التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٨

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٨

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0668-X
الصفحات: ٥٩٧

ولهذه الأسباب نرجح أن يكون العباد الذين سلطهم الله على بنى إسرائيل بعد إفسادهم الثاني في الأرض ، هم الرومان بقيادة «تيطس».

هذا ، ومع ترجيحنا بأن المسلط عليهم في المرة الأولى ، هم جالوت وجنوده وفي المرة الثانية هم الرومان بقيادة «تيطس».

أقول مع ترجيحنا لذلك ، إلا أننا نحب في نهاية حديثنا عن هذه الآيات الكريمة ، أن نقرر ما يأتى :

١ ـ أنه لم يصح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حديث في بيان المراد بالعباد الذين سلطهم الله على بنى إسرائيل عقب مرتى إفسادهم ، وإلا لذكره المفسرون.

٢ ـ أن الإفساد في الأرض قد حدث كثيرا من بنى إسرائيل ، وأن المقصود من قوله ـ تعالى ـ (لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ) إنما هو أظهر وأبرز مرتين حدث فيهما الإفساد منهم.

ومما يدل على أن هذا الإفساد قد تكرر منهم قوله ـ تعالى ـ : (وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا) وقوله ـ تعالى ـ : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ) (١).

٣ ـ أن المقصود من سياق الآيات ، إنما هو بيان سنة من سنن الله في الأمم حال صلاحها وفسادها.

وقد ساق القرآن الكريم هذا المعنى بأحكم عبارة ، وذلك في قوله ـ تعالى ـ : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها).

ولا شك أن هذه السنة ماضية في الأمم دون تبديل أو تحويل في كل زمان ومكان.

وما دام هذا هو المقصود ، ففهمه لا يتوقف على تحديد مرتى إفسادهم ، وتحديد المسلط عليهم عقب كل مرة.

ويعجبني في هذا المقام ، قول الإمام ابن كثير : «وقد وردت في هذا ـ أى في المسلط عليهم في المرتين ـ آثار كثيرة إسرائيلية ، لم أر تطويل الكتاب بذكرها ، لأن منها ما هو موضوع من وضع زنادقتهم ، ومنها ما قد يحتمل أن يكون صحيحا ، ونحن في غنية عنها ، ولله الحمد ، وفيما قص الله علينا في كتابه غنية عما سواه من بقية الكتب قبله ، ولم يحوجنا الله ولا رسوله إليهم. وقد أخبر الله ـ تعالى ـ أنهم لما بغوا وطغوا سلط عليهم عدوهم ، فاستباح بيضتهم وسلك

__________________

(١) سورة الأعراف الآية ١٦٧.

٣٠١

خلال بيوتهم وأذلهم وقهرهم ، جزاء وفاقا ، وما ربك بظلام للعبيد ، فإنهم كانوا قد تمردوا وقتلوا خلقا من الأنبياء والعلماء» (١).

وقول الإمام الرازي : «واعلم أنه لا يتعلق كثير غرض في معرفة أولئك الأقوام بأعيانهم ، بل المقصود هو أنهم لما أكثروا من المعاصي. سلط عليهم أقواما قتلوهم وأفنوهم» (٢).

وقد بسطنا في تفسير هذه الآيات الكريمة ، بصورة أكثر تفصيلا في غير هذا المكان ، فليرجع إليه من شاء الاستزادة (٣).

وبعد أن بين ـ سبحانه ـ أنه قد آتى موسى ـ عليه‌السلام ـ التوراة لتكون هداية لبنى إسرائيل ، وأنه ـ عزوجل ـ قد قضى فيهم بقضائه العادل. أتبع ذلك بالثناء على القرآن الكريم ، فقال ـ تعالى ـ :

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (٩) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (١٠)

قال الفخر الرازي : اعلم أنه ـ تعالى ـ لما شرح ما فعله في حق عباده المخلصين ، وهو الإسراء برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإيتاء الكتاب لموسى ـ عليه‌السلام ـ ، وما فعله في حق العصاة والمتمردين وهو تسليط أنواع البلاء عليهم ، كان ذلك تنبيها على أن طاعة الله توجب كل خير وكرامة ، ومعصيته توجب كل بلية وغرامة ، لا جرم أثنى ـ سبحانه ـ على القرآن فقال : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (٤).

والفعل (يَهْدِي) مأخوذ من الهداية ، ومعناها : الإرشاد والدلالة بلطف إلى ما يوصل إلى البغية. والمفعول محذوف. أى : يهدى الناس.

__________________

(١) تفسير ابن كثير المجلد ٥ ص ٤٤.

(٢) تفسير الفخر الرازي ج ٢٠ ص ١٥٦.

(٣) راجع كتابنا «بنو إسرائيل في القرآن والسنة» ج ٢ من ص ٣٤٧ إلى ص ٣٩٦.

(٤) تفسير الفخر الرازي ج ٢٠ ص ١٦٠.

٣٠٢

وقوله ـ سبحانه ـ (لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) صفة لموصوف محذوف ، أى يهدى الناس إلى الطريقة أو الملة التي هي أقوم.

قال صاحب الكشاف : (لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) أى : للحالة التي هي أقوم الحالات وأسدها ، أو للملة أو للطريقة. وأينما قدرت لم تجد مع الإثبات ذوق البلاغة الذي تجده مع الحذف ، لما في إيهام الموصوف بحذفه من فخامة تفقد مع إيضاحه (١).

والمعنى : إن هذا القرآن الكريم ، الذي أنزله الله ـ تعالى ـ عليك يا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يرشد الناس ويدلهم ويهديهم ـ في جميع شئونهم الدينية والدنيوية ـ إلى الملة التي هي أقوم الملل وأعدلها ، وهي ملة الإسلام. فمنهم من يستجيب لهذه الهداية فيظفر بالسعادة ، ومنهم من يعرض عنها فيبوء بالشقاء.

قال صاحب الظلال ما ملخصه : إن هذا القرآن يهدى للتي هي أقوم في عالم الضمير والشعور ، بالعقيدة الواضحة التي لا تعقيد فيها ولا غموض ، والتي تطلق الروح من أثقال الوهم والخرافة ، وتطلق الطاقات البشرية الصالحة للعمل والبناء ، وتربط بين نواميس الكون الطبيعية ، ونواميس الفطرة البشرية في تناسق واتساق.

ويهدى للتي هي أقوم ، في التنسيق بين ظاهر الإنسان وباطنه ، وبين مشاعره وسلوكه ، وبين عقيدته وعمله.

ويهدى للتي هي أقوم في عالم العبادة ، بالموازنة بين التكاليف والطاقة ، فلا تشق التكاليف على النفس حتى تمل ، ولا تسهل حتى تشيع في النفس الرخاوة والاستهتار ، ولا تتجاوز القصد والاعتدال وحدود الاحتمال.

ويهدى للتي هي أقوم ، في علاقات الناس بعضهم ببعض : أفرادا وأزواجا وحكومات وشعوبا ، ودولا وأجناسا.

ويهدى للتي هي أقوم في نظام الحكم ، ونظام المال ، ونظام الاجتماع ، ونظام التعامل .. (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً) صفة ثانية من صفات القرآن الكريم.

أى : أن هذا القرآن بجانب هدايته للتي هي أقوم ، فهو ـ أيضا ـ يبشر المؤمنين الذين

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٤٣٩.

(٢) في ظلال القرآن ج ١٥ ص ٢٢١٥.

٣٠٣

يعملون الأعمال الصالحات بأن لهم أجرا كبيرا من خالقهم ـ عزوجل ـ : أجرا كبيرا لا يعلم مقداره إلا مسديه ومانحه ، وهو الله رب العالمين.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) بيان لسوء عاقبة الذين لا يستجيبون لهداية القرآن الكريم ، وهو معطوف على قوله ـ تعالى ـ : (أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً).

أى : أن هذا القرآن يبشر المؤمنين بالأجر الكبير ، ويبشر ـ على سبيل التهكم ـ الذين لا يؤمنون بالآخرة وما فيها من حساب وثواب وعقاب بالعذاب الأليم.

قال الآلوسى ما ملخصه : وتخصيص الآخرة بالذكر من بين سائر ما لم يؤمن به الكفرة ، لكونها أعظم ما أمروا بالإيمان به ، ولمراعاة التناسب بين أعمالهم وجزائها ، الذي أنبأ عنه قوله ـ تعالى ـ : (أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) وهو عذاب جهنم. أى : أعددنا وهيأنا لهم ، فيما كفروا به وأنكروا وجوده من الآخرة عذابا أليما.

والآية معطوفة على قوله (أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً) فيكون إعداد العذاب الأليم للذين لا يؤمنون بالآخرة مبشرا به كثبوت الأجر الكبير للمؤمنين ، ومصيبة العدو سرور يبشر به ، فكأنه قيل : يبشر المؤمنين بثوابهم وعقاب أعدائهم .. (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ بعض الأحوال التي قد يقدم الإنسان فيها على طلب ما يضره بسبب عجلته واندفاعه فقال ـ تعالى ـ :.

(وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) (١١)

والمراد بالإنسان هنا : الجنس وليس واحدا معينا.

قال الآلوسى : وقوله : (دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ) أى : دعاء كدعائه بالخير ، فحذف الموصوف وحرف التشبيه وانتصب المجرور على المصدرية (٢).

والمعنى : ويدعو الإنسان حال غضبه وضجره ، على نفسه ، أو على غيره ، (بِالشَّرِّ) كأن يقول : «اللهم أهلكنى ، أو أهلك فلانا ..».

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ٢٢.

(٢) الآلوسي ج ١٥ ص ٢٣.

٣٠٤

(دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ) أى : يدعو بالشر على نفسه أو على غيره ، كدعائه بالخير ، كأن يقول : اللهم اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين.

قال ابن كثير : يخبر ـ تعالى ـ عن عجلة الإنسان ، ودعائه في بعض الأحيان على نفسه أو ولده ، أو ماله ، (بِالشَّرِّ) أى : بالموت أو الهلاك والدمار واللعنة ونحو ذلك ، فلو استجاب له ربه لهلك بدعائه ، كما قال ـ تعالى ـ :.

(وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ ..).

وفي الحديث : «لا تدعوا على أنفسكم ولا على أموالكم ، أن توافقوا من الله ساعة إجابة يستجيب فيها» (١).

وقيل المراد بالإنسان هنا : الكافر ، أو الفاسق الذي يدعو الله ـ تعالى ـ بالشر ، كأن يسأله بأن ييسر له أمرا محرما كالقتل والسرقة والزنا وما يشبه ذلك.

وقد أشار القرطبي إلى هذا الوجه بقوله : «وقيل نزلت في النضر بن الحارث ، كان يدعو ويقول ـ كما حكى القرآن عنه ـ : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ ، أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ).

وقيل : هو أن يدعو في طلب المحظور ، كما يدعو في طلب المباح. كما في قول الشاعر :

أطوف بالبيت فيمن يطوف

وأرفع من مئزرى المسبل

واسجل بالليل حتى الصباح

وأتلو من المحكم المنزل

عسى فارج الهم عن يوسف

يسخر لي ربة المحمل (٢)

ويبدو لنا أن الرأى الأول أقرب إلى الصواب ، لأنه المأثور عن بعض الصحابة والتابعين وهم أدرى بتفسير كتاب الله من غيرهم.

قال ابن جرير ـ رحمه‌الله ـ عند تفسيره لهذه الآية : عن ابن عباس قال في قوله ـ تعالى ـ : (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ ..) يعنى قول الإنسان اللهم العنه واغضب عليه ، فلو يعجل له الله ذلك كما يعجل له الخير لهلك ...

وقال قتادة : يدعو على ماله فيلعن ماله ، ويدعو على ولده ، ولو استجاب الله له لأهلكه.

وقال مجاهد : ذلك دعاء الإنسان بالشر على ولده وعلى امرأته ولا يحب أن يجاب (٣).

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ٤٦.

(٢) تفسير القرطبي ج ١٠ ص ٢٢٥.

(٣) تفسير ابن جرير ج ١٥ ص ٣٧.

٣٠٥

وقوله ـ تعالى ـ : (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) بيان للسبب الذي حمل الإنسان على أن يدعو بالشر كما يدعو بالخير.

والعجول من العجل ـ بفتح العين والجيم ـ وهو الإسراع في طلب الشيء قبل وقته.

يقال : عجل ـ بزنة تعب ـ يعجل فهو عجلان ، إذا أسرع.

أى : وكان الإنسان متسرعا في طلب كل ما يقع في قلبه ، ويخطر بباله ، لا يتأنى فيه تأنى المتبصر ، ولا يتأمل تأمل المتدبر.

وشبيه بهذه الجملة قوله ـ تعالى ـ : (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ ، سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) (١).

ثم ساق ـ سبحانه ـ ما يدل على كمال قدرته ، وسعة رحمته بعباده ، ومجازاتهم على أعمالهم يوم القيامة فقال ـ تعالى ـ :.

(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (١٢) وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (١٣) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (١٤) مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (١٥)

__________________

(١) سورة الأنبياء الآية ٣٧.

٣٠٦

قال أبو حيان : قوله ـ تعالى ـ (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ ..) لما ذكر ـ سبحانه ـ القرآن وأنه هاد إلى الطريقة المستقيمة ، ذكر ما أنعم به مما لم يمكن الانتفاع إلا به ، وما دل على توحيده من عجائب العالم العلوي. وأيضا لما ذكر عجلة الإنسان ، وانتقاله من حال إلى حال ذكر أن كل هذا العالم كذلك في الانتقال لا يثبت على حال ، فنور عقب ظلمة وبالعكس ، وازدياد نور وانتقاص آخر (١).

والمراد بالآيتين هنا : العلامتان الواضحتان ، الدالتان على قدرة الله ـ تعالى ـ ووحدانيته.

وقوله : (فَمَحَوْنا) من المحو بمعنى إزالة أثر الشيء ، يقال : محا فلان الشيء محوا ـ من باب قتل ـ إذا أزال أثره.

وللعلماء في تفسير هذه الآية اتجاهات : أما الاتجاه الأول فيرى أصحابه ، أن المراد بالآيتين : نفس الليل والنهار ، وأن الكلام ليس فيه حذف.

فيكون المعنى : وجعلنا الليل والنهار ـ بهيئاتهما الثابتة ، وتعاقبهما الدائم ، واختلافهما طولا وقصرا ـ آيتين كونيتين كبيرتين ، دالتين على أن لهما صانعا قادرا ، حكيما ، هو الله رب العالمين.

وقوله ـ سبحانه ـ (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ) أى : فجعلنا الآية التي هي الليل. ممحوة الضوء ، مظلمة الهيئة ، مختفية فيها الأشياء ، ساكنة فيها الحركات.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) أى : وجعلنا الآية التي هي النهار مضيئة ، تبصر فيها الأشياء وترى بوضوح وجلاء.

وعلى هذا الاتجاه ، تكون إضافة الآية إلى الليل والنهار من إضافة الشيء إلى نفسه ، مع اختلاف اللفظ ، تنزيلا لاختلاف اللفظ منزلة الاختلاف في المعنى ، كما في قوله ـ تعالى ـ (شَهْرُ رَمَضانَ) فرمضان هو نفس الشهر.

وأما الاتجاه الثاني فيرى أصحابه أن الكلام على حذف مضاف ، وأن المراد بالآيتين : الشمس والقمر ، فيكون المعنى : وجعلنا نيرى الليل والنهار ـ وهما الشمس والقمر ـ آيتين دالتين على قدرة الله ـ تعالى ـ ووحدانيته ، فمحونا آية الليل ـ وهي القمر ـ ، بأن أزلنا عنه شعاعه وضياءه ، ولم نجعله كالشمس في ذلك ، وجعلنا آية النهار ـ وهي الشمس ـ مبصرة ، أى : ذات شعاع وضياء يبصر في ضوئها الشيء على حقيقته.

__________________

(١) تفسير البحر المحيط ج ٦ ص ١٤.

٣٠٧

وقد ذكر صاحب الكشاف هذين الوجهين دون أن يرجح بينهما فقال : قوله ـ تعالى ـ : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ ..) فيه وجهان : أحدهما : أن يراد أن الليل والنهار آيتان في أنفسهما ، فتكون الإضافة في آية الليل وآية النهار للتبيين ، كإضافة العدد إلى المعدود ، أى : فمحونا الآية التي هي الليل ، وجعلنا الآية التي هي النهار مبصرة.

والثاني : أن يراد : وجعلنا نيرى الليل والنار آيتين ، يريد الشمس والقمر ...

أى : فمحونا آية الليل التي هي القمر ، حيث لم نخلق له شعاعا كشعاع الشمس تبصر به الأشياء ، وجعلنا الشمس ذات شعاع يبصر في ضوئها كل شيء (١).

والذي نراه : أن الاتجاه الأول أقرب إلى الصواب ، لأنه هو الظاهر من معنى الآية الكريمة ؛ ولأنه لا يحتاج إلى تقدير ، وما كان كذلك أولى مما يحتاج إلى تقدير ، ولأن الليل والنهار هما بذاتهما من أظهر العلامات والأدلة على قدرة الله ـ تعالى ـ ووحدانيته.

وهناك عشرات الآيات القرآنية في هذا المعنى ، ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ) (٢).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ...) (٣).

وقال ـ تعالى ـ : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ ، لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) (٤) إلى غير ذلك من الآيات الكريمة التي أوردها الله ـ تعالى ـ في هذا المعنى.

وقوله ـ سبحانه ـ : (لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) بيان لمظهر من مظاهر حكمته ـ تعالى ـ ورحمته بعباده.

والجملة الكريمة متعلقة بما قبلها ، وهو قوله ـ سبحانه ـ : (وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) أى : جعلنا النهار مضيئا ، لتطلبوا فيه ما تحتاجونه من أمور معاشكم ، ومن الأرزاق التي قسمها الله بينكم.

قال الآلوسى ما ملخصه : وفي التعبير عن الرزق بالفضل ، وعن الكسب بالابتغاء : دلالة على أنه ليس للعبد في تحصيل الرزق تأثير سوى الطلب ، وإنما الإعطاء من الله ـ تعالى ـ

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٤٤٠.

(٢) سورة يس الآية ٣٧.

(٣) سورة فصلت الآية ٣٧.

(٤) سورة آل عمران الآية ١٩٠.

٣٠٨

بطريق التفضل .. (١).

وشبيه بهذه الجملة الكريمة قوله ـ تعالى ـ : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ ، لِتَسْكُنُوا فِيهِ ، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

فقوله ـ تعالى ـ : (لِتَسْكُنُوا فِيهِ) يعود إلى الليل. وقوله ـ تعالى ـ : (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) يعود على النهار.

ثم بين ـ سبحانه ـ حكمة أخرى ونعمة أخرى لجعله الليل والنهار على هذه الهيئة فقال : (وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ).

أى : وجعلنا الليل والنهار على هذه الصفة من التعاقب والاختلاف في الطول والقصر لتعرفوا عن طريق ذلك عدد الأيام والشهور والأعوام ، التي لا تستغنون عن معرفتها في شئون حياتكم ، ولتعرفوا ـ أيضا ـ الحساب المتعلق بها في معاملاتكم ، وبيعكم وشرائكم ، وأخذكم وعطائكم ، وصلاتكم ، وصيامكم ، وزكاتكم ، وحجكم ، وأعيادكم .. وغير ذلك مما تتوقف معرفته على تقلب الليل والنهار. وولوج أحدهما في الآخر.

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بقوله : (وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً).

والتفصيل : من الفصل بمعنى القطع. والمراد به هنا : الإبانة التامة للشيء بحيث يظهر ظهورا لا خفاء معه ولا التباس.

ولفظ (كُلَ) منصوب على الاشتغال بفعل يفسره ما بعده.

أى : وفصلنا كل شيء تحتاجون إليه في أمور دينكم ودنياكم ، تفصيلا ، واضحا جليا ، لا خفاء معه ولا التباس ، فقد أقمنا هذا الكون على التدبير المحكم ، وعلى الصنع المتقن ، وليس على المصادفات التي لا تخضع لنظام أو ترتيب.

ثم ساق ـ سبحانه ـ صورة من صور هذا التفصيل المحكم في كل شيء فقال ـ تعالى ـ : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ).

والمراد بطائره : عمله الصادر عنه باختياره وكسبه ، حسبما قدره الله ـ تعالى ـ عليه من خير وشر.

أى : وألزمنا كل إنسان مكلف عمله الناتج عنه ، إلزاما لا فكاك له منه ، ولا قدرة له على مفارقته.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ٣٠.

٣٠٩

وعبر ـ سبحانه ـ عن عمل الإنسان بطائره ، لأن العرب كانوا ـ كما يقول الآلوسى ـ يتفاءلون بالطير ، فإذا سافروا ومر بهم الطير زجروه ، فإن مر بهم سانحا ـ أى من جهة الشمال إلى اليمين ـ تيمنوا وتفاءلوا ، وإن مر بارحا ، أى : من جهة اليمين الى الشمال تشاءموا ، فلما نسبوا الخير والشر إلى الطائر ، استعير استعارة تصريحية ، لما يشبههما من قدر الله ـ تعالى ـ وعمل العبد ، لأنه سبب للخير والشر (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (فِي عُنُقِهِ) تصوير لشدة اللزوم وكمال الارتباط بين الإنسان وعمله.

وخص ـ سبحانه ـ العنق بالذكر من بين سائر الأعضاء ، لأن اللزوم فيه أشد ، ولأنه العضو الذي تارة يكون عليه ما يزينه كالقلادة وما يشبهها ، وتارة يكون فيه ما يشينه كالغل والقيد وما يشبههما.

قال الامام ابن كثير : وطائره : هو ما طار عنه من عمله كما قال ابن عباس ومجاهد ، وغير واحد ـ من خير أو شر ، يلزم به ويجازى عليه : كما قال ـ تعالى ـ : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ).

وكما قال ـ تعالى ـ : (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

والمقصود أن عمل ابن آدم محفوظ عليه ، قليله وكثيره : ويكتب عليه ليلا ونهارا ، صباحا ومساء (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً) بيان لحاله في الآخرة بعد بيان حاله في الدنيا.

والمراد بالكتاب هنا صحائف أعماله التي سجلت عليه في الدنيا.

أى : ألزمنا كل إنسان مكلف عمله الصادر عنه في الدنيا ، وجعلناه مسئولا عنه دون غيره. أما في الآخرة فسنخرج له ما عمله من خير أو شر «في كتاب يلقاه منشورا» أى : مفتوحا بحيث يستطيع قراءته ، ومكشوفا بحيث لا يملك إخفاء شيء منه ، أو تجاهله ، أو المغالطة فيه.

كتاب ظهرت فيه الخبايا والأسرار ظهورا يغنى عن الشهود والجدال.

كتاب مشتمل على كل صغيرة وكبيرة من أعمال الإنسان ، كما قال ـ تعالى ـ : (وَنَضَعُ

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ٣١.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ٤٧.

٣١٠

الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ، وإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها ، وكَفى بِنا حاسِبِينَ) (١)

ثم بين ـ سبحانه ـ ما يخاطب به الإنسان بعد أن فتح كتابه أمامه ، فقال ـ تعالى ـ * (اقْرَأْ كِتابَكَ ، كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) *.

أي : ويقال له بعد أن وجد كتابه منشورا أمامه ، اقرأ كتابك هذا ، وما اشتمل عليه من أعمال صدرت عنك في الدنيا ، كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا.

أي : محاسبا ، كجليس بمعنى مجالس ، أو حاسبا وعادّا كصريم بمعنى صارم يقال حسب فلان على فلان قوله ، إذا عده عليه.

ولفظ (كَفى) هنا لازم ، ويطرد في هذه الحالة جر فاعله بالباء المزيدة لتوكيد الكفاية و «حسيبا» تمييز ، وعليك متعلق به.

وتارة يأتي لفظ «كفى» متعديا ، كما في قوله ـ تعالى ـ : وكَفَى اللَّه الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ.

ثم ساق ـ سبحانه ـ قاعدة كلية ، لتحمل كل إنسان نتيجة عمله ، فقال ـ تعالى ـ : (مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِه ، ومَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها ، ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى).

والفعل (تَزِرُ) من الوزر بمعنى الإثم والحمل والثقل. يقال : وزر يزر وزرا ، أي : أثم ، أو حمل حملا ثقيلا ، ومنه سمى الوزير ، لأنه يحمل أعباء تدبير شؤون الدولة.

أي : من اهتدى إلى الطريق المستقيم ، وقدم في حياته العمل الصالح فثمرة هدايته راجعة إلى نفسه ، ومن ضل عن الطريق القويم ، وفسق عن أمر ربه فوبال ضلاله راجع إليه وحده ، ولا تحمل نفس آثمة ، إثم نفس أخرى ، وإنما تسأل كل نفس عن آثامها فحسب.

وقد تكرر هذا المعنى في كثير من آيات القرآن الكريم ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ : (ولا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها ، ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) (٢).

وقوله ـ تعالى ـ : (ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ، وإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْه شَيْءٌ ، ولَوْ كانَ ذا قُرْبى ..) (٣).

__________________

(١) سورة الأنبياء الآية ٤٧.

(٢) سورة الأنعام الآية ١٦٤.

(٣) سورة فاطر الآية ١٨.

٣١١

ولا يتنافى هذا مع قوله ـ تعالى ـ : (ولَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ ..) (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ ، ومِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ..) (٢).

لأن المقصود في هاتين الآيتين وأشباههما ، أن دعاة الكفر والفسوق والعصيان ، يحملون ذنوبهم يوم القيامة ، ويحملون فوق ذلك جانبا من ذنوب من كانوا هم سببا في ضلالهم ، لأن من سن سنة سيئة فعليه وزرها ، ووزر من عمل بها ـ كما جاء في الحديث الصحيح ـ فهم يحملون آثام أنفسهم ، والآثام التي كانوا سببا في ارتكاب غيرهم لها.

كذلك لا يتنافى قوله ـ تعالى ـ : (ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) مع ما ثبت في الحديث الصحيح عن ابن عمر رضى اللَّه عنهما من «أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه ..».

لأن العلماء حملوا الحديث على أن يكون الميت قد أوصى بذلك قبل موته ، أو أن يهمل نهيهم عن النوح عليه قبل موته ، مع أنه يعلم أنهم سينوحون عليه ويشقون الجيوب ، ويلطمون الخدود .. فتعذيبه بسبب تفريطه ، وعدم تنفيذه لقوله ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وأَهْلِيكُمْ ناراً ، وَقُودُهَا النَّاسُ والْحِجارَةُ ..) (٣).

وقوله ـ تعالى ـ : (وما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) بيان لمظهر من مظاهر رحمة اللَّه ـ تعالى ـ بعباده ـ ورأفته بهم ، وكرمه معهم.

قال الآلوسي : قوله : (وما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) بيان للعناية الربانية إثر بيان آثار الهداية والضلالة بأصحابها ، وعدم حرمان المهتدى من ثمرات هدايته. وعدم مؤاخذة النفس بجناية غيرها.

أي : وما صح وما استقام منا ، بل استحال في سنتنا المبنية على الحكم البالغة .. أن نعذب أحدا بنوع ما من العذاب دنيويا كان أو أخرويا ، على فعل شيء أو ترك شيء أصليا كان أو فرعيا ، حتى نبعث إليه (رَسُولًا) يهدى إلى الحق ، ويردع عن الضلال ، ويقيم الحجج ، ويمهد الشرائع .. (٤).

وقد وردت آيات كثيرة في القرآن الكريم ، تشبه هذه الآية ، في بيان أن اللَّه ـ تعالى ـ

__________________

(١) سورة العنكبوت الآية ١٣.

(٢) سورة النحل الآية ٢٥.

(٣) سورة التحريم الآية ٦.

(٤) تفسير الآلوسي ج ١٥ ص ٣٧.

٣١٢

لا يعذب أحدا من خلقه ، حتى يبعث إليه رسولا يبشره وينذره ، فيعصى ذلك الرسول ، ويستمر في كفره وضلاله بعد التبشير والإنذار.

ومن هذه الآيات قوله ـ تعالى ـ : (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ ومُنْذِرِينَ ، لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّه حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ، وكانَ اللَّه عَزِيزاً حَكِيماً) (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (ولَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِه ، لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ ونَخْزى) (٢).

وقوله ـ تعالى ـ : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ ، أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ ولا نَذِيرٍ ، فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ ونَذِيرٌ ..) (٣).

قال ابن كثير عند تفسيره لقوله ـ تعالى ـ : (وما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) : هذا إخبار عن عدله ـ تعالى ـ وأنه لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه ، بإرسال الرسول إليه ، كما قال ـ تعالى ـ : (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ، قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّه مِنْ شَيْءٍ ...)

إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على أن اللَّه ـ تعالى ـ لا يدخل أحدا النار إلا بعد إرسال الرسول إليه .. (٤).

هذا ، وما ذهب إليه الإمام ابن كثير ، والإمام الآلوسي ، من أن اللَّه ـ تعالى ـ اقتضت رحمته وعدالته ، أنه لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه ، عن طريق إرسال الرسل ، هو الذي نعتقده ، وتطمئن إليه نفوسنا ، لأنه هو الظاهر من معاني الآيات الكريمة ، ولأنه هو المناسب لرحمة اللَّه ـ تعالى ـ التي وسعت كل شيء.

وهناك من يرى أن من مات على الكفر فهو في النار ، ولو لم يرسل اللَّه ـ تعالى ـ إليه رسولا ، واستدلوا بأدلة لا مجال لذكرها هنا (٥).

ثم ساق ـ سبحانه ـ سنة من سننه في إهلاك الأمم ، وفي حال الذين يريدون العاجلة ، وحال الذين يريدون الآجلة ، فقال ـ تعالى ـ :

__________________

(١) سورة النساء الآية ١٦٥.

(٢) سورة طه الآية ١٣٤.

(٣) سورة المائدة الآية ١٩.

(٤) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ٥٠.

(٥) راجع تفسير الآلوسي ج ١٥ ص ٣٧ وتفسير أضواء البيان ج ٣ ص ٤٢٩ للشيخ الشنقيطي.

٣١٣

(وإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (١٦) وكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِه خَبِيراً بَصِيراً (١٧) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَه فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَه جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (١٨) ومَنْ أَرادَ الآخِرَةَ وسَعى لَها سَعْيَها وهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (١٩) كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) (٢٠) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ ولَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (٢١) لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّه إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولًا) (٢٢)

قال أبو حيان ـ رحمه اللَّه ـ : لما ذكر ـ تعالى ـ في الآية السابقة ، أنه لا يعذب أحدا حتى يبعث إليه رسولا ، بين بعد ذلك علة إهلاكهم ، وهي مخالفة أمر الرسول صلى اللَّه عليه وسلم ، والتمادي على الفساد ـ فقال ، سبحانه ـ : (وإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها ..) (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : أَمَرْنا من الأمر الذي هو ضد النهى ، والمأمور به هو الإيمان والعمل الصالح ، والشكر للَّه رب العالمين ، وحذف لظهوره والعلم به.

وقوله مُتْرَفِيها جمع مترف ، وهو المتنعم الذي لا يمنع من تنعمه ، بل يترك يفعل ما يشاء. يقال : ترف فلان ـ كفرح ـ أي : تنعم ، وفلان أترفته النعمة ، أي : أطغته وأبطرته لأنه لم يستعملها في وجوهها المشروعة.

__________________

(١) تفسير البحر المحيط لأبى حيان ج ٦ ص ١٧.

٣١٤

والمراد بهم ، أصحاب الجاه والغنى والسلطان ، الذين أحاطت بهم النعم من كل جانب ، ولكنهم استعملوها في الفسوق والعصيان ، لا في الخير والإحسان.

والمعنى : وإذا قرب وقت إرادتنا إهلاك أهل قرية ، أمرنا مترفيها ، وأهل الغنى والسلطان فيها بالإيمان والعمل الصالح ، والمداومة على طاعتنا وشكرنا ، فلم يستجيبوا لأمرنا ، بل فسقوا فيها ، وعاثوا في الأرض فسادا.

وهذا الأمر إنما هو على لسان الرسول المبعوث إلى أهل تلك القرية ، وعلى ألسنة المصلحين المتبعين لهذا الرسول والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر.

وقال ـ سبحانه ـ : (وإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً ...) مع أن الهلاك لأهلها ، للإشارة إلى أن هذا الهلاك لن يصيب أهلها فقط ، بل سيصيبهم ويصيب معهم مساكنهم وأموالهم وكل ما احتوته تلك القرية ، بحيث تصير هي وسكانها أثرا بعد عين.

وخص مترفيها بالذكر مع أن الأمر بالطاعة للجميع ، لأن هؤلاء المترفين هم الأئمة والقادة ، فإذا ما استجابوا للأمر استجاب غيرهم تبعا لهم في معظم الأحيان ، ولأنهم في أعم الأحوال هم الأسرع إلى ارتكاب ما نهى اللَّه عنه ، وإلى الانغماس في المتع والشهوات.

والحكمة من هذا الأمر ، هو الإعذار والإنذار ، والتخويف والوعيد.

كما قال ـ تعالى ـ : (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ ومُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّه حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ..) (١).

وهذا التفسير للآية الكريمة ، سار عليه جمهور المفسرين.

ولصاحب الكشاف رأى يخالف ذلك ، فهو يرى أن الأمر في الآية الكريمة مجاز عن إمدادهم بالنعم الكثيرة التي أبطرتهم.

قال ـ رحمه اللَّه ـ : قوله ـ تعالى ـ : وإِذا أَرَدْنا وإذا دنا وقت إهلاك قوم ، ولم يبق من زمان إمهالهم إلا قليل أمرناهم فَفَسَقُوا أي : أمرناهم بالفسق ففعلوا.

والأمر مجاز لأن حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم : افسقوا ، وهذا لا يكون ، فبقى أن يكون مجازا ، ووجه المجاز أنه صب عليهم النعمة صبا ، فجعلوها ذريعة إلى المعاصي واتباع الشهوات ، فكأنهم مأمورون بذلك لتسبب إيلاء النعمة فيه ، وإنما خولهم إياها ليشكروا ويعملوا فيها الخير ، ويتمكنوا من الإحسان والبر ، كما خلقهم أصحاء أقوياء ، وأقدرهم على

__________________

(١) سورة النساء الآية ١٦٥.

٣١٥

الخير والشر ، وطلب منهم إيثار الطاعة ، على المعصية ، فآثروا الفسوق ، فلما فسقوا حق عليهم القول وهو كلمة العذاب فدمرهم .. (١).

ومن المفسرين من يرى أن قوله ـ تعالى ـ : أَمَرْنا بمعنى كثّرنا ـ بتشديد الثاء ـ وقرئ أَمَرْنا بتشديد الميم ، أي : كثرنا مترفيها وجعلناهم أمراء مسلطين ..

ولكن هذه القراءة. وقراءة آمرنا بمعنى «كثرنا» أيضا ، ليستا من القراءات السبعة أو العشرة ، وإنما هما من القراءات الشاذة.

قال الإمام ابن جرير : وأولى القراءات في ذلك عندي بالصواب ، قراءة من قرأ «أمرنا» بقصر الألف وتخفيف الميم ـ لإجماع الحجة من القراء بتصويبها دون غيرها وإذا كان ذلك هو الأولى بالصواب بالقراءة ، فأولى التأويلات به تأويل من تأوله : أمرنا أهلها بالطاعة فعصوا وفسقوا فيها. فحق عليهم القول ، لأن الأغلب من معنى أَمَرْنا الأمر الذي هو خلاف النهى دون غيره.

وتوجيه معاني كلام اللَّه ـ جل ثناؤه ـ إلى الأشهر الأعرف من معانيه ، أولى ما وجد إليه سبيل من غيره .. (٢).

ويبدو لنا أن الرأي الأول الذي سار عليه جمهور المفسرين ، وعلى رأسهم الإمام ابن جرير ، أولى بالقبول ، لأسباب منها :

ان القرآن الكريم يؤيده في كثير من آياته ، ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ : (وإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا واللَّه أَمَرَنا بِها ، قُلْ إِنَّ اللَّه لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ ..) (٣).

فقوله ـ تعالى ـ : قُلْ إِنَّ اللَّه لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ دليل واضح على أن قوله ـ سبحانه ـ : أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها .. معناه : أمرناهم بالطاعة ففسقوا ، وليس معناه أمرناهم بالفسق ففسقوا لأنه ـ سبحانه ـ لا يأمر لا بالفسق ولا بالفحشاء.

ومنها : أن الأسلوب العربي السليم يؤيده لأنك إذا قلت : أمرته فعصاني كان المعنى المتبادر والظاهر من هذه الجملة ، أمرته بالطاعة فعصاني ، وليس معناه. أمرته بالعصيان فعصاني.

ومنها : أن حمل الكلام على الحقيقة ـ كما سار جمهور المفسرين ـ أولى من حمله على المجاز ـ كما ذهب صاحب الكشاف ـ.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٤٤٢.

(٢) تفسير ابن جرير ج ١٥ ص ٤٣.

(٣) سورة الأعراف الآية ٢٨.

٣١٦

وقوله ـ سبحانه ـ : (فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) بيان لما نزل بهذه القرية وأهلها من عذاب محاها من الوجود ، إذ التدمير هو الإهلاك مع طمس الأثر ، وهدم البناء.

أي : أمرنا مترفيها بطاعتنا وشكرنا ، فعصوا أمرنا وفسقوا فيها ، فثبت وتحقق عليها عذابنا ، فأهلكناها إهلاكا استأصل شأفتها ، وأزال آثارها.

وأكد ـ سبحانه ـ فعل التدمير بمصدره ، للمبالغة في إبراز شدة الهلاك الواقع على تلك القرية الظالم أهلها.

قال الآلوسي ما ملخصه : والآية تدل على إهلاك أهل القرية على أتم وجه ، وإهلاك جميعهم ، لصدور الفسق منهم جميعا ، فإن غير المترف يتبع المترف عادة ...

وقيل : هلاك الجميع لا يتوقف على التبعية فقد قال ـ تعالى ـ : (واتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ...)

وقد صح عن أم المؤمنين زينب بنت جحش أنها قالت : قلت ، يا رسول اللَّه ، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال : نعم ، إذا كثر الخبث (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ أن هذه القرية لم تكن بدعا في نزول العذاب بها ، بل هناك قرى كثيرة عتت عن أمر ربها فأخذها ـ سبحانه ـ أخذ عزيز مقتدر ، فقال ـ تعالى ـ : (وكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ ...).

و (كَمْ) هنا خبرية أي : أن معناها الإخبار عن عدد كثير ، وهي في محل نصب مفعول به لجملة (أَهْلَكْنا) و «من» في قوله ـ تعالى ـ : (مِنَ الْقُرُونِ) بيان للفظ (كَمْ) وتمييز له كما يميز العدد بالجنس. وأما «من» في قوله ـ تعالى ـ : (مِنْ بَعْدِ نُوحٍ) فهي لابتداء الغاية.

والقرون : جمع قرن ، ويطلق على القوم المقترنين في زمان واحد. والمشهور أن مدته مائة سنة.

أي : أن هذه القرية المدمرة بسبب فسوق أهلها ، وعصيانهم لأمرنا ، ليست هي القرية الوحيدة التي نزل بها عذابنا ، بل إننا قد أهلكنا كثيرا من القرى من بعد زمن نوح ـ عليه السلام ـ كقوم عاد وثمود وغيرهم ممن استحبوا العمى على الهدى ، وآثروا الكفر على الإيمان والغي على الرشد.

__________________

(١) تفسير الآلوسي ج ١٥ ص ٤٤.

٣١٧

وخص نوح ـ عليه السلام ـ بالذكر ، لأنه أول رسول كذبه قومه وآذوه وسخروا منه .. فأهلكهم اللَّه ـ تعالى ـ بالطوفان.

قال ابن كثير : ودل هذا على أن القرون التي كانت بين آدم ونوح على الإسلام ، كما قاله ابن عباس : كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام (١).

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بالتهديد الشديد لمن يخالف أمره فقال ـ تعالى ـ : (وكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِه خَبِيراً بَصِيراً).

أي : وكفى بربك ـ أيها الرسول الكريم ـ إحاطة واطلاعا وعلما بما يقدمه الناس من خير أو شر ، فإنه ـ سبحانه ـ يعلم السر وأخفى.

والآية الكريمة بجانب أنها تسلية للرسول صلى اللَّه عليه وسلم فهي ـ أيضا ـ تهديد للمشركين ، وإنذار لهم بأنهم إذا ما استمروا على كفرهم ، ومعاداتهم للحق ، وتطاولهم على من جاء به وهو الرسول صلى اللَّه عليه وسلم فسيكونون محلا لغضب اللَّه ـ تعالى ـ وسخطه ، ولنزول عذابه الذي أهلك به أمثالهم في الشرك والكفر والجحود.

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ، دَمَّرَ اللَّه عَلَيْهِمْ ولِلْكافِرِينَ أَمْثالُها) (٢).

وقوله ـ تعالى ـ : (ولَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسانَ ونَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِه نَفْسُه ونَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْه مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (٣).

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك مصير الذين يؤثرون العاجلة على الآجلة ، فقال ـ تعالى ـ : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَه فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ).

والمراد بالعاجلة : دار الدنيا ، وهي صفة لموصوف محذوف أي : الدار العاجلة التي ينتهى كل شيء فيها بسرعة وعجلة.

أي : من كان يريد بقوله وعمله وسعيه ، زينة الدار العاجلة وشهواتها فحسب ، دون التفات إلى ثواب الدار الآخرة ، (عَجَّلْنا لَه فِيها) أي : عجلنا لذلك الإنسان في هذه الدنيا ، (ما نَشاءُ) تعجيله له من زينتها ومتعها ..

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ٥٩.

(٢) سورة محمد الآية ١٠.

(٣) سورة ق الآية ١٦.

٣١٨

وهذا العطاء العاجل المقيد بمشيئتنا ليس لكل الناس ، وإنما هو (لِمَنْ نُرِيدُ) عطاءه منهم ، بمقتضى حكمتنا وإرادتنا.

فأنت ترى أنه ـ سبحانه ـ قد قيد العطاء لمن يريد العاجلة بمشيئته وإرادته.

ورحم اللَّه صاحب الكشاف فقد قال عند تفسيره لهذه الآية : «من كانت العاجلة همه ، ولم يرد غيرها كالكفرة وأكثر الفسقة ، تفضلنا عليه من منافعها بما نشاء لمن نريد. فقيد الأمر تقييدين : أحدهما : تقييد المعجل بمشيئته ، والثاني : تقييد المعجل له بإرادته.

وهكذا الحال ، ترى كثيرا من هؤلاء يتمنون ما يتمنون ولا يعطون إلا بعضا منه ، وكثيرا منهم يتمنون ذلك البعض وقد حرموا فاجتمع عليهم فقر الدنيا وفقر الآخرة وأما المؤمن التقى فقد اختار مراده ، وهو غنى الآخرة فما يبالي أوتى حظا من الدنيا أو لم يؤت. فإن أوتى فبها شكر ، وإن لم يؤت صبر ، فربما كان الفقر خيرا له ، وأعون على مراده.

وقوله (لِمَنْ نُرِيدُ) بدل من (لَه) وهو بدل البعض من الكل ، لأن الضمير يرجع إلى من وهو في معنى الكثرة (١) ومفعول نريد محذوف. أي : لمن نريد عطاءه.

وقوله : (ثُمَّ جَعَلْنا لَه جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً) بيان لسوء مصير هذا المريد للعاجلة في الآخرة.

و (يَصْلاها) أي : يلقى فيها ويذوق حرها وسعيرها : يقال : صليت الشاة : شويتها. وصلى فلان بالنار ـ من باب تعب ـ إذا وجد حرها.

و (مَذْمُوماً) من الذم الذي هو ضد المدح.

و (مَدْحُوراً) من الدحور بمعنى الطرد واللعن. يقال : دحره دحرا ودحورا ، إذا طرده وأبعده.

أي : من كان يريد بسعيه الدنيا وزينتها أعطيناه منها ما نشاء إعطاءه له ، أما في الآخرة فقد جعلنا له جهنم يدخلها ، ويصلى حرها ولهيبها ، حالة كونه «مذموما» أي مبغوضا بسبب سوء صنيعه ، «مدحورا» أي : مطرودا ومبعدا من رحمة اللَّه ـ تعالى ـ.

قال الإمام الرازي ما ملخصه : وفي لفظ هذه الآية فوائد : منها : أن العقاب عبارة عن مضرة مقرونة بالإهانة والذم ، بشرط أن تكون دائمة وخالية عن شوب المنفعة فقوله : (ثُمَّ جَعَلْنا لَه جَهَنَّمَ يَصْلاها) إشارة إلى المضرة العظيمة. وقوله (مَذْمُوماً) إشارة إلى الإهانة

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٤٤٣.

٣١٩

والذم. وقوله (مَدْحُوراً) إشارة إلى البعد والطرد عن رحمة اللَّه ـ تعالى ـ.

وهي تفيد كون تلك المضرة خالية عن شوب النفع والرحمة ، وتفيد كونها دائمة وخالية عن التبدل بالراحة والخلاص .. (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (ومَنْ أَرادَ الآخِرَةَ وسَعى لَها سَعْيَها وهُوَ مُؤْمِنٌ ، فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) بيان لحسن عاقبة المؤمنين الصادقين بعد بيان سوء عاقبة المؤثرين لمتع الدنيا وشهواتها.

أي : ومن أراد بقوله وعمله ثواب الدار الآخرة ، وما فيها من عطاء غير مقطوع ، وسعى لهذه الدار سعيها الذي يوصله إلى مرضاة اللَّه ـ تعالى ـ حالة كونه مؤمنا باللَّه ـ تعالى ـ وبكل ما يجب الإيمان به ، (فَأُولئِكَ) الذي فعلوا ذلك ، (كانَ سَعْيُهُمْ) للدار الآخرة سعيا (مَشْكُوراً) : من اللَّه ـ تعالى ـ ، حيث يقبله ـ سبحانه ـ منهم ، ويكافئهم عليه بما يستحقون من ثواب لا يعلم مقداره إلا هو ـ سبحانه ـ وعبر ـ عز وجل ـ بالسعي عن أعمالهم الصالحة ، للإشعار بجدهم وحرصهم على أداء ما يرضيه ـ تعالى ـ بدون إبطاء أو تأخير ، إذ السعي يطلق على المشي الذي تصاحبه السرعة. وأشار ـ سبحانه ـ إليهم بأولئك ، للإشعار بعلو درجاتهم وسمو مراتبهم.

قال بعض العلماء ما ملخصه : وفي الآية الدليل الواضح على أن الأعمال الصالحة لا تنفع إلا مع الإيمان باللَّه ـ تعالى ـ لأن الكفر سيئة لا تنفع معها حسنة.

ولذا قال ـ سبحانه ـ : (ومَنْ أَرادَ الآخِرَةَ وسَعى لَها سَعْيَها وهُوَ مُؤْمِنٌ ..).

وقد أوضح ـ سبحانه ـ هذا في آيات كثيرة ، منها قوله ـ تعالى ـ : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّه حَياةً طَيِّبَةً ...).

ومفهوم هذه الآية وأمثالها ، أن غير المؤمن إذا قدم عملا صالحا في الدنيا لا ينفعه في الآخرة لفقد شرط الإيمان ، قال ـ تعالى ـ : (وقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناه هَباءً مَنْثُوراً).

وروى الإمام مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك قال : قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم «إن اللَّه لا يظلم مؤمنا حسنة يعطى بها في الدنيا ، ويجزى بها في الآخرة. وأما الكافر فيطعم بحسناته ما عمل بها للَّه في الدنيا ، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها» (٢).

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٢٠ ص ١٧٨.

(٢) تفسير أضواء البيان ج ٣ ص ٤٤٨ للشيخ محمد الأمين الشنقيطي.

٣٢٠