التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٨

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٨

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0668-X
الصفحات: ٥٩٧

ثم ساق ـ سبحانه ـ بعد ذلك ما يدل على كمال قدرته ، وسعة عطائه فقال : (كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ ، وما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) ولفظ «كلا» هنا مفعول به للفعل نمد ، والتنوين عوض عن المضاف إليه. أي : نمد كل واحد من الفريقين.

وقوله (نُمِدُّ) من الإمداد بمعنى الزيادة. يقال : أمد القائد الجيش بالجند ، إذا زاده وقواه.

والمراد باسم الإشارة الأول «هؤلاء» : المؤثرون للعاجلة ، والمراد بالثاني الراغبون في ثواب الآخرة.

والمعنى : كلا من الفريقين نمده من فضلنا وإحساننا فنعطى ما نريد إعطاءه لمن يريد العاجلة ولمن يريد الآجلة دون أن ينقص مما عندنا شيء ، ودون أن يخرج عن مشيئتنا شيء.

(وما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ) أيها الرسول الكريم (مَحْظُوراً) أي : ممنوعا لا عن المؤمن ولا عن الكافر ، ولا في الدنيا ولا في الآخرة.

من الحظر بمعنى المنع يقال : حظره يحظره ـ من باب قتل ـ فهو محظور ، أي : ممنوع.

ثم أمر ـ سبحانه ـ عباده بالنظر والتأمل في أحوال خلقه ، ليزدادوا عظة وعبرة ، فقال : (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ ، ولَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وأَكْبَرُ تَفْضِيلًا).

أي : انظر ـ أيها العاقل ـ نظر تأمل وتدبر واعتبار في أحوال الناس ، لترى عن طريق المشاهدة كيف فضل اللَّه ـ تعالى ـ بعض الناس على بعض في هذه الحياة ، فهذا غنى وذاك فقير ، وهذا قوى وذاك ضعيف ، وهذا ذكى وذاك خامل ، وهذا مالك وذاك مملوك ..

إلى غير ذلك من الأحوال التي تدل على تفاوت الناس في هذه الدنيا ، على حسب ما تقتضيه إرادة اللَّه ـ تعالى ـ وحكمته ، ومشيئته.

أما في الآخرة فالناس فيها أكبر تفاضلا وتفاوتا في الدرجات والمنازل ، مما كانوا عليه في الدنيا.

قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه : وقوله : (ولَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وأَكْبَرُ تَفْضِيلًا) أي : ولتفاوتهم في الدار الآخرة أكبر من الدنيا ، فإن منهم من يكون في الدركات في جهنم وسلاسلها وأغلالها ، ومنهم من يكون في الدرجات العلا ونعيمها وسرورها. ثم أهل الدركات يتفاوتون فيما هم فيه ، كما أن أهل الدرجات يتفاوتون ، فإن في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض. وفي الصحيحين : «إن أهل الدرجات العلا

٣٢١

ليرون أهل عليين ، كما ترون الكوكب الغابر في أفق السماء» (١).

وبذلك نرى الآيات الكريمة قد ساقت لنا سنة من سنن الله ـ تعالى ـ في إهلاك الأمم ، وأنه ـ تعالى ـ ما أهلكها إلا بعد أن عتت عن أمره ، وعصت رسله ، كما أنها بينت لنا سوء عاقبة الذين يؤثرون متع الدنيا على طاعة الله ـ تعالى ـ ، وحسن عاقبة الذين يريدون الآخرة وما فيها من ثواب جزيل ، وأن الفريقين لا ينالون مما يطلبونه إلا ما قدره الله ـ تعالى ـ لهم ، وأن عطاءه للناس جميعا لا ينقص مما عنده شيئا ، وأن حكمته ـ سبحانه ـ قد اقتضت تفضيل بعض الناس على بعض في الدنيا والآخرة ، وصدق ـ عزوجل ـ حيث يقول : (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ ، وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً).

قال الإمام الرازي ما ملخصه : بعد أن بين ـ سبحانه ـ أن الناس فريقان : فريق يريد بعمله الدنيا فقط ، وفريق يريد بعمله طاعة الله ، ثم شرط ذلك بشرائط ثلاثة : أولها : إرادة الآخرة ، وثانيها : أن يسعى سعيا موافقا لطلب الآخرة ، وثالثها : أن يكون مؤمنا.

لا جرم فصل في هذه الآيات تلك المجملات : فبدأ أولا بشرح حقيقة الإيمان ... ثم ذكر عقبيه سائر الأعمال ... (٢).

والخطاب في قوله ـ تعالى ـ : (لا تَجْعَلْ ...) لكل من يصلح له.

والقعود في قوله «فتقعد» قيل بمعنى المكث : كما يقول القائل : فلان قاعد في أسوأ حال ، أى : ماكث في أسوأ حال ، سواء أكان قاعدا أم غير قاعد. وقيل بمعنى العجز ، لأن العرب تقول : فلان ما أقعده عن المكارم ، أى : ما أعجزه عنها ، وقيل هو بمعنى الصيرورة ، من قولهم : فلان شحذ الشفرة حتى قعدت كأنها حربة ، أى : صارت.

والذي تطمئن إليه النفس أن القعود على حقيقته ، لأن من شأن المذموم المخذول أن يقعد حائرا نادما على ما فرط منه.

وقوله ـ سبحانه ـ : (مَخْذُولاً) من الخذلان ، وهو ترك النصرة عند الحاجة إليها.

يقال : خذل فلان صديقه ، أى : امتنع عن نصره وعونه مع حاجته الشديدة إليهما.

والمعنى : لا تجعل ـ أيها المخاطب ـ مع الله ـ تعالى ـ إلها آخر في عبادتك أو خضوعك ، فتقعد جامعا على نفسك مصيبتين :

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ٦٠ ـ طبعة دار الشعب بالقاهرة.

(٢) تفسير الفخر الرازي ج ٢٠ ص ١٨٢.

٣٢٢

مصيبة الذم من الله ـ تعالى ـ ومن أوليائه ، لأنك تركت عبادة من له الخلق والأمر ، وعبدت ما لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا.

ومصيبة الخذلان ، بحيث لا تجد من يعينك أو ينصرك ، في ساعة أنت أحوج ما تكون فيها إلى العون والنصر.

وجاء الخطاب في قوله ـ تعالى ـ : (لا تَجْعَلْ) عاما ، لكي يشعر كل فرد يصلح للخطاب أن هذا النهى موجه إليه ، وصادر إلى شخصه. لأن سلامة الاعتقاد مسألة شخصية ، مسئول عنها كل فرد بذاته وسيحمل وحده تبعة انحرافه عن طريق الحق (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ. إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ).

وقوله (فَتَقْعُدَ) منصوب لأنه وقع بعد الفاء جوابا للنهى. وقوله (مَذْمُوماً مَخْذُولاً) حالان من الفاعل.

وفي هذه الجملة الكريمة تصوير بديع لحال الإنسان المشرك ، وقد حط به الذم والخذلان ، فقعد مهموما مستكينا عاجزا عن تحصيل الخيرات ، ومن السعى في تحصيلها.

قال الآلوسى : وفي الآية الكريمة إشعار بأن الموحد جامع بين المدح والنصرة (١).

ثم ساق ـ سبحانه ـ بضع عشرة آية ، تناولت مجموعة من التكاليف تزيد على عشرين أمرا ونهيا.

وهذه التكاليف قد افتتحت بالنهى عن الإشراك بالله ـ تعالى ـ وبالأمر بالإحسان إلى الوالدين قال ـ تعالى ـ :

(وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (٢٣) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ٥٣.

٣٢٣

صَغِيراً (٢٤) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً) (٢٥)

وبعد أن ذكر ـ سبحانه ـ الأساس في قبول الأعمال ، وهو إخلاص العبادة له ـ عزوجل ـ وحده ، أتبع ذلك بتأكيد هذا الأساس بما هو من شرائط الإيمان الحق وشعائره فقال ـ تعالى ـ (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ، وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ..).

قال القرطبي ما ملخصه : (قَضى) أى : أمر وألزم وأوجب ...

والقضاء يستعمل في اللغة على وجوه ، فالقضاء بمعنى الأمر ، كما في هذه الآية والقضاء بمعنى الخلق كقوله (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) يعنى خلقهن ، والقضاء بمعنى الحكم ، كقوله ـ تعالى ـ : (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ) يعنى : احكم ما أنت تحكم. والقضاء بمعنى الفراغ من الشيء ، كقوله (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) أى فرغ منه.

والقضاء بمعنى الارادة. كقوله ـ تعالى ـ : (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ..) (٢).

والمعنى : لقد نهى ربك عن الإشراك به نهيا قاطعا ، وأمر أمرا محكما لا يحتمل النسخ ، بأن لا تعبدوا أحدا سواه ، إذ هو الخالق لكل شيء ، والقادر على كل شيء ، وغيره مخلوق وعاجز عن فعل شيء إلا بإذنه ـ سبحانه ـ.

فالجملة الكريمة أمر لازم لإخلاص العبادة لله ، بعد النهى عن الإشراك به في قوله ـ تعالى ـ : (لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ..).

وقد جاء هذا الأمر بلفظ (قَضى) زيادة في التأكيد ، لأن هذا اللفظ هنا يفيد الوجوب القطعي الذي لا رجعة فيه ، كما أن اشتمال الجملة الكريمة على النفي والاستثناء ـ وهما أعلا مراتب القصر ـ يزيد هذا الأمر تأكيدا وتوثيقا.

ثم أتبع ـ سبحانه ـ الأمر بوحدانيته ، بالأمر بالإحسان إلى الوالدين فقال : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً).

أى : وقضى ـ أيضا ـ بأن تحسنوا ـ أيها المخاطبون ـ إلى الوالدين إحسانا كاملا لا يشوبه سوء أو مكروه.

__________________

(٢) تفسير القرطبي ج ١٠ ص ٢٣٧.

٣٢٤

وقد جاء الأمر بالإحسان إلى الوالدين عقب الأمر بوجوب إخلاص العبادة لله ، في آيات كثيرة. منها قوله ـ تعالى ـ : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ..) (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ..) (٢).

ولعل السر في ذلك هو الإشعار للمخاطبين بأهمية هذا الأمر المقتضى لوجوب الإحسان إلى الوالدين ، حيث إنهما هما السبب المباشر لوجود الإنسان في هذه الحياة ، وهما اللذان لقيا ما لقيا من متاعب من أجل راحة أولادهما ، فيجب أن يقابل ما فعلاه بالشكر والاعتراف بالجميل.

قال بعض العلماء : وقد جاءت هذه الوصية بأسلوب الأمر بالواجب المطلوب ، وهو الإحسان إلى الوالدين ، ولم تذكر بأسلوب النهى سموا بالإنسان عن أن تظن به الإساءة إلى الوالدين ، وكأن الإساءة إليهما ، ليس من شأنها أن تقع منه حتى يحتاج إلى النهى عنها .. (٣).

ثم فصل ـ سبحانه ـ مظاهر هذا الإحسان فقال : (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ ، وَلا تَنْهَرْهُما ، وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً ..).

و (إِمَّا) حرف مركب من «إن» الشرطية ، ومن «ما» المزيدة عليها للتأكيد ، وقوله : (أَحَدُهُما) فاعل يبلغن. وقرأ حمزة والكسائي إما يبلغان فيكون قوله (أَحَدُهُما) بدل من ألف الاثنين في يبلغان.

وقوله (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) جواب الشرط.

قال الآلوسى : و (أُفٍ) اسم صوت ينبئ عن التضجر ، أو اسم فعل مضارع هو أتضجر ..

وفيه نحو من أربعين لغة. والوارد من ذلك في القراءات سبع ثلاث متواترة ، وأربعة شاذة.

فقرأ نافع وحفص بالكسر والتنوين ، وهو للتنكير : فالمعنى : فلا تقل أتضجر تضجرا ما.

__________________

(١) سورة الأنعام الآية ١٥١.

(٢) سورة البقرة الآية ٨٣.

(٣) تفسير القرآن الكريم ص ٤٣٤ لفضيلة الأمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت ـ رحمه‌الله.

٣٢٥

وقرأ ابن كثير وابن عامر بالفتح دون تنوين ، والباقون بالكسر بدون تنوين .. (١).

وقوله (وَلا تَنْهَرْهُما) من النهر بمعنى الزجر ، يقال نهر فلان فلانا إذا زجره بغلظة.

والمعنى : كن ـ أيها المخاطب ـ محسنا إحسانا تاما بأبويك.

فإذا ما بلغ (عِنْدَكَ) أى : في رعايتك وكفالتك (أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما) سن الكبر والضعف (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) أى : قولا يدل على التضجر منهما والاستثقال لأى تصرف من تصرفاتهما.

قال البيضاوي : والنهى عن ذلك يدل على المنع من سائر أنواع الإيذاء قياسا بطريق الأولى ، وقيل عرفا كقولك : فلان لا يملك النقير والقطمير ـ فإن هذا القول يدل على أنه لا يملك شيئا قليلا أو كثيرا (٢).

وقوله (وَلا تَنْهَرْهُما) أى : ولا تزجرهما عما يتعاطيانه من الأفعال التي لا تعجبك.

فالمراد من النهى الأول : المنع من إظهار التضجر منهما مطلقا.

والمراد من النهى الثاني : المنع من إظهار المخالفة لهما على سبيل الرد والتكذيب والتغليظ في القول.

والتعبير بقوله : (عِنْدَكَ) يشير إلى أن الوالدين قد صارا في كنف الابن وتحت رعايته ، بعد أن بلغ أشده واستوى ، وبعد أن أصبح مسئولا عنهما ، بعد أن كانا هما مسئولين عنه.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما معنى (عِنْدَكَ) قلت هو أن يكبرا ويعجزا ، وكانا كلّا على ولدهما لا كافل لهما غيره ، فهما عنده في بيته وكنفه ، وذلك أشق عليه وأشد احتمالا وصبرا ، وربما تولى منهما ما كانا يتوليانه منه في حالة الطفولة ، فهو مأمور بأن يستعمل معهما وطاءة الخلق ، ولين الجانب ، حتى لا يقول لهما إذا أضجره ما يستقذر منهما ، أو يستثقل من مؤنهما : أف ، فضلا عما يزيد عليه (٣).

والتقييد بحالة الكبر في قوله ـ تعالى ـ : (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ) جرى مجرى الغالب ، إذ أنهما يحتاجان إلى الرعاية في حالة الكبر ، أكثر من احتياجهما إلى ذلك في حالة قوتهما وشبابهما ، وإلا فالإحسان إليهما ، والعناية بشأنهما. واجب على الأبناء سواء كان الآباء في سن الكبر أم في سن الشباب أم في غيرهما.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ٥٥.

(٢) تفسير البيضاوي ج ١ ص ٥٨٢.

(٣) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٤٤٤.

٣٢٦

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً) أمر بالكلام الطيب معهما. بعد النهى عن الكلام الذي يدل على الضجر والقلق من فعلهما.

أى : وقل لهما بدل التأفيف والزجر ، قولا كريما حسنا ، يقتضيه حسن الأدب معهما ، والاحترام لهما والعطف عليهما.

وقوله : (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ..) زيادة في تبجيلهما والتلطف معهما في القول والفعل والمعاملة على اختلاف ألوانها.

أى : وبجانب القول الكريم الذي يجب أن تقوله لهما ، عليك أن تكون متواضعا معهما ، متلطفا في معاشرتهما ، لا ترفع فيهما عينا ، ولا ترفض لهما قولا ، مع الرحمة التامة بهما ، والشفقة التي لا نهاية لها عليهما.

قال الإمام الرازي ما ملخصه : وقوله : (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) المقصود منه المبالغة في التواضع.

وذكر القفال في تقريره وجهين : الأول : أن الطائر إذا أراد ضم فرخه إليه للتربية خفض له جناحه ، ولهذا السبب صار خفض الجناح كناية عن حسن التربية. فكأنه قال للولد : اكفل والديك بأن تضمهما إلى نفسك كما فعلا ذلك بك في حال صغرك.

والثاني : أن الطائر إذا أراد الطيران والارتفاع نشر جناحه ، وإذا أراد ترك الطيران وترك الارتفاع خفض جناحه. فصار خفض الجناح كناية عن التواضع (١).

وإضافة الجناح إلى الذل إضافة بيانية ، أى : اخفض لهما جناحك الذليل و (مِنَ) في قوله (مِنَ الرَّحْمَةِ) ابتدائية. أى تواضع لهما تواضعا ناشئا من فرط رحمتك عليهما.

قال الآلوسى : وإنما احتاجا إلى ذلك ، لافتقارهما إلى من كان أفقر الخلق إليهما ، واحتياج المرء إلى من كان محتاجا إليه أدعى إلى الرحمة ، كما قال الشاعر :

يا من أتى يسألنى عن فاقتي

ما حال من يسأل من سائله؟

ما ذلة السلطان إلا إذا

أصبح محتاجا إلى عامله

وقوله : (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) تذكير للإنسان بحال ضعفه وطفولته ، وحاجته إلى الرعاية والحنان.

أى : وقل في الدعاء لهما : يا رب ارحمهما برحمتك الواسعة ، واشملهما بمغفرتك الغامرة ،

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٢٠ ص ١٩١.

٣٢٧

جزاء ما بذلا من رعاية لي في صغرى ، فأنت القادر على مثوبتهما ومكافأتهما.

قال الجمل : والكاف في قوله (كَما رَبَّيانِي ..) فيها قولان : أحدهما أنها نعت لمصدر محذوف.

أى : ارحمهما رحمة مثل رحمتهما لي ، والثاني أنها للتعليل. أى : ارحمهما لأجل تربيتهما لي ، كما في قوله (وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) (١).

ثم ختم ـ سبحانه ـ هذه الآيات التي سمت بمنزلة الوالدين ، بما يدل على كمال علمه ، وعلى التحذير من عقابه ، فقال ـ تعالى ـ : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً).

والأوابون : جمع أواب. وهو الكثير الأوبة والتوبة والرجوع إلى الله ـ تعالى ـ يقال : آب فلان يئوب إذا رجع.

قال ابن جرير بعد أن ساق الأقوال في ذلك : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، قول من قال : الأواب هو التائب من الذنب ، الراجع عن معصية الله إلى طاعته ، ومما يكرهه إلى ما يرضاه ، لأن الأواب إنما هو فعال من قول القائل : آب فلان من سفره إلى منزله ، كما قال الشاعر :

وكل ذي غيبة يئوب

وغائب الموت لا يؤوب (٢)

أى : ربكم ـ أيها الناس ـ أعلم بما في نفوسكم ، وضمائركم ، سواء أكان خيرا أو شرا ، وسواء كنتم تضمرون البر بآبائكم أم تخفون الإساءة إليهما ، ومع ذلك فإنكم إن تكونوا صالحين ـ أى : قاصدين الصلاح والبر بهما ، والرجوع عما فرط منكم في حقهما أو في حق غيرهما ـ فالله ـ تعالى ـ يقبل توبتكم ، فإنه ـ سبحانه ـ بفضله وكرمه كان للأوابين ـ أى الرجاعين إليه بالتوبة مما فرط منهم ـ غفورا لذنوبهم.

فالآية الكريمة وعيد لمن تهاون في حقوق أبويه ، وفي كل حق أوجبه الله عليه ، ووعد لمن رجع إليه ـ سبحانه ـ بالتوبة الصادقة.

وبذلك نرى الآيات الكريمة قد أمرت بالإحسان إلى الوالدين ، بأسلوب يستجيش عواطف البر والرحمة في قلوب الأبناء ، ويبعثهم على احترامهما ورعايتهما والتواضع لهما ، وتحذيرهم من الإساءة إليهما ، ويفتح باب التوبة أمام من قصر في حقهما أو حق غيرهما.

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٦٢٢.

(٢) تفسير ابن جرير ج ١٥ ص ٥٢.

٣٢٨

وقد كرر القرآن هذا الأمر للأبناء بالإحسان إلى الآباء ، ولم يفعل ذلك مع الآباء.

وذلك لأن الحياة ـ كما يقول بعض العلماء ـ وهي مندفعة في طريقها بالأحياء ، توجه اهتمامهم القوى إلى الأمام. إلى الذرية. إلى الناشئة الجديدة ، إلى الجيل المقبل. وقلما توجه اهتمامهم إلى الوراء. إلى الأبوة ، إلى الحياة المولية إلى الجيل الذاهب.

ومن ثم تحتاج البنوة إلى استجاشة وجدانها بقوة لتنعطف إلى الخلف ، وتتلفت إلى الآباء والأمهات.

إن الوالدين يندفعان بالفطرة إلى رعاية الأولاد. إلى التضحية بكل شيء حتى بالذات ، وكما تمتص النابتة الخضراء كل غذاء في الحبة فإذا هي فتات ، ويمتص الفرخ كل غذاء في البيضة فإذا هي قشر ، كذلك يمتص الأولاد ، كل رحيق ، وكل عافية ، وكل جهد ، وكل اهتمام من الوالدين ، فإذا هما شيخوخة فانية ـ إن أمهلهما الأجل ـ وهما مع ذلك سعيدان.

فأما الأولاد فسرعان ما ينسون هذا كله ويندفعون بدورهم إلى الأمام. إلى الزوجات والذرية ... وهكذا تندفع الحياة.

ومن ثم لا يحتاج الآباء إلى توصية بالأبناء. إنما يحتاج هؤلاء إلى استجاشة وجدانهم بقوة ، ليذكروا واجب الجيل الذي أنفق رحيقه كله حتى أدركه الجفاف.

وهنا يجيء الأمر بالإحسان إلى الوالدين ، في صورة قضاء من الله يحمل معنى الأمر المؤكد ، بعد الأمر المؤكد بعبادة الله (١).

هذا ، وقد ساق المفسرون عند تفسيرهم لهذه الآيات ، كثيرا من الأحاديث والآثار التي توجه الأبناء إلى رعاية الآباء ، واحترامهم ، والعطف عليهم ، والرحمة بهم ، والاهتمام بشئونهم.

قال الإمام ابن كثير : وقد جاء في بر الوالدين أحاديث كثيرة ، منها الحديث المروي من طرق عن أنس وغيره : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما صعد المنبر قال : آمين. آمين. آمين.

فقالوا : يا رسول الله ، علام أمنت؟ قال : أتانى جبريل فقال : يا محمد ، رغم أنف امرئ ذكرت عنده فلم يصل عليك ، فقل : آمين فقلت آمين. ثم قال : رغم أنف امرئ دخل عليه شهر رمضان ثم خرج ولم يغفر له ، قل : آمين. فقلت آمين. ثم قال : رغم أنف امرئ أدرك أبويه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة. قل : آمين ، فقلت : آمين».

__________________

(١) «في ظلال القرآن» ج ١٥ ص ٢٢٢١.

٣٢٩

وعن مالك بن ربيعة الساعدي قال : بينما أنا جالس عند رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إذ جاءه رجل من الأنصار فقال : يا رسول الله ، هل بقي على من بر أبوى شيء بعد موتهما أبر هما به؟ قال : «نعم : خصال أربع. الصلاة عليهما والاستغفار لهما ، وإنفاذ عهدهما ، وإكرام صديقهما ، وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا من قبلهما ، فهو الذي بقي عليك بعد موتهما من برهما» (١).

وقال القرطبي : أمر الله ـ سبحانه ـ بعبادته وتوحيده ، وجعل بر الوالدين مقرونا بذلك. كما قرن شكرهما بشكره ، فقال : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً).

وقال : (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ).

وفي صحيح البخاري عن عبد الله قال : سألت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أى الأعمال أحب إلى الله ـ تعالى ـ؟. قال : «الصلاة على وقتها. قلت : ثم أى؟ قال : «بر الوالدين» ، قلت ثم أى : قال : الجهاد في سبيل الله» ...

ثم قال القرطبي ـ رحمه‌الله ـ : ومن عقوق الوالدين مخالفتهما في أغراضهما الجائزة لهما ، كما أن من برهما موافقتهما على أغراضهما. وعلى هذا إذا أمرا أو أحدهما ولدهما بأمر وجبت طاعتهما فيه. ما لم يكن ذلك الأمر معصية ، ولا يختص برهما بأن يكونا مسلمين ، بل إن كانا كافرين يبرهما ويحسن إليهما.

ففي صحيح البخاري عن أسماء قالت : قدمت أمى وهي مشركة فاستفتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : إن أمى قدمت وهي راغبة أفأصلها؟ ـ أى وهي راغبة في برى وصلتي ، أو وهي راغبة عن الإسلام كارهة له ـ قال : «نعم صلى أمك».

ثم قال القرطبي : ومن الإحسان إليهما والبر بهما ، إذا لم يتعين الجهاد ألا يجاهد إلا بإذنهما. فعن عبد الله بن عمرو قال : جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستأذنه في الجهاد فقال : «أحي والداك؟ قال : نعم ، قال : ففيهما فجاهد».

قال ابن المنذر : في هذا الحديث النهى عن الخروج بغير إذن الأبوين ما لم يقع النفير ، فإذا وقع وجب الخروج على الجميع.

ثم قال : ومن تمام برهما : صلة أهل ودهما ، ففي الصحيح عن ابن عمر قال : سمعت

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٥ ص ٦٢.

٣٣٠

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن من أبر البر صلة الرجل أهل ود أبيه بعد أن يولى».

وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يهدى لصديقات خديجة برّا بها ووفاء لها وهي زوجته ، فما ظنك بالوالدين (١).

وبعد أن بين ـ سبحانه ـ ما يجب على الإنسان نحو خالقه ـ عزوجل ـ ونحو والديه ، أتبع ذلك ببيان ما يجب على هذا الإنسان نحو أقاربه ، ونحو المسكين وابن السبيل ، ونحو ماله الذي هو نعمة من نعم الله عليه. فقال ـ تعالى ـ :

(وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (٢٦) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (٢٧) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (٢٨) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (٢٩) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) (٣٠)

قال أبو حيان في البحر : «لما أمر الله ـ تعالى ـ ببر الوالدين ، أمر بصلة القرابة. قال الحسن : نزلت في قرابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والظاهر أنه خطاب لمن خوطب بقوله : (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ ...) وألحق هنا ما يتعين له من صلة الرحم ، وسد الخلة ، والمواساة عند الحاجة بالمال والمعونة بكل وجه. قال نحوه : ابن عباس وعكرمة والحسن وغيرهم» (٢).

والمراد بذوي القربى : من تربطك بهم صلة القرابة سواء أكانوا من المحارم أم لا.

والمسكين : هو من لا يملك شيئا من المال ، أو يملك مالا يسد حاجته ، وهذا النوع من

__________________

(١) راجع تفسير القرطبي ج ١٠ ص ٢٣٨.

(٢) تفسير البحر المحيط لأبى حيان ج ٦ ص ٢٩.

٣٣١

الناس في حاجة إلى العناية والرعاية ، لأنهم في الغالب يفضلون الاكتفاء بالقليل ، على إراقة ماء وجوههم بالسؤال.

وفي الصحيحين عن أبى هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ليس المسكين الذي يطوف على الناس فترده اللقمة واللقمتان ، والتمرة والتمرتان ، قالوا : فما المسكين يا رسول الله؟ قال الذي لا يجد غنى يغنيه ، ولا يفطن له فيتصدق عليه ، ولا يسأل الناس شيئا».

وابن السبيل : هو المسافر المنقطع عن ماله سمى بذلك ـ كما يقول الآلوسى ـ لملازمته السبيل ـ أى : الطريق ـ في السفر. أو لأن الطريق تبرزه فكأنها ولدته» (١).

وهذا النوع من الناس ـ أيضا ـ في حاجة الى المساعدة والمعاونة ، حتى يستطيع الوصول إلى بلده.

وفي هذا الأمر تنبيه إلى أن المسلمين وإن اختلفت أوطانهم ينبغي أن يكونوا في التعاطف والتعاون على متاعب الحياة كالأسرة الواحدة.

والمعنى : وأعط ـ أيها العاقل ـ ذوى قرباك حقوقهم الثابتة لهم من البر ، وصلة الرحم ، والمعاونة ، والزيارة ، وحسن المعاشرة ، والوقوف إلى جانبهم في السراء والضراء ، ونحو ذلك مما توجبه تعاليم دينك الحنيف.

وأعط ـ كذلك ـ المسكين وابن السبيل حقوقهما التي شرعها الله ـ تعالى ـ لهما ، من الإحسان إليهما ، ومعاونتهما على ما يسد حاجتهما.

وقدم ـ سبحانه ـ الأقارب على غيرهم ، لأنهم أولى بالمعروف ، ولأن إعطاءهم إحسان وصلة رحم.

روى الإمام أحمد والترمذي والنسائي وغيرهم ، عن سليمان بن عامر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الصدقة على المسكين صدقة. وعلى ذي الرحم اثنتان : صدقة وصلة».

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) نهى عن وضع المال في غير موضعه الذي شرعه الله ـ تعالى ـ مأخوذ من تفريق البذر وإلقائه في الأرض كيفما كان من غير تعهد لمواقعه ، ثم استعير لتضييع المال في غير وجوهه.

قال صاحب الكشاف : التبذير تفريق المال فيما لا ينبغي ، وإنفاقه على وجه الإسراف ، وكانت الجاهلية تنحر إبلها وتتياسر عليها ، وتبذر أموالها في الفخر والسمعة ، وتذكر ذلك في

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢ ص ٤٦.

٣٣٢

أشعارها ، فأمر الله ـ تعالى ـ بالنفقة في وجوهها ، مما يقرب منه ويزلف .. (١).

وقال ابن كثير : وقوله (وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) : لما أمر بالإنفاق نهى عن الإسراف فيه ، بل يكون وسطا ، كما قال ـ تعالى ـ : (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً).

وقال ابن مسعود : التبذير : الإنفاق في غير حق. وكذا قال ابن عباس.

وقال مجاهد : لو أنفق إنسان ماله كله في الحق لم يكن مبذرا. ولو أنفق مدا في غير حقه كان تبذيرا (٢).

وقوله : (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ ، وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً) تعليل للنهى عن التبذير ، وتنفير منه بأبلغ أسلوب.

والمراد بأخوة الشياطين : المماثلة لهم في الصفات السيئة ، والسلوك القبيح.

قال الإمام الرازي : والمراد من هذه الأخوة ، التشبه بهم في هذا الفعل القبيح ، وذلك لأن العرب يسمون الملازم للشيء أخا له ، فيقولون : فلان أخو الكرم والجود. وأخو السفر ، إذا كان مواظبا على هذه الأعمال (٣).

أى : كن ـ أيها العاقل ـ متوسطا في نفقتك ، ولا تبذر تبذيرا. لأن المبذرين يماثلون ويشابهون الشياطين في صفاتهم القبيحة ، وكان الشيطان في كل وقت وفي كل حال جحودا لنعم ربه ، لا يشكره عليها ، بل يضعها في غير ما خلقت له هذه النعم.

وفي تشبيه المبذر بالشيطان في سلوكه السيئ ، وفي عصيانه لربه ، إشعار بأن صفة التبذير من أقبح الصفات التي يجب على العاقل أن يبتعد عنها ، حتى لا يكون مماثلا للشيطان الجاحد لنعم ربه.

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك ما يجب على المؤمن فعله في حال عدم قدرته على تقديم العون للأقارب والمحتاجين ، فقال ـ تعالى ـ : (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها ، فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً).

ولفظ (إِمَّا) مركب من «إن» الشرطية ، ومن «ما» المزيدة. أى : إن تعرض عنهم.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٤٤٦.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ٦٦ طبعة دار الشعب.

(٣) تفسير الفخر الرازي ج ٢٠ ص ١٩٣.

٣٣٣

وقوله (تُعْرِضَنَ) من الإعراض ، بمعنى صرف الوجه عن السائل حياء منه وبسبب عدم القدرة على تلبية طلبه.

وقوله : (ابْتِغاءَ) مفعول لأجله منصوب بتعرضن ، وهو من باب وضع المسبب موضع السبب. لأن الأصل : وإما تعرضن عنهم لإعسارك.

والمراد بالرحمة : انتظار الحصول على الرزق ، وحلول الفرج بعد الضيق.

والميسور : اسم مفعول من يسر الأمر ـ بالبناء للمفعول ـ مثل سعد الرجل ، ومعناه : السهل اللين.

والمعنى : وإما تعرضن ـ أيها المخاطب ـ عن ذي قرابتك وعن المسكين وابن السبيل ، بسبب إعسارك وانتظارك لرزق يأتيك من الله ـ عزوجل ـ فقل لهم في هذه الحالة قولا لينا رفيقا يدل على اهتمامك بشأنهم ، ويدخل السرور على نفوسهم ، كأن تقول لهم مثلا ـ : ليس عندي اليوم ما أقدمه لكم ، وإن يرزقني الله بشيء فسأجعل لكم نصيبا منه.

قال القرطبي ما ملخصه : وهو تأديب عجيب ، وقول لطيف بديع ، أى لا تعرض عنهم إعراض مستهين عن ظهر غنى وقدرة فتحرمهم ، وإنما يجوز أن تعرض عنهم عند عجز يعرض ، وعائق يعوق ، وأنت عند ذلك ترجو من الله ـ تعالى ـ فتح باب الخير ، لتتوصل به إلى مواساة السائل ، فإن قعد بك الحال (فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً) أى لينا لطيفا .. ولقد أحسن من قال :

إلّا تكن ورق يوما أجود بها

للسائلين فإنى لين العود

لا يعدم السائلون الخير من خلقي

إما نوالى وإما حسن مردود (١)

ثم أرشد ـ سبحانه ـ عباده إلى أفضل الطرق لإنفاق أموالهم والتصرف فيها ، فقال ـ تعالى ـ : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ ، وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ ، فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً).

وقوله (مَغْلُولَةً) من الغل ـ بضم الغين ـ وأصله الطوق الذي يجعل في العنق وتربط به اليد ، كما يربط المذنب والأسير : وهو كناية عن البخل والتقتير.

قال صاحب الكشاف ما ملخصه : غل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود ولا يقصد من يتكلم به إثبات يد ولا غل ولا بسط. ولا فرق عنده بين هذا الكلام وبين ما وقع مجازا عنه ، لأنهما كلامان معتقبان على حقيقة واحدة. حتى أنه يستعمله في ملك لا يعطى عطاء قط ، ولا

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٠ ص ٢٤٩.

٣٣٤

يمنعه إلا بإشارته من غير استعمال يد وقبضها وبسطها. ولو أعطى الأقطع إلى المنكب عطاء جزيلا لقالوا : ما أبسط يده بالنوال ؛ لأن بسط اليد وقبضها عبارتان معاقبتان للبخل والجود .. (١).

وقوله : (مَحْسُوراً) من الحسور بمعنى الانقطاع عن الشيء ، والعجز عن الحصول عليه.

يقال : فلان حسره السير ، إذا أثر فيه أثرا بليغا جعله يعجز عن اللحاق برفقائه.

ويقال : بعير محسور. أى : ذهبت قوته وأصابه الكلل والإعياء. فصار لا يستطيع النهوض بما يوضع عليه من أحمال.

والمقصود من الآية الكريمة : الأمر بالتوسط والاعتدال في الإنفاق والنهى عن البخل والإسراف.

فقد شبه ـ سبحانه ـ مال البخيل ، بحال من يده مربوطة إلى عنقه ربطا محكما بالقيود والسلاسل ، فصار لا يستطيع تحريكها أو التصرف بها.

وشبه حال المسرف والمبذر ، بحال من مد يده وبسطها بسطا كبيرا ، بحيث أصبحت لا تمسك شيئا يوضع فيها سواء أكان قليلا أم كثيرا.

والمعنى : كن ـ أيها الإنسان ـ متوسطا في كل أمورك ، ومعتدلا في إنفاق أموالك بحيث لا تكون بخيلا ولا مسرفا ، فان الإسراف والبخل يؤديان بك إلى أن تصير ملوما. أى : مذموما من الخلق والخالق ، محسورا ، أى : مغموما منقطعا عن الوصول إلى مبتغاك بسبب ضياع مالك ، واحتياجك إلى غيرك.

قال الآلوسى ما ملخصه : فالآية الكريمة تحض على التوسط ، وذلك هو الجود الممدوح ، فخير الأمور أوساطها. وأخرجه أحمد وغيره عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما عال من اقتصد». وأخرجه البيهقي عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الاقتصاد في النفقة نصف المعيشة». وفي رواية عن أنس مرفوعا : «التدبير نصف المعيشة ، والتودد نصف العقل ، والهم نصف الهرم ، وقلة العيال أحد اليسارين» وكما يقال : حسن التدبير مع الكفاف ، خير من الغنى مع الإسراف (٢).

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٦٥٥.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ٦٥.

٣٣٥

ثم بين ـ سبحانه ـ أن مرجع الأمور كلها اليه ، فهو المعطى وهو المانع ، فقال ـ تعالى ـ : (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ ، إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً).

أى : إن ربك ـ أيها الإنسان ـ العاقل ـ يبسط الرزق ويوسعه لمن يشاء أن يبسطه له ويمسك الرزق ويضيقه ويقدره على من يشاء من خلقه. إذ كل شيء في هذا الكون يسير على حسب ما تقتضيه حكمته ومشيئته ، وهو ـ سبحانه ـ العليم ببواطن الناس وبظواهرهم ، لا يخفى عليه شيء من أحوالهم ، ولا يعطى أو يمنع ، إلا لحكمة هو يعلمها.

قال ـ تعالى ـ : (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها ، وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

وبذلك نرى الآيات الكريمة ، قد حضت على إيتاء ذوى القربى والمساكين وابن السبيل حقوقهم. وعلى الاعتدال في إنفاق المال ، ونهت عن الشح والتبذير ، وأسندت العطاء والمنع إلى الله ـ تعالى ـ الخبير البصير بالظواهر والبواطن.

ثم يسوق ـ سبحانه ـ جملة من النواهي التي يؤدى الوقوع فيها إلى فساد أحوال الأفراد والجماعات ، وإلى شيوع الفاحشة في الأمم ، مما يؤدى إلى اضمحلالها وذهاب ريحها ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (٣١) وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (٣٢) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (٣٣) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (٣٤) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ

٣٣٦

ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٣٥) وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (٣٦) وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (٣٧) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (٣٨) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً) (٣٩)

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ ...) نهى عن قتل الأولاد بعد بيان أن الأرزاق بيده ـ سبحانه ـ ، يبسطها لمن يشاء ، ويضيقها على من يشاء.

والإملاق : الفقر. يقال : أملق الرجل إذا افتقر قال الشاعر :.

وإنى على الإملاق يا قوم ماجد

أعد لأضيافى الشواء المصهبا

قال الآلوسى : وظاهر اللفظ النهى عن جميع أنواع قتل الأولاد ، ذكورا كانوا أو إناثا مخافة الفقر والفاقة.

لكن روى أن من أهل الجاهلية من كان يئد البنات مخافة العجز عن النفقة عليهن ، فنهى في الآية عن ذلك ، فيكون المراد بالأولاد البنات ، وبالقتل الوأد .. (١).

أى : ولا تقتلوا ـ أيها الآباء ـ أولادكم خشية فقر متوقع ، فنحن قد تكفلنا برزقهم ورزقكم ، وأرزاق غيركم من مخلوقاتنا التي لا تحصى.

قال ـ تعالى ـ : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها ..).

ولا شك أن الحياة حق لهؤلاء الصغار كما أنها حق لكم ، فمن الظلم البين الاعتداء على حقوقهم ، والتخلص منهم خوفا من الفقر المتوقع في المستقبل ، مع أن الله ـ تعالى ـ هو الرازق لهم ولكم في كل زمان ومكان.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ٦٦.

٣٣٧

وقد ورد النهى عن قتل الأولاد هنا بهذه الصيغة ، وورد في سورة الأنعام بصيغة أخرى ، هي قوله ـ تعالى ـ : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ).

وليست أحدهما تكرارا للأخرى وإنما كل واحدة منهما تعالج حالة معينة.

فهنا يقول ـ سبحانه ـ : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ) لأن النهى موجه بالأصالة إلى الموسرين الذين يقتلون أولادهم لا من أجل فقر كائن فيهم ، وإنما من أجل فقر هم يتوهمون حصوله في المستقبل بسبب الأولاد ، لذا قال ـ سبحانه ـ (نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ) فقدم رزق الأولاد لأنهم سبب توقع الفقر ، في زعم آبائهم ـ لكي يمتنع الآباء عن هذا التوقع ولكي يضمن للأولاد رزقهم ابتداء مستقلا عن رزق الآباء.

وقال ـ سبحانه ـ هناك (مِنْ إِمْلاقٍ) لأن النهى متوجه أصالة إلى الآباء المعسرين : أى لا تقتلوهم بسبب الفقر الموجود فيكم ـ أيها الآباء ـ ، فقد يجعل الله بعد عسر يسرا. ولذا قال ـ سبحانه ـ : (نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) فجعل الرزق للآباء ابتداء. لكي يطمئنهم ـ سبحانه ـ على أنه هو الكفيل برزقهم وبرزق أولادهم.

وفي كلتا الحالتين ، القرآن الكريم ينهى عن قتل الأولاد ، ويغرس في نفوس الآباء الثقة بالله ـ تعالى ـ والاعتماد عليه.

وجمله (نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ) تعليل للنهى عن قتل الأولاد ، بإبطال موجبه ـ في زعمهم ـ وهو الفقر.

أى : نحن نرزقهم لا أنتم ، ونرزقكم أنتم معهم ، وما دام الأمر كذلك فلا تقدموا على تلك الجريمة النكراء : وهي قتل الأولاد ، لأن الأولاد ، قطعة من أبيهم ، والشأن ـ حتى في الحيوان الأعجم ـ أنه يضحى من أجل أولاده ويحميهم ، ويتحمل الصعاب في سبيلهم.

وقوله (إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً) تعليل آخر للنهى عن قتل الأولاد جيء به على سبيل التأكيد.

والخطء : هو الإثم ـ وزنا ومعنى ـ ، مصدر خطئ خطئا كأثم إثما من باب علم.

أى : أن قتل الأولاد كان عند الله ـ تعالى ـ إثما كبيرا فاحشا ، يؤدى إلى التعاسة والشقاء في الدنيا والآخرة :

والحق أن المجتمع الذي يبيح قتل الأولاد ، خوفا من الفقر أو العار ، لا يمكن أن يصلح شأنه ، لأنه مجتمع نفعي تسوده الأثرة والأنانية والتشاؤم والأوهام ، لأن أفراده يظنون أن الله

٣٣٨

يخلق خلقا لا يدبر لهم رزقهم ، ويعتدون على روح بريئة طاهرة ، تخوفا من فقر أو عار مترقب ، وذلك هو الضلال المبين.

ورحم الله الإمام الرازي فقد قال عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه : إن قتل الأولاد إن كان لخوف الفقر ، فهو سوء ظن بالله. وإن كان لأجل الغيرة على البنات فهو سعى في تخريب العالم. فالأول : ضد التعظيم لأمر الله ـ تعالى ـ والثاني : ضد الشفقة على خلقه ، وكلاهما مذموم (١).

ولقد أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم برعاية الأبناء ، وحذر من الاعتداء عليهم في أحاديث كثيرة ، ومن ذلك ما جاء في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال : قلت يا رسول الله ، أى الذنب أعظم؟ قال : أن تجعل لله ندا وهو خلقك. قلت : ثم أى؟ قال : أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك. قلت : ثم أى؟ قال : أن تزنى بحليلة جارك (٢).

وبعد أن نهى ـ سبحانه ـ عن قتل الأولاد المؤدى إلى إفناء النسل ، أتبع ذلك بالنهى عن فاحشة الزنا المؤدية إلى اختلاط الأنساب : فقال ـ تعالى ـ : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى ، إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً).

والزنا : وطء المرأة بدون عقد شرعي يجيز للرجل وطأها.

والفاحشة : ما عظم قبحه من الأقوال والأفعال. يقال فحش الشيء ، فحشا ، كقبح قبحا ـ وزنا ومعنى ـ ، ويقال أفحش الرجل ، إذا أتى الفحش بضم الفاء وسكون الحاء ـ ، وهو القبيح من القول أو الفعل. وأكثر ما تكون الفاحشة إطلاقا على الزنا.

وتعليق النهى بقربانها ، للمبالغة في الزجر عنها ، لأن قربانها قد يؤدى إلى الوقوع فيها ، فمن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه.

وهذا لون حكيم من ألوان إصلاح النفوس ، لأنه إذا حصل النهى عن القرب من الشيء ، فلأن ينهى عن فعله من باب أولى.

فكأنه ـ سبحانه ـ يقول : كونوا ـ أيها المسلمون بعيدين عن كل المقدمات التي تفضى إلى فاحشة الزنا كمخالطة النساء ، والخلوة بهن ، والنظر إليهن ... فإن ذلك يفتح الطريق إلى الوقوع فيها.

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٢٠ ص ٢٩٦.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ٦٩.

٣٣٩

قال بعض العلماء : وكثيرا ما يتعلق النهى في القرآن بالقربان من الشيء ، وضابطه بالاستقراء :

أن كل منهى عنه من شأنه أن تميل النفوس إليه ، وتدفع إليه الأهواء ، جاء النهى فيه عن القربان ، ويكون القصد التحذير من أن يأخذ ذلك الميل في النفس مكانة تصل بها إلى اقتراف المحرم ، ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ...) (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى ...)(وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ ..).

أما المحرمات التي لم يؤلف ميل النفوس إليها ، ولا اقتضاء الشهوات لها ، فإن الغالب فيها ، أن يتعلق النهى عنها بنفس الفعل لا بالقربان منه.

ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ ...) وقوله ـ تعالى ـ : (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ..).

فهذه وإن كانت فواحش ، إلا أنها ليست ذات دوافع نفسية ، يميل إليها الإنسان بشهوته. بل هي في نظر العقل على المقابل من ذلك ، يجد الإنسان في نفسه مرارة ارتكابها ، ولا يقدم عليها إلا وهو كاره لها ، أو في حكم الكاره .. (١).

وقوله : (إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً) تعليل للنهى عن الاقتراب منه ، أى : ابتعدوا عن مقدمات الزنا فضلا عن الوقوع فيه ذاته ، لأنه كان ـ وما زال ـ في شرع الله ، وفي نظر كل عقل سليم فعلة فاحشة ظاهرة القبح وبئس الطريق طريقه ، فإنها طريق تؤدى إلى غضب الله ـ تعالى ـ وسخطه.

ومما لا شك فيه أن فاحشة الزنا من أقبح الفواحش التي تؤدى إلى شيوع الفساد والأمراض الخبيثة في الأفراد والمجتمعات ، وما وجدت في أمة إلا وكانت عاقبتها خسرا.

ولقد تحدث الإمام الرازي عن تلك المفاسد التي تترتب على الزنا فقال ما ملخصه : الزنا اشتمل على أنواع من المفاسد ، أولها : اختلاط الأنساب واشتباهها ، فلا يعرف الإنسان أن الولد الذي أتت به الزانية ، أهو منه أو من غيره ...

وثانيا : أنه إذا لم يوجد سبب شرعي لأجله يكون هذا الرجل لتلك المرأة ، لم يبق في حصول ذلك الاختصاص إلا التواثب والتقاتل.

__________________

(١) تفسير القرآن العظيم ص ٤٤١ لفضيلة المرحوم الشيخ محمود شلتوت.

٣٤٠