التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٨

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٨

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0668-X
الصفحات: ٥٩٧

لأن هذه الفضائل متى سرت بينكم ، نلتم السعادة في دينكم ودنياكم ، إذ بالعدل ينال كل صاحب حق حقه ، وبالإحسان يكون التحاب والتواد والتراحم ، وبصلة الأقارب يكون التكافل والتعاون ...

وبعد أن أمر ـ سبحانه ـ بأمهات الفضائل ، نهى عن رءوس الرذائل فقال ـ تعالى ـ : (وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ..).

والفحشاء : كل ما اشتد قبحه من قول أو فعل. وخصها بعضهم بالزنا.

والمنكر : كل ما أنكره الشرع بالنهى عنه ، فيعم جميع المعاصي والرذائل والدناءات على اختلاف أنواعها.

والبغي : هو تجاوز الحد في كل شيء يقال : بغى فلان على غيره ، إذا ظلمه وتطاول عليه.

وأصله من بغى الجرح إذا ترامى إليه الفساد ...

أى : كما أمركم ـ سبحانه ـ بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ، فإنه ـ تعالى ـ ينهاكم عن كل قبيح وعن كل منكر ، وعن كل تجاوز لما شرعه الله ـ عزوجل ـ.

وذلك لأن هذه الرذائل ما شاعت في أمة إلا وكانت عاقبتها خسرا ، وأمرها فرطا ، والفطرة البشرية النقية تأبى الوقوع أو الاقتراب من هذه الرذائل ، لأنها تتنافى مع العقول السليمة ، ومع الطباع القويمة.

ومهما روج الذين لم ينبتوا نباتا حسنا لتلك الرذائل ، فإن النفوس الطاهرة ، تلفظها بعيدا عنها ، كما يلفظ الجسم الأشياء الغريبة التي تصل إليه.

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بقوله : (يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أى : ينبهكم ـ سبحانه ـ أكمل تنبيه وأحكمه إلى ما يصلحكم عن طريق اتباع ما أمركم به وما نهاكم عنه ، لعلكم بذلك تحسنون التذكر لما ينفعكم ، وتعملون بمقتضى ما علمكم ـ سبحانه.

هذا ، وقد ذكر المفسرون في فضل هذه الآية كثيرا من الآثار والأقوال ، ومن ذلك ما أخرجه الحافظ أبو يعلى في كتاب معرفة الصحابة .. قال : بلغ أكثم بن صيفي مخرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأراد أن يأتيه ، فأبى قومه أن يدعوه وقالوا له : أنت كبيرنا لم تكن لتخف إليه. قال : فليأته من يبلغه عنى ويبلغني عنه. فانتدب رجلان فأتيا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالا له : نحن رسل أكثم بن صيفي وهو يسألك من أنت وما أنت؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما أنا فمحمد ابن عبد الله ، وأما ما أنا ، فأنا عبد الله ورسوله».

٢٢١

ثم تلا عليهم هذه الآية : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ ..) الآية.

فقالوا : ردد علينا هذا القول ، فردده عليهم حتى حفظوه ، فأتيا أكثم فقالا له : أبى أن يرفع نسبه فسألنا عن نسبه فوجدناه زاكي النسب .. وقد رمى إلينا بكلمات قد سمعناها فلما سمعهن أكثم قال : إنى أراه يأمر بمكارم الأخلاق وينهى عن ملائمها ، فكونوا في هذا الأمر رءوسا ، ولا تكونوا فيه أذنابا (١).

وعن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ قال : أعظم آية في كتاب الله : «الله لا إله إلا هو الحي القيوم ..». وأجمع آية في كتاب الله للخير والشر : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) وأكثر آية في كتاب الله تفويضا : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ..). وأشد آية في كتاب الله رجاء : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ..) (٢).

ثم أمرهم ـ سبحانه ـ بالوفاء بالعهود فقال : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ ..).

والعهد : ما من شأنه أن يراعى ويحفظ ، كاليمين والوصية وما يشبههما.

وعهد الله : أوامره ونواهيه وتكاليفه الشرعية التي كلف الناس بها ، والوفاء بعهد الله ـ تعالى ـ : يتأتى بتنفيذ أوامره وتكاليفه ، واجتناب ما نهى عنه.

قال القرطبي : قوله ـ تعالى ـ : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ ...) لفظ عام لجميع ما يعقد باللسان ، ويلتزمه الإنسان من بيع أو صلة ، أو مواثقة في أمر موافق للديانة.

وهذه الآية مضمن قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) لأن المعنى فيها : افعلوا كذا ، وانتهوا عن كذا ، فعطف على ذلك التقدير.

وقد قيل إنها نزلت في بيعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الإسلام. وقيل : نزلت في التزام الحلف الذي كان في الجاهلية ، وجاء الإسلام بالوفاء به ـ كحلف الفضول ـ.

والعموم يتناول كل ذلك ... (٣).

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٥٨٣.

(٢) تفسير فتح القدير ج ٥ ص ٢٨٩.

(٣) تفسير القرطبي ج ١٠ ص ١٦٩.

٢٢٢

والمعنى : إن الله يأمركم ـ أيها المسلمون ـ بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ، ويأمركم ـ أيضا ـ بالوفاء بالعهود التي التزمتم بها مع الله ـ تعالى ـ أو مع الناس.

والآيات التي وردت في وجوب الوفاء بالعهود كثيرة ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ : (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً) (١).

وخص ـ سبحانه ـ الأمر بالوفاء بالعهد بالذكر ـ مع أنه داخل في المأمورات التي اشتملت عليها الآية السابقة كما أشار إلى ذلك القرطبي في كلامه السابق ـ لأن الوفاء بالعهود من آكد الحقوق وأوجبها على الإنسان.

وقوله تعالى : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) (٢).

ومن الأحاديث التي وردت في ذلك ما رواه الشيخان عن أبى هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان». (٣).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها ...) تأكيد للأمر بالوفاء ، وتحذير من الخيانة والغدر.

والنقض في اللغة : حقيقة في فسخ ما ركب بفعل يعاكس الفعل الذي كان به التركيب. واستعمل هنا على سبيل المجاز في إبطال العهد.

والأيمان : جمع يمين. وتطلق بمعنى الحلف والقسم. وأصل ذلك أن العرب كانوا إذا أرادوا توثيق عهودهم بالقسم يقسمونه ، ووضع كل واحد من المتعاهدين يمينه في يمين صاحبه.

أى : كونوا أوفياء بعهودكم ، ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها ، أى : بعد توثيقها وتغليظها عن طريق تكرارها بمرة ومرتين ، أو عن طريق الإتيان فيها ببعض أسماء الله ـ تعالى ـ وصفاته.

وقوله ـ تعالى ـ : (بَعْدَ تَوْكِيدِها) للإشعار بأن نقض الأيمان وإن كان قبيحا في كل حالة ، فهو في حالة توكيد الأيمان وتغليظها أشد قبحا.

ولذا قال بعض العلماء : وهذا القيد لموافقة الواقع ، حيث كانوا يؤكدون أيمانهم في

__________________

(١) سورة الإسراء الآية ٣٤.

(٢) سورة البقرة الآية ٤٠.

(٣) رياض الصالحين للإمام النووي ص ٣٠٢.

٢٢٣

المعاهدة ، وحينئذ فلا مفهوم له ، فلا يختص النهى عن النقض بحالة التوكيد ، بل نقض اليمين منهى عنه مطلقا. أو يراد بالتوكيد القصد ، ويكون احترازا عن لغو اليمين. وهي الصادرة عن غير قصد للحلف» (١).

وقال الإمام ابن كثير ما ملخصه : ولا تعارض بين هذه الآية وبين قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما ثبت عنه في الصحيحين أنه قال : «إنى والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها ، إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها ـ وفي رواية ـ وكفرت عن يميني» لأن هذه الأيمان المراد بها في الآية : الداخلة في العهود والمواثيق ، لا الأيمان التي هي واردة في حث أو منع ..» (٢).

والخلاصة ، أن الآية الكريمة تنهى المؤمن عن نقض الأيمان نهيا عاما ، إلا أن السنة النبوية الصحيحة قد خصصت هذا التعميم بإباحة نقض اليمين إذا كانت مانعة من فعل خير ، ويؤيد هذا التخصيص قوله ـ تعالى ـ : (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ ..) (٣).

وجملة «وقد جعلتم الله عليكم كفيلا ..» حال من فاعل «تنقضوا» ، وهي مؤكدة لمضمون ما قبلها من وجوب الوفاء بالعهود والنهى عن نقضها.

والكفيل : من يكفل غيره ، أى : يضمنه في أداء ما عليه.

أى : ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها ، والحال أنكم قد جعلتم الله ـ تعالى ـ ضامنا لكم فيما التزمتم به من عهود ، وشاهدا ورقيبا على أقوالكم وأعمالكم.

فالجملة الكريمة تحذر المتعاهدين من النقض بعد أن جعلوا الله ـ تعالى ـ كفيلا عليهم.

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بهذا التهديد الخفى فقال ـ تعالى ـ : (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ). أى : إن الله ـ تعالى ـ يعلم ما تفعلون من الوفاء أو النقض ، وسيجاز بكم بما تستحقون من خير أو شر ، فالمراد من العلم لازمه ، وهو المجازاة على الأعمال.

ثم ضرب ـ سبحانه ـ مثلا لتقبيح نقض العهد ، فقال ـ تعالى ـ : (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً).

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٥٩٤.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٥٨٣.

(٣) راجع تفسير هذه الآية في تفسيرنا لسورة البقرة ص ٤٩٩.

٢٢٤

وقوله : (غَزْلَها) اى : مغزولها ، فهو مصدر بمعنى المفعول. والفعل منه غزل يغزل ـ بكسر الزاى .. من باب ضرب. يقال غزلت المرأة الصوف أو القطن غزلا.

والجار والمجرور في قوله (مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ) متعلق بالفعل (نَقَضَتْ) أى : نقضته وأفسدته من بعد إبرامه وإحكامه.

و (أَنْكاثاً) حال مؤكدة من (غَزْلَها) ، ويجوز أن يكون مفعولا ثانيا ، بتضمين الفعل نقضت معنى صيرت أو جعلت.

والأنكاث : جمع نكث ـ بكسر النون ـ ، بمعنى منكوث أى منقوض ، وهو ما نقض وحل فتله ليغزل ثانيا ، والجمع أنكاث كحمل وأحمال.

يقال : نكث الرجل العهد نكثا ـ من باب قتل ـ إذا نقضه ونبذه ، ومنه قوله ـ تعالى ـ (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ).

قال ابن كثير : هذه امرأة خرقاء كانت بمكة ، كلما غزلت شيئا نقضته بعد إبرامه.

وقال مجاهد وقتادة وابن زيد : هذا مثل لمن نقض عهده بعد توكيده. وهذا أرجح وأظهر سواء أكان بمكة امرأة تنقض غزلها أم لا (١).

والمعنى : كونوا ـ أيها المسلمون ـ أوفياء بعهودكم ، ولا تنقضوها بعد إبرامها ، فإنكم إن نقضتموها كان مثلكم كمثل تلك المرأة الحمقاء ، التي كانت تفتل غزلها فتلا محكما ، ثم تنقضه بعد ذلك ، وتتركه مرة أخرى قطعا منكوثة محلولة ..

فالجملة الكريمة تحقر في كل جزئية من جزئياتها ، حال من ينقض العهد ، وتشبهه على سبيل التنفير والتقبيح بحال امرأة ملتاثه في عقلها ، مضطربة في تصرفاتها.

وقوله ـ سبحانه ـ : (تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ).

إبطال للأسباب التي كان يتخذها بعض الناس ذرائع ومبررات لنقض العهود.

والدّخل ـ بفتح الخاء ـ : المكر والغش والخديعة. وهو في الأصل اسم للشيء الذي يدخل في غيره وليس منه.

قال الراغب : والدخل كناية عن الفساد والعداوة المستبطنة ، كالدّغل ، وعن الدعوة في النسب ... ومنه قيل : شجرة مدخولة ـ أى ليست من جنس الأشجار التي حولها (٢).

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٥٨٤.

(٢) المفردات في غريب القرآن للراغب الاصفهانى ص ١٦٦.

٢٢٥

وقوله (أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ ...) متعلق بقوله (تَتَّخِذُونَ).

وقوله (أَرْبى) مأخوذ من الربو بمعنى الزيادة والكثرة. يقال : ربا الشيء يربو إذا زاد وكثر.

والمعنى : لا تكونوا مشبهين لامرأة هذا شأنها ، حالة كونكم متخذين أيمانكم وأقسامكم وسيلة للغدر والخيانة ، من أجل أن هناك جماعة أوفر عددا وأكثر مالا من جماعة أخرى.

قال القرطبي : قال المفسرون : نزلت هذه الآية في العرب الذين كانت القبيلة منهم إذا حالفت أخرى ، ثم جاءت إحداهما قبيلة أخرى كبيرة قوية فداخلتها غدرت بالأولى ونقضت عهدها ، ورجعت إلى هذه الكبرى ، فنهاهم الله ـ تعالى ـ : أن ينقضوا العهود من أجل أن طائفة أكثر من طائفة أخرى ، أو أكثر أموالا ...

وقال الفراء : المعنى : لا تغدروا بقوم لقلتهم وكثرتكم ، أو لقلتكم وكثرتهم وقد عززتموهم بالأيمان (١).

وقال ابن كثير : قال مجاهد : كانوا يحالفون الحلفاء ، فيجدون أكثر منهم وأعز ، فينقضون حلف هؤلاء ويحالفون أولئك الذين هم أكثر وأعز ، فنهوا عن ذلك (٢).

والخلاصة : أن الآية الكريمة تدعو إلى وجوب الوفاء بالعهود في جميع الأحوال ، وتنهى عن اللجوء إلى الذرائع الباطلة ، من أجل نقض العهود ، إذ الإسلام لا يقر هذه الذرائع وتلك المبررات ، بدعوى أن هناك جماعة أقوى من جماعة ، أو دولة أعز من دولة ، وإنما الذي يقره الإسلام هو مراعاة الوفاء بالعهود ، وعدم اتخاذ الأيمان وسيلة للغش والخداع.

والضمير المجرور في قوله : (إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ) يعود على مضمون الجملة المتقدمة وهي قوله ـ تعالى ـ : (أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ).

أى : إنما يبلوكم الله ويختبركم بكون أمة أربى من أمة ، لينظر أتفون بعهودكم أم لا. وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله : قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ) الضمير لقوله : (أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ ...) لأنه في معنى المصدر. أى : إنما يختبركم بكونهم أربى ، لينظر أتتمسكون بحبل الوفاء بعهد الله ، وما عقدتم على أنفسكم ووكدتم من أيمان البيعة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أم تغترون بكثرة قريش وثروتهم وقوتهم. وقلة المؤمنين وفقرهم وضعفهم (٣).

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٠ ص ١٧١.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٥٨٤.

(٣) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٦٣١.

٢٢٦

ويجوز أن يعود إلى ما أمر الله به من الوفاء بالعهد ، فيكون المعنى : إنما يبلوكم الله ويختبركم بما أمركم به من الوفاء بالعهود ، ومن النهى عن النقض ليظهر لكم المطيع من العاصي ، وقوى الإيمان من ضعيفه.

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة ببيان أن مرد الفصل بين العباد فيما اختلفوا فيه إليه ـ تعالى ـ وحده ، فقال : (وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) فيجازى أهل الحق بما يستحقون من ثواب ، ويجازى أهل الباطل بما هم أهله من عقاب.

ثم بين ـ سبحانه ـ أن قدرته لا يعجزها شيء فقال ـ تعالى ـ : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ) أيها الناس (أُمَّةً واحِدَةً) متفقة على الحق (وَلكِنْ) لحكم يعلمها ولا تعلمونها ، ولسنن وضعها في خلقه (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) إضلاله لاستحبابه العمى على الهدى ، وإيثاره الغي على الرشد (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) هدايته لحسن استعداده ، وسلامة اختياره ، ونهيه النفس عن الهوى.

(وَلَتُسْئَلُنَ) أيها الناس يوم القيامة سؤال محاسبة ومجازاة (عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) في الدنيا ، فيثيب الطائعين بفضله ، ويعاقب العصاة بعدله.

وبعد أن أمر ـ سبحانه ـ بالوفاء بالعهود ونهى عن نقضها بصفة عامة ، أتبع ذلك بالنهى عن الحنث في الإيمان بصفة خاصة ، فقال تعالى :

(وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٩٤) وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩٥) ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٦) مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ

٢٢٧

أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٩٧)

فقوله ـ سبحانه ـ (وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ) تصريح بالنهى عن اتخاذ الإيمان من أجل الغش والخديعة ، بعد النهى عن نقض العهود بصفة عامة. أى : ولا تتخذوا ـ أيها المؤمنون ـ الحلف بالله ـ تعالى ـ ذريعة إلى غش الناس وخداعهم واستلاب حقوقهم ، فقد جرت عادة الناس أن يطمئنوا إلى صدق من يقسم بالله ـ تعالى ـ ، فلا تجعلوا هذا الاطمئنان وسيلة للكذب عليهم ، ولإفساد ما بينكم وبينهم من مودة.

ثم رتب ـ سبحانه ـ على هذا النهى ما من شأنه أن يردع النفوس عن اتخاذ الأيمان دخلا فقال : (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها) وأصل الزلل الخروج عن الطريق السليم. يقال : زل فلان يزل زللا وزلولا ، إذا دحضت قدمه ولم تصب موضعها الصحيح أى : لا تتخذوا أيمانكم وسيلة للخديعة والإفساد بين الناس ، فتزل أقدامكم عن طريق الإسلام بعد ثبوتها عليها ، ورسوخها فيها ، قالوا : والجملة الكريمة مثل يضرب لكل من وقع في بلية ومحنة ، بعد أن كان في عافية ونعمة.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : لم وحدت القدم ونكرت؟ قلت لاستعظام أن تزل قدم واحدة عن طريق الحق. بعد أن ثبتت عليه ، فكيف بأقدام كثيرة (١)؟.

وقوله (وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) بيان لما يصيبهم من عذاب دنيوى بسبب اتخاذ أيمانهم دخلا بينهم. أى : وتذوقوا السوء وهو العذاب الدنيوي من المصائب والخوف والجوع ، بسبب صدودكم وإعراضكم عن أوامر الله ونواهيه ، أو بسبب صدكم لغيركم عن الدخول في دين الله ، حيث رأى منكم ما يجعله ينفر منكم ومن دينكم.

والتعبير بتذوقوا فيه إشارة إلى أن العذاب الدنيوي الذي سينزل بهم بسبب اتخاذهم أيمانهم دخلا بينهم ، سيكون عذابا شديدا يحسون آلامه إحساسا واضحا ، كما يحس الشارب للشيء المر مرارته ، ويتذوق آلامه.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٤٢٧.

٢٢٨

قال ابن كثير : حذر الله ـ تعالى ـ عباده عن اتخاذ الأيمان دخلا ، أى : خديعة ومكرا ، لئلا تزل قدم بعد ثبوتها ؛ مثل لمن كان على الاستقامة وحاد عنها ، وزل عن طريق الهدى بسبب الأيمان الحانثة ، المشتملة على الصد عن سبيل الله ، لأن الكافر إذا رأى أن المؤمن قد عاهده ثم غدر به ، لم يبق له وثوق بالدين ، فانصد بسببه عن الدخول في الإسلام (١).

وقوله : (وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) لا يعلم مقدار شدته وهو له إلا الله ـ عزوجل ـ فأنت ترى أن الآية الكريمة قد رتبت على اتخاذ الأيمان دخلا ، انقلاب حالة الإنسان من الخير إلى الشر ، ونزول العذاب الدنيوي والأخروى به.

ثم نهاهم ـ سبحانه ـ عن أن يبيعوا دينهم بدنياهم فقال ـ تعالى ـ : (وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً).

والاشتراء هنا : استعارة للاستبدال ، والذي استبدل به الثمن القليل هو الوفاء بعهد الله.

والمراد بعهد الله ـ تعالى ـ : أوامره ونواهيه التي كلفنا بالتزامها والعمل بمقتضاها.

والمراد بالثمن القليل : حظوظ الدنيا وشهواتها وزينتها من الأموال وغيرها.

والمعنى : ولا تستبدلوا بأوامر الله ـ تعالى ـ ونواهيه ، عرضا قليلا من أعراض الدنيا الزائلة ، بأن تنقضوا عهودكم في مقابل منفعة دنيوية زائلة.

وليس وصف الثمن بالقلة في قوله : (ثَمَناً قَلِيلاً) من الأوصاف المخصصة للنكرات ، بل هو من الأوصاف اللازمة للثمن المحصل في مقابل عدم الوفاء بالعهد ، إذ لا يكون إلا قليلا وإن بلغ ما بلغ من أعراض الدنيا بجانب رضا الله ـ تعالى ـ.

ورحم الله الإمام ابن كثير ، فقد قال عند تفسيره لهذه الآية الكريمة : (وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) أى : لا تعتاضوا عن الأيمان بالله عرض الحياة الدنيا وزينتها ، فإنها قليلة ، ولو حيزت لابن آدم الدنيا بحذافيرها لكان ما عند الله هو خير له (٢).

ثم رغبهم ـ سبحانه ـ فيما عنده فقال : (إِنَّما عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

أى : إن ما ادخره الله ـ تعالى ـ لكم من ثواب عظيم ، وأجر جزيل ، وحياة طيبة ، هو خير لكم من ذلك الثمن القليل الذي تتطلعون إليه ، وتنقضون العهود من أجله ، إن كنتم من أهل العلم والفطنة ، الذين يؤثرون الباقي على الفاني.

__________________

(١ ، ٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٥٨٥.

٢٢٩

قال الآلوسى : قوله (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أى : إن كنتم من أهل العلم والتمييز. فالفعل منزل منزلة اللازم. وقيل : متعد ، والمفعول محذوف ، وهو فضل ما بين العوضين ، والأول أبلغ ومستغن عن التقدير (١).

ثم أضاف ـ سبحانه ـ إلى ترغيبهم في العمل بما يرضيه ترغيبا آخر فقال : (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ).

أى : ما عندكم من متاع الدنيا وزهرتها يفنى وينقضي ويزول ، وما عند الله ـ تعالى ـ في الآخرة من عطاء باق لا يفنى ولا يزول ، فآثروا ما يبقى على ما ينفد. يقال : نفد الشيء بكسر الفاء ـ ينفد ـ بفتحها ـ نفادا ونفودا ، إذا ذهب وفنى.

ثم بشر ـ سبحانه ـ الصابرين على طاعته بأعظم البشارات فقال : (وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).

أى : ولنجزين الذين صبروا على طاعتنا ، واجتنبوا معصيتنا ، ووفوا بعهودنا ، بجزاء أفضل وأكرم مما كانوا يعملونه في الدنيا من خيرات وطاعات.

وأكد ـ سبحانه ـ هذه البشارة بلام القسم ، ونون التوكيد ، لترغيبهم في الثبات على فضيلة الصبر ، وعلى الوفاء بالعهد.

قال الجمل ما ملخصه : وقوله (أَجْرَهُمْ) مفعول ثان لنجزى. وقوله (بِأَحْسَنِ) نعت لمحذوف ، أى : بجزاء أحسن من عملهم الذي كانوا يعملونه في الدنيا ، والباء بمعنى على (٢).

ثم بين ـ سبحانه ـ حسن عاقبة المؤمنين الذين يحرصون على العمل الصالح فقال ـ تعالى ـ : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً ، وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).

أى : من عمل عملا صالحا ، بأن يكون خالصا لوجه الله ـ تعالى ـ وموافقا لما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سواء أكان هذا العامل المؤمن ذكرا أم أنثى ، فلنحيينه حياة طيبة ، يظفر معها بصلاح البال ، وسعادة الحال.

وقال ـ سبحانه ـ : (مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) مع أن لفظ «من» في قوله : (مَنْ عَمِلَ)

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٤ ص ٢٢٤.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٥٩٦.

٢٣٠

يتناول الذكور والإناث ؛ للتنصيص على النوعين ، حتى يكون أغبط لهما ، ولدفع ما قد يتوهم من أن الخطاب للذكور وحدهم.

ولذا قال صاحب الكشاف : فإن قلت «من» متناول في نفسه للذكر والأنثى فما معنى تبيينه بهما؟ قل : هو مبهم صالح على الإطلاق للنوعين ، إلا أنه إذا ذكر كان الظاهر تناوله للذكور ، فقيل «من ذكر أو أنثى» على التبيين ليعم الوعد النوعين جميعا (١).

وقيد ـ سبحانه ـ العامل بكونه مؤمنا فقال : (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) لبيان أن العمل لا يكون مقبولا عند الله ـ تعالى ـ إلا إذا كان مبنيا على العقيدة الصحيحة ، وكان صاحبه يدين بدين الإسلام ، وقد أوضح القرآن هذا المعنى في آيات كثيرة ، منها قوله ـ تعالى ـ : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) (٢).

والمراد بالحياة الطيبة في قوله ـ تعالى ـ : (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) الحياة الدنيوية التي يحياها المؤمن إلى أن ينقضي أجله.

قال ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه : هذا وعد من الله ـ تعالى ـ لمن عمل صالحا من ذكر أو أنثى ، بأن يحييه الله حياة طيبة في الدنيا .. والحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من أى جهة كانت. وقد روى عن ابن عباس وجماعة أنهم فسروها بالرزق الحلال ، وعن على بن أبى طالب أنه فسرها بالقناعة.

والصحيح أن الحياة الطيبة تشمل هذا كله ، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن ابن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما آتاه (٣)».

وقيل المراد بالحياة الطيبة هنا : الحياة الأخروية ، وقد صدر الشيخ الآلوسى تفسيره بهذا الرأى فقال ما ملخصه : قوله ـ تعالى ـ : (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) والمراد بالحياة الطيبة التي تكون في الجنة ، إذ هناك حياة بلا موت ، وغنى بلا فقر ، وصحة بلا سقم ، وسعادة بلا شقاوة .. فعن الحسن : لا تطيب الحياة لأحد إلا في الجنة.

وقال شريك : هي حياة تكون في البرزخ .. وقال غير واحد هي في الدنيا (٤).

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٤٢٧.

(٢) سورة الفرقان الآية ٢٣.

(٣) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٥٨٥.

(٤) تفسير الآلوسى ج ١٤ ص ٢٢٧.

٢٣١

ويبدو لنا أن تفسير الحياة الطيبة هنا بأنها الحياة الدنيوية أرجح ، لأن الحياة الأخروية جاء التصريح بها بعد ذلك في قوله ـ تعالى ـ : (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).

فلو فسرنا الحياة الطيبة بالحياة الأخروية لكان في الآية الكريمة ما يشبه التكرار ، ولكننا لو فسرناها بالحياة الدنيوية لكانت الآية الكريمة مبينة لجزاء المؤمنين في الدارين.

وأيضا فإن قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم السابق : «قد أفلح من أسلم ورزق كفافا» يشير إلى أن المراد بالحياة الطيبة ، الحياة الدنيوية ، لأن من نال الفلاح نال حياة طيبة.

وعلى ذلك يكون المعنى الإجمالى للآية الكريمة : من عمل عملا صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة في الدنيا ، يظفر معها بالسعادة وصلاح البال ، والأمان والاطمئنان ، أما في الآخرة فسنجزيه جزاء أكرم وأفضل مما كان يعمله في الدنيا من أعمال صالحة.

قال صاحب الكشاف قوله : (حَياةً طَيِّبَةً) يعنى في الدنيا ، وهو الظاهر لقوله (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ) وعدهم الله ثواب الدنيا والآخرة ، كقوله : (فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ ...) (١).

وذلك أن المؤمن مع العمل الصالح موسرا كان أو معسرا ، يعيش عيشا طيبا ، إن كان موسرا فلا مقال فيه ، وإن كان معسرا فمعه ما يطيب عيشه وهو القناعة والرضا بقسمة الله.

وأما الفاجر فأمره على العكس. إن كان معسرا فلا إشكال في أمره ، وإن كان موسرا ، فالحرص لا يدعه أن يتهنأ بعيشه (٢).

* * *

ثم أشار ـ سبحانه ـ إلى أن من الأعمال الصالحة ، أن يستعيذ المسلم عند قراءته للقرآن الكريم ، من الشيطان الرجيم ، فقال ـ تعالى :

(فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٩٨) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) إِنَّما سُلْطانُهُ

__________________

(١) سورة آل عمران الآية ١٤٨.

(٢) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٤٢٨.

٢٣٢

عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) (١٠٠)

والمراد بقوله ـ تعالى ـ : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ ..) أى فإذا أردت قراءته. فالكلام على حذف الإرادة ، وذلك لأن المعنى الذي طلبت من أجله الاستعاذة وهو دفع وسوسة الشيطان يقتضى أن يبدأ القارئ بها ـ أى بالاستعاذة ـ قبل القراءة لا بعدها وشبيه بهذه الآية في حذف الإرادة لدلالة المقام عليها قوله ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ..) (١) أى : إذا أردتم القيام إلى الصلاة فاغسلوا.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ) (٢) أى : أردنا إهلاكها فجاءها بأسنا.

والمعنى : فإذا أردت ـ أيها المسلم ـ قراءة القرآن (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) أى : فاستجر بالله ، والتجئ إلى حماه (مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ).

قال ابن كثير : والشيطان في لغة العرب ، كل متمرد من الجن والإنس والدواب وكل شيء ، وهو مشتق من شطن بمعنى بعد ، فهو بعيد بطبعه عن طباع البشر ، وبعيد بفسقه عن كل خير ...» (٣).

والرجيم بزنة فعيل بمعنى مفعول. أى : أنه مرجوم ومطرود من رحمة الله ـ تعالى ـ.

قال بعض العلماء : وإنما خصت القراءة بطلب الاستعاذة ، مع أنه قد أمر بها على وجه العموم في جميع الشئون ، لأن القرآن مصدر هداية ، والشيطان مصدر ضلال ، فهو يقف للإنسان بالمرصاد في هذا الشأن على وجه خاص ، فيثير أمامه ألوانا من الشكوك فيما يفيد من قراءته ، وفيما يقصد بها ، فيفوت عليه الانتفاع بهدى الله وآياته. فعلمنا الله ـ تعالى ـ أن نتقي ذلك كله بهذه الاستعاذة التي هي في الواقع عنوان صادق ، وتعبير حق ، عن امتلاء قلب

__________________

(١) سورة المائدة الآية ٦.

(٢) سورة الأعراف الآية ٤.

(٣) تفسير ابن كثير ج ١ ص ١٤.

٢٣٣

المؤمن بمعنى اللجوء إلى الله. وقوة عزيمته في طرد الشيطان ووساوسه ، واستقبال هدايته بقلب طاهر ، وعقل واع وإيمان ثابت (١).

وكيفية الاستعاذة أن يقول القارئ عند إرادة قراءته للقرآن ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، فقد تضافرت الروايات عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذه الصيغة.

قال الآلوسى. وروى الثعلبي والواحدي أن ابن مسعود قرأ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا ابن أم عبد ، قل : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، هكذا أقرأنى جبريل ..» (٢).

وقال صاحب تفسير آيات الأحكام : والأمر بها ـ أى بالاستعاذة ـ للندب عند الجمهور.

وعن الثوري أنها واجبة. وظاهر الآية يؤيده ، إذ الأمر للوجوب. والجمهور يقولون : إنه صرفها عن الوجوب ما ورد من أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يعلمها للأعرابى ـ أى الذي سأله عن كيفية الصلاة ـ وأيضا فقد روى أنه كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتركها .. (٣).

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك أن وسوسة الشيطان لا أثر لها على المؤمنين الصادقين فقال ـ تعالى ـ : (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) أى : إن الشيطان مهما تمرد وعتا فإنه «ليس له سلطان» أى : ليس له تسلط واستيلاء واستحواذ بالقهر والغلبة ، على نفوس الذين آمنوا بالله ـ تعالى ـ حق الإيمان والذين هم عليه ـ تعالى ـ وحده يتوكلون ويعتمدون لا على غيره.

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) (٤) وقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً) (٥).

وبعد أن نفى ـ سبحانه ـ أن يكون للشيطان سلطان على نفوس المؤمنين الصادقين ، أثبت ـ سبحانه ـ أن تسلط الشيطان إنما هو على نفوس الضالين ، فقال ـ تعالى ـ : (إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ ، وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ).

أى : إنما تسلط الشيطان وتأثيره على الضالين الفاسقين الذين (يَتَوَلَّوْنَهُ) أى : يتقربون منه ، ويجعلونه واليا عليهم ، فيحبونه ويطيعونه ويتبعون خطواته.

__________________

(١) تفسير القرآن الكريم ج ١٦ لفضيلة الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٤ ص ٢٢٨.

(٣) تفسير آيات الأحكام ص ٥٢ ج ٣ لفضيلة الشيخ محمد على السائس رحمه‌الله.

(٤) سورة الحجر الآية ٤٢.

(٥) سورة الأسراء الآية ٦٥.

٢٣٤

فقوله (يَتَوَلَّوْنَهُ) من الولي ـ بفتح الواو وسكون اللام ـ بمعنى القرب والنصرة وقوله : (وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) أى : والذين هم بسبب الشيطان وإغوائه لهم ، مشركون مع الله ـ تعالى ـ آلهة أخرى في العبادة.

فالضمير في «به» يعود إلى الشيطان ، والباء للسببية.

ويرى بعضهم أن الضمير في «به» يعود على الله ـ تعالى ، وأن الباء للتعدية ، فيكون المعنى : إنما سلطان الشيطان على الذين يطيعونه ، والذين هم بالله ـ تعالى ـ مشركون.

قالوا ، والأول أرجح لاتحاد الضمائر فيه ، ولأنه هو المتبادر إلى الذهن.

وبذلك نرى الآيات الكريمة ، تأمر المؤمنين بأن يستعيذوا بالله من الشيطان الرجيم ، عند قراءتهم للقرآن الكريم ، كما نراها تبشرهم بأنه لا سلطان للشيطان عليهم ما داموا معتصمين بحبل الله ـ تعالى ـ ومنفذين لأوامره ، ومعتمدين عليه.

* * *

ثم حكى ـ سبحانه ـ بعد ذلك بعض الأقاويل التي قالها المشركون عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعن القرآن الكريم ، ورد عليها بما يخرس ألسنتهم فقال تعالى :

(وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (١٠٢) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (١٠٣) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ) (١٠٥)

٢٣٥

وقوله ـ تعالى ـ : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ ...) التبديل رفع الشيء مع وضع غيره مكانه. فتبديل الآية رفعها بآية أخرى.

وجمهور المفسرين على أن المراد بالآية هنا : الآية القرآنية. وعلى أن المراد بتبديلها نسخها.

قال صاحب الكشاف : تبديل الآية مكان الآية هو النسخ ، والله ـ تعالى ـ ينسخ الشرائع بالشرائع لأنها مصالح ، وما كان مصلحة بالأمس يجوز أن يكون مفسدة اليوم وخلافه مصلحة. والله ـ تعالى ـ عالم بالمصالح والمفاسد ، فيثبت ما يشاء ، وينسخ ما يشاء بحكمته .. (١).

وقال الجمل : قوله ـ تعالى ـ : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ ...) وذلك أن المشركين من أهل مكة قالوا : إن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسخر بأصحابه ، يأمرهم اليوم بأمر وينهاهم عنه غدا ، ما هذا إلا مفترى يتقوله من تلقاء نفسه ، فأنزل الله ـ تعالى ـ : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ ...) والمعنى : وإذا نسخنا حكم آية فأبدلنا مكانه حكما آخر (٢).

وقال الآلوسى : قوله ـ تعالى ـ : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ) أى : وإذا نزلنا آية من القرآن مكان آية منه. وجعلناها بدلا منها بأن نسخناها بها .. (٣).

ومنهم من يرى أن المراد بالآية هنا «الآية الكونية» أى المعجزة التي أتى بها كل نبي لقومه وأن المراد بتبديلها : الإتيان بمعجزة أخرى سواها.

قال الشيخ القاسمى عند تفسيره لهذه الآية : وذهب قوم إلى أن المعنى تبديل آية من آيات الأنبياء المتقدمين. كآية موسى وعيسى وغيرهما من الآيات الكونية الآفاقية ، بآية أخرى نفسية علمية ، وهي كون المنزل هدى ورحمة وبشارة يدركها العقل.

فبدلت تلك ـ وهي الآيات الكونية ـ بآية هو كتاب العلم والهدى من نبي أمى صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٤).

ويبدو لنا أن الرأى الأول أقرب إلى الصواب ، لأن قوله ـ تعالى ـ بعد ذلك : (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ ...) يدل دلالة واضحة على أن المراد بالآية ، الآية القرآنية.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٤٢٨.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٥٩٨.

(٣) تفسير الآلوسى ج ١٤ ص ٢٣١.

(٤) تفسير القاسمى ج ١٠ ص ٣٨٥٨.

٢٣٦

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ) جملة معترضة بين الشرط وجوابه للمسارعة إلى توبيخ المشركين وتجهيلهم.

أى : والله ـ تعالى ـ أعلم من كل مخلوق بما هو أصلح لعباده ، وبما ينزله من آيات ، وبما يغير ويبدل من أحكام ، فكل من الناسخ والمنسوخ منزل حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة ، (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ).

وقوله ـ تعالى ـ : (قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ) جواب الشرط ، وهو حكاية لما تفوهوا به من باطل وبهتان : وقوله (مُفْتَرٍ) من الافتراء وهو أشنع أنواع الكذب.

أى : قال المشركون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند تبديل آية مكان آية : إنما أنت يا محمد تختلق هذا القرآن من عند نفسك ، وتفتريه من إنشائك واختراعك ..

وقوله ـ تعالى ـ : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما أصابه منهم.

أى : لا تهتم ـ أيها الرسول الكريم ـ بما قاله هؤلاء المشركون في شأنك وفي شأن القرآن الكريم ، فإن أكثرهم جهلاء أغبياء ، لا يعلمون ما في تبديلنا للآيات من حكمة ، ولا يفقهون من أمر الدين الحق شيئا.

وقال ـ سبحانه ـ (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) للإشارة إلى أن هناك قلة منهم تعرف الحق وتدركه ، ولكنها تنكره عنادا وجحودا وحسدا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما آتاه الله من فضله.

ثم لقن الله ـ تعالى ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الرد الذي يقذفه على باطلهم فيزهقه فقال :.

(قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ ، لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا ، وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) وروح القدس : هو جبريل ـ عليه‌السلام ـ ، والإضافة فيه إضافة الموصوف إلى الصفة. أى : الروح المقدس. ووصف بالقدس لطهارته وبركته. وسمى روحا لمشابهته الروح الحقيقي في أن كلا منهما مادة الحياة للبشر ، فجبريل من حيث ما يحمل من الرسالة الإلهية تحيا به القلوب ، والروح تحيا به الأجسام.

والمعنى : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ لهؤلاء الجاهلين ، إن هذا القرآن الذي تزعمون أننى افتريته ، قد نزل به الروح الأمين على قلبي من عند ربي ، نزولا ملتبسا بالحق الذي لا يحوم حوله باطل ، ليزيد المؤمنين ثباتا في إيمانهم ، وليكون هداية وبشارة لكل من أسلم وجهه لله رب العالمين.

٢٣٧

وفي قوله (مِنْ رَبِّكَ) تكريم وتشريف للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث اختص ـ سبحانه ـ هذا النبي الكريم بإنزال القرآن عليه ، بعد أن رباه برعايته ، وتولاه بعنايته.

وقوله (بِالْحَقِ) في موضع الحال ، أى : نزله إنزالا ملتبسا بالحكمة المقتضية له ، بحيث لا يفارقها ولا تفارقه.

وقوله : (لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) بيان للوظيفة التي من أجلها نزل القرآن الكريم ، وهي وظيفة تسعد المؤمنين وحدهم ، أما الكافرون فهم بعيدون عنها.

ثم حكى ـ سبحانه ـ بعد ذلك مقولة أخرى من مقولات المشركين فقال ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ...).

قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه : يقول ـ تعالى ـ مخبرا عن المشركين ما كانوا يقولونه من الكذب والافتراء : إن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما يعلمه هذا الذي يتلوه علينا من القرآن بشر ، ويشيرون إلى رجل أعجمى كان بياعا يبيع عند الصفا ، وربما كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجلس إليه ويكلمه بعض الشيء ، وذاك كان أعجمى اللسان لا يعرف إلا اليسير من العربية.

وعن عكرمة وقتادة كان اسم ذلك الرجل «يعيش» ، وعن ابن عباس كان اسمه «بلعام» ، وكان أعجمى اللسان ، وكان المشركون يرون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدخل عليه ويخرج من عنده ، فقالوا : إنما يعلمه بلعام ، فأنزل الله هذه الآية (١).

والمعنى : ولقد نعلم ـ أيها الرسول الكريم ـ علما مستمرا لا يعزب عنه شيء مما يقوله المشركون في شأنك ، من أنك تتعلم القرآن من واحد من البشر.

قال الآلوسى : وإنما لم يصرح القرآن باسم من زعموا أنه يعلمه ـ عليه الصلاة والسلام ـ مع أنه أدخل في ظهور كذبهم ، للإيذان بأن مدار خطئهم ، ليس بنسبته صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى التعلم من شخص معين ، بل من البشر كائنا من كان ، مع كونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم معدنا لعلوم الأولين والآخرين (٢).

وقوله ـ تعالى ـ : (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ ، وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) رد عليهم فيما زعموه وافتروه.

والمراد باللسان هنا : الكلام الذي يتكلم به الشخص ، واللغة التي ينطق بها.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٥٨٦.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٤ ص ٢٣٣.

٢٣٨

وقوله : (يُلْحِدُونَ) من الإلحاد بمعنى الميل. يقال لحد وألحد ، إذا مال عن القصد ، وسمى الملحد بذلك ، لأنه أمال مذهبه عن الأديان كلها.

والأعجمي : نسبة إلى الأعجم : وهو الذي لا يفصح في كلامه سواء أكان من العرب أم من العجم. وزيدت فيه ياء النسب على سبيل التوكيد.

والمعنى : لقد كذبتم ـ أيها المشركون ـ كذبا شنيعا صريحا ، حيث زعمتم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلمه القرآن بشر ، مع أن لغة هذا الإنسان الذي زعمتم أنه يعلم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لغة أعجمية ، ولغة هذا القرآن لغة عربية في أعلى درجات البلاغة والفصاحة ، فقد أعجزكم بفصاحته وبلاغته ، وتحداكم وأنتم أهل اللسن والبيان أن تأتوا بسورة من مثله.

فخبروني بربكم ، من أين للأعجمى أن يذوق بلاغة هذا التنزيل وما حواه من العلوم ، فضلا عن أن ينطق به ، فضلا عن أن يكون معلما له!!.

ثم هدد ـ سبحانه ـ المعرضين عن آياته بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ) الدالة على وحدانيته ـ سبحانه ـ وعلى صدق نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يبلغه عنه.

(لا يَهْدِيهِمُ اللهُ) إلى طريق الحق في الدنيا ، بسبب زيغهم وعنادهم وإيثارهم الغي على الرشد. (وَلَهُمْ) في الآخرة عذاب أليم جزاء إصرارهم على الباطل ، وإعراضهم عن الآيات التي لو تأملوها واستجابوا لها لاهتدوا إلى الصراط المستقيم.

ثم بين ـ سبحانه ـ أن افتراء الكذب لا يصدر عن المؤمنين فضلا عن الرسول الأمين ، وإنما يصدر عن الكافرين فقال ـ تعالى ـ : (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ) أى : يختلقه ويخترعه (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ) الدالة على وحدانيته وعلى وجوب إخلاص العبادة له ، وعلى صدق رسله ، وعلى صحة البعث يوم القيامة ، لأن عدم إيمانهم بذلك يجعلهم لا يخافون عقابا ، ولا يرجون ثوابا. (وَأُولئِكَ) الكافرون بما يجب الإيمان به (هُمُ الْكاذِبُونَ) في قولهم عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما يعلمه بشر ، وفي قولهم (إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ) وفي غير ذلك من أقوالهم الباطلة ، التي حاربوا بها دعوة الحق.

قال بعض العلماء : ولا يخفى ما في الحصر بعد القصر من العناية بمقامه ـ صلوات الله عليه ـ ، وقد كان أصدق الناس وأبرهم .. بحيث كانوا يلقبونه بالصادق الأمين.

ولهذا لما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان فقال له ـ من بين ما قال ـ : هل كنتم تتهمونه

٢٣٩

بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال : لا. فقال هرقل : ما كان ليدع الكذب على الناس ، ويكذب على الله ـ تعالى ـ.

وفي هذه الآية دلالة على أن الكذب من أكبر الكبائر ، وأفحش الفواحش. والدليل عليه أن كلمة «إنما» للحصر.

وروى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قيل له : هل يكذب المؤمن؟ قال : «لا ، ثم قرأ هذه الآية (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك حكم من أكره على النطق بكلمة الكفر ، وحكم من استحب الكفر على الإيمان فقال ـ تعالى ـ :

(مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٦) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (١٠٧) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٠٨) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ) (١٠٩)

ذكر المفسرون في سبب نزول قوله ـ تعالى ـ : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ ...) روايات منها قول الآلوسى : روى أن قريشا أكرهوا عمارا وأبويه : ياسرا ، وسمية ، على الارتداد فأبوا ، فربطوا سمية بين بعيرين ... ثم قتلوها وقتلوا ياسرا ، وهما أول شهيدين في الإسلام. وأما عمار فأعطاهم بلسانه ما أكرهوه عليه ، فقيل يا رسول الله : إن عمارا قد كفر.

__________________

(١) تفسير القاسمى ج ١٠ ص ٣٨٦١.

٢٤٠