التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٨

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٨

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0668-X
الصفحات: ٥٩٧

تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ، وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ ، وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ، وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ ..) (١).

وقال القرطبي : قوله ـ تعالى ـ : (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ) أعاد على السموات والأرض ضمير من يعقل ، لما أسند إليها فعل العاقل وهو التسبيح. وقوله (وَمَنْ فِيهِنَ) يريد الملائكة والإنس والجن ، ثم عمم بعد ذلك الأشياء كلها في قوله : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ).

واختلف في هذا العموم هل هو مخصص أولا. فقالت فرقة : ليس مخصوصا ، والمراد به تسبيح الدلالة ، كل محدث يشهد على نفسه بأن الله ـ عزوجل ـ خالق قادر.

وقالت طائفة : هذا التسبيح حقيقة ، وكل شيء على العموم يسبح تسبيحا لا يسمعه البشر : ولا يفقهونه ، ولو كان ما قاله الأولون من أنه أثر الصفة والدلالة ، لكان أمرا مفهوما ، والآية تنطق بأن هذا التسبيح لا يفقه ..

ويستدل لهذا القول من الكتاب بقوله ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ ..).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ. إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ).

ثم قال : فالصحيح أن الكل يسبح للأخبار الدالة على ذلك ، ولو كان ذلك التسبيح تسبيح دلالة ، فأى تخصيص لداود ، وإنما ذلك تسبيح المقال ، بخلق الحياة والإنطاق بالتسبيح. وقد نصت السنة على ما دل عليه ظاهر القرآن من تسبيح كل شيء فالقول به أولى (٢).

والذي تطمئن إليه النفس أن التسبيح حقيقى وبلسان المقال ، لأن هذا هو الظاهر من الآية الكريمة ، ولأن الآيات القرآنية والأحاديث النبوية تؤيد ذلك.

وبعد أن أقام ـ سبحانه ـ الأدلة على وحدانيته ، وأثبت أن كل شيء يسبح بحمده ، أتبع ذلك ببيان أحوال المشركين عند سماعهم للقرآن الكريم ، وببيان ما جعله الله ـ تعالى ـ على حواسهم بسبب جحودهم وعنادهم ، فقال ـ تعالى ـ :

__________________

(١) الآية ١٨ من سورة الحج وراجع تفسير ابن كثير ج ٥ ص ٧٦ طبعة دار الشعب.

(٢) راجع تفسير القرطبي ج ١٠ ص ٢٦٦.

٣٦١

(وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (٤٥) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (٤٦) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٤٧) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) (٤٨)

والخطاب في قوله ـ تعالى ـ : (وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ ...) للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقوله (حِجاباً) من الحجب بمعنى المنع.

قال صاحب المصباح : حجبه حجبا ـ من باب قتل ـ : منعه. ومنه قيل للستر : حجاب ؛ لأنه يمنع المشاهدة. وقيل للبواب : حاجب ، لأنه يمنع من الدخول. والأصل في الحجاب : جسم حائل بين جسدين ، وقد استعمل في المعاني فقيل : العجز حاجب ، أى : بين الإنسان ومراده .. (١).

وقوله (مَسْتُوراً) ساترا ، فهو من إطلاق اسم المفعول وإرادة اسم الفاعل. كميمون بمعنى يامن. ومشئوم بمعنى شائم.

واختار بعضهم أن مستورا على معناه الظاهر ، من كونه اسم مفعول ، لأن ذلك الحجاب مستور عن أعين الناس فلا يرونه ، أو مستورا به القارئ فلا يراه غيره ، ويجوز أن يكون مستورا ، أى : ذا ستر فهو للنسب كمكان مهول : ذو هول ..

وللمفسرين في تفسير هذه الآية أقوال ، أشهرها قولان :

أولهما يرى أصحابه ، أن المراد بالحجاب المستور : ما حجب الله به قلوب هؤلاء الكافرين

__________________

(١) المصباح المنير ج ١٢١ للشيخ الفيومى.

٣٦٢

عن الانتفاع بهدى القرآن الكريم ، بسبب جحودهم وجهلهم وإصرارهم على كفرهم. فهو حجاب معنوي خفى ، حال بينهم وبين الانتفاع بالقرآن.

فهم يستمعون إليه ، ولكنهم يجاهدون قلوبهم ألا ترق له ، ويمانعون فطرتهم عن التأثر به ، فكان استماعهم له كعدمه ، وعاقبهم الله على ذلك بأن طمس بصائرهم عن فقهه.

والمعنى : وإذا قرأت ـ أيها الرسول الكريم ـ القرآن الهادي إلى الطريق التي هي أقوم ، جعلنا ـ بقدرتنا ، ومشيئتنا ـ ، بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة ، حجابا يحجبهم ويمنعهم عن إدراك أسراره وهداياته ، وساترا بينك وبينهم ، بحيث لا يصل القرآن إلى قلوبهم وصول انتفاع وهداية.

ويشهد لهذا المعنى قوله ـ تعالى ـ : (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ ، وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ ، فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ) (١).

ومن المفسرين الذين اكتفوا بهذا القول ، فلم يذكروا غيره ، الإمام البيضاوي ، فقد قال ـ رحمه‌الله : قوله : وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا يحجبهم عن فهم ما تقرؤه عليهم (مَسْتُوراً) ذا ستر : كقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا) أى مستورا عن الحس .. (٢).

أما القول الثاني فيرى أصحابه : أن المراد بالحجاب المستور ، أن الله ـ تعالى ـ يحجب نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أعين المشركين ، بحيث لا يرونه في أوقات معينة ، لحكم منها : النجاة من شرورهم.

فيكون المعنى : وإذا قرأت القرآن ـ أيها الرسول الكريم ـ جعلنا بينك وبين هؤلاء الكافرين ، حجابا ساترا لك عنهم بحيث لا يرونك ، عند ما تكون المصلحة في ذلك.

وقد استشهد أصحاب هذا القول بما أخرجه الحافظ أبو يعلى عن أسماء بنت أبى بكر قالت : لما نزلت سورة (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) جاءت العوراء أم جميل ولها ولولة ، وفي يدها فهر ـ أى حجر ـ وهي تقول : مذمّما أتينا ، وأمره عصينا ، ودينه قلينا ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالس ، وأبو بكر إلى جنبه.

فقال أبو بكر : يا رسول الله ، لقد أقبلت هذه وأخاف أن تراك ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنها

__________________

(١) سورة فصلت الآية ٥.

(٢) تفسير البيضاوي ج ١ ص ٥٨٧.

٣٦٣

لن تراني» وقرأ قرآنا اعتصم به منها ، ومما قرأه ـ : (وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً).

فجاءت حتى قامت على أبى بكر ، فلم تر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالت : يا أبا بكر ، بلغني أن صاحبك هجانى : فقال أبو بكر : لا ورب هذا البيت ما هجاك.

فانصرفت وهي تقول : لقد علمت قريش أنى بنت سيدها (١).

ومن المفسرين الذين استظهروا هذا القول ، الإمام القرطبي ، فقد قال بعد أن ذكر ما روى عن أسماء بنت أبى بكر ـ رضى الله عنهما ـ : وقال سعيد بن جبير : لما نزلت سورة (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَ) جاءت امرأة أبى لهب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعه أبو بكر ، فقال أبو بكر لو تنحيت عنها لئلا تسمعك ما يؤذيك فإنها امرأة بذيّة.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنه سيحال بيني وبينها» فلم تره. فقالت لأبى بكر : يا أبا بكر هجانا صاحبك.

فقال أبو بكر : والله ما ينطق بالشعر ولا يقوله. فاندفعت راجعة. فقال أبو بكر : يا رسول الله ، أما رأتك؟.

قال : لا. ما زال ملك بيني وبينها يسترني حتى ذهبت.

ثم قال القرطبي : وقيل : الحجاب المستور ، طبع الله على قلوبهم حتى لا يفقهوه : ولا يدركوا ما فيه من الحكمة. قاله قتادة. وقال الحسن : أى أنهم لإعراضهم عن قراءتك ، وتغافلهم عنك كمن بينك وبينه حجاب في عدم رؤيتهم لك ، حتى كأن على قلوبهم أغطية ...

ثم قال : والقول الأول أظهر في الآية (٢).

ويبدو لنا أن كلا القولين صحيح في ذاته ، وأن كل واحد منهما يحكى حالات معينة ، ويشهد لذلك ما نقله الجمل في حاشيته على الجلالين عن شيخه فقد قال ـ رحمه‌الله ـ. قوله : (حِجاباً مَسْتُوراً) ، أى : ساترا لك عنهم فلا يرونك وهذا بالنسبة لبعضهم ، كان يحجب بصره عن رؤية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أراده بمكروه وهو يقرأ القرآن : وبعضهم كان يحجب قلبه عن إدراك معاني القرآن .. وبعضهم كان ينفر عند قراءة القرآن .. (٣).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ٨٩.

(٢) تفسير القرطبي ج ١٠ ص ٢٦٩.

(٣) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٢٦٨. بتصرف وتلخيص ـ.

٣٦٤

فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً) يؤكد أن المشركين كانوا طوائف متعددة بالنسبة لموقفهم من القرآن الكريم ، ومن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

أى : وجعلنا على قلوب هؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة (أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ) أى : أغطية تسترها وتمنعها من فقه القرآن الكريم ، وفهمه فهما سليما.

وجعلنا ـ أيضا ـ : (فِي آذانِهِمْ وَقْراً) أى : صمما وثقلا عظيما يمنعهم من سماعه سماعا ينفعهم.

وقوله : ـ سبحانه ـ : (وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً) بيان لرذيلة أخرى من رذائلهم المتعددة.

أى : وإذا ذكرت أيها الرسول الكريم ـ ربك في القرآن وحده ، دون أن تذكر معه آلهتهم المزعومة انفضوا من حولك ورجعوا على أعقابهم نافرين شاردين (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ. فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ).

وبذلك ترى أن هاتين الآيتين قد صورتا قبائح المشركين المتنوعة أبلغ تصوير ، لتزيد في فضيحتهم وجهلهم ، ولتجعل المؤمنين يزدادون إيمانا على إيمانهم.

ثم ساق ـ سبحانه ـ ما يدل على كمال علمه. وأنه ـ تعالى ـ سيجازى هؤلاء الكافرين بما يستحقون من عقاب ، فقال ـ عزوجل ـ : (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ. إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى ، إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً).

والباء في قوله ـ سبحانه ـ : (بِما يَسْتَمِعُونَ) متعلقة بأعلم ، ومفعول (يَسْتَمِعُونَ) محذوف ، تقديره ، القرآن.

قال الآلوسى : قوله : (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ) أى : متلبسين به من اللغو والاستخفاف ، والاستهزاء بك وبالقرآن. يروى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقوم عن يمينه رجلان من بنى عبد الدار ، وعن يساره رجلان منهم ، فيصفقون ويصفرون ويخلطون عليه بالأشعار ـ إذا قرأ القرآن ـ.

ويجوز أن تكون الباء للسببية أو بمعنى اللام. أى : نحن أعلم بما يستمعون بسببه أو لأجله من الهزء ، وهم متعلقة بيستمعون .. وأفعل التفضيل في العلم والجهل يتعدى بالباء ، وفي سوى ذلك يتعدى باللام ، فيقال : هو أكسى للفقراء ، والمراد من كونه ـ سبحانه ـ أعلم بذلك : الوعيد لهم .. (١).

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ٨٩.

٣٦٥

وإذ في قوله (إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى) ظرف لأعلم.

ولفظ (نَجْوى) مصدر بمعنى التناجي والمسارة في الحديث. وقد جعلوا عين النجوى على سبيل المبالغة ، كما في قولهم : قوم عدل.

ويجوز أن يكون جمع نجىّ ، كقتلى جمع قتيل أى : وإذ هم متناجون في أمرك.

والمعنى : نحن ـ أيها الرسول الكريم ـ على علم تام بأحوال المشركين عند استماعهم للقرآن الكريم. حين تتلوه عليهم ، وبالطريقة التي يستمعون بها وبالغرض الذي من أجله يستمعون إليك. وعلى علم تام بأحوالهم حين يستمعون إليك فرادى : وحين يستمعون إليك ثم يتناجون فيما بينهم بالإثم والعدوان ، والتواصي بمعصيتك.

فالجملة الكريمة وعيد شديد للمشركين على استماعهم المصحوب بالاستهزاء والسخرية من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن القرآن. وتسلية له صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما أصابه منهم ، وبيان لشمول علم الله ـ تعالى ـ لكل أحوالهم الظاهرة والخفية.

وقوله ـ تعالى ـ : (إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) بدل من قوله ـ تعالى ـ : (وَإِذْ هُمْ نَجْوى).

والمسحور. هو الذي سحر فاختلط عقله ، وزالت عنه الهيئة السوية.

أى : ونحن أعلم بهؤلاء الأشقياء ـ أيضا ـ عند ما يقول بعضهم لبعض : لا تتبعوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يدعو إليه ، فإنكم إن اتبعتموه تكونون قد اتبعتم رجلا مسحورا ، أصابه السحر فأخرجه عن وعيه وعقله.

وقال ـ سبحانه ـ : (إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ) بالإظهار دون الإضمار ، لتسجيل الظلم عليهم فيما تفوهوا به ، وأنهم سيستحقون عقوبة الظالم.

وقوله ـ تعالى ـ : (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) تسلية عظيمة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتثبيت له وللمؤمنين على الطريق الحق الذي هداهم الله ـ تعالى ـ إليه.

أى : انظر وتأمل ـ أيها الرسول الكريم ـ كيف أن هؤلاء المشركين. قد بلغ بهم الجحود والفجور ، أنهم مثلوا لك الأمثال ، فوصفوك تارة بأنك مسحور ، وتارة بأنك شاعر.

وهم في وصفهم هذا ، قد ضلوا عن الحق ضلالا بعيدا ، وصاروا كالحيران الذي التبست عليه الطرق ، فأمسى لا يعرف السبيل الذي يسلكه.

هذا ، وقد ذكر الإمام ابن كثير رحمة الله ـ عند تفسيره لهذه الآيات ، ما يدل على أن

٣٦٦

والعامل في (إِذا) محذوف ، والتقدير : أنبعث أو أنحشر إذا كنا عظاما ورفاتا ، وقد دل على هذا المحذوف قوله ـ تعالى ـ : (أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ).

وقوله ـ سبحانه ـ : (قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ) أمر من الله ـ تعالى ـ لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالرد عليهم فيما استبعدوه وأنكروه من إعادتهم الى الحياة بعد موتهم.

أى : قل لهم ـ أيها الرسول الكريم ـ على سبيل الرد على استبعادهم ، والتحقير من شأنهم ، والتعجيز لهم : «كونوا» ـ إن استطعتم ـ (حِجارَةً) كالتي تعبدونها من دون الله ، (أَوْ حَدِيداً) كالذي تستعملونه في شئون حياتكم ، (أَوْ) كونوا (خَلْقاً) أى : مخلوقا سوى الحجارة والحديد (مِمَّا يَكْبُرُ) أى : يعظم ويستبعد ـ (فِي صُدُورِكُمْ) المظلمة ـ قبوله للحياة ، قل لهم : كونوا أى شيء من ذلك أو غيره إن استطعتم ، فإن الله ـ تعالى ـ لا يعجزه أن يعيدكم إلى الحياة مرة أخرى ، لكي يحاسبكم على أعمالكم ، ويجازيكم عليها بما تستحقون من عقاب.

فالمقصود من الجملة الكريمة ، بيان أن قدرة الله ـ تعالى ـ لا يعجزها شيء ..

قال الجمل : أجابهم الله ـ تعالى ـ بما معناه : تحولوا بعد الموت إلى أى صفة تزعمون أنها أشد منافاة للحياة ، وأبعد عن قبولها ، كصفة الحجرية والحديدية ونحوهما. فليس المراد الأمر ، بل المراد أنكم لو كنتم كذلك لما أعجزتم الله ـ تعالى ـ عن الإعادة (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا) أى : فسيقولون لك ـ أيها الرسول الكريم ـ من يعيدنا إلى الحياة مرة أخرى بعد أن نكون حجارة أو حديدا أو غيرهما؟.

وقوله ـ سبحانه ـ : (قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) رد على جهالاتهم وإنكارهم للبعث والحساب.

أى : قل لهم : الله ـ تعالى ـ الذي فطركم وخلقكم ، أول مرة ، على غير مثال سابق ، قادر على أن يعيدكم الى الحياة مرة أخرى. كما قال ـ تعالى ـ : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ، وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢).

ثم بين ـ سبحانه ـ ما يكون منهم من استهزاء وسوء أدب عند ما يسمعون من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الإجابات السديدة ، فقال : (فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ ...)

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٦٢٩.

(٢) سورة الروم الآية ٢٧.

٣٦٧

أى : فسيحركون إليك رءوسهم عند ما يسمعون ردك عليهم ، ويقولون على سبيل الاستهزاء والسخرية والتكذيب : متى هو؟ أى ما ذكرته من الإعادة بعد الموت ، أو متى هو ذلك اليوم الذي سنعود فيه إلى الحياة بعد أن نصير عظاما ورفاتا.

فالجملة الكريمة تصور تصويرا بليغا ما جبلوا عليه من تكذيب بيوم القيامة ومن استهزاء بمن يذكرهم بأحوال ذلك اليوم العصيب. ومن استبعاد لحصوله كما قال ـ تعالى ـ : حكاية عنهم في آية أخرى : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

وقوله ـ تعالى ـ : (قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً) تذييل قصد به التهديد والوعيد لهم.

أى : قل لهم ـ أيها الرسول الكريم ـ على سبيل التأنيب والوعيد : عسى هذا اليوم الذي تستبعدون حصوله ، يكون قريبا جدا وقوعه.

ولا شك في أنه قريب ، لأن عسى في كلام الله ـ تعالى ـ لما هو محقق الوقوع ، وكل ما هو محقق الوقوع فهو قريب ، ولأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «بعثت أنا والساعة كهاتين» ـ وأشار بالسبابة والوسطى.

ثم بين ـ سبحانه ـ أحوالهم عند ما يدعون في هذا اليوم الهائل الشديد فقال : (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ ...).

والظرف (يَوْمَ) منصوب بفعل مضمر أى : اذكروا يوم يدعوكم .. ويجوز أن يكون منصوبا على البدلية من (قَرِيباً).

والداعي لهم هو «إسرافيل» ـ عليه‌السلام ـ عند ما يأذن الله ـ تعالى ـ له بالنفخ في الصور ، كما قال ـ تعالى ـ : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ، ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) (١).

وكما قال ـ سبحانه ـ : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ. خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ. مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) (٢).

وقوله (بِحَمْدِهِ) حال من ضمير المخاطبين وهم الكفار ، والباء للملابسة.

أى : اذكروا ـ أيها المكذبون ـ يوم يدعوكم الداعي إلى البعث والنشور فتلبون نداءه

__________________

(١) سورة الزمر الآية ٦٨.

(٢) سورة القمر. الآيات ٦ ، ٧ ، ٨.

٣٦٨

بسرعة وانقياد ، حال كونكم حامدين الله ـ تعالى ـ على كمال قدرته ، وناسين ما كنتم تزعمون في الدنيا من أنه لا بعث ولا حساب.

قال صاحب الكشاف : وقوله (بِحَمْدِهِ) حال منهم. أى : حامدين ، وهي مبالغة في انقيادهم للبعث ، كقولك لمن تأمره بركوب ما يشق عليه فيتأبى ويتمنع ، ستركبه وأنت حامد شاكر ، يعنى : أنك تحمل عليه وتقسر قسرا. حتى أنك تلين لين المسمح ـ أى الذليل ـ الراغب فيه ، الحامد عليه.

وعن سعيد بن جبير : ينفضون التراب عن رءوسهم ويقولون : سبحانك اللهم وبحمدك (١).

وقوله : (فَتَسْتَجِيبُونَ) بمعنى تجيبون ، إلا أن الاستجابة تقتضي طلب الموافقة ، فهي أوكد من الإجابة ، وأسرع في التلبية.

وجملة «وتظنون إن لبثتم إلا قليلا» حالية ، أى : والحال أنك تظنون عند بعثكم أنكم ما لبثتم في الدنيا أو في قبوركم إلا زمنا قليلا.

قال قتادة : إن الدنيا تحقرت في أعينهم وقلّت ، حين رأوا يوم القيامة ، لهول ما يرون فقالوا هذه المقالة.

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (.. كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ. قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ) (٢).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ. قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا؟ هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) (٣).

وقوله ـ تعالى ـ : (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) (٤).

ثم ترك القرآن الكريم أولئك الذين كفروا بالبعث والنشور في طغيانهم يعمهون ، ووجه خطابه إلى المؤمنين ، آمرا إياهم بأن يقولوا الكلمة الطيبة ، ومبينا لهم ولغيرهم ، أن مصائرهم بيد الله ـ تعالى ـ وحده ، فقال ـ تعالى ـ :

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٦٧٢.

(٢) سورة المؤمنون الآية ١١٢ ، ١١٣.

(٣) سورة يس الآيات ٥١ ، ٥٢.

(٤) سورة النازعات الآية ٤٦.

٣٦٩

(وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (٥٣) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (٥٤) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) (٥٥)

قال القرطبي : قوله ـ تعالى ـ : (وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ...) الآية نزلت في عمر بن الخطاب. وذلك أن رجلا من العرب شتمه ، وسبه عمر وهمّ بقتله ، فكادت تثير فتنة ، فأنزل الله فيه : (وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ).

وقيل : نزلت لما قال المسلمون : ائذن لنا يا رسول الله في قتال المشركين ، فقد طال إيذاؤهم لنا فقال : «لم أومر بعد بالقتال» (١).

والمعنى : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ لعبادي المؤمنين ، أن يقولوا عند محاورتهم لغيرهم ، الكلمة التي هي أحسن ، والعبارة التي هي أرق وألطف.

وذلك لأن الكلمة الطيبة ، تزيد في المودة التي بين المؤمنين ، وتكسر حدة العداوة التي بينهم وبين أعدائهم.

قال ـ تعالى ـ : (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ، ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ، فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (٢).

قال الآلوسى : ومقول فعل الأمر محذوف ، أى : قل لهم قولوا التي هي أحسن يقولوا ذلك. فجزم يقولوا لأنه جواب الأمر. وإلى هذا ذهب الأخفش.

__________________

(١) راجع تفسير القرطبي ج ١٠ ص ٢٧٦.

(٢) سورة فصلت الآية ٣٤.

٣٧٠

وقال الزجاج : إن قوله (يَقُولُوا) هو المقول ، وجزمه بلام الأمر محذوفة ، أى : قل لهم ليقولوا ... (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ) تعليل للأمر السابق.

أى : إن الشيطان يتربص بكم ، ويتلمس السقطات التي تقع من أفواهكم ، والعثرات التي تنطق بها ألسنتكم ، لكي يشيع الشر بينكم ، ويبذر بذور الشر والبغضاء في صفوفكم ، ويهيج أعداءكم عليكم.

وينزغ بمعنى يفسد. يقال : نزغه ـ كنفعه ـ ينزغه ، إذا طعن فيه واغتابه ، وقوله : (إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً) تعليل لحرص الشيطان على الإفساد بينهم.

أى إن الشيطان حريص على الإفساد بين الناس ، لأنه ظاهر العداوة لهم منذ القدم ولقد حذرنا الله ـ سبحانه ـ من الشيطان وكيده في كثير من آيات القرآن الكريم ، ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ، إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) (٢).

وقوله ـ تعالى ـ : (يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما. إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) (٣).

قال الإمام ابن كثير ما ملخصه : يأمر الله ـ تبارك وتعالى ـ عبده ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يأمر عباد الله المؤمنين ، أن يقولوا في مخاطباتهم ومحاوراتهم الكلام الأحسن ، والكلمة الطيبة ، فإنهم إن لم يفعلوا ذلك نزغ الشيطان بينهم ، وأخرج الكلام إلى الفعال ، ووقع الشر والمخاصمة والمقاتلة ، فإنه عدو لآدم وذريته .. وعداوته ظاهرة بينة ، ولهذا نهى أن يشير الرجل إلى أخيه المسلم بحديدة ، فإن الشيطان ينزغ في يده. أى : فربما أصابه بها.

روى الإمام أحمد عن أبى هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يشيرن أحدكم إلى أخيه بالسلاح ، فإنه لا يدرى أحدكم ، لعل الشيطان أن ينزغ في يده ، فيقع في حفرة من النار (٤).

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ٩٤.

(٢) سورة فاطر. الآية ٦.

(٣) سورة الأعراف الآية ٢٧.

(٤) تفسير ابن كثير ج ٣ ص ٤٥.

٣٧١

ثم بين ـ سبحانه ـ أن مصير جميع الخلائق إليه ، وأنه محيط بأحوالهم فقال. (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ ، إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ ، أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ) ...

أى : ربكم ـ أيها الناس ـ أعلم بكم من أنفسكم ، وهو ـ سبحانه ـ إن يشأ بفضله يرحمكم ، بأن يوفقكم لطاعته وتقواه ، وإن يشأ بعدله يعذبكم ، بسبب معاصيكم وفسوقكم عن أمره ، لا يسأل ـ عزوجل ـ عما يفعل ، (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) بيان لوظيفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

أى : وما أرسلناك ـ أيها الرسول الكريم ـ إلى الناس ، لتكون حفيظا ورقيبا. وموكولا إليك أمرهم في إجبارهم وإكراههم على الدخول في الإسلام ، وإنما أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا. وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا.

ثم انتقل ـ سبحانه ـ من بيان كمال علمه بأحوال الناس ، إلى بيان كمال علمه بجميع من في السموات والأرض ، فقال ـ تعالى ـ : (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

أى : وربك ـ أيها الرسول الكريم ـ أعلم بأحوال من في السموات والأرض من إنس وجن وملك ، وغير ذلك ، ولا يخفى عليه شيء من ظواهرهم أو بواطنهم ، ولا يعزب عن علمه ـ تعالى ـ شيء من طاعتهم أو معصيتهم ، ولا يعلم أحد سواه من هو أهل منهم للتشرف بحمل رسالته ، وتبليغ وحيه كما قال : ـ تعالى ـ : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) بيان لمظهر من مظاهر علمه المطلق ، وفضله العميم : وعطائه الواسع.

والزبور : هو الكتاب الذي أنزله الله ـ تعالى ـ على داود ـ عليه‌السلام.

أى : ولقد فضلنا ـ على علم وحكمة منا ـ بعض النبيين على بعض ، بأن جعلنا منهم من كلم الله ، ومنهم من اتخذناه خليلا لنا ، ومنهم من آتيناه البينات وأيدناه بروح القدس ، ومنهم من آتيناه الزبور وهو داود ـ عليه‌السلام ـ.

قال الإمام ابن كثير : وقوله ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ) وقوله ـ تعالى ـ : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ ...) لا ينافي ما ثبت من الصحيحين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تفضلوا بين الأنبياء» فإن المراد من ذلك هو التفضيل بمجرد التشهى والعصبية ، لا بمقتضى الدليل ، فإذا دل الدليل على شيء وجب اتباعه ، ولا خلاف أن الرسل أفضل عن بقية الأنبياء ، وأن أولى العزم منهم أفضلهم ، وهم الخمسة المذكورون

٣٧٢

نصا في قوله ـ تعالى ـ : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ..).

ولا خلاف في أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضلهم .. (١).

وإنما خص كتاب داود بالذكر ، لأن اليهود زعموا أنه لا نبي بعد موسى ، ولا كتاب بعد التوراة ، فكذبهم الله ـ تعالى ـ في ذلك ، ولأن في هذا الإيتاء إشارة إلى أن تفضيل داود لم يكن بسبب ما أعطاه الله من ملك ، بل بسبب ما أعطاه من كتاب فيه إشارة إلى تفضيل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته ، قال ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) (٢).

والمراد بالعباد الصالحين : محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : هلا عرف الزبور ، كما عرف في قوله : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ ...)؟.

قلت : يجوز أن يكون الزبور وزبور ، كالعباس وعباس ، والفضل وفضل. ويجوز أن يريد : وآتينا داود بعض الزبر ـ وهي الكتب ، وأن يريد ما ذكر فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الزبور ، فسمى ذلك زبورا ، لأنه بعضها كما سمى بعض القرآن قرآنا (٣).

ثم أمر الله ـ تعالى ـ نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يتحدى المشركين ، بأن يبين لهم : أن آلهتهم المزعومة لا تملك دفع الضر عنهم ، أو جلب الخير لهم ، بل إن هذه الآلهة لتخاف عذاب الله ، وترجو رحمته ، فقال ـ سبحانه ـ :

(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (٥٦) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً) (٥٧)

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٣ ص ٤٦.

(٢) سورة الأنبياء الآية ١٠٥.

(٣) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٦٧٣.

٣٧٣

أورد المفسرون في سبب نزول هاتين الآيتين روايات منها :

قال ابن كثير : قال العوفى عن ابن عباس في قوله : (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ ...).

قال : كان أهل الشرك يقولون نعبد الملائكة والمسيح وعزيرا.

وروى البخاري وغيره عن ابن مسعود في قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ) قال : كان ناس من الإنس يعبدون ناسا من الجن ، فأسلم الجن وتمسك هؤلاء ـ أى الإنس ـ بدينهم .. فنزلت هذه الآية (١).

وقال القرطبي : لما ابتليت قريش بالقحط ، وشكوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنزل الله هذه الآية : قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ ...) (٢).

والمراد بالزعم هنا : الظن الكاذب الذي لا أساس له من الحقيقة والواقع.

قال الآلوسى ما ملخصه : والزعم قريب من الظن ، ويقال إنه القول المشكوك فيه ، ويستعمل بمعنى الكذب ، حتى قال ابن عباس : كل ما ورد في القرآن زعم فهو كذب.

وقد يطلق على القول المحقق ، والصدق الذي لا شك فيه ... فقد ورد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «زعم جبريل كذا ...».

وهو مما يتعدى إلى مفعولين ، وقد حذفا هنا ، أى : زعمتموهم آلهة .. والظاهر أن المراد من الموصول ـ الذين ـ كل من عبد من دون الله من العقلاء» (٣).

والمعنى : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ لهؤلاء الكافرين الذين أشركوا مع الله ـ تعالى ـ آلهة أخرى في العبادة. قل لهم على سبيل الإرشاد والتحدي : هذه الآلهة التي تعبدونها ، اطلبوا منها أن تدفع عنكم ما نزل بكم من ضر كمرض أو فقر أو قحط ؛ أو أن تحوله منكم إلى غيركم ...

فإذا لم تستطع ذلك ـ وهي بكل تأكيد لا تستطيع ولن تستطيع ـ فاتركوا عبادتها ، وأخلصوا العبادة والطاعة لمن هو على كل شيء قدير ، وهو الله ـ عزوجل ـ.

واكتفى ـ سبحانه ـ بذكر كشف الضر ، لأنه هو الذي تتطلع إليه النفوس عند نزول

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٣ ص ٤٦.

(٢) تفسير القرطبي ج ١٠ ص ٢٧٩.

(٣) تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ٩٧.

٣٧٤

المصائب ، أكثر من تطلعها إلى جلب النفع ، إذ عند نزول الضر ، لا تشتغل الألسنة والقلوب إلا برجاء كشفه.

ثم بين ـ سبحانه ـ أن كل معبود ـ سوى الله ـ عزوجل ـ يفتقر إلى عونه ـ سبحانه ـ ، وإلى رجاء الثواب منه ، وإلى دفع العذاب عنه ، فقال ـ تعالى ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ ، وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ ..) واسم الإشارة (أُولئِكَ) يعود على المعبودين من دون الله ، وهو مبتدأ ، وخبره. قوله : (يَبْتَغُونَ) وما عطف عليه من قوله : (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ).

والضمير في (يَدْعُونَ) يعود إلى المشركين ، وفي يبتغون يعود إلى المعبودين و (أَيُّهُمْ) بدل من واو الفاعل في يبتغون ، و (أَقْرَبُ) خبر لمبتدأ محذوف ، تقديره : هو ، أى : يبتغيها الذي هو أقرب ، والجملة صلة أى.

والوسيلة : ما يتقرب به الإنسان إلى خالقه من الأعمال الصالحة.

والمعنى : أولئك المعبودون الذين يزعم المشركون أنهم آلهة. ويسمونهم أربابا ، وينادونهم لكشف الضر عنهم ، هؤلاء المعبودون (يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ).

أى : يتقربون إلى خالقهم ومالك أمرهم بصالح الأعمال ، ويبتغى أكثرهم صلاحا وطاعة لله ـ تعالى ـ الرضا منه ـ عزوجل ـ.

وإذا كان هذا شأن أكثرهم قربا فكيف يكون حال من هو أقل منه؟ لا شك أنه يكون أشد طلبا لرضا الله ـ تعالى ـ وعفوه ، وأشد حرصا على طاعته.

وقوله ـ تعالى ـ (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ) زيادة بيان لشدة حرص هؤلاء المعبودين على طاعة الله ـ تعالى ـ

أى : وهم فوق ذلك يرجون رحمة الله ـ تعالى ـ وفضله ، بأن يحشرهم مع الأبرار ، ويخشون عذابه ونقمته ، ويتضرعون إليه أن يجنبهم عذاب النار ، وبالرجاء والخشية يحيا الصالحون الأخيار ، إذ الرجاء يدفع المؤمن إلى الإكثار من العمل الصالح ، والخشية تمنعه من الوقوع في المعاصي.

وقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً) تذييل قصد به التعليل لما قبله وهو خوف العذاب.

٣٧٥

أى : إن عذاب ربك كان جديرا وقمينا بأن يحذره ، ويحترز منه كل عاقل.

وقدم ـ سبحانه ـ الرجاء على الخوف ، لأن متعلقه أسبق ، ولأنه بجانب الله ـ تعالى ـ أظهر ، ففي الحديث القدسي : «إن رحمتي سبقت غضبى».

هذا ، وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ ، لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ ، وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ ، وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ) (١).

وبذلك نرى أن هاتين الآيتين قد قررتا بأسلوب منطقي بليغ ، أن الله ـ تعالى ـ هو الخالق لكل شيء ، وأنه وحده هو المتصرف في شئون عباده ، وأن كل مخلوق سواه ـ سبحانه ـ محتاج إلى عونه وعفوه ورضاه ، وأن الذين زعمهم المشركون آلهة كعيسى وعزير والملائكة ... ما هم إلا من عباد الله الذين يبتغون إليه الوسيلة ، ويرجون رحمته ويخافون عذابه.

ثم ساق ـ سبحانه ـ سنة من سننه التي لا تتخلف ، وبين جانبا من مظاهر فضله على هذه الأمة ونبيها صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقال ـ تعالى ـ :

(وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٥٨) وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (٥٩) وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً) (٦٠)

__________________

(١) سورة سبأ الآية ٢٢.

٣٧٦

والمقصود بالقرية في قوله ـ تعالى ـ : (وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً) : قرى الكفار والظالمين ، كما ذهب إلى ذلك بعض المفسرين ، فيكون المعنى :

وما من قرية من قرى الظالمين ، إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة بالموت أو الخراب ، أو معذبوها عذابا شديدا ، يستأصل شأفتها ، ويقطع دابرها ، كما فعلنا مع قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم.

ومن المفسرين الذين ساروا على ذلك ، الإمام ابن كثير ، فقد قال عند تفسيره لهذه الآية : هذا إخبار من الله ـ عزوجل ـ ، بأنه قد حتم وقضى ، بما كتب عنده في اللوح المحفوظ ، أنه ما من قرية إلا سيهلكها ؛ بأن يبيد أهلها جميعهم ، أو يعذبهم عذابا شديدا ، إما بقتل أو ابتلاء بما يشاء ، وإنما يكون ذلك بسبب ذنوبهم وخطاياهم ، كما قال ـ تعالى ـ عن الأمم الماضية : (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ ، إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (١).

ويرى آخرون ، أن المقصود بالقرية هنا : القرى كلها سواء أكانت للمؤمنين أم للكافرين.

ومن المفسرين الذين ذهبوا إلى ذلك الآلوسى ـ رحمه‌الله ـ فقد قال : قوله ـ تعالى ـ : (وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ) الظاهر العموم ، لأن (إِنْ) نافية ، و (مِنْ) زائدة لاستغراق الجنس. أى : وما من قرية من القرى. (إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ) بإماتة أهلها حتف أنوفهم (أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً) بالقتل وأنواع البلاء .. وروى عن مقاتل أنه قال : الهلاك للصالحة والعذاب للطالحة ...» (٢).

ويبدو لنا أن الرأى الأول أقرب إلى الصواب ، لأن هناك آيات كثيرة تؤيده ، ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ : (وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ) (٣). وقوله ـ سبحانه ـ : (ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ) (٤). وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) (٥) ، ولأن الله ـ تعالى ـ قيد الإهلاك بكونه قبل يوم القيامة ، وكونه كذلك يقتضى أنه للقرى الظالمة. إذ الإهلاك يوم القيامة يشمل جميع القرى ، سواء أكان أهلها مؤمنين أم كافرين ، بسبب انقضاء عمر الدنيا.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٣ ص ٤٧.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ١٠٠.

(٣) سورة القصص الآية ٥٩.

(٤) سورة الأنعام الآية ١٣١.

(٥) سورة هود الآية ١١٧.

٣٧٧

وقوله ـ سبحانه ـ : (كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) تأكيد لقضاء الله النافذ ، وحكمه الثابت.

أى : (كانَ ذلِكَ) الإهلاك والتعذيب ، في الكتاب ، وهو اللوح المحفوظ (مَسْطُوراً) أى : مكتوبا وثابتا.

قال القرطبي : (مَسْطُوراً) أى : مكتوبا. والسطر : الخط والكتابة ، وهو في الأصل مصدر. والسطر ـ بالتحريك ـ مثله ، وجمعه أسطار ، مثل سبب وأسباب ، وجمع السطر ـ بسكون الطاء ـ أسطر وسطور مثل أفلس وفلوس. والكتاب هنا يراد به اللوح المحفوظ» (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ بعض مظاهر فضله على الأمة الإسلامية ، ورحمته بها ، فقال ـ تعالى ـ : (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ ...).

وقد ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآية آثارا منها ما أخرجه الإمام أحمد عن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ قال : سأل أهل مكة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا ، وأن ينحى الجبال عنهم فيزرعوا. فقيل له : إن شئت أن تستأنى بهم ، وإن شئت أن يأتيهم الذي سألوا. فإن كفروا ، هلكوا كما أهلكت من كان قبلهم من الأمم.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا .. بل استأنى بهم» ، وأنزل الله قوله : (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ ...) (٢).

قال الآلوسى : والمنع لغة : كف الغير وقسره عن فعل يريد أن يفعله ، ولاستحالة ذلك في حقه ـ تعالى ـ لاستلزامه العجز المحال المنافى للربوبية قالوا : إنه مستعار هنا للصرف والترك ...» (٣).

وقوله : (أَنْ نُرْسِلَ) في محل نصب لأنه مفعول ثان لمنعنا ، أو في محل جر ، على حذف الجار ، أى : من أن نرسل ، وقوله : (إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا) في محل رفع لأنه فاعل منعنا ، والتقدير : وما منعنا من إرسال الآيات إلا تكذيب الأولين.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٠ ص ٢٨٠.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٣ ص ٤٧.

(٣) تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ١٠٣.

٣٧٨

والمراد بالآيات : ما اقترحه المشركون على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قلب الصفا ذهبا ، ومن إزاحة الجبال عن مكة ليزرعوا مكانها ...

والمعنى : وما كان سبب تركنا لإجابة المقترحات التي طلبها المشركون منك ـ أيها الرسول الكريم ـ إلا علمنا بأنهم سيكذبون بها إذا جاءتهم ، كما كذب بأمثالها أشباههم الأولون ، وفي هذه الحالة فإنهم سيستحقون مثلهم عذاب الاستئصال كما جرت بذلك سنتنا.

وقد اقتضت حكمتنا ورحمتنا ـ بأمتك أيها الرسول الكريم ـ ، ألا نعذبهم عذاب الاستئصال والمحو ، بل نؤخر عذاب الضالين منهم إلى يوم القيامة.

قالوا : ومن الحكم في هذا التأخير : الإظهار لمزيد شرف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما قال ـ تعالى ـ : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) ، والرعاية لشأن من سيولد من بعضهم من المؤمنين ، ولمن سيؤمن من هؤلاء المقترحين ، إلى غير ذلك من الحكم التي لا يعلمها إلا هو ـ سبحانه ـ.

قال صاحب الكشاف : استعير المنع لترك إرسال الآيات من أجل صارف الحكمة ... والمراد : الآيات التي اقترحتها قريش من قلب الصفا ذهبا ، ومن إحياء الموتى ، وغير ذلك.

وعادة الله في الأمم ، أن من اقترح منهم آية فأجيب إليها. ثم لم يؤمن ، أن يعاجل بعذاب الاستئصال. فالمعنى : وما صرفنا عن إرسال ما يقترحونه من الآيات إلا أن كذب بها الذين هم أمثالهم من المطبوع على قلوبهم ، كعاد وثمود ، وأنها لو أرسلت لكذبوا بها تكذيب أولئك ، وقالوا : هذا سحر مبين ، كما يقولون في غيرها. واستوجبوا العذاب المستأصل. وقد عزمنا أن نؤخر أمر من بعثت إليهم إلى يوم القيامة» (١).

ثم ساق ـ سبحانه ـ مثالا للسابقين الذين أجيبوا إلى ما اقترحوه ، ولكنهم لم يؤمنوا ، فأخذهم عذاب الاستئصال ، فقال ـ تعالى ـ : (وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها).

وثمود : هم قوم صالح ـ عليه‌السلام ـ ، وخصهم بالذكر ، لأنهم معروفون لأهل مكة أكثر من غيرهم ، لمرورهم على ديارهم عند أسفارهم إلى بلاد الشام.

والناقة المراد بها : ناقة صالح ـ عليه‌السلام ـ التي طلبها قومه منه ، فأخرجها الله ـ تعالى ـ لهم لتكون معجزة له ، ولكنهم لم يؤمنوا به ، بل عقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم ، فأهلكهم الله ـ تعالى ـ بالصيحة التي جعلتهم في دارهم جاثمين.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٦٧٤.

٣٧٩

وقوله (مُبْصِرَةً) أى : معجزة واضحة ، يراها الناس بأعينهم بدون خفاء أو لبس ..

قال الجمل : (مُبْصِرَةً) بكسر الصاد ـ باتفاق السبعة ، والإسناد مجازى. أى : يبصرونها خارجة من الصخرة. وقرئ شاذا بفتح الصاد. ثم قال : وفي السمين : مبصرة حال. وهو إسناد مجازى ، إذ المراد إبصار أهلها ، ولكنها لما كانت سببا في الإبصار نسب إليها ، والظاهر أن المراد الإبصار المعنوي ، وهو الاهتداء بها ، والتوصل بها ، إلى تصديق نبيهم ، وعلى هذا تظهر السببية ، فإن وجودها سبب في هذا المعنى ...» (١).

وقال الآلوسى : وقوله : (مُبْصِرَةً) على صيغة اسم الفاعل حال من الناقة ، والمراد : ذات إبصار ، أو ذات بصيرة يبصرها الغير ويتبصر بها ، فالصيغة للنسب ....» (٢).

والمعنى : لقد تركنا إجابة المطالب التي اقترحها قومك ـ يا محمد ـ ، رحمة بهم ، لأننا لو أعطيناهم إياهم ثم استمروا في تكذيبهم لك لأهلكناهم كما أهلكنا السابقين. فقد أجبنا قوم صالح ـ عليه‌السلام ـ إلى ما طلبوه من نبيهم ، بأن أخرجنا لهم الناقة ، وجعلناها معجزة واضحة نيرة في الدلالة على صدقه ، فقابلوها بالتكذيب والجحود ، وظلموا أنفسهم وعرضوها للهلاك بسبب عقرها.

قال ـ تعالى ـ : (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ ، وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ ، وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ. فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) (٣).

وقال ـ سبحانه ـ : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها. إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها. فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها. فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها. وَلا يَخافُ عُقْباها) (٤).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً) تذييل قصد به الزجر عن تكذيب ما يأتى به الأنبياء من هدايات ومعجزات تدل على صدقهم.

والباء في قوله (بِالْآياتِ) للملابسة ، ومفعول ، نرسل ، محذوف ، و (تَخْوِيفاً) مفعول لأجله.

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٦٣٢.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ١٠٤.

(٣) سورة الأعراف الآيتان ٧٧ ، ٧٨.

(٤) سورة الشمس الآيات ١١ ـ ١٥.

٣٨٠