التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٨

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٨

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0668-X
الصفحات: ٥٩٧

قال بعض العلماء. سئل القاضي إسماعيل (١) البصري عن السر في تطرّق التغيير للكتب السالفة ، وسلامة القرآن من ذلك فأجاب بقوله : إن الله أوكل للأحبار حفظ كتبهم فقال : «بما استحفظوا من كتاب الله» وتولى ـ سبحانه ـ حفظ القرآن بذاته فقال : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (٢).

وقد ذكر الإمام القرطبي ما يشبه ذلك نقلا عن سفيان بن عيينة في قصة طويلة (٣).

والخلاصة ، أن سلامة القرآن من أى تحريف ـ رغم حرص الأعداء على تحريفه ورغم ما أصاب المسلمين من أحداث جسام ، ورغم تطاول القرون والدهور ـ دليل ساطع على أن هناك قوة خارقة ـ خارجة عن قوة البشر ـ قد تولت حفظ هذا القرآن ، وهذه القوة هي قوة الله ـ عزوجل ـ ولا يمارى في ذلك إلا الجاحد الجهول ...

ثم ساق ـ سبحانه ـ بعد ذلك من الآيات ما فيه تعزية وتسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما أصابه من سفهاء قومه ، فأخبره بأن ما أصابه منهم يشبه ما فعله المكذبون السابقون مع رسلهم ، فقال ـ تعالى ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ. وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ. كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ. لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ).

قال الجمل : «لما أساءوا في الأدب ، وخاطبوه صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطاب السفاهة ، حيث قالوا له : «إنك لمجنون» ، سلّاه الله فقال له : إن عادة الجهال مع جميع الأنبياء كانت هكذا ، وكانوا يصبرون على أذى الجهال. ويستمرون على الدعوة والإنذار ، فاقتد أنت بهم في ذلك ...» (٤).

والشيع جمع شيعة وهي الطائفة من الناس المتفقة على طريقة ومذهب واحد ، من شاعه إذا تبعه ، وأصله ـ كما يقول القرطبي ـ مأخوذ من الشياع وهو الحطب الصغار توقد به الكبار.

والمعنى : ولقد أرسلنا من قبلك ـ أيها الرسول الكريم ـ رسلا كثيرين ، في طوائف الأمم الأولين ، فدعا الرسل أقوامهم إلى ما دعوت إليه أنت قومك من وجوب إخلاص العبادة لله ـ تعالى ـ ، فما كان من أولئك المدعوين السابقين إلا أن قابلت كل فرقة منهم رسولها بالسخرية والاستهزاء ، كما قابلك سفهاء قومك.

__________________

(١) هو القاضي إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد الأزدى البصري ولد سنه ٢٠٠ ه‍ وتوفى سنة ٢٨٢. كان من الأئمة الأعلام في التفسير والحديث والفقه.

(٢) تفسير التحرير والتنوير ج ١٤ ص ٢١ لسماحة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور.

(٣) راجع تفسير القرطبي ج ١٠ ص ٥.

(٤) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٥٢٩.

٢١

وذلك لأن المكذبين في كل زمان ومكان يتشابهون في الطباع الذميمة ، وفي الأخلاق القبيحة : كمال قال ـ تعالى ـ (كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ. أَتَواصَوْا بِهِ ، بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) (١).

والجار والمجرور (مِنْ قَبْلِكَ) متعلق بأرسلنا ، أو بمحذوف وقع نعتا لمفعوله المحذوف. أى : ولقد أرسلنا رسلا كائنة من قبلك.

وإضافة الشيع إلى الأولين من إضافة الموصوف إلى صفته عند بعض النحاة ، أو من حذف الموصوف عند البعض الآخر ، أى شيع الأمم الأولين.

وعبر بقوله ـ سبحانه ـ (إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) للإشعار بأن الاستهزاء بالرسل كان طبيعة فيهم ـ كما يومئ إليه لفظ كان ، وأنه متكرر منهم ـ كما يفيده التعبير بالفعل المضارع ـ والكاف في قوله (كَذلِكَ نَسْلُكُهُ ..) للتشبيه ، واسم الإشارة «ذلك» يعود إلى السلك المأخوذ من نسلكه.

والسلك مصدر سلك ـ من باب نصر ـ وهو إدخال الشيء في الشيء ، كإدخال الخيط في المخيط.

والضمير المنصوب في «نسلكه» يعود إلى القرآن الكريم الذي سبق الحديث عنه.

والمراد بالمجرمين في قوله (فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) مشركو قريش ومن لف لفهم.

والمعنى : كما سلكنا كتب الرسل السابقين في قلوب أولئك المستهزئين نسلك القرآن في قلوب هؤلاء المجرمين من قومك يا محمد ، بأن نجعلهم يسمعونه ويفهمونه ويدركون خصائصه دون أن يستقر في قلوبهم استقرار تصديق وإذعان لاستيلاء الجحود والعناد والحسد عليهم.

وقوله (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ) بيان للسلك المشبه به ، أو حال من المجرمين.

أى : أدخلنا القرآن في قلوبهم ففهموه ، ولكنهم لا يؤمنون به عنادا وجحودا.

وعلى هذا التفسير يكون الضمير في (نَسْلُكُهُ) وفي (بِهِ) يعودان إلى القرآن الكريم ، الذي سبق الحديث عنه في قوله ـ تعالى ـ (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ).

ومن المفسرين الذين ذكروا هذا الوجه ولم يذكروا سواه صاحب الكشاف ، فقد قال : «والضمير في قوله (نَسْلُكُهُ) ، للذكر : أى : مثل ذلك السلك ونحوه نسلك الذكر(فِي

__________________

(١) سورة الذاريات الآيتان ٥٢ ، ٥٣.

٢٢

قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) على معنى أن يلقيه في قلوبهم مكذبا مستهزئا به غير مقبول ، كما لو أنزلت بلئيم حاجة فلم يجبك إليها : فقلت : كذلك أنزلها باللئام : تعنى مثل هذا الإنزال أنزلها بهم مردودة غير مقضية.

ومحل قوله (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ) النصب على الحال ، أى : غير مؤمن به. أو هو بيان لقوله (كَذلِكَ نَسْلُكُهُ ..) (١).

وقد زكى هذا الوجه صاحب الانتصاف فقال : والمراد ـ والله أعلم ـ إقامة الحجة على المكذبين ، بأن الله ـ تعالى ـ سلك القرآن في قلوبهم ، وأدخله في سويدائها ، كما سلك ذلك في قلوب المؤمنين المصدقين ، فكذب به هؤلاء ، وصدق به هؤلاء ، كل على علم وفهم (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ...) ، ولئلا يكون للكفار حجة بأنهم ما فهموا وجوه الإعجاز كما فهمها من آمن ...» (٢).

ويرى بعض المفسرين ـ كالإمام ابن جرير ـ أن الضمير في نسلكه يعود إلى الكفر الذي سلكه الله في قلوب المكذبين السابقين ، أما الضمير في (بِهِ) فيعود إلى القرآن الكريم ، فقد قال : قوله ـ تعالى ـ (كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهِ ...)

يعنى : كما سلكنا الكفر في قلوب شيع الأولين بالاستهزاء بالرسل ، كذلك نفعل ذلك في قلوب مشركي قومك الذين أجرموا بسبب الكفر بالله.

(لا يُؤْمِنُونَ بِهِ) يقول : لا يصدقون بالذكر الذي أنزل إليك. (٣).

ومع أن هذا التفسير الذي ارتضاه شيخ المفسرين ابن جرير له وجاهته ، إلا أننا نميل إلى التفسير الأول الذي ارتضاه صاحب الكشاف ، لأنه هو المتبادر من معنى الآية ، ومن المفسرين الذين رجحوا ذلك الفخر الرازي ، فقد قال ـ رحمه‌الله ـ خلال كلام طويل ما ملخصه : «التأويل الصحيح أن الضمير في قوله ـ تعالى ـ (كَذلِكَ نَسْلُكُهُ) عائد إلى الذكر ، الذي هو القرآن ، فإنه ـ تعالى ـ قال قبل هذه الآية (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) وقال بعده (كَذلِكَ نَسْلُكُهُ) أى : هكذا نسلك القرآن في قلوب المجرمين.

والمراد من هذا السلك ، هو أنه ـ تعالى ـ يسمعهم هذا القرآن ، ويخلق في قلوبهم حفظه والعلم بمعانيه. إلا أنهم مع هذه الأحوال لا يؤمنون به عنادا وجهلا ..

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٣٨٨.

(٢) حاشية الكشاف ج ٢ ص ٣٨٨.

(٣) تفسير ابن جرير ج ١٤ ص ٩.

٢٣

ويدل على صحة هذا التأويل ، أن الضمير في قوله (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ) عائد على القرآن بالإجماع ، فوجب أن يكون الضمير في (نَسْلُكُهُ) عائدا إليه ـ أيضا ـ لأنهما ضميران متعاقبان فيجب عودهما إلى شيء واحد ...» (١).

وقوله ـ سبحانه ـ (وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) تهديد لهؤلاء المكذبين من كفار مكة ومن سار على شاكلتهم ، وتكملة للتسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

أى : وقد مضت سنة الله التي لا تتخلف وطريقته المألوفة بأن ينزل عذابه بالمجرمين ، كما أنزله بالأمم الماضية ، بسبب تكذيبها لرسلها ، واستهزائها بهم فلا تحزن ـ أيها الرسول الكريم ـ لما أصابك من سفهاء قومك فسننصرك عليهم.

وأضاف ـ سبحانه ـ السنة إلى الأولين ، باعتبار تعلقها بهم ، وإنما هي سنة الله فيهم لأنها المقصود هنا ، والإضافة لأدنى ملابسة.

ثم ختم ـ سبحانه ـ هذه الآيات الكريمة برسم صورة عجيبة لعناد هؤلاء المكذبين ولجحودهم للحق بعد ما تبين فقال : (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ ، لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ).

وقوله ـ سبحانه ـ (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ ..) معطوف على قوله (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ ..) لإبطال معاذيرهم ، ولبيان أن سبب عدم إيمانهم هو الجحود والعناد ، وليس نقصان الدليل والبرهان على صحة ما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال الإمام الرازي. وقوله ـ تعالى ـ (فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ) يقال : ظل فلان نهاره يفعل كذا ، إذا فعله بالنهار ، ولا تقول العرب ظل يظل إلا لكل عمل بالنهار ، كما لا يقولون بات يبيت إلا بالليل. والمصدر الظلول (٢).

ويعرجون : من العروج ، وهو الذهاب في صعود ، وفعله من باب دخل ، يقال عرج فلان إلى الجبل يعرج إذا صعد ، ومنه المعراج والمعارج أى المصاعد.

وقوله (سُكِّرَتْ) من السّكر ـ بفتح السين المشددة وسكون الكاف ـ بمعنى السد والحبس والمنع ، يقال سكرت الباب أسكره سكرا ، إذا سددته ، والتشديد في (سُكِّرَتْ) للمبالغة ، وهو قراءة الجمهور. وقرأ ابن كثير (سُكِّرَتْ) ، بكسر الكاف بدون تشديد.

__________________

(١) راجع تفسير الفخر الرازي ج ٩ ص ٦٣ طبعة عبد الرحمن محمد.

(٢) تفسير الفخر الرازي ج ١٩ ص ١٦٦.

٢٤

وقوله (مَسْحُورُونَ) اسم مفعول من السحر ، بمعنى الخداع والتخييل والصرف عن الشيء إلى غيره.

والمعنى : أن هؤلاء المشركين بلغ بهم الغلو في الكفر والعناد ، أننا لو فتحنا لهم بابا من أبواب السماء ، ومكناهم من الصعود إليه ، فظلوا في ذلك الباب يصعدون ، ويطلعون على ملكوت السموات وما فيها من الملائكة والعجائب لقالوا بعد هذا التمكين والاطلاع ـ لفرط عنادهم وجحودهم ـ إنما أبصارنا منعت من الإبصار ، وما نراه ما هو إلا لون من الخداع والتخييل والصرف عن إدراك الحقائق بسبب سحر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لنا وعلى هذا التفسير الذي سار عليه جمهور المفسرين ، يكون الضمير في قوله (فَظَلُّوا) يعود إلى هؤلاء المشركين المعاندين.

وقيل الضمير للملائكة ، فيكون المعنى : فظل الملائكة في هذا الباب يعرجون ، والكفار يشاهدونهم وينظرون إليهم ، فقالوا ـ أى الكفار ـ بعد كل ذلك ، «إنما سكرت أبصارنا ..».

وعلى كلا الرأيين فالآية الكريمة تصور أكمل تصوير ، مكابرة الكافرين وعنادهم المزرى.

وعبر ـ سبحانه ـ بقوله (فَظَلُّوا ..) ليدل على أن عروجهم كان في وضح النهار ، بحيث لا يخفى عليهم شيء مما يشاهدونه.

وجمعوا في قولهم بين أداة الحصر (إِنَّما) وبين أداة الإضراب (بَلْ) للدلالة على البت بأن ما يرونه لا حقيقة له ، بل هو باطل ، وما يرونه ما هو إلا من تخيلات المسحور.

وقالوا «بل نحن قوم مسحورون» ولم يقولوا بل نحن مسحورون ، للإشعار بأن السحر قد تمكن منهم جميعا ، ولم يخص بعضا منهم دون بعض.

قال الشوكانى : وفي هذا البيان لعنادهم العظيم الذي لا يقلعهم عنه شيء من الأشياء كائنا ما كان ، فإنهم إذا رأوا آية توجب عليهم الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ، نسبوا إلى أبصارهم أن إدراكها غير حقيقى لعارض الانسداد أو أن عقولهم قد سحرت فصار إدراكهم غير صحيح. ومن بلغ في التعنت إلى هذا الحد ، فلا تنفع فيه موعظة ولا يهتدى بآية» (١).

وبذلك نجد السورة الكريمة قد حدثتنا في خمس عشرة آية من مطلعها إلى هنا ، عن سمو

__________________

(١) تفسير فتح القدير ج ٣ ص ١٢٣.

٢٥

منزلة القرآن الكريم ، وعن حسرات الكافرين يوم تتجلى لهم الحقائق ، وعن استهزائهم بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعن رد القرآن عليهم ؛ وعن تسلية الله ـ تعالى ـ لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما أصابه منهم ...

ثم انتقلت السورة بعد ذلك ، فساقت ألوانا من النعم الدالة على وحدانية الله ـ تعالى ـ وعظيم قدرته ، وبديع صنعه ، وشمول علمه ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (١٦) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (١٧) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (١٨) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (١٩) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (٢٠) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١) وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (٢٢) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (٢٣) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (٢٥)

قال الإمام القرطبي ما ملخصه : لما ذكر ـ سبحانه ـ كفر الكافرين ، وعجز أصنامهم ، ذكر كمال قدرته ليستدل بها على وحدانيته.

والبروج : القصور والمنازل. قال ابن عباس. أى جعلنا في السماء بروج الشمس والقمر ، أى : منازلهما. وأسماء هذه البروج : الحمل والثور والجوزاء والسرطان ، والأسد ، والسنبلة ، والميزان ، والعقرب ، والقوس ، والجدى ، والدلو ، والحوت.

٢٦

والعرب تعد المعرفة لمواقع النجوم وأبوابها من أجل العلوم ، ويستدلون بها على الطرقات والأوقات والخصب والجدب ...

وقال الحسن وقتادة : البروج : النجوم ، وسميت بذلك لظهورها وارتفاعها ...

وقيل البروج : الكواكب العظام ... (١).

قال بعض العلماء ومرجع الأقوال كلها إلى شيء واحد ، لأن أصل البروج في اللغة الظهور ، ومنه تبرج المرأة ، بإظهار زينتها ، فالكواكب ظاهرة ، والقصور ظاهرة ، ومنازل الشمس والقمر كالقصور بجامع أن الكل محل ينزل فيه .. (٢).

و (جَعَلْنا) أى خلقنا وأبدعنا ، فيكون قوله (فِي السَّماءِ) متعلقا به ، وجوز أن يكون بمعنى التصيير ، فيكون قوله. في السماء. متعلقا بمحذوف على أنه مفعول ثان له و (بُرُوجاً) هو المفعول الأول.

أى : ولقد خلقنا وأبدعنا منازل وطرقا في السماء ، تسير فيها الكواكب بقدراتنا ، وإرادتنا ، وحكمتنا ، دون خلل أو اضطراب.

وفي ذلك الخلق ما فيه من منافع لكم ، حيث تستعملون هذه البروج في ضبط المواقيت وفي تحديد الجهات ، وفي غير ذلك من المنافع ، كما قال ـ تعالى ـ (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً ، وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ ، لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ، ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٣).

وافتتح ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بلام القسم وقد ، تنزيلا للمخاطبين الذاهلين عن الالتفات إلى مظاهر قدرة الله ـ تعالى ـ منزلة المنكرين ، فأكد لهم الكلام بمؤكدين لينتبهوا ويعتبروا.

والضمير في قوله (وَزَيَّنَّاها ...) يعود إلى السماء. أى : وزينا السماء بتلك البروج المختلفة الأشكال والأضواء ، لتكون جميلة في عيون الناظرين إليها ، وآية للمتفكرين في دلائل قدرة الله ـ تعالى ـ وبديع صنعه.

وهذه الجملة الكريمة ، تلفت الأنظار إلى أن الجمال غاية مقصودة في خلق هذا الكون ، كما

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٠ ص ٩.

(٢) تفسير أضواء البيان ج ٣ ص ١٢١ الشيخ محمد الأمين الشنقيطى.

(٣) سورة يونس الآية ٥.

٢٧

تشعر المؤمنين بأن من الواجب عليهم أن يجعلوا حياتهم مبنية على الجمال في الظاهر وفي الباطن ، تأسيا بسنة الله ـ تعالى ـ في خلق هذا الكون.

ثم وضح ـ سبحانه ـ بأن هذا التزيين للسماء ، مقرون بالحفظ والصيانة والطهارة من كل رجس فقال ـ تعالى ـ (وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ).

والمراد بالشيطان هنا : المتمرد من الجن ، مشتق من شطن بمعنى بعد ، إذ الشيطان بعيد بطبعه عن كل خير.

والرجيم ، أى المرجوم المحقر ، مأخوذ من الرجم ، لأن العرب كانوا إذا احتقروا أحدا رجموه بالقطع من الحجارة ، وقد كان العرب يرجمون قبر أبى رغال الثقفي ، الذي أرشد جيش الحبشة إلى مكة لهدم الكعبة. قال جرير :

إذا مات الفرزدق فارجموه

كما ترمون قبر أبى رغال

والمعنى : ولقد جعلنا في السماء منازل وطرقا للكواكب ، وزيناها ـ أى السماء ـ للناظرين إليها ، وحفظناها من كل شيطان محقر مطرود من رحمتنا بأن منعناه من الاستقرار فيها ، ومن أن ينفث فيها شروره ومفاسده ، لأنها موطن الأخيار الأطهار.

قال ـ تعالى ـ : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ) (١).

وقال ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ ....) (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ : (إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ) في محل نصب على الاستثناء واستراق السمع : اختلاسه وسرقته ، والمراد به : الاستماع إلى المتحدث خفية ، حتى لكأن المستمع يسرق من المتكلم كلامه الذي يخفيه عنه ، فالسمع هنا بمعنى المسموع من الكلام.

والشهاب : هو الشعلة الساطعة من النار ، المنفصلة من الكواكب التي ترى في السماء ليلا ، كأنها كوكب ينقض بأقصى سرعة. وجمعه شهب .. أصله من الشهبة ، وهي بياض مختلط بسواد.

و (مُبِينٌ) أى ظاهر واضح للمبصرين.

__________________

(١) سورة الصافات الآيتان ٦ ، ٧.

(٢) سورة الملك الآية ٥.

٢٨

والاستثناء منقطع ، فيكون المعنى : وحفظنا السماء من كل شيطان رجيم لكن من اختلس السمع من الشياطين ، بأن حاول الاقتراب منها ، فإنه يتبعه شهاب واضح للناظرين فيحرقه ، أو يحول بينه وبين استراق السمع.

قال القرطبي : قوله ـ تعالى ـ : (إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ) أى. لكن من استرق السمع ، أى الخطفة اليسيرة ، فهو استثناء منقطع.

وقيل : هو متصل ، أى : إلا ممن استرق السمع. أى : حفظنا السماء من الشياطين أن تسمع شيئا من الوحى وغيره ، إلا من استرق السمع فإنا لم نحفظها منه أن تسمع الخبر من أخبار السماء سوى الوحى ، فأما الوحى فلا تسمع منه شيئا لقوله ـ تعالى ـ (إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ).

وإذا استمع الشياطين إلى شيء ليس بوحي ، فإنهم يقذفونه إلى الكهنة في أسرع من طرفة عين ، ثم تتبعهم الشهب فتقتلهم أو تخبلهم .. (١).

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ. وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ. لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ. دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ. إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) (٢).

قال بعض العلماء ما ملخصه : والمقصود منع الشياطين من الاطلاع على ما أراد الله عدم اطلاعهم عليه .. وربما استدرج الله ـ تعالى ـ الشياطين وأولياءهم ، فلم يمنع الشياطين من استراق شيء قليل يلقونه إلى الكهان ؛ فلما أراد ـ سبحانه ـ عصمة الوحى منعهم من ذلك بتاتا ..

وفي سورة الجن دلالة على أن المنع الشديد من استراق السمع كان بعد البعثة النبوية ، وبعد نزول القرآن ، إحكاما لحفظ الوحى من أن يلتبس على الناس بالكهانة ..

قال ـ تعالى ـ : (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً. وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ ، فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) (٣).

وعلى ذلك يكون ما جاء في بعض الأحاديث من استراق الجن السمع ـ وصفا للكهانة السابقة ، ويكون قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ليسوا بشيء ...» وصفا لآخر أمرهم ..

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٠ ص ١١.

(٢) سورة الصافات الآيات ٦ ـ ١٠.

(٣) سورة الجن الآيتان ٨ ، ٩

٢٩

ففي صحيح البخاري عن عائشة : أن ناسا سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الكهانة ، فقال : «ليسوا بشيء». ـ أى لا وجود لما يزعمونه ـ فقيل ـ يا رسول الله ، فإنهم يحدثون أحيانا بالشيء فيكون حقا. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تلك الكلمة من الحق يخطفها الجنى فيقرّها في أذن وليه قرّ الدجاجة ـ أى فيلقيها بصوت خافت كالدجاجة عند ما تخفى صوتها ـ فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة» (١).

وبعد أن بين ـ سبحانه ـ بعض الدلائل السماوية الدالة على قدرته ووحدانيته ، أتبع ذلك ببيان بعض الدلائل الأرضية فقال ـ تعالى ـ : (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ ، وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ). وقوله : (رَواسِيَ) من الرسو وهو ثبات الأجسام الثقيلة. يقال رسا الشيء يرسو أى ثبت.

أى : ومن الأدلة ـ أيضا ـ على وحدانيتنا وقدرتنا ، أننا مددنا الأرض وفرشناها وبسطناها ، لتتيسر لكم الحياة عليها قال ـ تعالى ـ (وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) (٢).

وأننا ـ أيضا وضعنا فيها جبالا ثوابت راسخات تمسكها عن الاضطراب وعن أن تميد بكم. قال ـ تعالى ـ : (خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ، وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ ...) (٣).

وأننا ـ أيضا ـ أنبتنا في الأرض من كل شيء (مَوْزُونٍ) أى : مقدر بمقدار معين وموزون بميزان الحكمة ، بحيث تتوفر فيه كل معاني الجمال والتناسق.

قال ـ تعالى ـ : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) (٤).

وأننا ـ كذلك ـ (جَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ ...) والمعايش : جمع معيشة ، وهي في الأصل مصدر عاش يعيش عيشا وعيشة ومعاشا ، ومعيشة ، إذا صار ذا حياة. ثم استعمل هذا اللفظ فيما يعاش به ، أو فيما يتوصل به إلى العيش.

أى : وجعلنا لكم في الأرض ما تعيشون به من المطاعم والمشارب والملابس وغيرها ، مما تقتضيه ضرورات الحياة التي تحيونها.

__________________

(١) راجع تفسير التحرير والتنوير للشيخ محمد الطاهر بن عاشور ج ١٤ ص ٢٤.

(٢) سورة الذاريات الآية ٤٨.

(٣) سورة لقمان الآية ١٠.

(٤) سورة القمر الآية ٤٩.

٣٠

وجملة (وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) معطوفة على «معايش».

والمراد بمن لستم له برازقين : ما يشمل الأطفال والعجزة والأنعام وغير ذلك من مخلوقات الله التي تحتاج إلى العون والمساعدة.

أى : وجعلنا لكم في الأرض ما تعيشون به أو ما تتوصلون به إلى ذلك من المكاسب والتجارات ، وجعلنا لكم فيها ـ أيضا ـ من لستم له برازقين من العيال والخدم والدواب ... وإنما الرازق لهم هو الله ـ تعالى ـ رب العالمين ، إذ ما من دابة في الأرض إلا على الله وحده رزقها. وما يزعمه الجاهلون من أنهم هم الرازقون لغيرهم ، هو لون من الغرور والافتراء ، لأن الرازق للجميع هو الله رب العالمين.

وعبر بمن في قوله (وَمَنْ لَسْتُمْ) تغليبا للعقلاء على غيرهم.

قال الإمام ابن كثير : والمقصود ـ من هذه الجملة ـ أنه ـ تعالى ـ يمتن عليهم بما يسر لهم من أسباب المكاسب ووجوه الأسباب ، وصنوف المعاشات وبما سخر لهم من الدواب التي يركبونها. والأنعام التي يأكلونها ، والعبيد والإماء التي يستخدمونها ، ورزقهم على خالقهم لا عليهم ، فلهم هم المنفعة ، والرزق على الله ـ تعالى ـ» (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك أن كل شيء في هذا الكون ، خاضع لإرادته وقدرته ، وتصرفه .. فقال ـ تعالى ـ (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ ، وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ).

و «إن» نافية بمعنى ما ، و «من» مزيدة للتأكيد. و «خزائنه» جمع خزانة ، وهي في الأصل تطلق على المكان الذي توضع فيه نفائس الأموال للمحافظة عليها.

والمعنى : وما من شيء من الأشياء الموجودة في هذا الكون ، والتي يتطلع الناس إلى الانتفاع بها. إلا ونحن قادرون على إيجادها وإيجاد أضعافها بلا تكلف أو إبطاء ، كما قال ـ تعالى ـ : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٢).

فقد شبه ـ سبحانه ـ اقتداره على إيجاد كل شيء ، بالخزائن المودعة فيها الأشياء ، والمعدة لإخراج ما يشاء إخراجه منها بدون كلفة أو إبطاء.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٤٤٧.

(٢) سورة يس الآية ٨٢.

٣١

والمراد بالإنزال في قوله (وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ). الإيجاد والإخراج إلى هذه الدنيا ، مع تمكين الناس من الحصول عليه.

أى : وما نخرج هذا الشيء إلى حيز الوجود بحيث يتمكن الناس من الانتفاع به إلا ملتبسا بمقدار معين ، وفي وقت محدد ، تقتضيه حكمتنا ، وتستدعيه مشيئتنا ، ويتناسب مع حاجات العباد وأحوالهم ، كما قال ـ تعالى ـ (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ ، وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ ، إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) (١).

ثم انتقل ـ سبحانه ـ من الاستدلال على وحدانيته وقدرته بظواهر السماء وبظواهر الأرض ، إلى الاستدلال على ذلك بظواهر الرياح والأمطار فقال ـ تعالى ـ : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ) والآية الكريمة معطوفة على قوله ـ تعالى ـ قبل ذلك : (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) وما بينهما اعتراض لتحقيق ما سبق ذكره من النعم.

والمراد بإرسال الرياح هنا : نقلها من مكان إلى آخر بقدرة الله ـ تعالى ـ وحكمته.

وقوله (لَواقِحَ) يصح أن يكون جمع لاقح. وأصل اللاقح : الناقة التي قبلت اللقاح فحملت الجنين في بطنها ..

ووصف ـ سبحانه ـ الرياح بكونها لواقح. لأنها حوامل تحمل ما يكون سببا في نزول الأمطار كما تحمل النوق الأجنة في بطونها.

أى : وأرسلنا بقدرتنا ورحمتنا الرياح حاملة للسحاب وللأمطار ولغيرهما ، مما يعود على الناس بالنفع والخير والبركة.

ويصح أن يكون لفظ «لواقح» جمع ملقح ـ اسم فاعل ـ وهو الذي يلقح غيره ، فتكون الرياح ملقحة لغيرها كما يلقح الذكر الأنثى.

قال الإمام ابن كثير : قوله (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) أى : تلقح السحب فتدر ماء ، وتلقح الأشجار فتتفتح عن أوراقها وأكمامها (٢).

وقال بعض العلماء : ومعنى الإلقاح أن الرياح تلقح السحاب بالماء بتوجيه عمل الحرارة والبرودة متعاقبين ، فينشأ عن ذلك البخار الذي يصير ماء في الجو ، ثم ينزل مطرا على

__________________

(١) سورة الشورى الآية ٢٧.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٤٤٨.

٣٢

الأرض ، وأنها تلقح الشجر ذا الثمرة ، بأن تنقل إلى نوره غبرة دقيقة من نور الشجر الذكر ، فتصلح ثمرته أو تثبت ..

وهذا هو الإبار. وبعضه لا يحصل إلا بتعليق الطلع الذكر على الشجرة المثمرة. وبعضه يكتفى منه بغرس شجرة ذكر في خلال شجر الثمر.

ومن بلاغة الآية الكريمة ، إيراد هذا الوصف ـ لواقح ـ لإفادة كلا العملين اللذين تعملهما الرياح ـ وهما الحمل للسحاب والمطر وغيرهما ، أو التلقيح لغيرها ـ.» (١).

وقوله (فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ ..) تفريع على ما تقدم.

أى : وأرسلنا الرياح بقدرتنا من مكان إلى آخر ، حالة كونها حاملة للسحاب وغيره ، فأنزلنا ـ بسبب هذا الحمل ـ من جهة السماء ، ماء كثيرا هو المطر ، لتنتفعوا به في شرابكم ، وفي معاشكم ، وفي غير ذلك من ضرورات حياتكم.

قال ـ تعالى ـ : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ ، وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ. يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ ...) (٢).

وقوله (وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ) تتميم لنعمة إنزال الماء.

أى : أنزلنا المطر من السماء ، وليست خزائنه عندكم. وإنما نحن الخازنون له ، ونحن الذين ننزله متى شئنا ، ونحن الذين نمنعه متى شئنا ، كما قال ـ تعالى ـ قبل ذلك : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ).

ويصح أن يكون المعنى : أنزلنا المطر من السماء فجعلناه لسقياكم ، وأنتم لستم بقادرين على خزنه وحفظه في الآبار والعيون وغيرها ، وإنما نحن القادرون على ذلك. قال ـ تعالى ـ (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ) (٣).

ثم بين ـ سبحانه ـ أن الإحياء والإماتة بيده وحده ، فقال ـ تعالى ـ : (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ).

أى : وإنا وحدنا القادرون على إيجاد الحياة في المخلوقات ، والقادرون على سلبها عنها ، ونحن الوارثون لهذا الكون بعد فنائه ، الباقون بعد زواله.

__________________

(١) تفسير التحرير والتنوير ج ١٤ ص ٣٨ لسماحة الشيخ الامام محمد الطاهر بن عاشور.

(٢) سورة النحل الآيتان ١٠ ، ١١.

(٣) سورة المؤمنون الآية ١٨.

٣٣

قال ـ تعالى ـ (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ) (١).

وقال ـ تعالى ـ (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) (٢).

وشبه ـ سبحانه ـ بقاءه بعد زوال كل شيء سواه بالوارث ، لأن الوارث هو الذي يرث غيره بعد موته.

وأكد ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بإن واللام وضمير الفصل (نَحْنُ) تحقيقا للخبر الذي اشتملت عليه ، وردا على المشركين الذين زعموا أنه لا حياة ولا ثواب ولا عقاب بعد الموت.

ثم أكد ـ سبحانه ـ شمول علمه لكل شيء بعد أن أكد شمول قدرته فقال ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ).

والمراد بالمستقدمين من تقدم على غيره ولادة وموتا ، كما أن المراد بالمستأخرين من تأخر عن غيره في ذلك ، ولم يمت بعد ، أو لم يوجد بعد في عالم الأحياء.

والسين والتاء في اللفظين للتأكيد.

وقيل : المراد بهما الأحياء والأموات ، وقيل المراد بالمستقدمين : من تقدم في الوجود على الأمة الإسلامية ، وبالمستأخرين : الأمة الإسلامية.

وقيل : المراد بهما : من قتل في الجهاد ومن لم يقتل ، وقيل المراد بهما من تقدم في صفوف الصلاة ومن تأخر ...

قال الإمام ابن جرير بعد أن ساق جملة من الأقوال في ذلك : وأولى الأقوال عندي بالصحة ، قول من قال : ولقد علمنا الأموات منكم يا بنى آدم فتقدم موته ، ولقد علمنا المستأخرين الذين تأخر موتهم ممن هو حي ومن هو حادث منكم ممن لم يحدث بعد ...» (٣).

ثم بين ـ سبحانه ـ أن مرجع الخلق جميعا إليه فقال : (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ ، إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ).

أى : وإن ربك ـ وحده ـ أيها المخاطب ـ هو الذي يتولى حشر الأولين والآخرين ، وجمعهم يوم القيامة للحساب والثواب والعقاب ، إنه ـ سبحانه ـ (حَكِيمٌ) في كل

__________________

(١) سورة ق الآية ٤٣.

(٢) سورة مريم الآية ٤٠.

(٣) تفسير ابن جرير ج ١٤ ص ٢٦.

٣٤

تصرفاته وأفعاله (عَلِيمٌ) بأحوال خلقه ما ظهر منها وما بطن.

وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة ، قد اشتملت على ألوان من الأدلة الدالة على وحدانية الله ـ تعالى ـ وعظيم قدرته ، وبديع صنعه ، وشمول علمه ، مما يوجب الإيمان به ـ سبحانه ـ وإخلاص العبادة له ، ومقابلة نعمه بالشكران لا بالكفران ، وبالطاعة لا بالمعصية ...

وبعد أن ساق ـ سبحانه ـ ألوانا من الأدلة على وحدانيته وقدرته ، عن طريق خلقه للسماء وما فيها من بروج وشهب .. وللأرض وما عليها من جبال ونبات .. وللرياح وما تحمله من سحب وأمطار ...

أتبع ذلك بأدلة أخرى على كمال ذاته وصفاته عن طريق خلقه للإنسان وللجن وللملائكة .. فقال ـ تعالى ـ :

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٦) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ(٢٧) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٢٩) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣٢) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٣٣) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٣٥) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قالَ فَإِنَّكَ

٣٥

مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٣٨) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (٤٢) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) (٤٤)

والمراد بالإنسان في قوله ـ سبحانه ـ (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ) آدم ـ عليه‌السلام ـ لأنه أصل النوع الإنسانى ، وأول فرد من أفراده.

والصلصال : الطين اليابس الذي يصلصل ، أى : يحدث صوتا إذا حرك أو نقر عليه ، كما يحدث الفخار قال ـ تعالى ـ (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ) (١).

وقيل : الصلصال : الطين المنتن ، مأخوذ من قولهم : صلّ اللحم وأصلّ ، إذا أنتن ..

قال الإمام ابن جرير : والذي هو أولى بتأويل الآية ، أن يكون الصلصال في هذا الموضع ، الطين اليابس الذي لم تصبه النار ، فإذا نقرته صل فسمعت له صلصلة ـ وذلك أن الله ـ تعالى ـ وصفه في موضع آخر فقال : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ) فشبهه ـ تعالى ذكره ـ بأنه كالفخار في يبسه ، ولو كان معناه في ذلك المنتن لم يشبهه بالفخار ، لأن الفخار ليس بمنتن فيشبه به في النتن غيره» (٢).

والحمأ : الطين إذا اشتد سواده وتغيرت رائحته.

والمسنون : المصور من سن الشيء إذا صوره.

قال الآلوسى ما ملخصه : قوله (مِنْ حَمَإٍ) أى : من طين تغير واسود من مجاورة الماء ، ويقال للواحدة حمأة ـ بسكون الميم ـ ...

__________________

(١) سورة الرحمن الآية ١٤.

(٢) تفسير ابن جرير ج ١٤ ص ٢٨.

٣٦

وقوله (مَسْنُونٍ) أى : مصوّر من سنّة الوجه وهي صورته. وأنشد لذلك ابن عباس قول عمه حمزة يمدح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

أغرّ كأن البدر سنّة وجهه

جلا الغيم عنه ضوؤه فتبددا

وقيل مسنون : أى مصبوب ، من سنّ الماء بمعنى صبه. ويقال شنّ ـ بالشين أيضا ـ ؛ أى : مفرغ على هيئة الإنسان ... وقيل : المسنون : المنتن ...» (١).

والذي يتدبر القرآن الكريم يرى أن الله ـ تعالى ـ قد وضح في آيات متعددة أطوار خلق آدم ـ عليه‌السلام ـ ، فقد بين في بعض الآيات أنه خلقه من تراب ، كما في قوله ـ تعالى ـ (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ...) (٢).

وبين في آيات أخرى أنه ـ سبحانه ـ خلقه من طين ، كما في قوله ـ تعالى ـ (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ) (٣).

وبين هنا أنه ـ سبحانه ـ خلقه (مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ).

قال الجمل : وهذا الطور آخر أطوار آدم الطينية ، وأول ابتدائه أنه كان ترابا متفرق الأجزاء ، ثم بلّ ـ أى التراب ـ فصار طينا ، ثم ترك حتى أنتن وأسود فصار حمأ مسنونا.

أى : متغيرا ، ثم يبس فصار صلصالا ، وعلى هذه الأحوال والأطوار تتخرج الآيات الواردة في أطواره الطينية ، كآية خلقه من تراب ، وآية (بَشَراً مِنْ طِينٍ) (٤) وهذه الآية التي نحن فيها» (٥).

والمقصود من هذه الآيات الكريمة ، التنبيه على عجيب صنع الله ـ تعالى ـ وعظيم قدرته ، حيث أخرج ـ سبحانه ـ من هذه المواد بشرا سويا ، في أحسن تقويم.

وأكد ـ سبحانه ـ الجملة الكريمة بلام القسم وقد ، لزيادة التحقيق ، وللإرشاد إلى أهمية هذا الخلق ، وأنه بهذه الصفة.

و (مِنْ) في قوله (مِنْ صَلْصالٍ) لابتداء الغاية أو للتبعيض ، وفي قوله (مِنْ حَمَإٍ) ابتدائية.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٤ ص ٣١.

(٢) سورة آل عمران الآية ٥٩.

(٣) سورة السجدة الآية ٧.

(٤) سورة ص الآية ٧١.

(٥) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٥٤٣.

٣٧

والجار والمجرور صفة لصلصال أى : من صلصال كائن من حمأ ، ومسنون صفة لحمإ.

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك المادة التي خلق منها الجان فقال ـ سبحانه ـ : (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ).

والمراد بالجان هنا : أبو الجن عند جمهور المفسرين. وقيل هو إبليس. وقيل هو اسم لجنس الجن. وسمى جانا لتواريه عن الأعين ، واستتاره عن بنى آدم.

أى : والجان خلقناه (مِنْ قَبْلُ) أى : من قبل خلق آدم (مِنْ نارِ السَّمُومِ) أى : من الريح الحارة التي تقتل. وسميت سموما ، لأنها لشدة حرارتها ، وقوة تأثيرها تنفذ في مسام البدن.

قال ابن كثير : وقد ورد في الحديث الصحيح : «خلقت الملائكة من نور ، وخلقت الجان من مارج من نار ، وخلق بنو آدم مما وصف لكم» (١).

ثم حكى ـ سبحانه ـ ما أمر به ملائكته عند ما توجهت إرادته ـ سبحانه ـ لخلق آدم ، فقال ـ تعالى ـ : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ. فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ، فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ).

أى : واذكر ـ أيها العاقل ـ وقت أن قال ربك ـ سبحانه ـ للملائكة ـ الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ـ (إِنِّي خالِقٌ) بقدرتي (بَشَراً) أى : إنسانا ، وعبر عنه بذلك اعتبارا بظهور بشرته وهي ظاهر الجلد (مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ).

(فَإِذا سَوَّيْتُهُ) أى : سويت خلق هذا البشر ، وكملت أجزاءه ، وجعلته في أحسن تقويم ...

(وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) أى : وضعت فيه ما به حياته وحركته وهو الروح ، الذي لا يعلم حقيقته أحد سواي.

قال القرطبي : قوله : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) النفخ إجراء الريح في الشيء. والروح جسم لطيف ، أجرى الله العادة بأن يخلق الحياة في البدن مع ذلك الجسم. وحقيقته

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٤٥١.

٣٨

إضافة خلق إلى خالق ، فالروح خلق من خلقه أضافه ـ سبحانه ـ إلى نفسه تشريفا وتكريما ، كقوله ، أرضى وسمائي وبيتي وناقة الله وشهر الله ... (١).

وقوله (فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) أمر منه ـ سبحانه ـ للملائكة بالسجود لآدم.

أى : فإذا سويت خلقه ، وأفضت عليه ما به حياته ، فاسقطوا وخروا له ساجدين ، سجود تحية وتكريم ، لا سجود عبادة ، فإن سجود العبادة لي وحدي.

وقال ـ سبحانه ـ (فَقَعُوا ..) بفاء التعقيب ، للإشعار بأن سجودهم له واجب عليهم عقب التسوية والنفخ من غير إبطاء أو تأخير.

وهذا نوع من تكريم الله ـ تعالى ـ لعبده آدم ـ عليه‌السلام ـ ، وله ـ سبحانه ـ أن يكرم بعض عباده بما يشاء ، وكيف شاء .. (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) (٢).

ثم بين ـ سبحانه ـ ما كان من الملائكة بعد ذلك فقال : (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) أى : امتثل الملائكة لأمر الله بعد أن خلق ـ سبحانه ـ آدم وسواه ونفخ فيه من روحه ، فسجدوا له كلهم أجمعون دون أن يتخلف منهم أحد.

وجمع ـ سبحانه ـ بين لفظي التوكيد (كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) للمبالغة في ذلك ، ولإزالة أى التباس بأن أحدا شذ عن طاعة الله ـ تعالى ـ.

وقوله (إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) بيان لموقف إبليس من أمر الله ـ تعالى ـ. وإبليس : اسم مشتق من الإبلاس ، وهو الحزن الناشئ عن شدة اليأس ، وفعله أبلس ، والراجح أنه اسم أعجمى ، ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة. وهو كائن حي ، وقد أخطأ من حمله على معنى داعي الشر الذي يخطر في النفوس ، لأنه ليس من المعقول أن يكون الأمر كذلك مع أن القرآن أخبرنا بأنه يرى الناس ولا يرونه.

قال ـ تعالى ـ (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ ...) (٣).

وقوله (أَبى) من الإباء وهو الامتناع عن فعل الشيء مع القدرة على فعله ، بسبب الغرور والتكبر والتعاظم.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٠ ص ٢٥.

(٢) سورة الأنبياء الآية ٢٣.

(٣) سورة الأعراف الآية ٢٧.

٣٩

أى : فسجد الملائكة كلهم أجمعون ، امتثالا وطاعة لله ـ تعالى ـ ، إلا إبليس فإنه امتنع عن أن يكون مع الساجدين. تكبرا وغرورا وعصيانا لأمر الله ـ تعالى ـ.

وللعلماء في كون إبليس من الملائكة ، أم لا ، قولان :

أحدهما : أنه كان منهم ، لأنه ـ سبحانه ـ أمرهم بالسجود لآدم ، ولو لا أنه كان منهم لما توجه إليه الأمر بالسجود ، ولو لم يتوجه إليه الأمر بالسجود لما كان عاصيا ، ولما استحق الطرد واللعنة ، ولأن الأصل في المستثنى أن يكون داخلا تحت اسم المستثنى منه ، حتى يقوم دليل على أنه خارج عنه. وعلى هذا الرأى الذي اختاره ابن عباس وابن مسعود وغيرهما يكون الاستثناء متصلا.

والثاني : أنه لم يكن من الملائكة ، لقوله ـ تعالى ـ : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ ، فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ..) (١) فهو أصل الجن ، كما أن آدم أصل الإنس ، ولأنه خلق من نار ، والملائكة خلقوا من نور ، ولأن له ذرية ، والملائكة لا ذرية لهم ..

وعلى هذا الرأى الذي اختاره الحسن وقتادة وغيرهما يكون الاستثناء منقطعا.

قال الشيخ القاسمى : «وقد حاول الإمام ابن القيم ـ رحمه‌الله ـ أن يجمع بين الرأيين فقال : والصواب التفصيل في هذه المسألة ، وأن القولين في الحقيقة قول واحد. فإن إبليس كان مع الملائكة بصورته وليس منهم بمادته وأصله فإن أصله من نار وأصل الملائكة من نور ، فالنافي كونه من الملائكة والمثبت كونه منهم لم يتواردا على محل واحد» (٢).

والذي نميل إليه في هذه المسألة أن إبليس لم يكن من الملائكة ، بدليل الحديث الصحيح الذي يقول فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خلقت الملائكة من نور. وخلقت الجان من مارج من نار ، وخلق بنو آدم مما وصف لكم» (٣) والآية الكريمة ـ وهي قوله ـ تعالى ـ (إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِ) صريحة في أنه كان من الجن ولم يكن من الملائكة.

ومع هذا فإن الأمر بالسجود يشمله ، بدليل قوله ـ تعالى ـ (قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ

__________________

(١) سورة الكهف الآية ٥٠.

(٢) تفسير القاسمى ج ٢ ص ١٠٤.

(٣) صحيح مسلم «كتاب الزهد» باب في أحاديث متفرقة ج ٨ ص ٢٢٧.

٤٠