينا أن نفعل معكم ذلك وأكثر منه ، ثم لا تجدوا لكم أحدا ينصركم علينا ، أو يطالبنا بحق لكم علينا ، فنحن لا نسأل عما نفعل ، وأنتم المسئولون.

فالاستفهام هنا ـ أيضا ـ للإنكار والتوبيخ.

وقال ـ سبحانه ـ (أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ) ولم يقل أن يعيدكم إليه ، للإشعار باستقرارهم فيه ، وأنه ـ تعالى ـ لا يعجزه أن يفعل ذلك.

والتعبير بقوله (قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ) فيه من الترهيب والإنذار ما فيه لأن لفظ القصف يدل بمعناه اللغوي على التحطيم والتكسير.

وقال ـ سبحانه ـ (بِما كَفَرْتُمْ) لبيان أن الله ـ تعالى ـ ما ظلمهم بإهلاكهم ، وإنما هم الذين عرضوا أنفسهم لذلك بسبب كفرهم وإعراضهم عن طاعته ـ سبحانه ـ.

والضمير في (بِهِ) يعود إلى الإهلاك بالإغراق المفهوم من قوله (فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ) أى : لا تجدون تبيعا يتبعنا بثأركم بسبب ذلك الإغراق الذي أوقعناه بكم.

وبذلك نرى أن الآيات الكريمة قد ساقت ألوانا من نعم الله ـ تعالى ـ على الناس ، وحذرتهم من جحود هذه النعم ، حتى لا يتعرضوا لعذاب الله ، الذي قد ينزل بهم وهم في البحر أو في البر أو في غيرهما.

٣٩٧

ثم ذكر ـ سبحانه ـ تكريمه لبنى آدم ، وتفضيلهم على كثير من مخلوقاته ، وأحوالهم في الآخرة ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (٧٠) يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧١) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً) (٧٢)

قال الآلوسى : قوله : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ ...) أى : جعلناهم قاطبة برهم وفاجرهم ، ذوى كرم ، أى : شرف ومحاسن جمة لا يحيط بها نطاق الحصر ..» (١).

ومن مظاهر تكريم الله ـ تعالى ـ لبنى آدم ، أنه خلقهم في أحسن تقويم ، كما قال ـ تعالى ـ : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ).

وأنه ميزهم بالعقل والنطق والاستعدادات المتعددة ، التي جعلتهم أهلا لحمل الأمانة ، كما قال ـ سبحانه ـ : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ ...) (٢).

وأنه سخر الكثير من مخلوقاته لمنفعتهم ومصلحتهم ، قال ـ تعالى ـ : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ ، وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ. وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ ، وَسَخَّرَ لَكُمُ

__________________

(١) تفسير الآلوسي ج ١٥ ص ١١٧.

(٢) سورة الأحزاب الآية ٧٢.

٣٩٨

اللَّيْلَ وَالنَّهارَ. وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها ، إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) (١).

وأنه سجل هذا التكريم في القرآن الكريم ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وكفاهم بذلك شرفا وفخرا.

وقوله ـ تعالى ـ (وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) بيان لنوع من أنواع هذا التكريم. أى : وحملناهم بقدرتنا ورعايتنا في البر على الدواب وغير ذلك من وسائل الانتقال كالقطارات والسيارات وغيرها ، وحملناهم في البحر على السفن وعابرات البحار التي تنقلهم من مكان إلى آخر.

وقوله : (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) بيان لنوع آخر من أنواع التكريم. أى : ورزقناهم بفضلنا وإحساننا من طيبات المطاعم والمشارب والملابس ، التي يستلذونها ، ولا يستغنون عنها في حياتهم.

وقوله : (وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) بيان لنوع ثالث من أنواع التكريم ، أى : وبسبب هذا التكريم فضلناهم على كثير من مخلوقاتنا التي لا تحصى ، تفضيلا عظيما.

وعلى هذا التفسير يكون التفضيل لونا من ألوان التكريم الذي منحه الله ـ تعالى ـ لبنى آدم.

وبعضهم يرى أن هناك فرقا بين التكريم والتفضيل ، ومن هذا البعض الإمام الفخر الرازي ، فقد قال ـ رحمه‌الله ـ ما ملخصه : لقد قال الله ـ تعالى ـ في أول الآية (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) وقال في آخرها (وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً). ولا بد من الفرق بين هذا التكريم والتفضيل وإلا لزم التكرار.

والأقرب أن يقال : إنه ـ تعالى ـ فضل الإنسان على سائر الحيوانات بأمور خلقية طبيعية ذاتية ، مثل : العقل ، والنطق ، والصورة الحسنة .. ثم إنه ـ تعالى ـ عرضه بواسطة ذلك لاكتساب العقائد الحقة ، والأخلاق الفاضلة فالأول : هو التكريم ، والثاني : هو التفضيل» (٢).

وكأن الفخر الرازي يرى أن التكريم يرجع إلى الصفات الخلقية التي امتاز بها بنو آدم ، أما التفضيل فيرجع إلى ما اكتسبوه من عقائد سليمة ، وأخلاق قويمة.

__________________

(١) سورة إبراهيم الآيات ٣٢ ، ٣٣ ، ٣٤.

(٢) تفسير الفخر الرازي ج ٥ ص ٤٢١.

٣٩٩

هذا ، وقد أخذ صاحب الكشاف من هذه الجملة وهي قوله ـ تعالى ـ : (وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) أن الملائكة أفضل من البشر ، لأنهم ـ أى الملائكة ـ هم المقصودون بالقليل الذي لم يفضل عليه بنو آدم.

قال ـ رحمه‌الله ـ : قوله : (وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا ...) هو ما سوى الملائكة وحسب بنى آدم تفضيلا ، أن ترفع عليهم الملائكة ـ وهم هم ـ ، ومنزلتهم عند الله منزلتهم ...» (١).

ويرى كثير من المفسرين أن المراد بالتفضيل هنا : تفضيل الجنس ، ولا يلزم منه تفضيل كل فرد على كل فرد.

قال الجمل ما ملخصه : (وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) المراد تفضيل جنس البشر على أجناس غيره كالملائكة ، ولا يلزم من تفضيل جنس البشر على جنس الملك تفضيل الأفراد ، إذ الملائكة في جملتهم أفضل من البشر غير الأنبياء. وصلحاء البشر ـ كالصديق ـ أفضل من عوام الملائكة ، أى : غير الرؤساء منهم ، على المعتمد من طريقة التفضيل» (٢).

والذي تطمئن إليه النفس في هذه المسألة ـ والله أعلم ـ : أن الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ أفضل من الملائكة جميعا ، لأن الله ـ تعالى ـ قد أمر الملائكة بالسجود لآدم الذي جعله خليفة له في أرضه ، دون غيره من الملائكة ...

وأن الرسل من الملائكة ـ كجبريل وإسرافيل وعزرائيل وميكائيل ـ أفضل من عموم البشر ـ سوى الأنبياء ـ ، لأن هؤلاء الرسل قد اصطفاهم الله ـ تعالى ـ واختارهم لوظائف معينة ، قال ـ تعالى ـ (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ).

وأن صلحاء البشر ـ كالعشرة المبشرين بالجنة ـ أفضل من عامة الملائكة ، لأن الملائكة ليست فيهم شهوة تدفعهم إلى مخالفة ما أمر الله به ... أما بنو آدم فقد ركب الله ـ تعالى ـ فيهم شهوة داعية إلى ارتكاب المعصية ، ومقاومة هذه الشهوات جهاد يؤدى إلى رفع الدرجات ...

ومن العلماء الذين بسطوا القول في هذه المسألة الإمام الفخر الرازي ، فليرجع إليه من شاء (٣).

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٦٨١.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٦٣٨.

(٣) تفسير الفخر الرازي ج ٥ ص ٤٢١.

٤٠٠