التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٨

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٨

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0668-X
الصفحات: ٥٩٧

التفسير

قال الله تعالى :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (١)

افتتحت سورة الإسراء بتنزيه الله ـ تعالى ـ عن كل ما لا يليق بجلاله ، كما يدل على ذلك لفظ «سبحان» الذي من أحسن وجوه إعرابه ، أنه اسم مصدر منصوب ـ على أنه مفعول مطلق ـ بفعل محذوف ، والتقدير : سبحت الله ـ تعالى ـ سبحانا أى تسبيحا ، بمعنى نزهته تنزيها عن كل سوء.

قال القرطبي : وقد روى طلحة بن عبيد الله الفياض أحد العشرة ـ أى المبشرين بالجنة ـ أنه قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما معنى سبحان الله؟ فقال : «تنزيه الله من كل سوء» (١).

وقوله (أَسْرى) من الإسراء ، وهو السير بالليل خاصة.

قال الجمل : يقال أسرى وسرى ، بمعنى سار في الليل ، وهما لازمان ، لكن مصدر الأول الإسراء ومصدر الثاني السرى ـ بضم السين كالهدى ـ فالهمزة ليست للتعدية إلى المفعول ، وإنما جاءت التعدية هنا من الباء. ومعنى أسرى به ، صيره ساريا في الليل (٢).

والمراد (بِعَبْدِهِ) خاتم أنبيائه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والإضافة للتشريف والتكريم.

وأوثر التعبير بلفظ العبد ، للدلالة على أن مقام العبودية لله ـ تعالى ـ هو أشرف صفات

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٠ ص ٢٠٤.

(٢) حاشية الجمل ج ٢ ص ٦٠٨.

٢٨١

المخلوقين وأعظمها وأجلها ، إذ لو كان هناك وصف أعظم منه في هذا المقام لعبر به ، وللإشارة ـ أيضا ـ إلى تقرير هذه العبودية لله ـ تعالى ـ وتأكيدها ، حتى لا يلتبس مقام العبودية بمقام الألوهية ، كما التبسا في العقائد المسيحية ، حيث ألهوا عيسى ـ عليه‌السلام ـ ، وألهوا أمه مريم ، مع أنهما بريئان من ذلك ..

قال الشيخ القاسمى نقلا عن الإمام ابن القيم في كتاب «طريق الهجرتين» : أكمل الخلق أكملهم عبودية لله ـ تعالى ـ ، ولهذا كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقرب الخلق إلى الله ـ تعالى ـ وأعظمهم عنده جاها ، وأرفعهم عنده منزلة ، لكماله في مقام العبودية. وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «أيها الناس ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي. إنما أنا عبد». وكان يقول : «لا تطرونى كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم ، إنما أنا عبد فقولوا : عبد الله ورسوله».

وذكره ـ سبحانه ـ بسمة العبودية في أشرف مقاماته : في مقام الإسراء حيث قال : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ).

وفي مقام الدعوة حيث قال : (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ) ...

وفي مقام التحدي حيث قال : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا) (١).

وقوله : (لَيْلاً) ظرف زمان لأسرى.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : الإسراء لا يكون إلا بالليل فما معنى ذكر الليل؟.

قلت : أراد بقوله ليلا بلفظ التنكير ، تقليل مدة الإسراء ، وأنه أسرى به بعض الليل من مكة إلى الشام مسيرة أربعين ليلة ، وذلك أن التنكير فيه قد دل على معنى البعضية ...» (٢).

وقوله : (مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) بيان لابتداء الإسراء وانتهائه.

أى : جل شأن الله ـ عزوجل ـ وتنزه عن كل نقص ، حيث أسرى بعبده محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في جزء من الليل ، من المسجد الحرام الذي بمكة إلى المسجد الأقصى الذي بفلسطين.

ووصف مسجد مكة بالحرام ، لأنه لا يحل انتهاكه بقتال فيه ، ولا بصيد صيده ، ولا بقطع شجره.

__________________

(١) تفسير القاسمى ج ١٠ ص ٣٨٨٤.

(٢) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٤٢٦.

٢٨٢

ووصف مسجد فلسطين بالأقصى ، لبعده عن المسجد الحرام ، إذ المسافة بينهما كان يقطعها الراكب للإبل في مدة شهر أو أكثر.

قال الآلوسى : ووصفه بالأقصى ـ أى الأبعد ـ بالنسبة إلى من بالحجاز. وقال غير واحد : إنه سمى به لأنه أبعد المساجد التي تزار من المسجد الحرام وبينهما زهاء أربعين ليلة. وقيل ـ وصف بذلك ـ : لأنه لبس وراءه موضع عبادة فهو أبعد مواضعها .. (١).

وظاهر الآية يفيد أن الإسراء كان من المسجد الحرام ، فقد أخرج الشيخان والترمذي والنسائي من حديث أنس بن مالك ـ رضى الله عنه ـ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «بينا أنا في الحجر ـ وفي رواية ـ في الحطيم ، بين النائم واليقظان ، إذ أتانى آت فشق ما بين هذه إلى هذه ، فاستخرج قلبي فغسله ثم أعيد ، ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض يقال له البراق فحملت عليه» ...

وقيل أسرى به من بيت أم هانئ بنت أبى طالب ، فيكون المراد بالمسجد الحرام : الحرم لإحاطته بالمسجد والتباسه به. فعن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ : الحرم كله مسجد.

ويمكن الجمع بين هذه الروايات ، بأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقي في بيت أم هانئ لفترة من الليل ، ثم ترك فراشه عندها وذهب إلى المسجد ، فلما كان في الحجر أو في الحطيم بين النائم واليقظان ، أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، ثم عرج به إلى السموات العلا. ثم عاد إلى فراشه قبل أن يبرد ـ كما جاء في بعض الروايات.

وبذلك يترجح لدينا أن وجود الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تلك الليلة في بيت أم هانئ ، لا ينفى أن الإسراء بدأ من المسجد الحرام ، كما تقرر الآية الكريمة.

وقوله (الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ) صفة مدح للمسجد الأقصى.

أى : جل شأن الله الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، الذي أحطنا جوانبه بالبركات الدينية والدنيوية.

أما البركات الدينية فمن مظاهرها : أن هذه الأرض التي حوله ، جعلها الله ـ تعالى ـ مقرا لكثير من الأنبياء ، كإبراهيم وإسحاق ويعقوب ، وداود وسليمان ، وزكريا ويحيى وعيسى.

قال ـ تعالى ـ : (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها ..) (٢).

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ٩.

(٢) سورة الأنبياء الآية ٨١.

٢٨٣

وقال ـ سبحانه ـ في شأن إبراهيم : (وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ) (١).

والمقصود بهذه الأرض : أرض الشام ، التي منها فلسطين.

وأما البركات الدنيوية فمن مظاهرها : كثرة الأنهار والأشجار والثمار والزروع في تلك الأماكن.

قال بعض العلماء : وقد قيل في خصائص المسجد الأقصى : أنه متعبد الأنبياء السابقين ، ومسرى خاتم النبيين ، ومعراجه إلى السموات العلا .. وأولى القبلتين وثاني المسجدين ، وثالث الحرمين ، لا تشد الرحال بعد المسجدين إلا إليه (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ : (لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا) إشارة إلى الحكمة التي من أجلها أسرى الله ـ تعالى ـ بنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقوله (لِنُرِيَهُ) متعلق بأسرى.

و «من» للتبعيض لأن ما رآه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن كان عظيما إلا أنه مع عظمته بعض آيات الله بالنسبة لما اشتمل عليه هذا الكون من عجائب.

أى : أسرينا بعبدنا محمد ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله ، ثم عرجنا به إلى السموات العلا ، لنطلعه على آياتنا ، وعلى عجائب قدرتنا ، والتي من بينها : مشاهدته لأنبيائنا الكرام ، ورؤيته لما نريد أن يراه من عجائب وغرائب هذا الكون.

ولقد وردت أحاديث متعددة في بيان ما أراه الله ـ تعالى ـ لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تلك الليلة المباركة ، ومن ذلك ما رواه البخاري عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : ... ووجدت في السماء الدنيا آدم فقال لي جبريل : هذا أبوك آدم فسلم عليه فسلمت عليه ورد على آدم السلام فقال : مرحبا وأهلا بابني ، فنعم الابن أنت ...

وفي رواية للإمام أحمد عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لما عرج بي ربي ـ عزوجل ـ مررت بقوم لهم أظفار من نحاس ، يخمشون وجوههم وصدورهم ، فقلت : من هؤلاء يا جبريل؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ، ويقعون في أعراضهم .. (٣)».

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بما يدل على سعة علمه ، ومزيد فضله فقال ـ تعالى ـ : (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).

__________________

(١) سورة الأنبياء الآية ٧١.

(٢) تفسير القاسمى ج ١٠ ص ٣٨٨٥.

(٣) تفسير ابن كثير المجلد الخامس ص ٨ طبعة دار الشعب.

٢٨٤

أى : إنه ـ سبحانه ـ هو السميع لأقوال عباده : مؤمنهم وكافرهم ، مصدقهم ومكذبهم. بصير بما يسرونه ويعلنونه ، وسيجازى كل إنسان بما يستحقه من ثواب أو عقاب ، بدون ظلم أو محاباة.

هذا وقد ذكر المفسرون عند تفسيرهم لهذه الآية جملة من المسائل منها :

١ ـ أن هذه الآية دلت على ثبوت الإسراء للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، وأما العروج به صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى السموات العلا فقد استدل عليه بعضهم بآيات سورة النجم ، وهي قوله ـ تعالى ـ : (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى. ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى. وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى. عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى. ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى. وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى. ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى. فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى. فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى. ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى. أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى).

وقد ساق الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية أحاديث كثيرة بأسانيدها ومتونها ، وقال في أعقاب ذكر بعضها :

قال البيهقي : وفي هذا السياق دليل على أن المعراج كان ليلة أسرى به ـ عليه الصلاة والسلام ـ من مكة إلى بيت المقدس ، وهذا الذي قاله هو الحق الذي لا شك فيه ولا مرية (١).

وقال القرطبي : ثبت الإسراء في جميع مصنفات الحديث ، وروى عن الصحابة في كل أقطار الإسلام ، فهو من المتواتر بهذا الوجه ، وذكر النقاش ممن رواه عشرين صحابيا (٢).

٢ ـ قال بعض العلماء ما ملخصه : ذهب الأكثرون إلى أن الإسراء كان بعد المبعث ، وأنه قبل الهجرة بسنة. قاله الزهري وابن سعد وغيرهما. وبه جزم النووي ، وبالغ ابن حزم فنقل الإجماع فيه. وقال : كان في رجب سنة اثنتي عشرة من النبوة.

واختار الحافظ المقدسي أنه كان في ليلة السابع والعشرين من شهر رجب (٣).

والذي تطمئن إليه النفس أن حادث الإسراء والمعراج ، كان بعد وفاة أبى طالب والسيدة خديجة ـ رضى الله عنها ـ.

ووفاتهما كانت قبل الهجرة بسنتين أو ثلاثة. وفي هذه الفترة التي أعقبت وفاتهما اشتد أذى

__________________

(١) تفسير ابن كثير المجلد الخامس ص ٧ طبعة دار الشعب.

(٢) تفسير القرطبي ج ١٠ ص ٢٠٥

(٣) تفسير القاسمى ج ١٠ ص ٢٨٨٨.

٢٨٥

المشركين بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكان هذا الحادث لتسليته صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما أصابه منهم ، ولتشريفه وتكريمه ..

٣ ـ من المسائل التي ثار الجدل حولها ، مسألة : أكان الإسراء والمعراج في اليقظة أم في المنام؟ وبالروح والجسد أم بالروح فقط؟.

وقد لخص بعض المفسرين أقوال العلماء في هذه المسألة فقال : اعلم أن هذا الإسراء به صلى‌الله‌عليه‌وسلم المذكور في هذه الآية الكريمة زعم بعض أهل العلم أنه بروحه دون جسده ، زاعما أنه في المنام لا في اليقظة ، لأن رؤيا الأنبياء وحى.

وزعم بعضهم أن الإسراء بالجسد ، والمعراج بالروح دون الجسد.

ولكن ظاهر القرآن يدل على أنه بروحه وجسده صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقظة لا مناما ، لأنه قال : (بِعَبْدِهِ) والعبد مجموع الروح والجسد.

ولأنه قال : (سُبْحانَ) والتسبيح إنما يكون عند الأمور العظام ، فلو كان مناما لم يكن له كبير شأن حتى يتعجب منه.

ولأنه لو كان رؤيا منام لما كان فتنة ، ولا سببا لتكذيب قريش له صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن رؤيا المنام ليست محل إنكار لأن المنام قد يرى فيه ما لا يصح.

ولأنه ـ سبحانه ـ قال (لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا) والظاهر أن ما أراه الله ـ تعالى ـ لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما كان رؤيا عن طريق العين ويؤيده قوله ـ تعالى ـ : (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى. لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) ولأنه ثبت في الأحاديث الصحيحة أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد استعمل في رحلته البراق ، واستعماله البراق يدل على أن هذا الحادث كان بالروح والجسد وفي اليقظة لا في المنام.

وما ثبت في الصحيحين عن طريق شريك عن أنس ـ رضى الله عنه ـ أن الإسراء المذكور وقع مناما ، لا ينافي ما ذكرنا مما عليه أهل السنة والجماعة ، ودلت عليه نصوص الكتاب والسنة من أنه كان يقظة وبالروح والجسد ، لإمكان أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى الإسراء المذكور مناما ، ثم جاءت تلك الرؤيا كفلق الصبح ، فأسرى به يقظة تصديقا لتلك الرؤيا المنامية (١).

__________________

(١) تفسير أضواء البيان ج ٣ ص ٣٤٨ لفضيلة المرحوم الشيخ محمد الأمين الشنقيطى.

٢٨٦

هذا ، ومن العلماء الذين فصلوا القول في تلك المسألة تفصيلا محققا ، القاضي عياض في كتابه «الشفا» فقد قال ـ رحمه‌الله ـ بعد أن ساق الآراء في ذلك :

والحق في هذا والصحيح ـ إن شاء الله ـ أنه إسراء بالروح والجسد في القصة كلها ، وعليه تدل الآية وصحيح الأخبار والاعتبار. ولا يعدل عن الظاهر والحقيقة إلى التأويل إلا عند الاستحالة ، وليس في الإسراء بجسده وروحه حال يقظته استحالة .. (١).

وما قاله القاضي عياض ـ رحمه‌الله ـ في هذه المسألة هو الذي نعتقده ، ونلقى الله ـ تعالى ـ عليه.

وبعد أن بين الله ـ سبحانه ـ جانبا من مظاهر تكريمه وتشريفه لنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن طريق إسرائه به. أتبع ذلك بالحديث عما أكرم به نبيه موسى ـ عليه‌السلام ـ فقال :

(وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (٢) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً) (٣)

والواو في قوله ـ تعالى ـ : (وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) ، استئنافية ، أو عاطفة على قوله : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى ..).

والمراد بالكتاب : التوراة التي أنزلها الله ـ تعالى ـ على نبيه موسى ـ عليه‌السلام ـ والضمير المنصوب في قوله : (وَجَعَلْناهُ) يعود إلى الكتاب.

وقوله (لِبَنِي إِسْرائِيلَ) متعلق بهدى.

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ).

وأن في قوله (أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً) يصح أن تكون زائدة وتكون الجملة مقولة لقول محذوف ، والمعنى :

__________________

(١) راجع الشفا للقاضي عياض ج ١ ص ١٤٥ وما بعدها.

٢٨٧

وآتينا موسى الكتاب من أجل أن يكون هداية لبنى إسرائيل إلى الصراط المستقيم.

وقلنا لهم : لا تتخذوا غير الله ـ تعالى ـ وكيلا ، أى : معبودا ، تفوضون إليه أموركم ، وتكلون إليه شئونكم ، فهو ـ سبحانه ـ : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً).

قال الإمام الرازي ما ملخصه : قرأ أبو عمرو «ألا يتخذوا» بالياء خبرا عن بنى إسرائيل : وقرأ الباقون بالتاء على الخطاب ، أى : قلنا لهم لا تتخذوا. ويصح أن تكون أن ناصبة للفعل فيكون المعنى : وجعلناه هدى لئلا تتخذوا ... وأن تكون أن بمعنى أى التي للتفسير ـ أى هي مفسرة لما تضمنه الكتاب من النهى عن اتخاذ وكيل سوى الله ـ تعالى ـ (١).

وقوله : (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ ...) منصوب على الاختصاص ، أو على النداء والمقصود بهذه الجملة الكريمة إثارة عزائمهم نحو الإيمان والعمل الصالح ، وتنبيههم إلى نعمه ـ سبحانه ـ عليهم ، حيث جعلهم من ذرية أولئك الصالحين الذين آمنوا بنوح ـ عليه‌السلام ـ وحضهم على السير على منهاجهم في الإيمان والعمل الصالح ، فإن شأن الأبناء أن يقتدوا بالآباء في التقوى والصلاح.

والمعنى : لا تتخذوا يا بنى إسرائيل معبودا غير الله ـ تعالى ـ ، فأنتم أبناء أولئك القوم الصالحين ، الذين آمنوا بنوح ـ عليه‌السلام ـ فأنجاهم الله ـ تعالى ـ مع نبيهم من الغرق.

قال الآلوسى : وفي التعبير بما ذكر إيماء إلى علة النهى من أوجه : أحدها تذكيرهم بالنعمة في إنجاء آبائهم. والثاني : تذكيرهم بضعفهم وحالهم المحوج إلى الحمل والثالث : أنهم أضعف منهم ـ أى من آبائهم ـ لأنهم متولدون عنهم وفي إيثار لفظ الذرية الواقعة على الأطفال والنساء في العرف الغالب مناسبة تامة لما ذكر (٢).

وقوله : (إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً) تذييل قصد به الثناء على نوح ـ عليه‌السلام ـ أى : إن نوحا ـ عليه‌السلام ـ كان من عبادنا الشاكرين لنعمنا ، المستعملين لها فيما خلقت له ، المتوجهين إلينا بالتضرع والدعاء في السراء والضراء.

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٢٠ ص ١٥٣ طبعة دار الكتاب العالمية.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ١٥.

٢٨٨

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : قوله : (إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً) ما وجه ملاءمته لما قبله؟.

قلت : كأنه قيل لا تتخذوا من دوني وكيلا ، ولا تشركوا بي ، لأن نوحا كان عبدا شكورا ، وأنتم من آمن به وحمل معه ، فاجعلوه أسوتكم كما جعله آباؤكم أسوتهم ، ويجوز أن يكون تعليلا لاختصاصهم ، والثناء عليهم بأنهم أولاد المحمولين مع نوح ـ عليه‌السلام ـ فهم متصلون به ، فاستأهلوا لذلك الاختصاص .. (١).

وبذلك نرى الآيتين الكريمتين قد دعتا إلى إخلاص العبادة لله ـ تعالى ـ بأسلوب يرضى العقول السليمة ، والعواطف الشريفة.

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك قضاءه العادل في بنى إسرائيل وساق سنة من سننه التي لا تتخلف في خلقه فقال ـ تعالى ـ :

(وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (٤) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (٥) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (٦) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (٧) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً) (٨)

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٤٣٨.

٢٨٩

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ ...) إخبار من الله ـ تعالى ـ لهم ، بما سيكون منهم ، حسب ما وقع في علمه المحيط بكل شيء ، والذي ليس فيه إجبار أو قسر ، وإنما هو صفة انكشافية ، تنبئ عن مآلهم وأحوالهم.

قال أبو حيان : والفعل قضى يتعدى بنفسه إلى مفعول ، كقوله ـ تعالى ـ : (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ ..) ولما ضمّن هنا معنى الإيحاء أو الإنفاذ تعدى بإلى أى : وأوحينا أو أنفذنا إلى بنى إسرائيل في القضاء المحتوم المثبوت وعن ابن عباس : وأعلمناهم .. (١).

والمراد بالكتاب : التوراة ، وقيل اللوح المحفوظ.

واللام في قوله (لَتُفْسِدُنَّ ...) جواب قسم محذوف تقديره : والله لتفسدن.

ويجوز أن تكون جوابا لقوله ـ تعالى ـ : (وَقَضَيْنا ...) لأنه مضمن معنى القسم ، كما يقول القائل : قضى الله لأفعلن كذا ، فيجري القضاء والقدر مجرى القسم ...

والمقصود بالأرض : عمومها أو أرض الشام.

و «مرتين» منصوب على أنه مفعول مطلق لقوله : (لَتُفْسِدُنَ) من غير لفظه ، والمراد لتفسدن إفسادتين وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَتَعْلُنَّ ..) من العلو وهو ضد السفل ، والمراد به هنا : التكبر والتجبر والبغي والعدوان.

والمعنى : وأخبرنا بنى إسرائيل في كتابهم التوراة خبرا مؤكدا : وأوحينا إليهم بواسطة رسلنا ، بأن قلنا لهم : لتفسدن في الأرض مرتين ، ولتستكبرن على الناس بغير حق ، استكبارا كبيرا ، يؤدى بكم إلى الخسران والدمار.

والتعبير عما يكون منهم من إفساد بالقضاء وأنه في الكتاب ، يدل على ثبوته ، إذ أصل القضاء ـ كما يقول القرطبي ـ الإحكام للشيء والفراغ منه.

وأكد إفسادهم واستعلاءهم بلام القسم ، للإشعار بأنه مع ثبوته ووجوده فهو مصحوب بالتجبر والتكبر والبغي والعدوان.

__________________

(١) تفسير البحر المحيط لأبي حيان ج ٦ ص ٨ طبعة دار الفكر ـ بيروت.

٢٩٠

وكان من مظاهر إفسادهم في الأرض : تحريفهم للتوراة ، وتركهم العمل بما فيها من أحكام ، وقتلهم الأنبياء والمصلحين.

ثم بين ـ سبحانه ـ أنه يسلط عليهم بعد إفسادهم الأول في الأرض ، من يقهرهم ويستبيح حرماتهم ، ويدمرهم تدميرا ، فقال ـ تعالى ـ : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ. فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً).

والمراد بالوعد : الموعد المحدد لعقابهم بسبب إفسادهم في الأرض ، فالكلام على حذف مضاف ، والضمير في (أُولاهُما) يعود على المرتين المعبر عنهما بقول : (لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ).

وقوله (فَجاسُوا) معطوف على (بَعَثْنا) وأصل الجوس : طلب الشيء باستقصاء واهتمام لتنفيذ ما من أجله كان الطلب.

والمعنى : فإذا حان وقت عقابكم ـ يا بنى إسرائيل ـ على أولى مرتى إفسادكم بعثنا عليكم ووجهنا إليكم (عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) أى أصحاب بطش شديد في الحروب والقتال ، فأذلوكم وقهروكم ، وفتشوا عنكم بين المساكن والديار ، لقتل من بقي منكم على قيد الحياة ، وكان البعث المذكور وما ترتب عليه من قتلكم وسلب أموالكم ، وهتك أعراضكم ، وتخريب دياركم ... وعدا نافذا لا مرد له ، ولا مفر لكم منه.

قال الآلوسى : واختلف في تعيين هؤلاء العباد ـ الذين بعثهم الله لمعاقبة بنى إسرائيل بعد إفسادهم الأول ـ فعن ابن عباس وقتادة : هم جالوت وجنوده ، وقال ابن جبير وابن إسحاق : هم سنحاريب ملك بابل وجنوده. وقيل : هم العمالقة ، وقيل : بختنصر (١).

وسنبين رأينا فيمن سلطه الله ـ تعالى ـ عليهم في المرتين ، بعد تفسيرنا لهذه الآيات الكريمة.

فإن قال قائل : وما فائدة أن يخبر الله ـ تعالى ـ بنى إسرائيل في التوراة أنهم يفسدون في الأرض مرتين. وأنه يعاقبهم على ما كان منهم من استعلاء وطغيان ، بأن يسلط عليهم من يذلهم ويقهرهم ويقضى عليهم؟.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ١٧.

٢٩١

فالجواب : أن إخبارهم بذلك يفيد أن الله ـ عزوجل ـ لا يظلم الناس شيئا ، وإنما يعاقبهم على ما يكون منهم من إفساد ويعفو عن كثير ، وأن رحمته مفتوحة للعصاة متى تابوا وأنابوا وأصلحوا من شأن أنفسهم.

وهناك فائدة أخرى لهذا الإخبار ، وهو تنبيه العقلاء في جميع الأمم أن يحذروا من مواقعة المعاصي التي تؤدى إلى الهلاك ، وأن يحذروا أممهم من ذلك ، ويبصروهم بسوء عاقبة السير في طريق الغي ، حتى لا يعرضوا أنفسهم لعقاب الله ـ عزوجل ـ.

ومن فوائد إيراد هذا الخبر في القرآن الكريم ، تنبيه اليهود المعاصرين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن على شاكلتهم في الفسوق والعصيان من المشركين ، إلى سنة من سنن الله في خلقه ، وهي أن الإفساد عاقبته الخسران.

فعلى اليهود وغيرهم من الناس أن يتبعوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي ثبتت نبوته ثبوتا لا شك فيه ، لكي يسعدوا في دنياهم وآخرتهم.

ثم أشار ـ سبحانه ـ إلى الفائدة الثالثة من هذا الإخبار ، وهي أن الأمم المغلوبة على أمرها. تستطيع أن تسترد مجدها ، متى أصلحت من شأن أنفسها ، ومتى استقامت على أمر الله ـ تعالى ـ فقال ـ سبحانه ـ : (ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ ، وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ ، وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً).

ففي هذه الآية الكريمة تذكير لبنى إسرائيل بجملة من نعم الله عليهم ، بعد أن أصابهم ما أصابهم من أعدائهم.

أما النعمة الأولى فقد عبر عنها ـ سبحانه ـ بقوله : (ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ).

والكرّة : المرة من الشيء : وأصلها من الكرّ وهو الرجوع ، مصدر كريكر ـ من باب قتل ـ ، يقال : كرّ الفارس كرّا ، إذا فر للجولان ثم عاد للقتال.

والمراد بالكرة هنا : الدولة والغلبة على سبيل المجاز.

أى : ثم أعدنا لكم ـ يا بنى إسرائيل ـ الدولة والغلبة على أعدائكم الذين قهروكم وأذلوكم ، بعد أن أحسنتم العمل ، ورجعتم إلى الله ـ تعالى ـ واتبعتم ما جاءكم به رسلكم.

والتعبير بثم لإفادة الفرق الشاسع بين ما كانوا فيه من ذل وهوان ، وما أفاءه الله عليهم بعد ذلك من نصر وظفر.

قال أبو حيان : وجعل ـ سبحانه ـ (رَدَدْنا) موضع نرد ـ إذ وقت إخبارهم لم يقع

٢٩٢

الأمر بعد ـ لأنه لما كان وعد الله في غاية الثقة في كونه سيقع ، عبر عن المستقبل بالماضي (١).

وأما النعمة الثانية فقد عبر عنها ـ سبحانه ـ بقوله : (وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ).

أى : لم نكتف بأن جعلنا النصر لكم على أعدائكم ، بل فضلا عن ذلك ، أمددناكم بالكثير من الأموال والأولاد ، بعد أن نهب أعداؤكم أموالكم ، وقتلوا الكثيرين من أبنائكم.

وأما النعمة الثالثة فتتجلى في قوله ـ تعالى ـ : (وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً).

والنفير : من ينفر مع الرجل من قومه لنصرته ومؤازرته ، وهو منصوب على التمييز. والمفضل عليه محذوف ، والتقدير : وجعلناكم أكثر عددا وقوة من أعدائكم الذين جاسوا خلال دياركم ..

فمن الواجب عليكم أن تقدروا هذه النعم ، وأن تحسنوا الاستفادة منها ، بأن تشكروا الله ـ تعالى ـ وتخلصوا له العبادة والطاعة ، فقد نصركم بعد هزيمتكم ، وأغناكم بعد فقركم ، وكثّركم بعد قتلكم.

ثم ساق ـ سبحانه ـ بعد ذلك سنة من سننه التي لا تتخلف ، وهي أن الإحسان عاقبته الفلاح ، والعصيان عاقبته الخسران ، وأن كل إنسان مسئول عن عمله ، ونتائج هذا العمل ـ سواء أكانت خيرا أم شرا ـ لا تعود إلا عليه ، فقال ـ تعالى ـ : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ ، وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها).

أى : إن أحسنتم ـ أيها الناس ـ أعمالكم ، بأن أديتموها بالطريقة التي ترضى الله ـ تعالى ـ أفلحتم وسعدتم ، وجنيتم الثمار الطيبة التي تترتب على هذا الإحسان للعمل ، وإن أسأتم أعمالكم ، بأن آثرتم الأعمال السيئة على الأعمال الحسنة ، خسرتم وشقيتم وتحملتم وحدكم النتائج الوخيمة التي تترتب على إتيان الأعمال التي لا ترضى الله ـ تعالى ـ.

وقد رأيتم كيف أن الإفساد كانت عاقبته أن (بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ).

وكيف أن الإحسان كانت عاقبته أن (رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ) على أعدائكم (وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً).

قال صاحب البحر ما ملخصه : وجواب «وإن أسأتم» قوله «فلها» وهو خبر لمبتدأ محذوف أى : فالإساءة لها. قال الكرماني : قال ـ سبحانه ـ : (فَلَها) باللام ازدواجا.

__________________

(١) تفسير أبى حيان ج ٦ ص ١٠.

٢٩٣

أى : أنه قابل (لِأَنْفُسِكُمْ) بقوله (فَلَها). وقال الطبري اللام بمعنى إلى أى : فإليها ترجع الإساءة.

وقيل : اللام بمعنى على. أى : فعليها ، كما في قول الشاعر : فخر صريعا لليدين وللفم (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ ما يحل بهم من دمار ، بعد إفسادهم للمرة الثانية ، فقال ـ تعالى ـ : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ ، لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ ، وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ ، وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً).

والكلام أيضا هنا على حذف مضاف ، وجواب إذا محذوف دل عليه ما تقدم وهو قوله (بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا) فإذا جاء وقت عقوبتكم يا بنى إسرائيل على إفسادكم الثاني في الأرض ، بعثنا عليكم أعداءكم ليسوءوا وجوهكم أى : ليجعلوا آثار المساءة والحزن بادية على وجوهكم ، من شدة ما تلقونه منهم من إيداء وقتل.

قال الجمل ما ملخصه : وقوله (لِيَسُوؤُا) الواو للعباد أولى البأس الشديد.

وفي عود الواو على العباد نوع استخدام ، إذ المراد بهم أولا جالوت وجنوده ، والمراد بهم هنا بختنصر وجنوده.

وقرأ ابن عامر وحمزة بالياء المفتوحة والهمزة المفتوحة آخر الفعل ليسوء والفاعل إما الله ـ تعالى ـ وإما الوعد ، وإما البعث.

وقرأ الكسائي لنسوء ـ بنون العظمة. أى : لنسوء نحن وهو موافق لما قبله ، من قوله : بعثنا ، ورددنا ، وأمددنا ، ولما بعده من قوله : عدنا ، وجعلنا ، وقرأ الباقون. ليسوءوا ، مسندا إلى ضمير الجمع العائد على العباد ، وهو موافق لما بعده من قوله : (وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ وَلِيُتَبِّرُوا) (٢).

وقال الإمام الرازي : ويقال ساءه يسوءه إذا أحزنه ، وإنما عزا ـ سبحانه ـ الإساءة إلى الوجوه ، لأن آثار الأعراض النفسية الحاصلة في القلب إنما تظهر على الوجه ، فإن حصل الفرح في القلب ظهر الإشراق في الوجه ، وإن حصل الحزن والخوف في القلب ، ظهر الكلوح في الوجه (٣).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ) معطوف على ما قبله وهو قوله ـ سبحانه ـ (لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ).

__________________

(١) تفسير البحر المحيط ج ٦ ص ١١.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٦١٧.

(٣) تفسير الفخر الرازي ج ٢ ص ١٥٩.

٢٩٤

والمراد بالمسجد : المسجد الأقصى الذي ببيت المقدس ، وقوله «كما دخلوه» صفة لمصدر محذوف.

والمعنى : وليدخلوا المسجد دخولا كائنا كدخولهم إياه أول مرة.

قال أبو حيان : ومعنى (كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ) أى بالسيف والقهر والغلبة والإذلال (١).

أى : أن المراد من التشبيه ، بيان أن الأعداء في كل مرة أذلوا بنى إسرائيل وقتلوهم وقهروهم.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً) يشعر بشدة العقوبة التي أنزلها أولئك العباد ببني إسرائيل ، إذ التتبير معناه الإهلاك والتدمير والتخريب لكل ما تقع عليه. ومنه قول الشاعر :

وما الناس إلا عاملان فعامل

يتبر ما يبنى وآخر رافع

أى : يخرب ويهد ما يبنى.

و «ما» في قوله (ما عَلَوْا) اسم موصول مفعول يتبروا : وهو عبارة عن البلاد والأماكن التي هدموها ، والعائد محذوف ، وتتبيرا مفعول مطلق مؤكد لعامله.

أى : وليدمرا ويخربوا البلاد والأماكن التي علوا عليها ، وصارت في حوزتهم ، تدميرا تاما لا مزيد عليه.

وبذلك نرى أن العباد الذين سلطهم الله ـ تعالى ـ على بنى إسرائيل ، عقب إفسادهم الثاني في الأرض ، لم يكتفوا بجوس الديار ، بل أضافوا إلى ذلك إلقاء الحزن والرعب في قلوبهم ، ودخول المسجد الأقصى فاتحين ومخربين ، وتدمير كل ما وقعت عليه أيديهم تدميرا فظيعا لا يوصف.

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآيات الكريمة ببيان أن هذا الدمار الذي حل ببني إسرائيل بسبب إفسادهم في الأرض مرتين ، قد يكون طريقا لرحمتهم ، وسببا في توبتهم وإنابتهم ، إن فتحوا قلوبهم للحق ، واعتبروا بالأحداث الماضية ، وفهموا عن الله ـ تعالى ـ سنته التي لا تتخلف ، وهي أن الإحسان يؤدى إلى الفلاح والظفر ، والإفساد يؤدى إلى الخسران والهلاك.

وقد عبر القرآن الكريم عن هذه المعاني أبلغ تعبير وأحكمه. فقال ـ تعالى ـ : (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ ، وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا ، وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً).

__________________

(١) تفسير البحر المحيط ج ٥ ص ١١.

٢٩٥

أى : عسى ربكم أن يرحمكم : ويعفو عنكم يا بنى إسرائيل متى أخلصتم له العبادة والطاعة ، وأصلحتم أقوالكم وأعمالكم ، فقد علمتم أنه ـ سبحانه ـ لا ينزل بلاء إلا بذنب ، ولا يرفعه إلا بتوبة.

قال : أبو حيان : وهذه الترجية ليست لرجوع دولة ، وإنما هي من باب ترحم المطيع منهم ، وكان من الطاعة أن يتبعوا عيسى ومحمدا ـ عليهما‌السلام ـ ولكنهم لم يفعلوا (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا) إنذار لهم بإنزال العقوبات عليهم ، إن عادوا إلى فسادهم وإفسادهم.

أى : وإن عدتم إلى المعاصي ومخالفة أمرى ، وانتهاك حرماتى ، بعد أن تداركتكم رحمتي ، عدنا عليكم بالقتل والتعذيب وخراب الديار.

ولقد عادوا إلى الكفر والفسوق والعصيان ، حيث أعرضوا عن دعوة الحق التي جاءهم بها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم يكتفوا بهذا الإعراض بل هموا بقتله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأيدوا كل متربص بالإسلام والمسلمين ، فكانت نتيجة ذلك أن عاقبهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه بما يستحقون من إجلاء وتشريد وقتل ..

قال ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ : «عادوا فسلط الله عليهم المؤمنين».

ثم بين ـ سبحانه ـ عقوبتهم في الآخرة فقال : (وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً) أى : إن عدتم إلى معصيتنا في الدنيا عدنا عليكم بالعقوبة الرادعة ، أما في الآخرة فقد جعلنا جهنم للكافرين منكم ومن غيركم «حصيرا» أى : سجنا حاصرا لكم لا تستطيعون الهروب منه ، أو الفكاك عنه ، أو فراشا تفترشونه ، كما قال ـ تعالى ـ : (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ. وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ).

قال بعض العلماء : قوله (حَصِيراً) فيه وجهان : الأول : أن الحصير المحبس والسجن. من الحصر وهو الحبس : يقال حصره يحصره حصرا ، إذا ضيق عليه وأحاط به.

والثاني أن الحصير : البساط والفراش ، من الحصير الذي يفرش ، لأن العرب تسمى البساط الصغير حصيرا ..» (٢).

وبذلك نرى الآيات الكريمة ، قد حكت لنا قضاء الله ـ تعالى ـ في بنى إسرائيل ، وساقت لنا لكي نعتبر ونتعظ ألوانا من سنن الله ـ تعالى ـ التي لا تتخلف ، والتي من أبرزها أن

__________________

(١) تفسير البحر المحيط ج ٦ ص ١١.

(٢) تفسير أضواء البيان ج ٣ ص ٣٧٢ للمرحوم الشيخ محمد الأمين الشنقيطى.

٢٩٦

الإيمان والصلاح عاقبتهما الفلاح ، وأن الكفر والفساد عاقبتهما الشقاء ، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى.

هذا ، والذي يراجع ما قاله المفسرون في بيان العباد الذين سلطهم الله ـ تعالى ـ على بنى إسرائيل بعد إفسادهم الأول والثاني في الأرض ، يرى أقوالا متعددة يبدو على كثير منها الاضطراب والضعف (١).

ومن ذلك ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس وابن مسعود ـ رضى الله عنهما ـ أن الله ـ تعالى ـ عهد إلى بنى إسرائيل في التوراة (لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ) فكان أول الفسادين قتل زكريا ، فبعث الله عليهم ملك النبط ، وكان يدعى «صحابين» فبعث الجنود ، وكانوا من أهل فارس .. فتحصنت بنو إسرائيل .. ودخل فيهم «بختنصر» ـ أحد جنود صحابين ـ وسمع أقوالهم .. إلخ (٢).

وهذا الأثر من وجوه ضعفه ، أن غزو النبط ومعهم بختنصر لبنى إسرائيل سابق على زمان زكريا ـ عليه‌السلام ـ بحوالى ستة قرون.

لأن الثابت تاريخيا أن بختنصر غزا بنى إسرائيل وانتصر عليهم ثلاث مرات : الأولى في سنة ٦٠٦ ق. م والثانية في سنة ٥٩٩ ق. م ، والثالثة في سنة ٥٨٨ ق. م.

وفي هذه المرة الثالثة أكثر القتل فيهم ، وساق الأحياء منهم أسارى إلى أرض بابل.

أما زكريا ـ عليه‌السلام ـ فمن المعروف أنه كان معاصرا لعيسى ـ عليه‌السلام ـ أو مقاربا لعصره : فقد أخبرنا القرآن الكريم أن زكريا هو الذي تولى كفالة مريم أم عيسى.

وإذا فالقول بأن إفسادهم الأول كان لقتلهم زكريا ، وأن المسلط عليهم ملك النبط ومع «بختنصر» يتنافى مع الحقائق التاريخية.

وفضلا عن ذلك ، فإن هذا الأثر اضطرابه ظاهر ، لأن «صحابين» ملك النبط ، هو الذي يسميه المؤرخون «سنحاريب» وكان ملكا للأشوريين ، وهو الذي غزا مملكة يهوذا سنة ٧١٣ ق. م أى قبل غزو بختنصر لها بأكثر من مائة سنة ، أى : أن بختنصر لم يكن معاصرا له.

والرأى الذي نختاره : هو أن العباد الذين سلطهم الله على بنى إسرائيل بعد إفسادهم

__________________

(١) ذكرنا معظم هذه الأقوال في كتابنا «بنو إسرائيل في القرآن والسنة» ج ٢ ص ٣٥٩ وناقشناها ، وضعفنا ما يستحق التضعيف منها ، ورجحنا ما يستحق الترجيح.

(٢) تفسير ابن جرير ج ١٦ ص ١٧ ـ بتصرف وتلخيص.

٢٩٧

الأول ، هم جالوت وجنوده. ونستند في اختيارنا لهذا الرأى إلى أمور من أهمها ما يلي :.

١ ـ ذكر القرآن الكريم في سورة البقرة ، عند عرضه لقصة القتال الذي دار بين طالوت قائد بنى إسرائيل ، وبين «جالوت» قائد أعدائهم ، ما يدل على أن بنى إسرائيل كانوا قبل ذلك مقهورين مهزومين من أعدائهم.

ويتجلى هذا المعنى في قوله ـ تعالى ـ : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى ، إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ ، قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا ..).

فقولهم ـ كما حكى القرآن عنهم ـ (وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا ..) يدل دلالة قوية ، على أنهم كانوا قبل قتالهم لجالوت مهزومين هزيمة اضطرتهم إلى الخروج عن ديارهم ، وإلى مفارقة أبنائهم.

٢ ـ قوله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ) صريح في أن الله ـ تعالى ـ نصر بنى إسرائيل ـ بعد أن تابوا وأنابوا ـ على أعدائهم.

وهذا المعنى ينطبق على ما قصه القرآن علينا ، من أن بنى إسرائيل بقيادة طالوت قد انتصروا على جالوت وجنوده ..

قال ـ تعالى ـ : (وَلَمَّا بَرَزُوا) (١) (لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ ، قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً ، وَثَبِّتْ أَقْدامَنا ، وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ. فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ ، وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ ، وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ ، وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ ..).

ولقد كان هذا النصر نعمة كبرى لبنى إسرائيل ، فقد جاءهم بعد أن أخرجوا من ديارهم وأبنائهم ، وبعد أن اعترضوا على اختيار طالوت ملكا عليهم ، وبعد أن قاتل مع طالوت عدد قليل منهم. ولا شك أن النصر في هذه الحالة ، أدعى لطاعة الله ـ تعالى ـ وشكره على آلائه.

٣ ـ قوله ـ تعالى ـ : (وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً) أكثر ما يكون انطباقا على عهد حكم طالوت ، وداود ، وسليمان لهم.

ففي هذا العهد الذي دام زهاء ثمانين سنة ، ازدهرت مملكتهم ، وعز سلطانهم وأمدهم الله خلاله بالأموال الوفيرة ، وبالبنين الكثيرة ، وجعلهم أكثر من أعدائهم عددا وقوة.

__________________

(١) أى بنو إسرائيل.

٢٩٨

أما بعد هذا العهد ، بل وقبل هذا العهد ، فقد كانت حياتهم سلسلة من المآسى والنكبات ..

فبعد موت سليمان ـ عليه‌السلام ـ سنة ٩٧٥ ق. م تقريبا ، انقسمت مملكتهم إلى قسمين : مملكة يهوذا في الجنوب ، ومملكة إسرائيل في الشمال ، واستمرتا في صراع ونزاع حتى قضى الآشوريون سنة ٧٢١ ق. م على مملكة إسرائيل ، وقضى «بختنصر» على مملكة يهوذا سنة ٥٨٨ ق. م.

٤ ـ ذكر بعض المفسرين أن العباد الذين سلطهم الله عليهم بعد إفسادهم الأول هم جالوت وجنوده.

أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن ابن عباس في قوله : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) قال : بعث الله عليهم في الأولى جالوت ، فجاس خلال ديارهم ، فسألوا الله ـ تعالى ـ أن يبعث لهم ملكا ، فبعث لهم طالوت ، فقاتلوا جالوت ، وانتصروا عليه ، وقتل داود جالوت ، ورجع إلى بنى إسرائيل ملكهم. فلما أفسدوا بعث الله عليهم في المرة الآخرة «بختنصر» فخرب المساجد ، وتبر ما علوا تتبيرا .. (١).

هذه بعض الأدلة التي تجعلنا نرجح أن المراد بالعباد الذين سلطهم الله ـ تعالى ـ على بنى إسرائيل بعد إفسادهم الأول في الأرض ، هم جالوت وجنوده.

أما العباد الذين سلطهم الله عليهم بعد إفسادهم الثاني ، فيرى كثير من المفسرين أنهم «بختنصر» وجنوده.

وهذا الرأى ليس ببعيد عن الصواب ، لما ذكرنا قبل ذلك من تنكيله بهم ، وسوقهم أسارى إلى بابل سنة ٥٨٨ ق. م.

إلا أننا نؤثر على هذا الرأى ، أن يكون المسلط عليهم بعد إفسادهم الثاني ، هم الرومان بقيادة زعيمهم ، تيطس سنة ٧٠ م. لأمور من أهمها :.

١ ـ أن الذي يتتبع التاريخ يرى أن رذائل بنى إسرائيل في الفترة التي سبقت تنكيل «تبطس» بهم ، أشد وأكبر من الرذائل التي سبقت إذلال «بختنصر» لهم. فهم ـ على سبيل المثال ـ قبيل بطش الرومان بهم ، كانوا قد قتلوا من أنبياء الله زكريا ويحيى ـ عليهما‌السلام ـ ، وكانوا قد حاولوا قتل عيسى ـ عليه‌السلام ـ ولكن الله ـ تعالى ـ نجاه من شرورهم.

__________________

(١) تفسير الدر المنثور للسيوطي ج ٤ ص ١٦٣.

٢٩٩

٢ ـ ضربات الرومان ـ في ذاتها ـ كانت أشد وأقسى على بنى إسرائيل. من ضربات «بختنصر» لهم.

فمثلا عدد القتلى من اليهود على يد الرومان بقيادة «تيطس» بلغ مليون قتيل ، وبلغ عدد الأسرى نحو مائة ألف أسير (١).

بينما عدد القتلى والأسرى منهم على يد «بختنصر» كان أقل من هذا العدد بكثير.

ولقد وصف المؤرخون النكبة التي أوقعها الرومان بهم ، بأوصاف تفوق بكثير ما أوقعه البابليون بقيادة بختنصر بهم.

يقول أحد الكتاب واصفا ما حل باليهود على يد «تيطس» الرومانى : كان «تيطس» في الثلاثين من عمره ، حين وقف سنة ٧٠ م أمام أسوار أورشليم على رأس جيشه ، بعد أن بدأت المدينة تعانى من أهوال الحصار.

وبعد أن اقتحم «تيطس» وجنوده المدينة ، أصدر أمره إليهم : أن احرقوا وانهبوا واقتلوا ، فأموال اليهود وأعراضهم حلال لكم ، وقد أحرق الرومان معبد اليهود ودمروه ، وتحققت نبوءة المسيح ـ عليه‌السلام ـ حين قال : ستلقى هذه الأرض بؤسا وعنتا ، وسيحل الغضب على أهلها ، وسيسقطون صرعى على حد السيف ، ويسيرون عبيدا إلى كل مصر ، وستطأ أورشليم الأقدام (٢).

٣ ـ النكبة التي أنزلها الرومان بهم ـ من حيث آثارها ـ أشنع بكثير من النكبة التي أنزلها بختنصر بهم. لأنهم بعد تنكيل بختنصر بهم وأخذهم أسرى إلى بلاده وبقائهم في الأسر زهاء خمسين سنة عادوا إلى ديارهم مرة أخرى ، بمساعدة «قورش» ملك الفرس ، الذي انتصر على «بختنصر» سنة ٥٣٨ ق. م تقريبا ، وبدءوا يتكاثرون من جديد.

أما بعد تنكيل «تيطس» بهم فلم تقم لهم قائمة ، ومزقوا في الأرض شر ممزق ، وانقطع دابرهم كأمة.

وقد صرح بهذا المعنى صاحب تاريخ الإسرائيليين فقال بعد وصفه لما أوقعه «تيطس» بهم من ضربات : إلى هنا ينتهى تاريخ الإسرائيليين كأمة ، فإنهم بعد خراب أورشليم على يد «تيطس» تفرقوا في جميع بلاد الله ، وتاريخهم بعد ذلك ملحق بتاريخ الممالك التي توطنوها أو نزلوا فيها (٣) ...

__________________

(١) من كتاب «تاريخ الإسرائيليين» ص ٧٦ لشاهين مكاريوس.

(٢) من مقال للاستاذ عمر طلعت زهران عنوانه «تدمير أورشليم» نشر بمجلة الأزهر المجلد ٢١ ص ٤٧.

(٣) تاريخ الإسرائيليين ص ٧٧ لشاهين مكاريوس.

٣٠٠