التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٨

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٨

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0668-X
الصفحات: ٥٩٧

أى : وبال يوم السبت ولعنته (عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) ، وهم اليهود ، حيث استحله بعضهم فاصطادوا فيه ، فعذبوا ومسخوا .. وثبت بعضهم على تحريمه فلم يصطد فيه ، فلم يعذبوا .. والقول الأول أقرب إلى الصحة (١).

وقال الإمام ابن كثير : وقد ثبت في الصحيحين عن أبى هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة ، بيد أنهم ـ أى أهل الكتاب ـ أوتوا الكتاب من قبلنا ، ثم هذا يومهم الذي فرض الله عليهم ـ أى يوم الجمعة ـ فاختلفوا فيه ، فهدانا الله له ، فالناس لنا فيه تبع ، اليهود غدا والنصارى بعد غد» (٢).

ثم بين ـ سبحانه ـ حكمه العادل فيهم فقال : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ). أى : وإن ربك ـ أيها الرسول الكريم ـ ليحكم بين هؤلاء المختلفين يوم القيامة ، بأن ينزل بهم العقوبة التي يستحقونها بسبب مخالفتهم لنبيهم ، وإعراضهم عن طاعته فيما أمرهم به من تعظيم يوم الجمعة.

ويصح أن يكون المعنى : وإن ربك ليحكم بحكمه العادل بين هؤلاء اليهود الذين اختلفوا في شأن يوم السبت ، حيث استحله بعضهم ، وحرمه البعض الآخر ، فيجازى كل فريق بما يستحقه من ثواب أو عقاب.

وبذلك نرى الآيات الكريمة قد مدحت إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ مدحا عظيما ، وذكرت جانبا من المآثر التي أكرمه الله ـ تعالى ـ بها ، وبرأته مما ألصقه به المشركون وأهل الكتاب من تهم باطلة ، ودعاوى كاذبة.

ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة الكريمة بتلك الآيات الجامعة لآداب الدعوة إلى الله ، والهادية إلى مكارم الأخلاق ، فقال ـ تعالى ـ :

(ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١٢٥)

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٦٠٥.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٥٩١.

٢٦١

وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (١٢٦) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (١٢٧) إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) (١٢٨)

والخطاب في قوله ـ تعالى ـ : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ) للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويدخل فيه كل مسلم يصلح للدعوة إلى الله ـ عزوجل ـ.

أى : ادع ـ أيها الرسول الكريم ـ الناس إلى سبيل ربك أى : إلى دين ربك وشريعته التي هي شريعة الإسلام (بِالْحِكْمَةِ) أى : بالقول المحكم الصحيح الموضح للحق ، المزيل للباطل ، الواقع في النفس أجمل موقع.

وحذف ـ سبحانه ـ مفعول الفعل (ادْعُ) للدلالة على التعميم ، أى ، ادع كل من هو أهل للدعوة إلى سبيل ربك.

وأضاف ـ سبحانه ـ السبيل إليه. للإشارة إلى أنه الطريق الحق ، الذي من سار فيه سعد وفاز ، ومن انحرف عنه شقي وخسر.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) وسيلة ثانية للدعوة إلى الله ـ تعالى ـ أى : وادعهم ـ أيضا ـ إلى سبيل ربك بالأقوال المشتملة على العظات والعبر التي ترقق القلوب ، وتهذب النفوس ، وتقنعهم بصحة ما تدعوهم إليه ، وترغبهم في الطاعة لله ـ تعالى ـ وترهبهم من معصيته ـ عزوجل ـ وقوله ـ تعالى ـ : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) بيان لوسيلة ثالثة من وسائل الدعوة السليمة.

أى : وجادل المعاند منهم بالطريقة التي هي أحسن الطرق وأجملها ، بأن تكون مجادلتك لهم مبنية على حسن الإقناع ، وعلى الرفق واللين وسعة الصدر فإن ذلك أبلغ في إطفاء نار غضبهم ، وفي التقليل من عنادهم ، وفي إصلاح شأن أنفسهم ، وفي إيمانهم بأنك إنما تريد من وراء مجادلتهم ، الوصول إلى الحق دون أى شيء سواه.

٢٦٢

وبذلك نرى الآية الكريمة قد رسمت أقوم طرق الدعوة إلى الله ـ تعالى ـ وعينت أحكم وسائلها ، وأنجعها في هداية النفوس.

إنها تأمر الدعاة في كل زمان ومكان أن تكون دعوتهم إلى سبيل الله لا إلى سبيل غيره : إلى طريق الحق لا طريق الباطل ، وإنها تأمرهم ـ أيضا ـ أن يراعوا في دعوتهم أحوال الناس ، وطباعهم ، وسعة مداركهم ، وظروف حياتهم ، وتفاوت ثقافاتهم.

وأن يخاطبوا كل طائفة بالقدر الذي تسعه عقولهم ، وبالأسلوب الذي يؤثر في نفوسهم ، وبالطريقة التي ترضى قلوبهم وعواطفهم.

فمن لم يقنعه القول المحكم ، قد تقنعه الموعظة الحسنة ، ومن لم تقنعه الموعظة الحسنة. قد يقنعه الجدال بالتي هي أحسن.

ولذلك كان من الواجب على الدعاة الى الحق ، أن يتزودوا بجانب ثقافتهم الدينية الأصيلة الواسعة ـ بالكثير من ألوان العلوم الأخرى كعلوم النفس والاجتماع والتاريخ ، وطبائع الأفراد والأمم .. فإنه ليس شيء أنجع في الدعوة من معرفة طبائع الناس وميولهم ، وتغذية هذه الطبائع والميول بما يشبعها من الزاد النافع ، وبما يجعلها تقبل على فعل الخير ، وتدبر عن فعل الشر.

وكما أن أمراض الأجسام مختلفة ، ووسائل علاجها مختلفة ـ أيضا ـ ، فكذلك أمراض النفوس متنوعة ، ووسائل علاجها متباينة.

فمن الناس من يكون علاجه بالمقالة المحكمة : ومنهم من يكون علاجه بالعبارة الرقيقة الرفيقة التي تهز المشاعر ، وتثير الوجدان ، ومنهم من يكون علاجه بالمحاورة والمناقشة والمناظرة والمجادلة بالتي هي أحسن ، لأن النفس الإنسانية لها كبرياؤها وعنادها ، وقلما تتراجع عن الرأى الذي آمنت به. إلا بالمجادلة بالتي هي أحسن. والحق : أن الدعاة إلى الله ـ تعالى ـ إذا فقهوا هذه الحقائق فتسلحوا بسلاح الإيمان والعلم ، وأخلصوا لله ـ تعالى ـ القول والعمل ، وفطنوا إلى أنجع الأساليب في الدعوة إلى الله ، وخاطبوا الناس على قدر عقولهم واستعدادهم .. نجحوا في دعوتهم ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

قال الآلوسى : وإنما تفاوتت طرق دعوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم لتفاوت مراتب الناس ، فمنهم خواص ، وهم أصحاب نفوس مشرقة ، قوية الاستعداد لإدراك المعاني ، مائلة إلى تحصيل اليقين على اختلاف مراتبه ، وهؤلاء يدعون بالحكمة.

ومنهم عوام ، أصحاب نفوس كدرة ضعيفة الاستعداد ، شديدة الإلف بالمحسوسات ، قوية

٢٦٣

التعلق بالرسوم والعادات ، قاصرة عن درجة البرهان ، لكن لا عناد عندهم ، وهؤلاء يدعون بالموعظة الحسنة.

ومنهم من يعاند ويجادل بالباطل ليدحض به الحق ، لما غلب عليه من تقليد الأسلاف ، ورسخ فيه من العقائد الباطلة ، فصار بحيث لا تنفعه المواعظ والعبر ، بل لا بد من إلقامه الحجر بأحسن طرق الجدال ، لتلين عريكته ، وتزول شكيمته ، وهؤلاء الذين أمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم بجدالهم بالتي هي أحسن (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) بيان لكمال علم الله ـ تعالى ـ وإحاطته بكل شيء ، وإرشاد للدعاة في شخص نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أن عليهم أن يدعوا الناس بالطريقة التي بينها ـ سبحانه ـ لهم ، ثم يتركوا النتائج له ـ تعالى ـ يسيرها كيف يشاء.

والظاهر أن صيغة التفضيل (أَعْلَمُ) في هذه الآية وأمثالها ، المراد بها مطلق الوصف لا المفاضلة ، لأن الله ـ تعالى ـ لا يشاركه أحد في علم أحوال خلقه ، من شقاوة وسعادة ، وهداية وضلال.

والمعنى : إن ربك ـ أيها الرسول الكريم ـ هو وحده العليم بمن ضل من خلقه عن صراطه المستقيم ، وهو وحده العليم بالمهتدين منهم إلى السبيل الحق وسيجازى كل فريق منهم بما يستحقه من ثواب أو عقاب.

وما دام الأمر كذلك ، فعليك ـ أيها الرسول الكريم ـ أن تسلك في دعوتك إلى سبيل ربك ، الطرق التي أرشدك إليها ، من الحكمة والموعظة الحسنة ، والمجادلة بالتي هي أحسن ، ومن كان فيه خير ـ كما يقول صاحب الكشاف ـ كفاه الوعظ القليل ، والنصيحة اليسيرة ، ومن لا خير فيه عجزت عنه الحيل ، وكأنك تضرب منه في حديد بارد (٢).

وبعد أن بين ـ سبحانه ـ أنجع أساليب الدعوة إلى سبيله في حالة المسالمة والمجادلة بالحجة والبرهان ، أتبع ذلك ببيان ما ينبغي على المسلم أن يفعله في حالة الاعتداء عليه أو على دعوته فقال ـ تعالى ـ : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ ...).

أى : وإن أردتم معاقبة من ظلمكم واعتدى عليك ، فعاقبوه بمثل ما فعله بكم ، ولا تزيدوا على ذلك ، فإن الزيادة حيف يبغضه الله ـ تعالى ـ.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٤ ص ٢٥٤.

(٢) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٤٣٥.

٢٦٤

ثم أرشدهم ـ سبحانه ـ إلى ما هو أسمى من مقابلة الشر بمثله فقال : (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ).

والضمير في قوله (لَهُوَ) يعود إلى المصدر في قوله (صَبَرْتُمْ) ، والمصدر إما أن يراد به الجنس فيكون المعنى : ولئن صبرتم فالصبر خير للصابرين ، وأنتم منهم.

وإما أن يراد به صبرهم الخاص فيكون المعنى : ولئن صبرتم عن المعاقبة بالمثل ، لصبركم خير لكم ، فوضع ـ سبحانه ـ الصابرين موضع لكم على سبيل المدح لهم ، والثناء عليهم بصفة الصبر.

هذا ، وقد ذكر جمع من المفسرين أن هذه الآية الكريمة نزلت في أعقاب غزوة أحد ، بعد أن مثل المشركون بحمزة ـ رضى الله عنه ـ.

قال الإمام ابن كثير ما ملخصه : روى الحافظ البزار عن أبى هريرة ـ رضى الله عنه ـ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقف على حمزة بن عبد المطلب حين استشهد. فنظر الى منظر لم ينظر أوجع للقلب منه.

وقد مثل المشركون به. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : رحمة الله عليك ، لقد كنت وصولا للرحم ، فعولا للخيرات. والله لولا حزن من بعدك عليك لسرني أن أتركك حتى يحشرك الله من بطون السباع. أما والله لأمثلن بسبعين منهم مكانك. فنزلت هذه الآية. فكفر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن يمينه.

ثم قال ابن كثير بعد روايته لهذا الحديث : وهذا إسناد فيه ضعف لأن أحد رواته وهو «صالح بن بشير المري» ضعيف عند الأئمة. وقال البخاري هو منكر الحديث.

ثم قال ابن كثير ـ رحمه‌الله ـ : وروى عبد الله بن الإمام أحمد في مسند أبيه عن أبى بن كعب ، قال : لما كان يوم أحد قتل من الأنصار ستون رجلا ، ومن المهاجرين ستة ، فقال أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لئن كان لنا يوم مثل هذا اليوم من المشركين لنمثلن بهم ، فلما كان يوم الفتح قال رجل : لا تعرف قريش بعد اليوم. فنادى مناد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أمن الأبيض والأسود إلا فلانا وفلانا ـ ناسا سماهم ـ ، فنزلت الآية.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «نصبر ولا نعاقب» (١).

والذي نراه أن الآية الكريمة ـ حتى ولو كان سبب نزولها ما ذكر ـ إلا أن التوجيهات التي

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٥٩٦.

٢٦٥

اشتملت عليها صالحة لكل زمان ومكان ، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وعلى رأس هذه التوجيهات السامية التي اشتملت عليها : دعوة المسلمين الى التزام العدالة في أحكامهم ، وحضهم على الصبر والصفح ما دام ذلك لا يضر بمصلحتهم ومصلحة الدعوة الإسلامية.

وشبيه بهذه الآية الكريمة قوله ـ تعالى ـ : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ، فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ ...) (١).

ثم أمر ـ سبحانه ـ بالصبر أمرا صريحا ، بعد أن بين حسن عاقبته فقال : (وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ ...).

أى : : واصبر ـ أيها الرسول الكريم ـ على أذى قومك ، وما صبرك في حال من الأحوال بمؤت ثماره المرجوة منه إلا بتوفيق الله ـ تعالى ـ لك ، وبتثبيته إياك ، وما دام الأمر كذلك فالجأ إليه وحده ، واستعن به ـ سبحانه ـ في كل أمورك ، فالاستثناء مفرغ من أعم الأحوال.

ثم نهاه ـ سبحانه ـ عن الحزن بسبب كفر الكافرين ، فإن الهداية والإضلال بقدرة الله وحده فقال ـ تعالى ـ : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ).

أى ولا تحزن بسبب كفر الكافرين ، وإصرارهم على ذلك ، وإعراضهم عن دعوتك ، ولا يضق صدرك بمكرهم ، فإن الله ـ تعالى ـ ناصرك عليهم ، ومنجيك من شرورهم.

وقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) تعليل لما سبق من أمره بالصبر ، ومن نهيه عن الحزن وضيق الصدر.

أى : إن الله ـ تعالى ـ بمعونته وتأييده مع الذين اتقوه في كل أحوالهم ، وصانوا أنفسهم عن كل ما لا يرضاه. ومع الذين يحسنون القول والعلم ، بأن يؤدوهما بالطريقة التي أمر الإسلام بها ، ومن كان الله ـ تعالى ـ معه ، سعد في دنياه وفي أخراه.

وقد قيل لبعض الصالحين وهو يحتضر : أوص. فقال : إنما الوصية من المال. ولا مال لي ،

__________________

(١) سورة الشورى الآية ٤٠.

٢٦٦

ولكني أوصيكم بالعمل بخواتيم سورة النحل.

وبعد فهذه سورة النحل ، وهذا تفسير لها. نسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعله خالصا لوجهه ، ونافعا لعباده.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

د. محمد سيد طنطاوى

المدينة المنورة : مساء الثلاثاء ٢٧ من ذي الحجة ١٤٠٣ ه‍

الموافق ٤ / ١٠ / ١٩٨٣ م

٢٦٧
٢٦٨

تفسير

سورة الأسراء

٢٦٩
٢٧٠

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدّمة

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله ، وعلى آله وأصحابه وأتباعه ، ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.

وبعد : فهذا تفسير لسورة الإسراء ، أسأل الله ـ عزوجل ـ أن يجعله خالصا لوجهه ، ونافعا لعباده ، إنه سميع مجيب.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

المدينة المنورة في ٥ / ١ / ١٤٠٤ ه‍

الموافق ١٠ / ١٠ / ١٩٨٣ م

المؤلف

د. محمد سيد طنطاوى

٢٧١
٢٧٢

تعريف بسورة الإسراء

١ ـ سورة الإسراء هي السورة السابعة عشرة في ترتيب المصحف ، فقد سبقتها سورة : الفاتحة ، والبقرة ، وآل عمران ، والنساء .... إلخ.

أما ترتيبها في النزول ، فقد ذكر السيوطي في الإتقان أنها السورة التاسعة والأربعون ، وأن نزولها كان بعد سورة القصص (١).

٢ ـ وتسمى ـ أيضا ـ بسورة بنى إسرائيل ، وبسورة «سبحان» ، وعدد آياتها عند الجمهور إحدى عشرة آية ومائة ، وعند الكوفيين عشر آيات ومائة آية.

٣ ـ ومن الأحاديث التي وردت في فضلها ، ما رواه البخاري في صحيحه عن ابن مسعود ـ رضى الله عنه ـ أنه قال في بنى إسرائيل ، والكهف ومريم : إنهن من العتاق الأول ، وهنّ من تلادى (٢).

والعتاق : جمع عتيق وهو القديم ، وكذلك التالد بمعنى القديم. ومراده ـ رضى الله عنه ـ أن هذه السور من أول ما حفظه من القرآن.

وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا حماد بن زيد ، عن مروان عن أبى لبابة ، قال : سمعت عائشة ـ رضى الله عنها ـ تقول : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصوم حتى نقول : ما يريد أن يفطر ، ويفطر حتى نقول : ما يريد أن يصوم ، وكان يقرأ كل ليلة : «بنى إسرائيل» و «الزمر» (٣).

٤ ـ ومن وجوه مناسبة هذه السورة لما قبلها ، ما ذكره أبو حيان بقوله : «ومناسبة هذه لما قبلها ، أنه ـ تعالى ـ لما أمره ـ في آخر النحل ـ بالصبر ، ونهاه عن الحزن عليهم ، وعن أن يضيق صدره من مكرهم ، وكان من مكرهم نسبته إلى الكذب والسحر والشعر ، وغير ذلك مما رموه به ، أعقب ـ تعالى ـ ذلك بذكر شرفه ، وفضله ، واحتفائه به ، وعلو منزلته عنده» (٤).

__________________

(١) الإتقان في علوم القرآن للسيوطي ج ١ ص ٢٧ طبعة المشهد الحسيني.

(٢ ، ٣) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ٣ ـ طبعة مكتبة الشعب.

(٤) تفسير البحر المحيط لأبى حيان ج ٦ ص ٣.

٢٧٣

٥ ـ وسورة الإسراء من السور المكية ، ومن المفسرين الذين صرحوا بذلك دون أن يذكروا خلافا في كونها مكية. الزمخشري ، وابن كثير ، والبيضاوي ، وأبو حيان.

وقال الآلوسى : وكونها كذلك بتمامها قول الجمهور.

وقيل : هي مكية إلا آيتين : (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ) ... (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ).

وقيل : إلا أربعا ، هاتان الآيتان ، وقوله ـ تعالى ـ : (وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ ...).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ ...) (١).

والذي تطمئن إليه النفس أن سورة الإسراء بتمامها مكية ـ كما قال جمهور المفسرين ـ لأن الروايات التي ذكرت في كون بعض آياتها مدنية ، لا تنهض دليلا على ذلك لضعفها ...

والذي يغلب على الظن أن نزول هذه السورة الكريمة : أو نزول معظمها ، كان في أعقاب حادث الإسراء والمعراج.

وذلك لأن السورة تحدثت عن هذا الحدث ، كما تحدثت عن شخصية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم حديثا مستفيضا ، وحكت إيذاء المشركين له ، وتطاولهم عليه ، وتعنتهم معه ، كمطالبتهم إياه بأن يفجر لهم من الأرض ينبوعا ...

وقد ردت السورة الكريمة على كل ذلك ، بما يسلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويثبته ، ويرفع منزلته ، ويعلى قدره ... في تلك الفترة الحرجة من حياته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي الفترة التي أعقبت موت زوجه السيدة خديجة ـ رضى الله عنها ـ وموت عمه أبى طالب ...

٦ ـ (أ) وعند ما نقرأ سورة الإسراء نراها في مطلعها تحدثنا عن إسراء الله ـ تعالى ـ بنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، وعن الكتاب الذي آتاه الله ـ تعالى ـ لموسى ـ عليه‌السلام ـ ليكون هداية لقومه ، وعن قضاء الله في بنى إسرائيل ...

قال ـ تعالى ـ : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ، الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ ، لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ. وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ ، أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً. ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ٢.

٢٧٤

شَكُوراً. وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً) ..

(ب) ثم يبين ـ سبحانه ـ بعد ذلك أن هذا القرآن قد أنزله ـ سبحانه ـ على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليهدى الناس إلى الطريق الأقوم ، وليبشر المؤمنين بالأجر الكبير ، وأن كل إنسان مسئول عن عمله ، وسيحاسب عليه يوم القيامة ، دون أن تحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى ...

قال ـ تعالى ـ : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ، وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ ، أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً ...).

إلى أن يقول ـ سبحانه ـ : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ، وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً* اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً* مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها ، وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ، وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً).

(ج) ثم تسوق السورة الكريمة سنة من سنن الله في خلقه ، وهي أن عاقبة الترف والفسق ، الدمار والهلاك ، وأن من يريد العاجلة كانت نهايته إلى جهنم ، ومن يريد الآخرة ويقدم لها العمل الصالح كانت نهايته إلى الجنة.

استمع إلى القرآن الكريم وهو يصور هذه المعاني بأسلوبه البليغ فيقول : (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها. فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً. وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ. وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً. مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ، ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً. وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً).

(د) وبعد أن بين ـ سبحانه ـ أن سعادة الآخرة منوطة بإرادتها ، وبأن يسعى الإنسان لها وهو مؤمن ، عقب ذلك بذكر بضع وعشرين نوعا من أنواع التكاليف ، التي متى نفذها المسلم ظفر برضى الله ـ تعالى ـ ومثوبته ، ومن تلك التكاليف قوله ـ تعالى ـ : (لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ).

(وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) ...

(وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً ..).

(وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ...).

٢٧٥

(وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً).

(وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ).

(وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ).

(وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ).

(وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ..).

(وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً ..).

(ه) وبعد أن ساقت السورة الكريمة تلك التكاليف المحكمة التي لا يتطرق إليها النسخ أو النقض ، في ثماني عشرة آية ، أتبعت ذلك بالثناء على القرآن الكريم ، وبتنزيه الله ـ تعالى ـ عن الشريك ، وببيان أن كل شيء يسبح بحمده ـ عزوجل ـ.

قال ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً. قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ ، إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً. سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً. تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ، إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً).

(و) ثم تحكى السورة الكريمة جانبا من أقوال المشركين ، وترد عليها بما يدحضها ، وتأمر المؤمنين بأن يقولوا الكلمة التي هي أحسن .. فتقول :.

(وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً. قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً. أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ، فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ، فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ ، قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً. يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ ، وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً. وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ، إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً).

(ز) وبعد أن تقرر السورة الكريمة شمول علم الله ـ تعالى ـ لكل شيء ، وقدرته على كل شيء ، بعد أن تقرر ذلك ، تحكى لنا جانبا من قصة آدم وإبليس فتقول :.

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً. قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ ، لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً. قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً).

(ح) ثم تسوق السورة بعد ذلك ألوانا من نعم الله على عباده في البر والبحر ، وألوانا من

٢٧٦

تكريمه لبنى آدم ، كما تصور أحوال الناس يوم القيامة ، وعدالة الله ـ تعالى ـ في حكمه عليهم فتقول :

(وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ ، فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً. أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ ، أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً ..).

ثم يقول ـ سبحانه ـ : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ ، وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ، وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ، وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً. يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ ، فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً ..).

(ط) ثم تحكى السورة جانبا من نعم الله ـ تعالى ـ على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث ثبته ـ سبحانه ـ أمام مكر أعدائه ، وأمره بالمداومة على الصلاة وعلى قراءة القرآن ، لأن ذلك يزيده ثباتا على ثباته ، وتكريما على تكريمه.

قال ـ تعالى ـ : (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ ، وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً. وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً).

(ى) ثم يقول ـ سبحانه ـ : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً. وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً. وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ ، وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً ..)

(ك) وبعد أن تقرر السورة الكريمة طبيعة الإنسان ، وتقرر أن الروح من أمر الله ـ تعالى ـ تتبع ذلك بالثناء على القرآن الكريم ، وببيان أنه المعجزة الخالدة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبإيراد المطالب المتعنتة التي طالب المشركون بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

استمع إلى القرآن الكريم وهو يقرر كل ذلك بأسلوبه البليغ فيقول : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً. وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً. وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً. أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً. أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً ، أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً. أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ ، قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً).

٢٧٧

(ل) ثم تسوق السورة الكريمة في أواخرها الدلائل الدالة على وحدانية الله ـ تعالى ـ وقدرته ، وتحكى جانبا من قصة موسى ـ عليه‌السلام ـ مع فرعون وتؤكد أن هذا القرآن أنزله الله ـ تعالى ـ بالحق ، وبالحق نزل ، وأنه نزله مفرقا ليقرأه الناس على تؤدة وتدبر.

وكما افتتحت السورة الكريمة بالثناء على الله ـ تعالى ـ ، فقد اختتمت بحمد الله ـ تعالى ـ وتكبيره. قال ـ تعالى ـ :

(وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً).

(م) وبعد فهذا عرض إجمالى لأهم الموضوعات والمقاصد التي اشتملت عليها سورة الإسراء. ومن هذا العرض يتبين لنا ما يلى :.

١ ـ أن سورة الإسراء ـ كغيرها من السور المكية ـ قد اهتمت اهتماما بارزا بتنقية العقيدة من كل ما يشوبها من شرك أو انحراف عن الطريق المستقيم.

وقد ساقت السورة في هذا المجال أنواعا متعددة من البراهين على وحدانية الله ـ تعالى ـ وعلمه وقدرته ، ووجوب إخلاص العبادة له ، وعلى تنزيهه ـ سبحانه ـ عن الشريك ، ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ :

(أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً. وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً. قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ ، إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً. سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً).

٢ ـ كذلك على رأس الموضوعات التي فصلت السورة الحديث عنها ، شخصية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد ابتدأت بإسراء الله ـ تعالى ـ به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، حيث أراه ـ سبحانه ـ من آياته ما أراه ، ثم تحدثت عن طبيعة رسالته ، وعن مزاياها ، وعن موقف المشركين منه ، وعن المطالب المتعنتة التي طلبوها منه ، وعن تثبيت الله ـ تعالى ـ له ، وعن تبشيره بحسن العاقبة ...

قال ـ تعالى ـ : (وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً).

٣ ـ من الواضح ـ أيضا ـ أن سورة الإسراء اعتنت بالحديث عن القرآن الكريم ، من حيث هدايته ، وإعجازه ، ومنع الذين لا يؤمنون به عن فقهه ، واشتماله على ما يشفى الصدور ، وتكراره للبينات والعبر بأساليب مختلفة ، ونزوله مفرقا ليقرأه الناس على مكث ..

٢٧٨

ومن الآيات التي وردت في ذلك قوله ـ تعالى ـ :

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ...).

(وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً ..).

(وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ..).

(وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ ، وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً. وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ ، وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً ..).

٤ ـ اهتمت السورة الكريمة اهتماما بينا ، بالحديث عن التكاليف الشرعية ، المتضمنة لقواعد السلوك الفردى والجماعى.

وقد ذكرت السورة أكثر من عشرين تكليفا ، في آيات متتالية ، بدأت بقوله ـ تعالى ـ : (لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً) الآية ٢٢ وانتهت بقوله ـ تعالى ـ : (كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً) الآية ٣٨.

وبجانب حديثها المستفيض عن التكاليف الشرعية ، تحدثت ـ أيضا ـ عن طبيعة الإنسان في حالتي العسر واليسر ، وعن بخله الشديد بما يملكه ...

قال ـ تعالى ـ : (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ ، وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً).

وقال ـ سبحانه ـ : (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي ، إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً).

٥ ـ ومن الجوانب التي حرصت السورة الكريمة على تجليتها والكشف عنها : بيان سنن الله التي لا تتخلف في الهداية والإضلال ، وفي الثواب والعقاب ، وفي النصر والخذلان ، وفي الرحمة والإهلاك ، ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ :

(مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها ، وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ، وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً).

(وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها ، فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً).

(يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً. وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً).

٢٧٩

(إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ ، وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها ...).

هذه بعض المقاصد الإجمالية التي اشتملت عليها سورة الإسراء ، وهناك مقاصد أخرى يراها المتأمل فيها ، والمتدبر لآياتها ، وحسبك من القلادة ما أحاط بالعنق.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

د. محمد سيد طنطاوى

٢٨٠