التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٨

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٨

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0668-X
الصفحات: ٥٩٧

لعباده المؤمنين ، وتعليمهم كيف يقذفون بحقهم على باطل أعدائهم فإذا هو زاهق.

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بقوله (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أى : بل أكثر هؤلاء الكافرين الضالين ، لا يعلمون كيف يميزون بين الحق والباطل لانطماس بصائرهم ، واستيلاء الجحود والحسد والعناد على قلوبهم.

وقال ـ سبحانه ـ (بَلْ أَكْثَرُهُمْ ..) للإشعار بأن من هؤلاء الكافرين من يعلم الحق ويعرفه كما يعرف أبناءه ، ولكن الهوى والغرور والتقليد الباطل .. حال بينه وبين اتباع الحق.

هذا هو المثال الأول الذي ذكره الله ـ تعالى ـ للاستدلال على بطلان التسوية بين عبادة الله ـ تعالى ـ الخالق لكل شيء والمالك لكل شيء .. وبين عبادة غيره من الأصنام والجمادات التي لا تخلق شيئا ، ولا تملك شيئا ، ولا تضر ولا تنفع.

أما المثال الثاني فهو أشد وضوحا من سابقه على وحدانية الله ـ تعالى ـ ورحمته بعباده ، وعلى الفرق الشاسع بين المؤمن والكافر ، ويتجلى هذا المثال في قوله ـ عزوجل ـ : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ ..).

أى : وذكر الله ـ تعالى ـ مثلا آخر لرجلين ، (أَحَدُهُما أَبْكَمُ) أى : لا يستطيع النطق أو الكلام ، ضعيف الفهم والتفهيم لغيره.

(لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) أى : لا يقدر على فعل شيء من الأشياء المتعلقة بنفسه أو بغيره.

(وَهُوَ) أى هذا الرجل (كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ) أى : حمل ثقيل ، وهم كبير على مولاه الذي يتولى شئونه من طعام وشراب وكساء وغير ذلك. وهذا بيان لعدم قدرته على القيام بمصالح نفسه ، بعد بيان عدم قدرته على القيام بفعل أى شيء على الإطلاق.

قال القرطبي : قوله (وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ) أى ثقل على وليه وقرابته ، ووبال على صاحبه وابن عمه ، وقد يسمى اليتيم كلا لثقله على من يكفله ، ومنه قول الشاعر :

أكول لمال الكلّ قبل شبابه

إذا كان عظم الكلّ غير شديد (١)

فالكل هو الإنسان العاجز الضعيف الذي يكون محتاجا إلى من يرعى شئونه.

وقوله (أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ) أى : أن هذا الرجل حيثما يوجهه مولاه وكافله لقضاء أمر من الأمور يعود خائبا ، لعجزه ، وضعف حيلته ، وقلة إدراكه ..

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٠ ص ١٤٩.

٢٠١

فأنت ترى أن الله ـ تعالى ـ قد وصف هذا الرجل بأربع صفات ، تدل على سوء فهمه ، وقلة حيلته ، وثقله على ولى أمره ، وانسداد طرق الخير في وجهه ..

هذا هو الجانب الأول من المثل ، أما الجانب الثاني فيتجلى في قوله ـ تعالى ـ : (هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ، وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ..)

أى : «هل يستوي هو» أى هذا الرجل الأبكم العاجز .. مع رجل آخر «يأمر» غيره بالعدل «وهو» أى هذا الرجل الآخر في نفسه «على صراط مستقيم» أى : على دين قويم ، وخلق كريم فقد جمع بذلك بين فضيلتين جليلتين : نفعه لغيره ، وصلاحه في ذاته.

لا شك أن هذين الرجلين لا يستويان في عقل أى عاقل ، إذ أن أولهما أبكم عاجز خائب .. وثانيهما منطيق ، ناصح لغيره ، جامع لخصال الخير في نفسه.

ومادام الأمر كذلك فكيف سويتم ـ أيها المشركون الضالون المكذبون ـ في العبادة بين الله ـ تعالى ـ وهو الخالق لكل شيء ، وبين تلك الأصنام التي لا تسمع ولا تبصر ولا تغنى عن عابديها شيئا.

أو كيف سويتم بين المؤمن الجامع لكل مكرمة ، وبين الكافر الغبي الأبله الذي آثر الغي على الرشد ، فتكون الآية الكريمة مسوقة لبيان الفرق الشاسع بين المؤمن والكافر.

وقد قابل ـ سبحانه ـ الأوصاف الأربعة للرجل الأول ، بهذين الوصفين للرجل الثاني ، لأن حاصل أوصاف الأول أنه غير مستحق لشيء ، وحاصل وصفي الثاني أنه مستحق لكل فضل وخير.

وقوله (وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ...) معطوف على الضمير المستتر في قوله (هَلْ يَسْتَوِي ...).

وجملة «وهو على صراط مستقيم» في محل نصب على الحال.

وبذلك نرى أن الآيتين الكريمتين قد ساقتا مثلين واضحين ، لبيان الفرق الشاسع بين ذات الله ـ تعالى ـ الخلاق العليم ، الرزاق الكريم .. وبين تلك المعبودات الباطلة التي أشركها الضالون في العبادة مع الله ـ عزوجل ـ.

أو بين المؤمن الذي هو على بصيرة من أمره ، وبين الكافر الذي استحب العمى على الهدى .. أو بين الحق في وضوحه وجماله وجلاله ، وبين الباطل في ظلامه وقبحه وخسته.

هذا ، وما ذكره بعضهم من أن المثلين في الآيتين الكريمتين ، قد وردا في أشخاص معينين من

٢٠٢

المؤمنين أو الكافرين ، لا يعول عليه ، لضعف الروايات التي وردت في ذلك ، ولأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

قال الآلوسى ما ملخصه : وما روى من أن الأبكم أبو جهل والآمر بالعدل عمار ، أو بالأبكم أبى بن خلف ، والآمر بالعدل عثمان بن مظعون لا يصح إسناده ..» (١).

وبهذين المثلين تكون السورة الكريمة قد أقامت أعظم الأدلة وأسطعها على صحة قوله ـ تعالى ـ قبل ذلك : (وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ ...).

ثم ساقت السورة بعد ذلك ما يدل على إحاطة علمه ـ سبحانه ـ بكل شيء ، وعلى شمول قدرته ، وعلى سابغ نعمته ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٧٧) وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٨) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٧٩) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٨٠)

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٤ ص ١٩٧.

٢٠٣

وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (٨١) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٨٢) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ) (٨٣)

والمراد بالغيب في قوله ـ سبحانه ـ (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) ما لا تدركه الحواس ، ولا تحيط بكنهه العقول لأنه غائب عن مدارك الخلائق.

والكلام على حذف مضاف ، والتقدير : لله ـ تعالى ـ وحده ، علم جميع الأمور الغائبة عن مدارك المخلوقين ، والتي لا سبيل لهم إلى معرفتها لا عن طريق الحس ، ولا عن طريق العقل.

ومن كانت هذه صفته ، كان مستحقا للعبادة والطاعة ، لا تلك المعبودات الباطلة التي لا تعلم من أمرها أو من أمر غيرها شيئا.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) بيان لسرعة نفاذ أمره بدون مهلة.

والساعة في الأصل : اسم لمقدار قليل من الزمان غير معين. والمراد بها هنا يوم القيامة وما يحدث فيه من أهوال.

وسمى يوم القيامة بالساعة : لوقوعه بغتة ، أو لسرعة ما يقع فيه من حساب أو لأنه على طوله زمنه يسير عند الله ـ تعالى ـ.

واللمح : النظر الذي هو في غاية السرعة. يقال لمحه لمحا ولمحانا إذا رآه بسرعة فائقة ، ولمح البصر : التحرك السريع لطرف العين من جهة الى جهة ، أو من أعلى إلى أسفل.

و «أو» هنا للتخيير بالنسبة لقدرة الله ـ تعالى ـ أو للإضراب.

٢٠٤

أى : ولله ـ سبحانه ـ وحده علم جميع ما غاب في السموات والأرض من أشياء ، وما أمر قيام الساعة في سرعته وسهولته ، وما يترتب عليه من إماتة وإحياء ، وحساب ، وثواب وعقاب ... ما أمر ذلك كله إلا كتحرك طرف العين من جهة إلى جهة ، أو هو ـ أى أمر قيامها ـ أقرب من ذلك وأسرع ، بحيث يكون في نصف هذا الزمان أو أقل من ذلك ، لأن قدرته لا يعجزها شيء ، قال ـ تعالى ـ : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ). والمقصود من هذه الجملة الكريمة : بيان سرعة تأثير قدرة الله ـ عزوجل ـ متى توجهت إلى شيء من الأشياء.

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بما يؤكد شمول قدرته فقال ـ تعالى ـ : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أى : إن الله ـ تعالى ـ لا يعجز قدرته شيء سواء أكان هذا الشيء يتعلق بأمر قيام الساعة في أسرع من لمح البصر .. أم بغير ذلك من الأشياء.

ثم ساق ـ تعالى ـ بعد ذلك أنواعا من نعمه على عباده فقال : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً). أى : والله ـ تعالى ـ وحده هو الذي أخرجكم ـ أيها الناس ـ من بطون أمهاتكم إلى هذه الحياة ، وأنتم لا تعلمون شيئا لا من العلم الدنيوي ولا من العلم الديني ، ولا تعرفون ما يضركم أو ينفعكم ، والجملة الكريمة معطوفة على قوله ـ تعالى ـ قبل ذلك : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً ..).

وجملة «لا تعلمون شيئا» حال من الكاف في «أخرجكم».

وقوله ـ سبحانه ـ (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) نعمة ثانية من نعمة الله ـ سبحانه ـ التي لا تحصى.

أى : أن من نعمة الله ـ تعالى ـ أنه أخرجكم من بطون أمهاتكم ـ بعد أن مكثتم فيها شهورا تحت كلاءته ورعايته ـ وأنتم لا تعرفون شيئا ، وركب فيكم بقدرته النافذة ، وحكمته البالغة ، «السمع» الذي تسمعون به ، والبصر الذي بواسطته تبصرون ، «والأفئدة» التي عن طريقها تعقلون وتفقهون ، لعلكم بسبب كل هذه النعم التي أنعمها عليكم ، تشكرونه حق الشكر ، بأن تخلصوا له العبادة والطاعة ، وتستعملوا نعمه في مواضعها التي وجدت من أجلها.

قال الجمل : وجملة : «وجعل لكم السمع والأبصار ...» ابتدائية ، أو معطوفة على ما قبلها ، والواو لا تقتضي ترتيبا ، فلا ينافي أن هذا الجعل قبل الإخراج من البطون. ونكتة تأخيره ـ أى الجعل ـ أن السمع ونحوه من آلات الإدراك ، إنما يعتد به إذا أحس الإنسان

٢٠٥

وأدرك وذلك لا يكون الا بعد الإخراج. وقدم السمع على البصر ، لأنه طريق تلقى الوحى ، أو لأن إدراكه أقدم ، من إدراك البصر. وإفراده ـ أى السمع ـ باعتبار كونه مصدرا في الأصل ... (١).

وقال الإمام ابن كثير : «وهذه القوى والحواس تحصل للإنسان على التدريج قليلا قليلا حتى يبلغ أشده. وإنما جعل ـ تعالى ـ هذه الحواس في الإنسان ليتمكن بها من عبادة ربه ، فيستعين بكل جارحة وعضو وقوة على طاعة مولاه كما جاء في صحيح البخاري عن أبى هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : يقول تعالى ـ «من عادى لي وليا فقد بارزني بالحرب. وما تقرب إلى عبدى بشيء أفضل مما افترضت عليه ، ولا يزال عبدى يتقرب إلىّ بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشى بها ، ولئن سألنى لأعطينه ، ولئن دعاني لأجيبنه ولئن استعاذ بي لأعيذنه ، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددى في قبض نفس عبدى المؤمن ، يكره الموت ، وأكره مساءته ، ولا بد له منه».

فمعنى الحديث أن العبد إذا أخلص الطاعة ، صارت أفعاله كلها لله ، فلا يسمع إلا لله ، ولا يبصر إلا لله أى : لما شرعه الله له .. (٢).

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ ، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) (٣).

ثم حض ـ سبحانه ـ عباده على التفكر في مظاهر قدرته فقال ـ تعالى ـ : (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ ..).

والطير : جمع طائر كركب وراكب. و «مسخرات» من التسخير بمعنى التذليل والانقياد أى : ألم ينظر هؤلاء الذين أشركوا مع الله آلهة أخرى في العبادة ، إلى الطيور وهن يسبحن في الهواء المتباعد بين الأرض والسماء ، ما يمسكهن في حال قبضهن وبسطهن لأجنحتهن إلا الله ـ تعالى ـ ، بقدرته الباهرة ، وبنواميسه التي أودعها في فطرة الطير.

إنهم لو نظروا نظر تأمل وتعقل ، لعلموا أن المسخر لهن هو الله الذي لا معبود بحق سواه

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٥٨٩.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٥٧٩.

(٣) سورة الملك الآية ٢٤.

٢٠٦

وفي قوله ـ تعالى ـ «مسخرات» إشارة إلى أن طيرانها في الجو ليس بمقتضى طبعها ، وإنما هو بتسخير الله تعالى لها وبسبب ما أوجد لها من حواس ساعدتها على ذلك ، كالأجنحة وغيرها. وأضاف ـ سبحانه ـ الجو إلى السماء لارتفاعه عن الأرض ، ولإظهار كمال قدرته ـ سبحانه ـ.

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).

أى : إن في ذلك التسخير والتذليل للطير على هذه الصفة «لآيات» بينات على قدرة الله ـ تعالى ـ ووحدانيته ، «لقوم يؤمنون» بالحق ، ويفتحون قلوبهم له ويسمون بأنفسهم عن التقليد الباطل.

ثم ساقت السورة الكريمة ألوانا من النعم ، منها ما يتعلق بنعمة المسكن فقال ـ تعالى ـ : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً ...).

قال القرطبي : قوله ـ تعالى ـ : (جَعَلَ لَكُمْ) معناه صير ، وكل ما علاك فأظلك فهو سقف وسماء ، وكل ما أقلك فهو أرض ، وكل ما سترك من جهاتك الأربع فهو جدار ، فإذا انتظمت واتصلت فهو بيت ، وهذه الآية فيها تعديد نعم الله تعالى على الناس في البيوت وقوله : «سكنا» أى : تسكنون فيها وتهدأ جوارحكم من الحركة ... (١).

والحق أن نعمة السكن في البيوت والاستقرار فيها ، والشعور بداخلها بالأمان والاطمئنان ، هذه النعمة لا يقدرها حق قدرها ، إلا أولئك الذين فقدوها ، وصاروا يعيشون بلا مأوى يأويهم ، أو منزل يجمع شتاتهم.

والتعبير بقوله عزوجل (سَكَناً) فيه ما فيه من السمو بمكانة البيوت التي يسكنها الناس. فالبيت مكان السكينة النفسية ، والراحة الجسدية ، هكذا يريده الإسلام ، ولا يريده مكانا للشقاق والخصام ، لأن الشقاق والخصام ينافي كونه «سكنا».

والبيت له حرمته التي جعل الإسلام من مظاهرها ، عدم اقتحامه بدون استئذان ، وعدم التطلع إلى ما بداخله ، وعدم التجسس على من بداخله.

وصيانة حرمة البيت ـ كما أمر الإسلام ـ تجعله «سكنا» آمنا ، يجد فيه أصحابه كل ما يريدون من الراحة النفسية والشعورية.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٠ ص ١٥٢.

٢٠٧

وقوله ـ تعالى ـ : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ) بيان لنعمة أخرى تتمثل في البيوت الخفيفة المتنقلة ، بعد الحديث عن البيوت الثابتة المستقرة.

والأنعام : جمع نعم. وتشمل الإبل والبقر والغنم ، ويدخل في الغنم المعز.

والظعن بسكون العين وفتحها : التحول والانتقال والرحيل من مكان إلى آخر طلبا للكلأ ، أو لمساقط الغيث ، أو لغير ذلك من الأغراض.

أى : ومن نعمه أيضا أنه أوجد لكم من جلود الأنعام بيوتا «تستخفونها» أى : تجدونها خفيفة «يوم ظعنكم» أى : يوم سفركم ورحيلكم من موضع إلى آخر «ويوم إقامتكم» في مكان معين بحيث يمكنكم أن تنصبوها لترتاحوا بداخلها ، بأيسر السبل ، وذلك كالقباب والخيام والأخبية ، وغير ذلك من البيوت التي يخف حملها.

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية بإبراز نعمة ثالثة ، تتمثل فيما يأخذونه من الأنعام فقال ـ تعالى ـ : (وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها ، وَأَشْعارِها ، أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ).

والأثاث : متاع البيت الكثير ، وأصله من أث الشيء ـ بفتح الهمزة وتشديد الثاء مع الفتح ـ إذا كثر وتكاتف ، ومنه قول الشاعر.

وفرع يزين المتن أسود فاحم

أثيت كقنو النخلة المتعثكل (١)

ويشمل جميع أصناف المال كالفرش وغيرها.

والمتاع : ما يتمتع به من حوائج البيت الخاصة كأدوات الطعام والشراب ، فيكون عطف المتاع على الأثاث من عطف الخاص على العام.

وقيل : هما بمعنى واحد. والعطف لتنزيل تغاير اللفظ بمنزله تغاير المعنى.

أى : ومن أصواف الغنم ، وأوبار الإبل ، وأشعار المعز ، تتخذون لأنفسكم «أثاثا» كثيرا تستعملونه في مصالحكم المتنوعة ، كما تتخذون من ذلك ما تتمتعون به في بيوتكم وفي معاشكم «إلى حين» أى : إلى وقت معين قدره الله ـ تعالى ـ لكم في تمتعكم بهذه الأصواف والأوبار والأشعار.

وبعد الحديث عن نعمة البيوت والأنعام جاء الحديث عن نعمة الظلال والجبال واللباس ،

__________________

(١) الفرع : الشعر التام : والمتن : ما عن يمين الرأس وشماله ، والفاحم : الشديد السواد. والأثيت : الكثير المتكاثف. والمتعثكل : الذي دخل بعضه في بعض لكثرته (راجع تفسير القرطبي ج ١٠ ص ١٥٤).

٢٠٨

فقال ـ تعالى ـ : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً ...).

والظلال : جمع ظل ، وهو ما يستظل به الإنسان.

أى : والله ـ تعالى ـ بفضله وكرمه جعل لكم ما تستظلون به من شدة الحر والبرد ، كالأبنية والأشجار ، وغير ذلك من الأشياء التي تستظلون بها.

وقوله ـ تعالى ـ (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً ...) نعمة ثانية.

والأكنان جمع كن ـ بكسر الكاف ـ وأصله السّترة ، والجمع : أكنان وأكنّة ، ومنه قوله ـ تعالى ـ : (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ ...) (١) أى في أستار وأغطية فلا يصل إليها قولك ...

والمراد بالأكنان هنا : المغارات والأسراب والكهوف المنحوتة في بطون الجبال.

أى : وجعل لكم ـ سبحانه ـ من الجبال مواضع تستترون فيها من الحر أو البرد أو المطر ، أو غير ذلك من وجوه انتفاعكم بتلك الأكنان.

وقوله ـ سبحانه ـ (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) نعمة ثالثة. والسرابيل : جمع سربال وهي كل ما يتسربل به : أى يلبسه الناس للتستر والوقاية كالقمصان والثياب والدروع وغيرها. أى : وجعل لكم من فضله وكرمه ملابس تتقون بها ضرر الحر وضرر البرد ، وملابس أخرى هي الدروع وما يشبهها ـ تتقون بها الضربات والطعنات التي تسدد إليكم في حالة الحرب.

وقال ـ سبحانه ـ : (تَقِيكُمُ الْحَرَّ) مع أنها تقى من الحر والبرد ، اكتفاء بذكر أحد الضدين عن الآخر ، أو اكتفى بذكر الحر لأنه الأهم عندهم ، إذ من المعروف أن بلاد العرب يغلب عليها الحر لا البرد.

قال صاحب الكشاف : لم يذكر البرد ، لأن الوقاية من الحر أهم عندهم ، وقلما يهمهم البرد لكونه يسيرا محتملا ، وقيل : ما يقي من الحر يقي من البرد ، فدل ذكر الحر على البرد (٢).

وقال القرطبي : قال العلماء : في قوله ـ تعالى ـ : (وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) دليل

__________________

(١) سورة فصلت الآية ٥.

(٢) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٦٢٦.

٢٠٩

على اتخاذ الناس عدة الجهاد ليستعينوا بها على قتال الأعداء. وقد لبسها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حروبه .. (١).

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بقوله : (كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) أى : كذلك الإتمام السابغ للنعم التي أنعم بها ـ سبحانه ـ على عباده يتم نعمته عليكم المتمثلة في نعم الدين والدنيا ، لعلكم بذلك تسلمون وجوهكم لله ـ عزوجل ـ ، وتدخلون في دين الإسلام عن اختيار واقتناع ، فإن من شاهد كل هذه النعم ، لم يسعه إلا الدخول في الدين الحق.

ثم سلى الله ـ تعالى ـ نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما أصابه من أعدائه فقال : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ).

وجواب الشرط محذوف ، والتقدير : فإن استمر هؤلاء المشركون في إعراضهم عن دعوتك بعد هذا البيان والامتنان ، فلا لوم عليك ، فأنت عليك البلاغ الواضح ونحن علينا محاسبتهم ، ومعاقبتهم بما يستحقون من عقاب.

وقوله ـ سبحانه ـ : (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ) استئاف مسوق لبيان الموقف الجحودى الذي وقفه المشركون من نعم الله ـ تعالى ـ.

والمراد بالكفر في قوله ـ تعالى ـ : (وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ) الستر لنعم الله عن معرفة لها ، وغمطها عن تعمد وإصرار.

أى : إن هؤلاء المشركين ، يعرفون نعم الله التي عددها في هذه السورة ، كما أنهم يعترفون بأن خالقهم وخالق السموات والأرض هو الله ، ولكنهم ينكرون هذه النعم بأفعالهم القبيحة ، وأقوالهم الباطلة ، كقولهم هذه النعم من الله ولكنها بشفاعة آلهتنا الأصنام ، أو كقولهم : هذه النعم ورثناها عن آبائنا.

وجاء التعبير بثم لاستبعاد الإنكار بعد المعرفة بالنعم ، فإن من شأن العالم بالنعمة أن يؤدى الشكر لمسديها ، وأن يستعملها فيما خلقت له.

وقوله (وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ) أى : وأكثر هؤلاء الضالين. جاحدون لنعم الله عن علم بها لا عن جهل ، وعن تذكر لا عن نسيان.

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا ..) (٢).

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٠ ص ١٦٠.

(٢) سورة النمل الآية ١٤.

٢١٠

قال صاحب فتح البيان : وعبر هنا بالأكثر في قوله ـ تعالى ـ : (وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ) والمراد الكل ، لأنه قد يذكر الأكثر ويراد به الجميع ، أو أراد بالأكثر العقلاء دون الأطفال ونحوهم ، أو أراد كفر الجحود ، ولم يكن كفر كلهم كذلك ، بل كان كفر أقلهم عن جهل ، وكفر أكثرهم بسبب تكذيبهم للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنادا أو حسدا .. (١).

وبذلك ترى الآيات الكريمة قد ساقت لنا ألوانا من نعم الله ـ تعالى ـ على عباده ، وأدلة متعددة على وحدانيته وقدرته ، وجانبا من موقف الكافرين من هذه النعم.

ثم تحدثت السورة الكريمة بعد ذلك عن حال الظالمين يوم القيامة وعن الأقوال التي يقولونها عند ما يرون أصنامهم في هذا اليوم العصيب ..

قال تعالى :

(وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٨٤) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٥) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (٨٦) وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٨٧) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (٨٨) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ

__________________

(١) تفسير فتح البيان ج ٥ ص ٢٨٢.

٢١١

أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) (٨٩)

قال الإمام الرازي : اعلم أنه ـ تعالى ـ لما بين حال القوم ، أنهم عرفوا نعمة الله ثم أنكروها ، وذكر أيضا من حالهم أن أكثرهم الكافرون أتبعه بالوعيد ، فذكر حال يوم القيامة فقال :. (وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ...) وذلك يدل على أن أولئك الشهداء يشهدون عليهم بذلك الإنكار ، وبذلك الكفر ، والمراد بهؤلاء الشهداء : الأنبياء ، كما قال ـ تعالى ـ : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) (١).

والمعنى : واذكر ـ أيها العاقل لتعتبر وتتعظ ـ (يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ) أى : جماعة من الناس ، «شهيدا» يشهد للمؤمن بالإيمان ويشهد على الكافر بالكفر.

قال ابن عباس : شهيد كل أمة نبيها يشهد لهم بالإيمان والتصديق ، وعليهم بالكفر والتكذيب.

وقوله : (ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) بيان للمصير السيئ الذي ينتظر هؤلاء الكافرين يوم القيامة.

أى : ثم لا يؤذن للذين كفروا يوم القيامة في الاعتذار ، عما كانوا عليه في الدنيا من عقائد زائفة ، وأقوال باطلة ، وأفعال قبيحة ، كما قال ـ تعالى ـ في سورة أخرى : (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ. وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) (٢).

أو المعنى : ثم لا يؤذن لهم في الرجوع إلى الدنيا ليتداركوا ما فاتهم من عقائد سليمة وأعمال صالحة ، لأنهم قد تركوها ولا عودة لهم إليها. أى : ثم لا يؤذن لهم في الكلام ، بعد أن ثبت بطلانه ، وقامت عليهم الحجة والتعبير بثم للاشعار بأن مصيبتهم بسبب عدم قبول أعذارهم ، أشد من مصيبتهم بسبب شهادة الأنبياء عليهم.

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٥ ص ٣٤٢.

(٢) سورة المرسلات الآيتان ٣٦ ، ٣٧.

٢١٢

قال صاحب الكشاف : فإن قلت ما معنى «ثم» هذه؟.

قلت : معناها أنهم يبتلون بعد شهادة الأنبياء بما هو أطم منها ، وهو أنهم يمنعون الكلام ، فلا يؤذن لهم في إلقاء معذرة ولا إدلاء بحجة (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) تيئيس آخر لهم في الحصول على شيء من رحمة الله ـ تعالى ـ. أى : لا يؤذن لهم في الاعتذار ، ولا يقبل منهم أن يزيلوا عتب ربهم ، أى : غضبه وسخطه عليهم ، لأن العتاب إنما يطلب لأجل معاودة الرضا من العاتب ، وهؤلاء قد انسد عليهم هذا الطريق ، لأن الله ـ تعالى ـ قد سخط عليهم سخطا لا مجال لإزالته ، بعد أن أصروا على كفرهم في الدنيا وماتوا على ذلك.

قال القرطبي : قوله (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) أى لا يكلفون أن يرضوا ربهم لأن الآخرة ليست بدار تكليف ، ولا يتركون إلى رجوع الدنيا فيتوبون.

وأصل الكلمة من العتب ـ بفتح العين وسكون التاء ـ وهي الموجدة. يقال : عتب عليه يعتب ، إذا وجد عليه ، فإذا فاوضه فيما عتب عليه فيه ، قيل : عاتبه ، فإذا رجع الى مسرتك فقد أعتب ، والاسم العتبى ، وهو رجوع المعتوب عليه إلى ما يرضى العاتب.

قال النابغة :

فإن كنت مظلوما فعبدا ظلمته

وإن كنت ذا عتبى فمثلك يعتب (٢)

وبذلك ترى الآية الكريمة قد نفت عن الذين كفروا قبول أعذارهم ، وقبول محاولتهم إرضاء ربهم عما كانوا عليه من كفر وزيغ في الدنيا.

ثم نفى ـ سبحانه ـ عنهم ـ أيضا ـ تخفيف العذاب أو تأخيره فقال : (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ).

أى : وإذا أبصر الذين ظلموا العذاب الذي أعد لهم في الآخرة بسبب ظلمهم وكفرهم في الدنيا ، فزعوا وخافوا ، ولكن خوفهم وفزعهم لن يغير من الأمر شيئا ، إذ لا يخفف عنهم العذاب بسبب خوفهم أو فزعهم : ولا هم يمهلون أو يؤخرون عنه.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٦٢٦.

(٢) تفسير القرطبي ج ١٠ ص ١٦٢.

٢١٣

وعلق ـ سبحانه ـ الرؤية بالعذاب ، للإشعار بأن فجيعتهم الكبرى كانت عند إبصاره ومشاهدته.

ثم حكى سبحانه بعض ما يدور بينهم وبين معبوداتهم الباطلة يوم القيامة ، فقال ـ تعالى ـ : (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ ، قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ ..).

قال القرطبي : قوله ـ تعالى ـ : (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ) أى : أصنامهم وأوثانهم التي عبدوها ، وذلك أن الله يبعث معبوديهم فيتبعونهم حتى يوردوهم النار. وفي صحيح مسلم : «من كان يعبد شيئا فليتبعه» فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس ، ويتبع من كان يعبد القمر القمر ، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت ...» (١).

وقال الآلوسى : والمراد بشركائهم : كل من اتخذوه شريكا له ـ عزوجل ـ من صنم ، ووثن ، وشيطان ، وآدمي ، وملك .. وإضافتهم إلى ضمير المشركين لهذا الاتخاذ ـ أى لاتخاذهم إياهم شركاء لله في العبادة ـ أو لأنهم جعلوا لهم نصيبا من أموالهم وأنعامهم» (٢).

أى : وإذا أبصر المشركون يوم القيامة شركاءهم الذين أشركوهم مع الله ـ تعالى ـ في العبادة ، «قالوا» أى المشركون على سبيل التحسر والتفجع يا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا في الدنيا نعبدهم من دونك ، ونتقرب بهم إليك ، فلا تجعل يا ربنا العذاب علينا وحدنا بل خففه أو ارفعه عنا فهؤلاء الشركاء هم الذين أضلونا.

قال أبو مسلم : ومقصود المشركين بهذا القول إحالة الذنب على تلك الأصنام تعللا بذلك واسترواحا ، مع كونهم يعلمون أن العذاب واقع بهم لا محالة ، ولكن الغريق يتعلق بكل ما تقع يده عليه (٣).

وقوله ـ تعالى ـ : (فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ) حكاية لما رد به الشركاء على المشركين. أى : فرد أولئك الشركاء من الأصنام وغيرها على المشركين بقولهم : إنكم لكاذبون ـ أيها المشركون ـ في إحالتكم الذنب علينا ، فإننا ما دعوناكم لعبادتنا ، ولا أجبرناكم على الإشراك بالله ـ تعالى ـ ، ولكنكم أنتم الذين اخترتم هذا الطريق المعوج ،

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٠ ص ١٦٣.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٤ ص ٢٠٨ ـ بتصرف وتلخيص ـ.

(٣) تفسير فتح البيان ج ٥ ص ٢٨٤ للشيخ صديق حسن خان.

٢١٤

تقليدا لآبائكم واستجابة لأهوائكم وشهواتكم ، وإيثارا للباطل على الحق وما رد به الشركاء على المشركين هنا ، قد جاء ما يشبهه في آيات كثيرة ، منها قوله ـ تعالى ـ : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا. كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ، وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ..) (٢).

قال القرطبي : وقوله ـ تعالى ـ : (فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ ...) أى : ألقت إليهم الآلهة القول ، أى : نطقت بتكذيب من عبدها. بأنها لم تكن آلهة ، ولا أمرتهم بعبادتها ، فينطق الله الأصنام حتى تظهر عند ذلك فضيحة الكفار (٣).

وقال الجمل : فإن قلت : كيف أثبت للأصنام نطقا هنا ، ونفاه عنها في قوله ـ تعالى ـ في سورة الكهف : (وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ ..).

فالجواب : أن المثبت لهم هنا النطق بتكذيب المشركين في دعوى عبادتهم لها ، والمنفي عنهم في الكهف النطق بالإجابة إلى الشفاعة لهم ودفع العذاب عنهم فلا تنافى (٤).

والتعبير بقوله ـ تعالى ـ : (فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ ...) يشعر بأن الشركاء قد ردوا على المشركين قولهم بسرعة وبدون إبطاء حيث أتى ـ سبحانه ـ بالفاء في قوله (فَأَلْقَوْا) واشتملت جملة «إنكم لكاذبون» على جملة من المؤكدات ، لإفحام المشركين ، وتكذيبهم في قولهم تكذيبا قاطعا لا يحتمل التأويل.

ولذا وجدنا المشركين يعجزون عن الرد على شركائهم ، بدليل قوله ـ تعالى ـ بعد ذلك : (وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ ، وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ).

أى : وألقى المشركون يوم القيامة «السلم» أى : الاستسلام والخضوع والانقياد ، لقضاء الله ـ تعالى ـ العادل فيهم ، وغاب وذهب عنهم ما كانوا يفترونه ويزعمونه في الدنيا من أن آلهتهم ستشفع لهم ، أو ستنفعهم يوم القيامة.

__________________

(١) سورة مريم الآيتان ٨١ ، ٨٢.

(٢) سورة إبراهيم الآيات ٢٢.

(٣) تفسير القرطبي ج ١٠ ص ١٦٣.

(٤) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٥٩٢.

٢١٥

وقيل : إن الضمير في قوله ـ تعالى ـ (وَأَلْقَوْا) يعود على المشركين وشركائهم. أى. استسلم العابدون والمعبودون وانقادوا لحكم الله الواحد القهار فيهم.

ثم بين ـ سبحانه ـ مصير الذين لم يكتفوا بالكفر ، بل ضموا إليه رذائل أخرى فقال ـ تعالى ـ : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ) أى : الذين لم يكتفوا بكفرهم ، بل أضافوا إلى ذلك أنهم «صدوا» غيرهم ومنعوه «عن سبيل الله» أى : عن اتباع الصراط المستقيم ، والطريق القويم وهو طريق الإسلام .. هؤلاء الأشقياء الذين فعلوا ذلك : «زدناهم عذابا» شديدا «فوق العذاب» الذي يستحقونه «بما كانوا يفسدون» أى : بسبب فسادهم في الأرض وكفرهم بالحق ، وصدهم الناس عن اتباعه.

وهذه الزيادة في عذابهم ، وردت آثار عن بعض الصحابة في بيانها. ومن ذلك ما روى عن ابن مسعود ـ رضى الله عنه ـ أنه قال : «زيدوا عقارب لها أنياب كالنخل الطوال ينهشونهم في جهنم» (١).

قال ابن كثير : وهذا دليل على تفاوت الكفار في عذابهم ، كما يتفاوت المؤمنون في منازلهم في الجنة ودرجاتهم (٢).

ثم أكد ـ سبحانه ـ أمر البعث ، وأنه آت لا ريب فيه ، فقال ـ تعالى ـ : (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ).

والمراد بالشهيد هنا : كل نبي بعثه الله ـ تعالى ـ لأمة من الأمم السابقة كنوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، وغيرهم من الأنبياء السابقين ـ عليهم الصلاة والسلام ـ.

والظرف «يوم» متعلق بمحذوف تقديره : اذكر.

والمعنى : واذكر ـ أيها العاقل لتتعظ وتعتبر ـ يوم القيامة ـ يوم نبعث في كل أمة من الأمم السابقة ، نبيها الذي أرسل إليها في الدنيا ، ليشهد عليها الشهادة الحق ، بأن يشهد لمؤمنها بالإيمان ، ولكافرها بالكفر.

وقوله ـ سبحانه ـ : (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أى : من جنسهم وبيئتهم ، ليكون أتم للحجة ، وأقطع للمعذرة ، وأدعى إلى العدالة والإنصاف.

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ١٤ ص ١٠٧.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٥٨١.

٢١٦

قال الآلوسى : ولا يرد لوط ـ عليه‌السلام ـ فإنه لما تأهل فيهم وسكن معهم عد منهم ـ أيضا ـ.

وقال ابن عطية : يجور أن يبعث الله شهداء من الصالحين مع الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ.

وقد قال بعض الصحابة : إذا رأيت أحدا على معصية فانهه فإن أطاعك وإلا كنت شهيدا عليه يوم القيامة (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ) خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على سبيل التشريف والتكريم. أى : وجئنا بك ـ أيها الرسول الكريم ـ يوم القيامة شهيدا على هؤلاء الذين أرسلك الله ـ تعالى ـ لإخراجهم من الظلمات إلى النور.

وإيثار لفظ المجيء على البعث ، لكمال العناية بشأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال ابن كثير قوله : (وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ) يعنى أمتك. أى اذكر ذلك اليوم وهوله ، وما منحك الله فيه من الشرف العظيم ، والمقام الرفيع. وهذه الآية شبيهة بالآية التي انتهى إليها عبد الله بن مسعود حين قرأ على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صدر سورة النساء فلما وصل إلى قوله ـ تعالى ـ (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «حسبك». فقال ابن مسعود : فالتفت فإذا عيناه صلى‌الله‌عليه‌وسلم تذرفان. أى بالدموع ... (٢).

والمراد بشهادته على أمته صلى‌الله‌عليه‌وسلم : تصريحه بأنه قد بلغ الرسالة ، وأدى الأمانة ، ونصح لأمته ، وتزكيته لأعمال الصالحين منها ، ورجاؤه من الله ـ تعالى ـ في هذا اليوم العصيب أن يغفر للعصاة من هذه الأمة.

ويرى بعضهم أن المراد بهؤلاء في قوله : (وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ) أى : على الأنبياء السابقين وأممهم.

ويبدو لنا أن الرأى الأول أقرب إلى الصواب ، لأنه هو الظاهر من معنى الجملة الكريمة ، ولأن آية سورة النساء (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) تؤيده.

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة ببيان ما أنزله عليه من وحى فيه الشفاء للصدور ،

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٤ ص ٢١٢.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٥٨٢.

٢١٧

والموعظة للنفوس فقال ـ تعالى ـ : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ ، وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ).

والتبيان : مصدر يدل على التكثير. قالوا : ولم يجئ من المصادر على هذه الزنة إلا لفظان لفظ التبيان ، ولفظ التلقاء. أى : «ونزلنا عليك» ـ أيها الرسول الكريم ـ «الكتاب» الكامل الجامع وهو القرآن الكريم «تبيانا». أى : بيانا بليغا شاملا «لكل شيء» على سبيل الإجمال تارة ، وعلى سبيل التفصيل تارة أخرى.

وقوله : (وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) صفات أخرى للكتاب.

أى : أنزلنا عليك القرآن ليكون تبيانا لكل شيء وليكون هداية للناس إلى طريق الحق والخير ، ورحمة لهم من العذاب ، وبشارة لمن أسلموا وجوههم لله ـ تعالى ـ وأحسنوا القول والعمل ، لا لغيرهم ممن آثروا الكفر على الإيمان ، والغىّ على الرشد.

قال الجمل ما ملخصه : وقوله : (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) أى بيانا بليغا ، فالتبيان أخص من مطلق البيان على القاعدة : أن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى.

وهذا التبيان إما في نفس الكتاب ، أو بإحالته على السنة لقوله ـ تعالى ـ : (... وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ...) (١) ، أو بإحالته على الإجماع كما قال ـ تعالى ـ : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى ...) (٢) أو على القياس كما قال : (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) والاعتبار : النظر والاستدلال اللذان يحصل بهما القياس.

فهذه أربعة طرق لا يخرج شيء من أحكام الشريعة عنها ، وكلها مذكورة في القرآن ، فكان تبيانا لكل شيء فاندفع ما قيل : كيف قال الله ـ تعالى ـ (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) ونحن نجد كثيرا من أحكام الشريعة لم يعلم من القرآن نصا ، كعدد ركعات الصلاة ، ومقدار حد الشرب ، ونصاب السرقة وغير ذلك ... (٣).

وبعد أن مدح ـ سبحانه ـ القرآن الكريم ، بأن فيه تبيان كل شيء ، وأنه هداية ورحمة وبشرى للمسلمين ، أتبع ذلك بآيات كريمة أمرت المسلمين بأمهات الفضائل ، وبجماع مكارم

__________________

(١) سورة الحشر الآية ٧.

(٢) سورة النساء الآية ١١٥.

(٣) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٥٩٣.

٢١٨

الأخلاق ، ونهتهم عن الفواحش والرذائل لتكون كالدليل على ما في هذا الكتاب من تبيان وهدى ورحمة فقال ـ تعالى ـ :

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٩١) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٩٢) وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٩٣)

قال القرطبي ما ملخصه : قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) اختلف العلماء في تأويل العدل والإحسان ، فقال ابن عباس : العدل : لا إله إلا الله ، والإحسان : أداء الفرائض. وقيل العدل : الفرض. والإحسان : النافلة ، وقال على بن أبى طالب : العدل : الإنصاف. والإحسان : التفضل.

وقال ابن العربي : العدل بين العبد وربه : إيثار حقه ـ تعالى ـ على حظ نفسه ، وتقديم رضاه على هواه ، والاجتناب للزواجر والامتثال للأوامر. وأما العدل بينه وبين نفسه فمنعه

٢١٩

ما فيه هلاكها .. وأما العدل بينه وبين غيره فبذل النصيحة ، وترك الخيانة فيما قل أو كثر ، والإنصاف من نفسك لهم بكل وجه.

وأما الإحسان فهو مصدر أحسن يحسن إحسانا. ويقال على معنيين : أحدهما : متعد بنفسه ، كقولك : أحسنت كذا ، أى : حسنته وأتقنته وكملته ، وهو منقول بالهمزة من حسن الشيء. وثانيهما : متعد بحرف جر ، كقولك : أحسنت إلى فلان ، أى : أوصلت إليه ما ينتفع به. وهو في هذه الآية مراد بالمعنيين معا .. (١).

ومن هذا الكلام الذي نقلناه بشيء من التلخيص عن الإمام القرطبي ، يتبين لنا أن العدل هو أن يلتزم الإنسان جانب الحق والقسط في كل أقواله وأعماله ، وأن الإحسان يشمل إحسان الشيء في ذاته سواء أكان هذا الشيء يتعلق بالعقائد أم بالعبادات أم بغيرهما ، كما يشمل إحسان المسلم إلى غيره.

فالإحسان أوسع مدلولا من العدل : لأنه إذا كان العدل معناه : أن تعطى كل ذي حق حقه ، بدون إفراط أو تفريط ، فإن الإحسان يندرج تحته أن تضيف إلى ذلك : العفو عمن أساء إليك ، والصلة لمن قطعك ، والعطاء لمن حرمك.

وإيثار صيغة المضارع في قوله : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ ...) لإفادة التجدد والاستمرار. ولم يذكر ـ سبحانه ـ متعلقات العدل والإحسان ليعم الأمر جميع ما يعدل فيه ، وجميع ما يجب إحسانه وإتقانه من أقوال وأعمال ، وجميع ما ينبغي أن تحسن إليه من إنسان أو حيوان أو غيرهما.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى) فضيلة ثالثة معطوفة على ما قبلها من عطف الخاص على العام ، إذ هي مندرجة في العدل والإحسان.

وخصها ـ سبحانه ـ بالذكر اهتماما بأمرها ، وتنويها بشأنها ، وتعظيما لقدرها.

والإيتاء : مصدر بمعنى الإعطاء ، وهو هنا مصدر مضاف لمفعوله.

والمعنى : إن الله ـ تعالى ـ يأمركم ـ أيها المسلمون ـ أمرا دائما وواجبا ، أن تلتزموا الحق والإنصاف في كل أقوالكم وأفعالكم وأحكامكم ، وأن تلتزموا التسامح والعفو والمراقبة لله ـ تعالى ـ في كل أحوالكم.

كما يأمركم أن تقدموا لأقاربكم على سبيل المعاونة والمساعدة ، ما تستطيعون تقديمه لهم من خير وبر ..

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٠ ص ١٦٦.

٢٢٠