التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٨

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٨

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0668-X
الصفحات: ٥٩٧

فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كلا ، إن عمارا ملئ إيمانا من قرنه إلى قدمه ، واختلط الإيمان بلحمه ودمه».

فأتى عمار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يبكى ، فجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمسح عينيه وقال له : «مالك ، إن عادوا فعد لهم بما قلت». وفي رواية أنه قال له : «كيف تجد قلبك؟ قال مطمئن بالإيمان قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن عادوا فعد». فنزلت هذه الآية ..

ثم قال الآلوسى : والآية دليل على جواز التكلم بكلمة الكفر عند الإكراه ، وإن كان الأفضل أن يتجنب عن ذلك إعزازا للدين ولو تيقن القتل ، كما فعل ياسر وسمية ، وليس ذلك من إلقاء النفس إلى التهلكة ، بل هو كالقتل في الغزو كما صرحوا به. (١).

و «من» في قوله (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ) مبتدأ أو شرطية ، والخبر أو جواب الشرط محذوف والتقدير : فعليه غضب من الله ، أو فله عذاب شديد ، ويدل عليهما قوله ـ تعالى ـ بعد ذلك : (وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ).

والمعنى : من كفر بالله ـ تعالى ـ من بعد إيمانه بوحدانيته ـ سبحانه ـ وبصدق رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه بسبب هذا الكفر يكون قد ضل ضلالا بعيدا ، يستحق من أجله العذاب المهين.

وقوله : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) استثناء متصل من الجملة السابقة أى : إلا من أكره على النطق بكلمة الكفر ، والحال أن قلبه مطمئن بالإيمان ، ثابت عليه ، متمكن منه .. فإنه في هذه الحالة لا يكون ممن يستحقون عقوبة المرتد.

قال بعض العلماء : وأما قوله : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) فهو استثناء متصل من «من» لأن الكفر أعم من أن يكون اعتقادا فقط ، أو قولا فقط ، أو اعتقادا وقولا ... وأصل الاطمئنان سكون بعد انزعاج ، والمراد به هنا : السكون والثبات على الإيمان بعد الانزعاج الحاصل بسبب الإكراه .. (٢).

وقوله : (وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) بيان لسوء مصير من استحب الكفر على الإيمان باختياره ورضاه.

و «من» في قوله (مَنْ شَرَحَ) شرطية ، وجوابها (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ).

أى : حكم من تلفظ بكلمة الكفر مكرها أنه لا يعتبر مرتدا ، ولكن حكم من طابت

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٤ ص ٢٣٧.

(٢) تفسير آيات الأحكام ج ٣ ص ٥٤.

٢٤١

نفوسهم بالكفر ، وانشرحت له صدورهم ، واعتقدوا صحته ، أنهم عليهم من الله ـ تعالى ـ غضب شديد لا يعلم مقداره إلا هو ، ولهم يوم القيامة عذاب عظيم الهول ، يتناسب مع عظيم جرمهم.

هذا ، وقد ذكر الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية جملة من الأخبار التي حكت ما تعرض له المسلمون الأولون من فتن وآلام. فقال ما ملخصه : ولهذا اتفق العلماء على أن المكره على الكفر يجوز له أن يوالى إبقاء لمهجته ، ويجوز له أن يأبى كما كان بلال ـ رضى الله عنه ـ يأبى عليهم ذلك ، وهم يفعلون به الأفاعيل ، حتى إنهم ليضعون الصخرة العظيمة على صدره في شدة الحر ويأمرونه بالشرك بالله ، فيأبى عليهم وهو يقول : أحد ، أحد ، ويقول : والله لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ) بيان للأسباب التي جعلتهم محل غضب الله ونقمته.

واسم الإشارة «ذلك» يعود إلى كفرهم بعد إيمانهم ، أو إلى ما توعدهم الله ـ تعالى ـ به من غضب عليهم ، وعذاب عظيم لهم.

أى : ذلك الذي جعلهم يرتدون عن دينهم ، ويكونون محل غضب الله ونقمته ، من أسبابه أنهم آثروا الحياة الدنيا وشهواتها على الآخرة وما فيها من ثواب.

(وَأَنَّ اللهَ) ـ تعالى ـ (لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) إلى الصراط المستقيم ، لأنهم حين زاغوا عن الحق أزاغ الله قلوبهم.

ثم أضاف ـ سبحانه ـ إلى رذائلهم رذيلة أخرى فقال : (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ).

والطبع : الختم والوسم بطابع ونحوه على الشيء ، لكي لا يخرج منه ما هو بداخله ، ولا يدخل فيه ما هو خارج عنه. أى : أولئك الذين شرحوا صدورهم بالكفر ، وطابوا به نفسا ، قد طبع الله تعالى على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم ، فصارت ممنوعة من وصول الحق إليها ، وعاجزة عن الانتفاع به ، وأولئك هم الكاملون في الغفلة والبلاهة ، إذ لا غفلة أشد من غفلة المعرض عن عاقبة أمره ، ولا بلاهة أفدح من بلاهة من آثر الفانية على الباقية.

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٥٨٧.

٢٤٢

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآيات الكريمة بالحكم العادل عليهم فقال : (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ).

أى : لا شك ولا محالة في أن هؤلاء الذين اختاروا الكفر على الإيمان سيكونون يوم القيامة من القوم الخاسرين ؛ لأنهم لم يقدموا في دنياهم ما ينفعهم في أخراهم.

وكلمة «لا جرم» قد وردت في القرآن في خمسة مواضع ، متلوة في كل موضع بأن واسمها ، وليس بعدها فعل. وجمهور النحاة على أن هذه الكلمة مركبة من «لا» و «جرم» تركيب خمسة عشر ، ومعناها بعد التركيب معنى الفعل : حق ، أو ثبت ، أو ما يشبه ذلك ، أى : حق وثبت كونهم في الآخرة من الخاسرين.

والذي يتدبر هذه الآيات ، يراها قد توعدت المرتدين عن دينهم بألوان من العقوبات المغلظة ، لقد توعدتهم بغضب الله ـ تعالى ـ وبعذابه العظيم ، وبعدم هدايتهم إلى طريق الحق ، وبالطبع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم ، وبالغفلة التي ليس بعدها غفلة ، وبالخسران الذي لا شك فيه يوم القيامة ، نعوذ بالله ـ تعالى ـ من ذلك.

ثم بين ـ سبحانه ـ جانبا من مظاهر لطفه ورأفته لقوم هاجروا من بعد ما فتنوا ، فقال ـ تعالى ـ :

(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٠) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (١١١)

وقوله ـ سبحانه ـ : (مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا) أى : عذبوا وأوذوا من أجل أن يرتدوا إلى الكفر.

وأصل الفتن : إدخال الذهب في النار لتظهر جودته من رداءته ، ثم استعمل في الاختبار

٢٤٣

والامتحان بالمحن والشدائد ، وبالمنح واللطائف ، لما فيه من إظهار الحال والحقيقة ، وأكثر ما تستعمل الفتنة في الامتحان والمحن وعليه يحمل بعضهم تفسير الفتنة بالمحنة.

والمراد بهؤلاء الذين هاجروا من بعد ما فتنوا ـ كما يقول ابن كثير ـ جماعة كانوا مستضعفين بمكة ، مهانين في قومهم ، فوافقوهم على الفتنة ، ثم إنهم أمكنهم الخلاص بالهجرة ، فتركوا بلادهم وأهليهم وأموالهم ابتغاء رضوان الله وغفرانه ، وانتظموا في سلك المؤمنين ، وجاهدوا معهم الكافرين ، وصبروا .. (١).

والمعنى : «ثم إن ربك» ـ أيها الرسول الكريم ـ تكفل بالولاية والمغفرة لهؤلاء الذين هاجروا من دار الكفر إلى دار الإسلام ، من بعد أن عذبهم المشركون لكي يرتدوا عن دينهم.

قال الآلوسى : وقرأ ابن عامر (مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا) بالبناء للفاعل ، وهو ضمير المشركين عند غير واحد ، أى : عذبوا المؤمنين ، كالحضرمى ، أكره مولاه «جبرا» حتى ارتد ، ثم أسلما وهاجرا .. (٢).

وقوله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا) أى جاهدوا المشركين حتى تكون كلمة الله هي العليا ، وصبروا على البلاء والأذى طلبا لرضا الله ـ تعالى ـ.

والضمير في قوله : (مِنْ بَعْدِها) يعود إلى ما سبق ذكره من الهجرة والفتنة والجهاد والصبر. أى : إن ربك ـ أيها الرسول الكريم ـ من بعد هذه الأفعال لكثير المغفرة والرحمة لهم ، جزاء هجرتهم وجهادهم وصبرهم على الأذى.

وقوله ـ سبحانه ـ : (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها ...) منصوب على الظرفية بقوله (رَحِيمٌ) أو منصوب على المفعولية بفعل محذوف تقديره اذكر. والمراد باليوم : يوم القيامة.

والمجادلة هنا بمعنى : المحاجة والمدافعة ، والسعى في الخلاص من أهوال ذلك اليوم الشديد.

والمعنى : إن ربك ـ أيها الرسول الكريم ـ من بعد تلك المذكورات من الهجرة والفتنة والجهاد والصبر ، لغفور رحيم ، يوم تأتى كل نفس مشغولة بأمرها ، مهتمة بالدفاع عن ذاتها ، بدون التفات إلى غيرها ، ساعية في الخلاص من عذاب ذلك اليوم.

والمتأمل في هذه الجملة الكريمة ، يراها تشير بأسلوب مؤثر بليغ إلى ما يعترى الناس يوم

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٥٨٨.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٤ ص ٢٣٩.

٢٤٤

القيامة من خوف وفزع يجعلهم لا يفكرون إلا في ذواتهم ولا يهمهم شأن آبائهم أو أبنائهم.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما معنى النفس المضافة إلى النفس؟.

قلت : يقال لعين الشيء وذاته نفسه ، وفي نقيضه غيره ، والنفس الجملة كما هي ، فالنفس الأولى هي الجملة ، والثانية عينها وذاتها ، فكأنه قيل : يوم يأتى كل إنسان يجادل عن ذاته ، لا يهمه شأن غيره ، كل يقول : نفسي نفسي. ومعنى المجادلة عنها : الاعتذار عنها ، كقولهم : (ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) وكقولهم : (هؤُلاءِ أَضَلُّونا ..) (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) بيان لمظهر من مظاهر عدل الله ـ تعالى ـ في قضائه بين عباده.

أى : وفي هذا اليوم تعطى كل نفس جزاء ما عملته من أعمال في الدنيا وافيا غير منقوص ، بدون ظلم أو حيف أو ميل عن العدل والقسطاس ، ولن ينفع نفسا مجادلتها عن ذاتها ، واعتذارها بالمعاذير الباطلة ، وإنما الذي ينفعها هو عملها.

وبذلك ترى الآيتين الكريمتين ، قد بينتا بأسلوب بليغ جانبا من مظاهر فضل الله ـ تعالى ـ على عباده ، وجانبا من أهوال يوم القيامة ، ومن القضاء العادل الذي يحكم الله به بين الناس.

ثم ضرب ـ سبحانه ـ مثلا لسوء عاقبة الذين يجحدون نعم الله ، ويكذبون بآياته ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١١٢) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ) (١١٣)

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٤٣١.

٢٤٥

والفعل ضرب في قوله ـ تعالى ـ : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً ...) متضمن معنى جعل ، ولذا عدى إلى مفعولين.

والمثل ـ بفتح الثاء ـ بمعنى المثل ـ بسكونها ـ أى : النظير والشبيه. ويطلق على القول السائر المعروف ، لمماثلة مضربه ـ وهو الذي يضرب فيه لمورده الذي ورد فيه ، ثم استعير للصفة والحال كما في الآية التي معنا.

والمراد بالقرية : أهلها ، فالكلام على تقدير مضاف.

وللمفسرين اتجاهان في تفسير هذه الآية. فمنهم من يرى أن هذه القرية غير معينة ، وإنما هي مثل لكل قوم قابلوا نعم الله بالجحود والكفران.

وإلى هذا المعنى اتجه صاحب الكشاف حيث قال : قوله ـ تعالى ـ : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً ...) أى : جعل القرية التي هذه حالها مثلا لكل قوم أنعم الله عليهم فأبطرتهم النعمة. فكفروا وتولوا ، فأنزل الله بهم نقمته ، فيجوز أن تراد قرية مقدرة على هذه الصفة ، وأن تكون في قرى الأولين قرية كانت هذه حالها ، فضرب بها الله مثلا لمكة إنذارا من مثل عاقبتها (١).

ومنهم من يرى أن المقصود بهذه القرية مكة ، وعلى هذا الاتجاه سار الامام ابن كثير حيث قال ما ملخصه : هذا مثل أريد به أهل مكة ، فإنها كانت آمنة مطمئنة مستقرة ، يتخطف الناس من حولها ، ومن دخلها كان آمنا ... فجحدت آلاء الله عليها ، وأعظمها بعثة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون (٢).

ويبدو لنا أن الاتجاه الأول أقرب إلى الصواب ، لتنكير لفظ قرية ، ولشموله الاتجاه الثاني ، لأنه يتناول كل قرية بدلت نعمة الله كفرا ، ويدخل في ذلك كفار مكة دخولا أوليا.

فيكون المعنى : وجعل الله قرية موصوفة بهذه الصفات مثلا لكل قوم أنعم الله عليهم بهذه النعم ، فلم يشكروا الله ـ تعالى ـ عليها ، فأخذهم أخذ عزيز مقتدر.

وقوله : (كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً) أى : كانت تعيش في أمان لا يشوبه خوف ، وفي سكون واطمئنان لا يخالطهما فزع أو انزعاج :.

وقوله : (يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ) بيان لسعة عيشها ، أى : يأتيها ما يحتاج إليه أهلها واسعا لينا سهلا من كل مكان من الأمكنة.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٦٣٩.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٥٨٩.

٢٤٦

يقال : رغد ـ بضم الغين ـ عيش القوم ، أى : اتسع وطاب فهو رغد ورغيد ... وأرغد القوم ، أى : أخصبوا وصاروا في رزق واسع.

فالآية الكريمة قد تضمنت أمهات النعم : الأمان والاطمئنان ورغد العيش. قال بعضهم :

ثلاثة ليس لها نهاية

الأمن والصحة والكفاية

وقوله ـ تعالى ـ : (فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ) بيان لموقفها الجحودى من نعم الله ـ تعالى ـ أى : فكان موقف أهل هذه القرية من تلك النعم الجليلة ، أنهم جحدوا هذه النعم ، ولم يقابلوها بالشكر ، وإنما قابلوها بالإشراك بالله ـ تعالى ـ مسدي هذه النعم.

قال القرطبي : «والأنعم : جمع النّعمة. كالأشد جمع الشّدة ، وقيل : جمع نعمى ، مثل بؤسى وأبؤس».

وقوله ـ سبحانه ـ : (فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) بيان للعقوبة الأليمة التي حلت بأهلها بسبب كفرهم وبطرهم.

أى : فأذاق ـ سبحانه ـ أهلها لباس الجوع والخوف ، بسبب ما كانوا يصنعونه من الكفر والجحود والعتو عن أمر الله ورسله.

وذلك بأن أظهر أثرهما عليهم بصورة واضحة ، تجعل الناظر إليهم لا يخفى عليه ما هم فيه من فقر مدقع ، وفزع شديد.

ففي الجملة الكريمة تصوير بديع لما أصابهم من جوع وخوف ، حتى لكأن ما هم فيه من هزال وسوء حال ، يبدو كاللباس الذي يلبسه الإنسان ، ويجعلهم يذوقون هذا اللباس ذوقا يحسون أثره إحساسا عميقا.

ورحم الله صاحب الكشاف فقد أجاد في تصوير هذا المعنى فقال : «فإن قلت : الإذاقة واللباس استعارتان فما وجه صحتهما؟ والإذاقة المستعارة موقعة على اللباس المستعار ، فما وجه صحة إيقاعها عليه؟.

قلت : أما الإذاقة فقد جرت عندهم مجرى الحقيقة لشيوعها في البلايا والشدائد وما يمس الناس منها. فيقولون : ذاق فلان البؤس والضر ، وأذاقه العذاب. شبه ما يدرك من أثر الضرر والألم بما يدرك من الطعم المر البشع.

وأما اللباس فقد شبه به لاشتماله على اللابس ، ما غشى الإنسان والتبس به من بعض الحوادث.

٢٤٧

وأما إيقاع الإذاقة على لباس الجوع والخوف ، فلأنه لما وقع عبارة عما يغشى منهما ويلابس ، فكأنه قيل : فأذاقهم ما غشيهم من الجوع والخوف .. (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ رذيلة أخرى من رذائل أهل هذه القرية الكافرة بأنعم الله فقال : (وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ).

أى : ولقد جاء إلى أهل هذه القرية رسول من جنسهم ، يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، فأمرهم بطاعة الله وشكره ، ولكنهم كذبوه وأعرضوا عنه.

والتعبير بقوله (جاءَهُمْ) يدل على أن هذا الرسول وصل إليهم وبلغهم رسالة ربه ، دون أن يكلفهم الذهاب إليه ، أو البحث عنه.

والتعبير بالفاء في قوله : (فَكَذَّبُوهُ) يشعر بأنهم لم يتمهلوا ولم يتدبروا دعوة هذا الرسول ، وإنما قابلوها بالتكذيب السريع بدون روية ، مما يدل على غباوتهم وانطماس بصيرتهم.

وقوله ـ تعالى ـ (فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ) بيان للعاقبة السيئة التي حاقت بهم.

أى : فكانت نتيجة تكذيبهم السريع لنبيهم أن أخذهم العذاب العاجل الذي استأصل شأفتهم ، والحال أنهم هم الظالمون لأنفسهم ، لأن هذا العذاب ما نزل بهم إلا بعد أن كفروا بأنعم الله ، وكذبوا رسوله.

هذا ، والذي يتأمل هاتين الآيتين الكريمتين يراهما وإن كانتا تشملان حال كل قوم بدلوا نعمة الله كفرا .. إلا أنهما ينطبقان تمام الانطباق على كفار مكة.

وقد بين ذلك الإمام الآلوسى ـ رحمه‌الله ـ فقال ما ملخصه : وحال أهل مكة ـ سواء أضرب المثل لهم خاصة ، أم لهم ولمن سار سيرتهم كافة ـ أشبه بحال أهل تلك القرية من الغراب بالغراب ، فقد كانوا في حرم آمن ويتخطف الناس من حولهم ، وكانت تجبى إليهم ثمرات كل شيء رزقا ، ولقد جاءهم رسول منهم تحار في سمو مرتبته العقول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنذرهم وحذرهم فكفروا بأنعم الله ، وكذبوه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأذاقهم الله لباس الجوع والخوف ، حيث أصابهم بدعائه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم اشدد وطأتك على مضر ، واجعلها عليهم سنين كسنى يوسف» ـ ما أصابهم من جدب شديد ، فاضطروا إلى أكل الجيف .. وكان أحدهم ينظر إلى

__________________

(١) راجع تفسير الكشاف ج ٢ ص ٦٣٩.

٢٤٨

السماء فيرى شبه الدخان من الجوع ، وقد ضاقت عليهم الأرض بما رحبت من سرايا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حيث كانوا يغيرون عليهم .. (١).

ثم أمرهم ـ سبحانه ـ بأن يأكلوا مما أحله لهم ، وأن يشكروه على نعمه ، وأن يجتنبوا ما حرمه عليهم ، فقال ـ تعالى ـ :

(فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١١٤) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١١٥)

والفاء في قوله : (فَكُلُوا ...) للتفريع على ما تقدم من التمثيل بالقرية التي كفرت بأنعم الله ، والتي أصابها ما أصابها بسبب ذلك.

أى : لقد ظهر لكم حال الذين بدلوا نعمة الله كفرا ، ورأيتم كيف أذاقهم الله لباس الجوع والخوف ، فاحذروا أن تسيروا على شاكلتهم ، وكلوا من الحلال الطيب الذي رزقكم الله ـ تعالى ـ إياه.

واشكروا نعمة الله التي أنعم بها عليكم ، بأن تستعملوها فيما خلقت له ، وبأن تقابلوها بأسمى ألوان الطاعة لمسديها ـ عزوجل ـ.

(إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ) سبحانه ـ تعبدونه حق العبادة ، وتطيعونه حق الطاعة.

ثم بين ـ سبحانه ـ ما حرمه على عباده رعاية لمصالحهم فقال : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ ..).

والميتة في عرف الشرع : ما مات ح؟ ف أنفه ، أو قتل على هيئة غير مشروعة ، فيدخل

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٤ ص ٢٤٤.

٢٤٩

فيها المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة ، وما عدا عليها السبع.

وكان الأكل من الميتة محرما ، لفساد جسمها بسبب ذبول أجزائه وتعفنها ، ولأنها أصبحت بحالة تعافها الطباع السليمة لقذارتها وضررها.

والدم المحرم : هو ما يسيل من الحيوان الحي كثيرا كان أم قليلا وكذلك يحرم من دم الحيوان ما جرى منه بعد ذبحه ، وهو الذي عبر عنه القرآن بالمسفوح ..

والحكمة في تحريم الدم المسفوح ، أنه تستقذره النفوس الكريمة ، ويفضى شربه أو أكله إلى الإضرار بالنفس ..

وحرمة الخنزير شاملة للحمه ودمه وشحمه وجلده. وإنما خص لحمه بالذكر لأنه المقصود بالأكل ، ولأن سائر أجزائه كالتابعة للحمه ...

ومن الحكم في تحريم لحم الخنزير : قذارته ، واشتماله على دودة تضر بآكله ، كما أثبت ذلك العلم الحديث.

وقوله : (وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) معطوف على ما قبله من المحرمات.

والفعل (أُهِلَ) مأخوذ من الإهلال بمعنى رفع الصوت ، وكانوا في الجاهلية إذا أرادوا ذبح ما قربوه إلى آلهتهم ، سموا عليها أسماءها فيقولون : باسم اللات أو باسم العزى ، رافعين بذلك أصواتهم.

فأنت ترى أن تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير كان لعله ذاتية في تلك الأشياء ، أما تحريم ما أهل لغير الله به ، بسبب التوجه بالمذبوح إلى غير الله ـ عزوجل ـ.

وقوله ـ تعالى ـ : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) بيان لحالات الضرورة التي يباح للإنسان فيها أن يأكل من تلك المحرمات.

واضطر : من الاضطرار وهو الاحتياج إلى الشيء بشدة.

والمعنى : فمن ألجأته الضرورة إلى أكل شيء من هذه المحرمات ، حالة كونه «غير باغ» ، أى : غير طالب للمحرم وهو يجد غيره ، أو غير طالب له على جهة الاستئثار به على مضطر آخر ، «ولا عاد» أى : ولا متجاوز في أكله ما يسد الجوع ويحفظ الحياة «فإن الله» ـ تعالى ـ «غفور» واسع المغفرة لعبادة «رحيم» كثير الرحمة بهم (١).

__________________

(١) إذا أردت التفصيل لتفسير هذه الآية فارجع الى تفسير الآية رقم ١٧٣ من سورة البقرة ص ٣٥٠ للمؤلف.

٢٥٠

ثم نهى ـ سبحانه ـ عن القول على الله ـ تعالى ـ بغير علم اتباعا للظن والأوهام ، فقال :

(وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (١١٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١١٧)

قال الآلوسى ما ملخصه : قوله : (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ ..) «ما» موصولة ، والعائد محذوف ، أى : ولا تقولوا ـ في شأن الذي تصفه ألسنتكم من البهائم بالحل والحرمة ـ هذا حلال وهذا حرام ، من غير ترتب ذلك الوصف على ملاحظة وفكر ، فضلا عن استناده إلى وحى أو قياس مبنى عليه ، بل مجرد قول باللسان.

ولفظ «الكذب» منتصب على أنه مفعول به ل (تَقُولُوا) وقوله ـ سبحانه ـ : (هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ) بدل منه .. (١).

والمعنى : ولا تقولوا ـ أيها الجاهلون ـ للشيء الكذب الذي تصفه ألسنتكم ، وتحكيه وتنطق به بدون بينة أو برهان. هذا الشيء حلال وهذا الشيء حرام.

وقد حكى الله ـ تعالى ـ عن هؤلاء الجاهلين في آيات كثيرة ، أنهم حللوا وحرموا أشياء من عند أنفسهم ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ : (وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا ..) (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً ، قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) (٣).

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما معنى وصف ألسنتهم الكذب؟ قلت : هو من فصيح

__________________

(١) راجع تفسير الآلوسى ج ١٤ ص ٢٤٧.

(٢) سورة الانعام الآية ١٣٩.

(٣) سورة يونس الآية ٥٩.

٢٥١

الكلام وبليغه ، جعل قولهم كأنه عين الكذب ومحضه. فإذا نطقت به ألسنتهم فقد حلت الكذب بحليته ، وصورته بصورته ، كقولهم : وجهها يصف الجمال ، وعينها تصف السحر .. (١).

وقال بعض العلماء ما ملخصه : ويصح أن يكون لفظ الكذب مفعولا لتصف ، وأن يكون قوله : (هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ) مفعولا لتقولوا.

وعلى هذا الوجه يكون في وصف ألسنتهم الكذب ، مبالغة في وصف كلامهم بالكذب ، حتى لكأن ماهية الكذب كانت مجهولة ، فكشفت عنها ألسنتهم ووضحتها ووصفتها ونعتتها بالنعوت التي جلتها .. ومنه قول الشاعر :

أضحت يمينك من جود مصوّرة

لا ، بل يمينك منها صوّر الجود (٢)

واللام في قوله : (لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) هي لام الصيرورة والعاقبة ، أو هي ـ كما يقول صاحب الكشاف ـ من التعليل الذي لا يتضمن معنى الغرض ، لأن ما صدر عنهم من تحليل وتحريم دون أن يأذن به الله ، ليس الغرض منه افتراء الكذب فحسب ، بل هناك أغراض أخرى ، كظهورهم بمظهر أولى العلم ، وكحبهم للتباهى والتفاخر ..

وقوله : (لِتَفْتَرُوا) من الافتراء وهو أشنع أنواع الكذب ، لأنه اختلاق للكذب الذي لا يستند إلى شيء من الواقع.

أى : ولا تقولوا لما تحكيه ألسنتكم من أقوال وأحكام لا صحة لها ، هذا حلال وهذا حرام ، لتنسبوا ذلك إلى الله ـ تعالى ـ كذبا وزورا.

قال الإمام ابن كثير : ويدخل في الآية كل من ابتدع بدعة ، ليس له فيها مستند شرعي ، أو حلل شيئا مما حرم الله أو حرم شيئا مما أباح الله ، بمجرد رأيه وتشهيه (٣).

وقال الآلوسى : وحاصل معنى الآية : لا تسلموا ما لم يأتكم حله ولا حرمته عن الله ـ تعالى ـ ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حلالا ولا حراما ، فتكونوا كاذبين على الله ، لأن مدار الحل والحرمة ليس إلا حكمه ـ سبحانه ـ.

ومن هنا قال : أبو نضرة : لم أزل أخاف الفتيا منذ أن سمعت هذه الآية إلى يومى هذا.

وقال ابن العربي : كره مالك وقوم أن يقول المفتي : هذا حلال وهذا حرام في المسائل

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٤٣٣.

(٢) تفسير القاسمى ج ١٠ ص ٣٨٧٢.

(٣) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٥٩٠.

٢٥٢

الاجتهادية. وإنما يقال ذلك فيما نص الله عليه. ويقال في المسائل الاجتهادية : إنى أكره كذا وكذا ونحو ذلك (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) بيان لسوء عاقبتهم ، وخيبة مسعاهم.

أى : إن الذين يختلقون الكذب وينسبونه إلى الله ـ تعالى ـ لا يفوزون بمطلوب ، ولا يفلحون في الوصول إلى مأمول.

وقوله ـ تعالى ـ : (مَتاعٌ قَلِيلٌ) بيان لخسة ما يسعون للحصول إليه من منافع الدنيا ، وهو خبر لمبتدأ محذوف أى : متاعهم في الدنيا متاع قليل ، لأنهم عما قريب سيتركونه لغيرهم بعد رحيلهم عن هذه الدنيا.

ثم بين ـ سبحانه ـ سوء مصيرهم في الآخرة فقال : (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أى : ولهم في الآخرة عذاب شديد الألم.

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) (٢) وقوله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ، ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (٣).

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك ، أن ما حرمه على اليهود من طيبات ، كان بسبب ظلمهم وبغيهم ، وأن رحمته ـ تعالى ـ تسع العصاة متى تابوا وأصلحوا ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٨) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (١١٩)

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٤ ص ٢٤٨.

(٢) سورة لقمان الآية ٢٤.

(٣) سورة البقرة الآية ١٢٦.

٢٥٣

قال ابن كثير ـ رحمه‌الله ـ : لما ذكر ـ تعالى ـ أنه إنما حرم علينا الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به ، وإنما أرخص فيه عند الضرورة وفي ذلك توسعة لهذه الأمة التي يريد الله بها اليسر ولا يريد بها العسر ـ ، ذكر ـ سبحانه ـ بعد ذلك ما كان حرمه على اليهود في شريعتهم قبل أن ينسخها ، وما كانوا فيه من الآصار والتضييق والأغلال والحرج ، فقال : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ ..).

أى : في سورة الأنعام في قوله : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ، وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ، ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ) (١).

والمعنى : وعلى اليهود بصفة خاصة ، دون غيرهم من الأمم ، حرمنا بعض الطيبات التي سبق أن بيناها لك في هذا القرآن الكريم ، وما كان تحريمنا إياها عليهم إلا بسبب بغيهم وظلمهم.

وفي الآية الكريمة إبطال لمزاعمهم ، حيث كانوا يقولون : لسنا أول من حرمت عليه هذه الطيبات ، وإنما كانت محرمة على نوح وإبراهيم وغيرهما ممن جاء بعدهما.

وقوله : (مِنْ قَبْلُ) متعلق بحرمنا ، أو بقصصنا.

وبذلك يتبين أن ما حرمه الله ـ تعالى ـ على الأمة الإسلامية ، كالميتة والدم ولحم الخنزير .. كان من باب الرحمة بها ، والحرص على مصلحتها .. أما ما حرمه ـ سبحانه ـ على اليهود ، فقد كان بسبب بغيهم وظلمهم.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بيان لمظهر من مظاهر عدل الله ـ تعالى ـ في معاملته لعباده.

أى : وما ظلمنا هؤلاء اليهود بتحريم بعض الطيبات عليهم ، ولكن هم الذين ظلموا أنفسهم ، حيث تركوها تسير في طريق الشيطان ، ولم يوقفوها عند حدود الله ـ تعالى ـ ، فاستحقوا بسبب ذلك ما استحقوا من عقوبات.

وصدق الله إذ يقول : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ..) بيان لسعة رحمته ـ سبحانه ـ بعباده ، ورأفته بهم.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٥٩٠.

(٢) سورة يونس الآية ٤٤.

٢٥٤

والمراد بالجهالة : الجهل والسفه اللذان يحملان صاحبهما على ارتكاب ما لا يليق بالعقلاء ، وليس المراد بها عدم العلم.

قال مجاهد : كل من عصى الله ـ تعالى ـ عمدا أو خطأ فهو جاهل حتى ينزع عن معصيته.

وقال ابن عطية : الجهالة هنا بمعنى تعدى الطور ، وركوب الرأس : لا ضد العلم.

ومنه ما جاء في الخبر : «اللهم إنى أعوذ بك من أن أجهل ، أو يجهل على».

ومنه قول الشاعر :

ألا لا يجهلن أحد علينا

فنجهل فوق جهل الجاهلين (١)

والمعنى : ثم إن ربك ـ أيها الرسول الكريم ـ ، لكثير الغفران والرحمة لأولئك الذين عملوا الأعمال السيئة ، بدافع الجهل والسفه والطيش وعدم تدبر العواقب ، ثم إنهم بعد ذلك تابوا توبة صادقة عن تلك الأعمال السيئة ، ولم يكتفوا بذلك بل أصلحوا من شأن أنفسهم ، حيث أوقفوها عند حدود الله ـ تعالى ـ وأجبروها على تنفيذ أوامره ، واجتناب نواهيه.

قال الآلوسى : والتقييد بالجهالة قيل : لبيان الواقع ، لأن كل من يعمل السوء لا يعمله إلا بجهالة.

وقال العسكري : ليس المعنى أنه ـ تعالى ـ يغفر لمن يعمل السوء بجهالة ، ولا يغفر لمن عمله بدون جهالة ، بل المراد أن جميع من تاب فهذه سبيله. وإنما خص من يعمل السوء بجهالة ، لأن أكثر من يأتى الذنوب يأتيها بقلة فكر في عاقبة الأمر ، أو عند غلبة الشهوة ، أو في جهالة الشباب : فذكر الأكثر على عادة العرب في مثل ذلك (٢).

واسم الإشارة في قوله : (ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا) يعود إلى الأعمال السيئة التي عملوها قبل التوبة والإصلاح. أى : ثم تابوا توبة صادقة من بعد أن عملوا ما عملوا من سيئات ، وأصلحوا نفوسهم فهيأوها للسير على الطريق المستقيم.

والضمير في قوله : (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها) يعود إلى التوبة وما يصاحبها من فعل للطاعات ومن اجتناب للسيئات.

__________________

(١ ، ٢) تفسير الآلوسى ج ١٤ ص ٢٤٩.

٢٥٥

أى : إن ربك ـ أيها الرسول الكريم ـ من بعد هذه التوبة النصوح ، لكثير المغفرة والرحمة للتائبين.

والتعبير ـ بثم ـ في قوله : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ ...) وقوله : (... ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) لبيان الفرق الشاسع بين رحمة الله ـ تعالى ـ بعباده ، وبين ما يصدر عن بعضهم من كفران وارتكاب للمعاصي ، وبين المصرين على فعل السوء ، وبين التائبين عنه.

وكرر ـ سبحانه ـ (إِنَّ رَبَّكَ) مرتين في الآية الواحدة ، لتأكيد الوعد وإظهار كمال العناية بإنجازه.

وشبيه بهذه الآية الكريمة قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ، ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ ، فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ ، وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) (١).

ثم مدح ـ سبحانه ـ خليله ابراهيم مدحا عظيما ، وأنه بشره بالعطاء الذي يسعده في دنياه وآخرته ، وأمر نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم باتباع ملة أبيه إبراهيم ، فقال ـ تعالى ـ :

(إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٠) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٢١) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٢٢) ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٣) إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (١٢٤)

فأنت ترى أن الله ـ تعالى ـ قد وصف خليله ابراهيم ـ عليه‌السلام ـ بجملة من الصفات الفاضلة. والمناقب الحميدة.

وصفه أولا ـ بأنه (كانَ أُمَّةً).

__________________

(١) سورة النساء الآية ١٧.

٢٥٦

ولفظ (أُمَّةً) يطلق في اللغة بإطلاقات متعددة ، منها : الجماعة ، كما في قوله ـ تعالى ـ : (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ) (١) أى : جماعة من الناس ...

ومنها : الدين والملة ، كما في قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ ..) (٢) أى : على دين وملة.

ومنها : الحين والزمان كما في قوله ـ سبحانه ـ : (وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ) (٣). أى : إلى زمان معين ..

والمراد بقوله ـ سبحانه ـ : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً ..) أى : كان عنده من الخير ما كان عند أمة ، أى جماعة كثيرة من الناس ، وهذا التفسير مروى عن ابن عباس.

وقال مجاهد : سمى ـ عليه‌السلام ـ أمة لانفراده بالإيمان في وقته مدة ما.

وفي صحيح البخاري أنه قال لزوجته سارة : ليس على الأرض اليوم مؤمن غيرى وغيرك.

ويصح أن يكون المراد بقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً ..) أى : كان إماما يقتدى به في وجوه الطاعات. وفي ألوان الخيرات ، وفي الأعمال الصالحات ، وفي إرشاد الناس إلى أنواع البر ، قال ـ تعالى ـ : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً ..) (٤).

ووصفه ثانيا ـ بأنه كان «قانتا لله» أى مطيعا لله ، خاضعا لأوامره ونواهيه ، من القنوت وهو الطاعة مع الخضوع.

ووصفه ـ ثالثا ـ بأنه كان ، حنيفا ، أى : مائلا عن الأديان الباطلة إلى الدين الحق. من الحنف بمعنى الميل والاعوجاج ، يقال : فلان برجله حنف أى اعوجاج وميل.

ومنه قول أم الأحنف بن قيس وهي تداعبه :

والله لو لا حنف برجله

ما كان في فتيانكم من مثله

ووصفه ـ رابعا ـ بأنه منزه عن الإشراك بالله ـ تعالى ـ فقال : (وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

__________________

(١) سورة القصص الآية ٢٣.

(٢) سورة الزخرف الآية ٢٢.

(٣) سورة هود الآية ٨.

(٤) سورة البقرة الآية ١٢٤.

٢٥٧

أى : ولم يكن ابراهيم ـ عليه‌السلام ـ من الذين أشركوا مع الله ـ تعالى ـ آلهة أخرى في العبادة أو الطاعة ، أو في أى من الأمور ، بل أخلص عبادته لخالقه ـ عزوجل ـ.

وقال ـ كما حكى القرآن عنه ـ : (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١).

ووصفه ـ خامسا ـ بقوله ـ سبحانه ـ : (شاكِراً لِأَنْعُمِهِ) أى : معترفا بفضل الله ـ تعالى ـ عليه ، ومستعملا نعمه فيما خلقت له ، ومؤديا حقوق خالقه فيها. قال ـ تعالى ـ : (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) أى : قام بأداء جميع ما كلفه الله به.

وبعد أن مدح ـ سبحانه ـ إبراهيم بتلك الصفات الجامعة لمجامع الخير ، أتبع ذلك ببيان فضله ـ تعالى ـ عليه فقال : (اجْتَباهُ) أى اختاره واصطفاه للنبوة. من الاجتباء بمعنى الاصطفاء والاختيار.

واجتباء الله ـ تعالى ـ لعبده معناه : اختصاصه ذلك العبد بخصائص ومزايا يحصل له عن طريقها أنواع من النعم بدون كسب منه.

(وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أى : وأرشده إلى الطريق القويم ، الذي دعا الصالحون ربهم أن يرشدهم إليه ، حيث قالوا في تضرعهم : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ). وهو طريق الإسلام.

(وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) أى : وجمعنا له خير الدنيا من كل ما يحتاج المؤمن إليه ليحيا حياة طيبة ، كهدايته إلى الدين الحق ، ومنحه نعمة النبوة ، وإعطائه الذرية الصالحة ، والسيرة الحسنة ، والمال الوفير.

وقد أشار القرآن الكريم إلى جانب من هذه النعم ، كما في قوله ـ تعالى ـ : (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) (٢).

وكما في قوله ـ تعالى ـ : (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا ..) (٣).

(وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) أى : وإنه في الدار الآخرة لمندرج في عباد الله الصالحين ، الذين رضى الله عنهم ورضوا عنه ، والذين كانت لهم جنات الفردوس نزلا.

__________________

(١) سورة الأنعام الآية ٧٩.

(٢) سورة الشعراء الآية ٨٤.

(٣) سورة مريم الآية ٤٩.

٢٥٨

ثم ختم ـ سبحانه ـ هذه النعم التي منحها لخليله إبراهيم ، بأمر نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يتبع ملة أبيه إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ فقال ـ تعالى ـ : (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

والمراد بملة إبراهيم : شريعته التي أمره الله ـ تعالى ـ باتباعها في عقيدته وعبادته ومعاملاته ، وهي شريعة الإسلام ، التي عبر عنها آنفا بالصراط المستقيم في قوله ـ تعالى ـ : (اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).

والمراد باتباع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم له في ذلك : الاقتداء به في التوحيد وفي أصول الدين ، الثابتة في كل الشرائع ، لا الفروع الشرعية التي تختلف من شريعة إلى أخرى ، بحسب المصالح التي يريدها الله ـ تعالى ـ لعباده.

أى : ثم أوحينا إليك ـ أيها الرسول الكريم ـ بأن تتبع في عقيدتك وشريعتك (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) أى : شريعته التي هي شريعة الإسلام.

قال صاحب الكشاف : قوله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ..) في «ثم» هذه ما فيها من تعظيم منزلة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإجلال محله ، والإيذان بأن أشرف ما أوتى خليل الله إبراهيم من الكرامة ، وأجل ما أوتى من النعمة ، اتباع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لملته ، من جهة أنها دلت على تباعد هذا النعت في المرتبة ، من بين سائر النعوت التي أثنى الله عليه بها (١).

وقال القرطبي : وفي هذه الآية دليل على جواز اتباع الأفضل للمفضول فيما يؤدى إلى الصواب ، ولا درك على الفاضل في هذا ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل الأنبياء ، وقد أمر بالاقتداء بهم ، قال ـ تعالى ـ : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ ..) (٢) وقال ـ سبحانه ـ هنا : (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً ..) (٣).

وقوله : (حَنِيفاً) حال من إبراهيم ، أى : من المضاف إليه ، وصح ذلك لأن المضاف هنا وهو (مِلَّةَ) كالجزء من المضاف إليه وهو إبراهيم من حيث صحة الاستغناء بالثاني عن الأول ، لأن قولك : أن اتبع إبراهيم حنيفا كلام تام ..

وقد أشار ابن مالك ـ رحمه‌الله ـ إلى هذا المعنى بقوله :

ولا تجز حالا من المضاف له

إلا إذا اقتضى المضاف عمله

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٤٣٤.

(٢) سورة الأنعام الآية ٩٠.

(٣) تفسير القرطبي ج ١٠ ص ١٩٠.

٢٥٩

أو كان جزء ماله أضيفا

أو مثل جزئه فلا تحيفا

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) تنزيه لإبراهيم ـ عليه‌السلام ـ عن أى لون من ألوان الإشراك بالله ـ تعالى ـ.

أى : وما كان إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ من المشركين مع الله ـ تعالى ـ آلهة أخرى لا في عقيدته ولا في عبادته ولا في أى شأن من شئونه.

وفي ذلك رد على المشركين الذين زعموا أنهم على ملة ابراهيم ، ورد ـ أيضا ـ على اليهود والنصارى الذين زعموا أن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ كان على ملتهم.

قال ـ تعالى ـ : (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١).

وبعد أن بين ـ سبحانه ـ حقيقة عقيدة إبراهيم ، ومدحه بجملة من الصفات الجليلة ، وبين جانبا من مظاهر فضله ـ سبحانه ـ عليه ، أتبع ذلك ببيان أن تحريم العمل في يوم السبت أمر خاص باليهود ، ولا علاقة له بشريعة إبراهيم أو بشريعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال ـ تعالى ـ : (إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ ...).

والمراد بالسبت : اليوم المسمى بهذا الاسم ، وأصله ـ كما يقول ابن جرير ـ الهدوء والسكوت في راحة ودعة ، ولذلك قيل للنائم مسبوت لهدوئه وسكون جسده واستراحته ، كما قال ـ جل ثناؤه ـ : (وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً) أى : راحة لأبدانكم .. (٢).

والكلام على حذف مضاف ، والمعنى : إنما جعل تعظيم يوم السبت ، والتخلي فيه للعبادة ، (عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) وهم اليهود ، حيث أمرهم نبيهم موسى ـ عليه‌السلام ـ بتعظيم يوم الجمعة ، فخالفوه واختاروا السبت.

قال الجمل ما ملخصه : قوله ـ سبحانه ـ : (عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) أى : خالفوا نبيهم ، حيث أمرهم : أن يعظموا يوم الجمعة بالتفرغ للعبادة فيه ، وشدد عليهم بتحريم الاصطياد فيه : فليس المراد بالاختلاف أن بعضهم رضى ، وبعضهم لم يرض ، بل المراد به امتناع الجميع ـ حيث قالوا لا نريد يوم الجمعة ، واختاروا السبت.

ثم قال : وفي معنى الآية قول آخر. قال قتادة : إن الذين اختلفوا فيه هم اليهود ، حيث استحله بعضهم وحرمه بعضهم ، فعلى هذا القول يكون معنى قوله (إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ ..).

__________________

(١) سورة آل عمران الآية ٦٧.

(٢) تفسير ابن جرير الطبري ج ١ ص ٣٢٧.

٢٦٠