التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٨

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٨

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0668-X
الصفحات: ٥٩٧

ثم بين ـ سبحانه ـ أهم الوظائف التي من أجلها أنزل كتابه على نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ، وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).

أى : وما أنزلنا عليك ـ أيها الرسول الكريم ـ هذا القرآن ، إلا من أجل أن تبين لمن أرسلت إليهم وجه الصواب فيما اختلفوا فيه من أمور العقائد والعبادات والمعاملات والحلال والحرام ... وبذلك يعرفون الحق من الباطل ، والخير من الشر.

وسيقت هذه المعاني بأسلوب القصر ، لقصد الإحاطة بأهم الغايات التي من أجلها أنزل الله ـ تعالى ـ كتابه على نبيه الكريم ، ولترغيب السامعين في تقبل إرشادات هذا الكتاب بنفس منشرحة ، وقلب متفتح.

وقوله (وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) ثناء آخر على هذا الكتاب الكريم.

أى : أنزلنا هذا الكتاب يا محمد ، لتبين للناس عن طريقه وجه الحق فيما اختلفوا فيه من أمور الدين ، وليكون هذا الكتاب هداية إلى الطريق القويم ، ورحمة لقوم يؤمنون به ، ويسيرون في كل أمورهم على هدى تعاليمه وإرشاداته وتشريعاته.

وقال ـ سبحانه ـ : (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) للإشارة الى أن الظفر بما اشتمل عليه القرآن من خيرات ، إنما هو لقوم قد توجهت نفوسهم إلى الإيمان به ، وتفتحت قلوبهم لاستقبال هداياته.

وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد بينت لنا جانبا من مظاهر فضل الله ـ تعالى ـ على عباده ، وردت على المشركين فيما زعموه من أن لهم في الآخرة العاقبة الحسنى ، وسلت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما أصابه منهم من أذى ، وبينت أهم الوظائف التي من أجلها أنزل الله ـ تعالى ـ كتابه.

ثم ساقت السورة الكريمة ألوانا من نعم الله ـ تعالى ـ على خلقه ، ومن ذلك : نعمة إنزال الماء من السماء ، ونعمة خلق الأنعام ، ونعمة إيجاد النخيل والأعناب ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٥) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (٦٦)

١٨١

وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٦٧)

والمراد بالسماء في قوله ـ تعالى ـ : (وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) : جهة العلو أو السحاب المنتشر في طبقات الجو العليا والذي تنزل منه الأمطار.

والمراد بإحياء الأرض : تحرك القوى النامية فيها ، وإظهار ما أودعه الله ـ تعالى ـ فيها من نبات وأزهار ، وثمرات ، وغير ذلك مما تنبته الأرض.

والمراد بموتها : خلوها من ذلك ، بسبب استيلاء القحط والجدب عليها.

قال ـ تعالى ـ : (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ).

أى : وكما أنزل الله ـ تعالى ـ كتابه ليكون هداية ورحمة لقوم يؤمنون ، أنزل ـ سبحانه ـ أيضا الماء من السماء على الأرض ، فتحولت بسبب نزول هذا الماء المبارك الكثير عليها ، من أرض جدباء خامدة ، إلى أرض خضراء رابية.

ثم حرض ـ سبحانه ـ عباده على التدبر والشكر فقال ـ تعالى ـ : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ).

أى : إن في ذلك الذي فعلناه بقدرتنا وحدها ، من انزل الماء من السماء ، وإحياء الأرض به من بعد موتها ، لآية عظيمة ، وعبرة جليلة ، ودلالة واضحة تدل على وحدانيتنا وقدرتنا وحكمتنا ، «لقوم يسمعون» ما يتلى عليهم من كلام الله ـ تعالى ـ سماع تدبر واعتبار ، فيعملون بما اشتمل عليه من توجيهات حكيمة وإرشادات سديدة.

فالمراد بالسمع : سمع القلوب والعقول ، لا سمع الآذان فقط ، إذ سمع الآذان بدون وعى واستجابة للحق ، لا قيمة له ، ولا فائدة ترجى من ورائه.

ثم أرشد ـ سبحانه ـ إلى مظهر آخر من مظاهر وحدانيته ، وعظيم قدرته وعجيب صنعه ، وسعة رحمته ، حيث خلق للناس الأنعام ، وسقاهم من ألبانها ، فقال ـ تعالى ـ : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً ...).

والأنعام : تطلق على الإبل والبقر والغنم من الحيوان ، ويدخل في الغنم المعز.

١٨٢

والعبرة : مصدر بمعنى العبور ، أى : التجاوز من محل إلى آخر ، والمراد بها هنا : العظة والاعتبار والانتقال من الجهل إلى العلم ، ومن الغفلة إلى اليقظة.

أى : وإن لكم ـ أيها الناس ـ في خلق الأنعام ، وفيما يخرج منها من ألبان لعبرة عظيمة ، وعظة بليغة ، ومنفعة جليلة توجب عليكم إخلاص العبادة لله ـ تعالى ـ وحده ، ومداومة الشكر له على نعمه. فالتنكير في قوله (لَعِبْرَةً) للتفخيم والتهويل.

وقوله ـ تعالى ـ : (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ) استئناف بيانى ، كأنه قيل : وما وجه العبرة في الأنعام؟ فكان الجواب : نسقيكم مما في بطونه.

قال الآلوسى : والضمير في «بطونه» يعود للأنعام ، وهو اسم جمع ، واسم الجمع يجوز تذكيره وإفراده باعتبار لفظه ، ويجوز تأنيثه وجمعه باعتبار معناه ...» (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ) بيان لموطن العبرة ومحل النعمة ، ومظهر الدلالة على وحدانية الله ـ تعالى ـ وقدرته ورحمته ..

والفرث : الطعام المتبقى في أمعاء الحيوان بعد هضمه. وأصل الفرث : التفتيت. يقال فرثت كبده. أى : فتتتها.

قال الجمل ما ملخصه : والفرث : الأشياء المأكولة المنهضمة بعض الانهضام في الكرش ـ بفتح الكاف وكسر الراء ـ فإذا خرجت من الكرش لا تسمى فرثا بل تسمى روثا. وقوله (لَبَناً) مفعول ثان لنسقيكم ، والأول هو الكاف» (٢).

والخالص : النقي الصافي الخالي من الشوائب والأكدار. يقال خلص الشيء من التلف خلوصا ـ من باب قعد ـ إذا سلم منه.

والسائغ : اللذيذ الطعم ، السهل المدخل الى الحلق. يقال : ساغ الشراب يسوغ سوغا. من باب قال ـ إذا سهل مدخله في الحلق.

أى : نسقيكم من بين الفرث والدم الذي اشتملت عليه بطون الأنعام ، «لبنا» نافعا لأبدانكم «خالصا» من رائحة الفرث ، ومن لون الدم ، مع أنه موجود بينهما «سائغا للشاربين» بحيث يمر في الحلوق بسهولة ويسر ، ويشعر شاربه بلذة وارتياح.

__________________

(١) تفسير الآلوسي ج ١٤ ص ١٧٦.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٥٨٠.

١٨٣

وقدم ـ سبحانه ـ قوله : (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ) على قوله (لَبَناً) ، لأن خروج اللبن من بينهما هو موطن العبرة ، وموضع الدليل الأسمى على قدرة الله ـ تعالى ـ ووحدانيته.

قال صاحب الكشاف : قوله ـ تعالى ـ : (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ) أى : يخلق الله اللبن وسيطا بين الفرث والدم يكتنفانه ، وبينه وبينهما برزخ من قدرة الله ـ تعالى ـ ، بحيث لا يبغى أحدهما عليه بلون ولا طعم ولا رائحة ، بل هو خالص من ذلك كله ... فسبحان الله ما أعظم قدرته ، وألطف حكمته ، لمن تفكر وتأمل. وسئل «شقيق» عن الإخلاص فقال : تمييز العمل من العيوب كتمييز اللبن من بين فرث ودم.

ثم قال ـ رحمه‌الله ـ : فإن قلت : أى فرق بين «من» الأولى والثانية؟.

قلت : الأولى للتبعيض ، لأن اللبن بعض ما في بطونها ... والثانية لابتداء الغاية ، لأن بين الفرث والدم مكان الإسقاء الذي منه يبتدأ ...

وإنما قدم قوله : (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ) لأنه موضع العبرة ، فهو قمن بالتقديم» (١).

وقال الآلوسى عند تفسيره لهذه الآية : «ومن تدبر في بدائع صنع الله ـ تعالى ـ فيما ذكر من الأخلاط والألبان وإعداد مقارها ومجاريها ، والأسباب المولدة لها ، وتسخير القوى المتصرفة فيها ... اضطر إلى الاعتراف بكمال علمه ـ سبحانه ـ وقدرته ، وحكمته ، وتناهى رأفته ورحمته :

حكم حارت البرية فيها

وحقيق بأنها تحتار (٢)

والحق ، أن هذه الآية الكريمة من أكبر الأدلة على وحدانية الله تعالى ونفاذ قدرته ، وعجيب صنعته ، حيث استخرج ـ سبحانه ـ من بين فرث ودم في بطون الأنعام ، لبنا خالصا سائغا للشاربين.

وهذا الاستخراج قد تكلم العلماء المتخصصون عن كيفيته وعن مراحله .. كلاما يقوى إيمان المؤمنين ، ويدفع باطل الملحدين.

هذا ، وفي الآية الكريمة إشارة إلى أن اللبن نعمة جزيلة من نعم الله ـ تعالى ـ على خلقه.

قال القرطبي ما ملخصه : «روى أبو داود وغيره عن ابن عباس قال : أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلبن فشرب ، ثم قال : «إذا أكل أحدكم طعاما فليقل ، اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٦١٦.

(٢) تفسير الآلوسي ج ١٤ ص ١٧٨.

١٨٤

خيرا منه ، وإذا سقى لبنا فليقل : اللهم بارك لنا فيه ، وزدنا منه ، فإنه ليس شيء يجزئ عن الطعام والشراب إلا اللبن».

ثم قال الإمام القرطبي : قال علماؤنا : فكيف لا يكون كذلك ، وهو أول ما يغتذى به الإنسان ، وتنمو به الأبدان ، فهو قوت به قوام الأجسام ، وقد جعله الله ـ تعالى ـ علامة لجبريل على هداية هذه الأمة ، ففي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «فجاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن ، فاخترت اللبن. فقال لي جبريل : اخترت الفطرة ...» (١).

ثم انتقلت السورة الكريمة الى الحديث عن نعمة أخرى من نعم الله التي لا تحصى ، وهي نعمة ثمرات النخيل والأعناب ، فقال ـ تعالى ـ : (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً ...).

قال الجمل ما ملخصه : قوله ـ سبحانه ـ : (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ ..) خبر مقدم ، ومن تبعيضية ، والمبتدأ محذوف تقديره ثمر ، وقوله (تَتَّخِذُونَ) نعت لهذا المبتدأ المحذوف ، أى : ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا.

ويجوز أن يكون الجار والمجرور متعلقا بمحذوف ، والتقدير : ونسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب ، أى : من عصيرهما ، وحذف لدلالة نسقيكم قبله عليه ، وقوله (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً) بيان وكشف عن كيفية الإسقاء.

والضمير في قوله (مِنْهُ) يعود على المضاف المحذوف الذي هو العصير ، أو على المبتدأ المحذوف وهو الثمر (٢).

والسكر ـ بفتح السين والكاف ـ اسم من أسماء الخمر ، يقال : سكر فلان ـ بوزن فرح ـ يسكر سكرا ، إذا غاب عقله وإدراكه فهو سكران وسكر ـ بفتح السين وكسر الكاف ـ.

وأما الرزق الحسن ، فالمراد به ما كان حلالا من ثمرات النخيل والأعناب كالتمر والزبيب وغير ذلك مما أحله الله ـ تعالى ـ من ثمارهما.

وعلى هذا المعنى سار جمهور العلماء من السلف والخلف.

قال الآلوسى ما ملخصه : والسكر : الخمر. قال الأخطل :.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٠ ص ١٢٧.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٥٨٠.

١٨٥

بئس الصّحاة وبئس الشّرب شربهم

إذا جرى فيهم المزّاء والسّكر

المزاء : نوع من الأشربة. والسكر ما يسكر وهو الخمر.

وفسروا الرزق الحسن. بالخل والتمر والزبيب وغير ذلك.

ثم قال : وتفسير «السّكر» بالخمر ، هو المروي عن ابن مسعود ، وابن عمر ، وأبى رزين ، والحسن ، ومجاهد ، والشعبي .. والنخعي .. مع خلق آخرين .. (١).

وعلى هذا التفسير الذي قاله جمهور العلماء يكون السكر غير الرزق الحسن ، ويكون العطف للتغاير.

ومن العلماء من فسر السكر بأنه اسم للخل ، أو للعصير غير المسكر ، أو لما لا يسكر من الأنبذة ، وقد بسط الإمام القرطبي القول في هذه المسألة فقال ما ملخصه : قوله ـ تعالى ـ (سَكَراً) السكر ما يسكر ، هذا هو المشهور في اللغة. قال ابن عباس : نزلت هذه الآية قبل تحريم الخمر.

والمراد بالسكر : الخمر. وبالرزق الحسن : جميع ما يؤكل ويشرب حلالا من هاتين الشجرتين.

وقد قيل إن السكر : الخل بلغة الحبشة. والرزق الحسن : الطعام. وقيل السكر : العصير الحلو الحلال ، وسمى سكرا ، لأنه قد يصير مسكرا إذا بقي ، فإذا بلغ الإسكار حرم ...

وقال الحنفيون. المراد بقوله «سكرا» مالا يسكر من الأنبذة. والدليل عليه أن الله ـ سبحانه ـ امتن على عباده بما خلق لهم من ذلك ، ولا يقع الامتنان إلا بمحلل لا بمحرم ، فيكون ذلك دليلا على جواز شرب ما دون المسكر من النبيذ ، فإذا انتهى إلى السكر لم يجز. وعضدوا هذا من السنة بما روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «حرم الله الخمر بعينها والسّكر من غيرها» (٢).

وأصحاب هذا الرأى كأنهم يرون أن عطف الرزق الحسن على السكر من باب عطف الشيء على مرادفه ، كما في قوله ـ تعالى ـ (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) وليس من باب العطف المقتضى للمغايرة ، فالسكر عندهم ليس هو الخمر ، وإنما هو الخل أو العصير أو النبيذ غير المسكر.

ويبدو لنا أن ما ذهب إليه الجمهور من أن السكر هو الخمر أولى بالقبول ، لأن هذا التفسير

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٤ ص ١٨٠.

(٢) تفسير القرطبي ج ١٠ ص ١٢٨.

١٨٦

هو المروي عن جمع من الصحابة ومن التابعين ، ولأن الأصل في العطف أنه يقتضى المغايرة.

قال ابن العربي : أسد هذه الأقوال قول ابن عباس : نزلت هذه الآية قبل تحريم الخمر ، والمراد بالسكر الخمر ، فتكون هذه الآية منسوخة لأنها مكية باتفاق العلماء ، وتحريم الخمر مدني (١).

وقال صاحب تفسير آيات الأحكام بعد أن ذكر أدلة الأحناف ورد عليها : والحاصل أننا نرى أن الآية ليس فيها ما يشهد بالحل ، إذ الكلام في الامتنان بخلق الأشياء لمنافع الإنسان ، ولم تنحصر المنافع في حل التناول ، فقد قال الله ـ تعالى ـ : في شأن الخمر : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ ..) فهل انحصرت منافع السكر ـ على فرض أنه النبيذ ـ في الشرب؟ (٢).

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أى : في ذلك الذي ذكرناه لكم من إخراج اللبن من بين فرث ودم ، ومن اتخاذ السكر والرزق الحسن من ثمرات النخيل والأعناب ، «لآية» باهرة ، ودلالة واضحة ، على قدرة الله ـ تعالى ـ ووحدانيته ، «لقوم يعقلون» هذه التوجيهات الحكيمة ، فيدركون أن من يفعل كل ذلك وغيره ، هو المستحق للعبادة والطاعة «ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين».

* * *

ثم ساق ـ سبحانه ـ بعد ذلك ما يدل ـ أيضا ـ على وحدانيته وقدرته ، عن طريق إخراج العسل الذي فيه شفاء للناس بواسطة حشرة ضعيفة وهي النحلة ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٦٩)

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٠ ص ١٢٨.

(٢) راجع تفسير آيات الأحكام ج ٣ ص ٥٢ لفضيلة الشيخ محمد على السائس ـ رحمه‌الله.

١٨٧

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَأَوْحى) من الوحى ، وهو هنا بمعنى الإلهام ، وهو ـ كما يقول القرطبي ـ ما يخلقه الله ـ تعالى ـ في القلب ابتداء من غير سبب ظاهر. ومنه قوله ـ تعالى ـ : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها. فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) ومن ذلك إلهام البهائم لفعل ما ينفعها ، وترك ما يضرها ، وتدبير معاشها .. (١).

وقال صاحب الكشاف : والإيحاء إلى النحل : إلهامها والقذف في قلوبها على وجه هو أعلم به ، لا سبيل لأحد إلى الوقوف عليه ، وإلا فتأنقها في صنعتها ولطفها في تدبير أمرها ، وإصابتها فيما يصلحها دلائل شاهدة على أن الله ـ تعالى ـ أودعها علما بذلك وفطنها ، كما أودع أولى العقول عقولهم .. (٢).

والخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويشمل كل من يصلح للخطاب من الأمة الإسلامية.

والنحل : اسم جنس يفرق بينه وبين واحده بالتاء ، ويطلق على الذكر والأنثى ، وسمى بذلك لأن الله ـ تعالى ـ نحله أى منحه العسل الذي يخرج منه.

وقوله ـ سبحانه ـ : (أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) بيان لما ألهمه الله النحل من أوامر. ولما كلفها به من أعمال.

و «أن» مفسرة لأن الإيحاء فيه معنى القول دون حروفه وما بعدها لا محل له من الإعراب ، ويجوز بأن تكون مصدرية فيكون ما بعدها في محل نصب على تقدير الجار. أى : بأن اتخذى.

والمعنى : وألهم ربك النحل وأرشدها وهداها إلى أن تتخذ من فجوات الجبال بيوتا تسكن فيها ، وكذلك من تجاويف الأشجار ومما يرفعه الناس ويعرشونه من السقوف وغيرها.

يقال : عرش الشيء يعرشه ـ بكسر الراء وضمها ـ إذا رفعه عن الأرض ، ومنه العريش الذي صنع لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بدر لمشاهدة سير المعركة.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت ما معنى «من» في قوله (أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ)؟ وهلا قيل في الجبال وفي الشجر؟.

قلت : أريد معنى البعضية ، وأن لا تبنى بيوتها في كل جبل ، وكل شجر ، وكل ما يعرش ، ولا في كل مكان منها.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٠ ص ١٣٣.

(٢) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٦١٨.

١٨٨

وقد علق الشيخ ابن المنير على هذا الكلام بقوله : «ويتزين هذا المعنى الذي نبه عليه الزمخشري في تبعيض «من» المتعلقة باتخاذ البيوت بإطلاق الأكل ، كأنه ـ تعالى ـ وكل الأكل إلى شهوتها واختيارها فلم يحجر عليها فيه ، وإن حجر عليها في البيوت ، وأمرت باتخاذها في بعض المواضع دون بعض لأن مصلحة الأكل على الإطلاق باستمرار مشتهاها منه ، وأما البيوت فلا تحصل مصلحتها في كل موضع. ولهذا المعنى دخلت ثم في قوله (ثُمَّ كُلِي ...) لتفاوت الأمر بين الحجر عليها في اتخاذ البيوت ، والإطلاق لها في تناول الثمرات ، كما تقول : راع الحلال فيما تأكله ثم كل أى شيء شئت. فتوسط ثم لتفاوت. الحجر والإطلاق فسبحان اللطيف الخبير» (١).

وقوله : (ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً ..) بيان للون آخر من الإلهامات التي ألهمها الله ـ تعالى ـ إياها.

والسبل : جمع سبيل. والمراد بها الطرق التي تسلكها النحلة في خروجها من بيتها وفي رجوعها إليه وأضاف ـ سبحانه ـ السبل إليه ، لأنه هو خالقها وموجدها.

وذللا : جمع ذلول وهو الشيء الممهد المنقاد ، وهو حال من السبل ، أى : فاسلكي سبل ربك حال كونها ممهدة لك ، لا عسر في سلوكها عليك ، وإن كانت صعبة بالنسبة لغيرك.

قالوا : ربما أجدب عليها ما حولها ، فتنتجع الأماكن البعيدة للمرعى ، ثم تعود إلى بيوتها دون أن تضل عنها.

وقيل إن «ذللا» حال من النحلة أى : ثم كلى من كل الثمرات ، فاسلكي سبل ربك ، حالة كونك منقادة لما يراد منك ، مطيعة لما سخرك الله له من أمور تدل على قدرته وحكمته ـ سبحانه ـ.

وقوله ـ تعالى ـ : (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) كلام مستأنف ، عدل به من خطاب النحلة الى خطاب الناس ، تعديدا للنعم ، وتعجيبا لكل سامع ، وتنبيها على مواطن العظات والعبر الدالة على وحدانية الله ـ تعالى ـ وقدرته وعجيب صنعه في خلقه.

أى : يخرج من بطون النحل ـ بعد أكلها من كل الثمرات وبعد اتخاذها بيوتها ـ شراب هو العسل ، مختلف ألوانه ما بين أبيض وأصفر وغير ذلك من ألوان العسل ، على حسب اختلاف مراعيها ومآكلها وسنها ، وغير ذلك بما اقتضته حكمته ـ سبحانه ـ.

__________________

(١) الكشاف وحاشيته ج ٢ ص ٦١٨.

١٨٩

والضمير في قوله ـ تعالى ـ : (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) يعود على الشراب المستخرج من بطونها وهو العسل.

أى : في العسل شفاء عظيم للناس من أمراض كثيرة تعرض لهم.

وقيل : الضمير يعود إلى القرآن الكريم ، والتقدير : فيما قصصنا عليكم في هذا القرآن الشفاء للناس.

وهذا القيل وإن كان صحيحا في ذاته ، إلا أن السياق لا يدل عليه ، لأن الآية تتحدث عما يخرج من بطون النحل وهو العسل ، ولا وجه للعدول عن الظاهر ، ومخالفة المرجع الواضح.

قال الإمام ابن كثير : والدليل على أن المراد بقوله (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) هو العسل ، الحديث الذي رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبى سعيد الخدري ـ رضى الله عنه ـ ، أن رجلا جاء إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال : إن أخى استطلق بطنه فقال : «اسقه عسلا» ، فذهب فسقاه عسلا ثم جاء فقال : يا رسول الله ، سقيته عسلا فما زاده إلا استطلاقا. قال : «اذهب فاسقه عسلا». فذهب فسقاه عسلا ثم جاء فقال يا رسول الله ، سقيته عسلا فما زاده إلا استطلاقا. فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «صدق الله وكذب بطن أخيك. اذهب فاسقه عسلا» فذهب فسقاه عسلا فبرئ.

ثم ساق الإمام ابن كثير بعد ذلك جملة من الأحاديث في هذا المعنى منها ما رواه البخاري عن ابن عباس قال : الشفاء في ثلاثة : في شرطة محجم أو شربة عسل أوكية بنار ، وأنهى أمتى عن الكي».

وروى البخاري ـ أيضا ـ عن جابر بن عبد الله قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن كان في شيء من أدويتكم ـ أو يكون في شيء من أدويتكم ـ خير : ففي شرطة محجم ، أو شربة عسل ، أو لذعة بنار ، توافق الداء ، وما أحب أن أكتوى» (١).

وقال صاحب فتح البيان : وقد اختلف أهل العلم هل هذا الشفاء الذي جعله الله في العسل عام لكل داء ، أو خاص ببعض الأمراض.

فقال طائفة : هو على العموم في كل حال ولكل أحد.

وقالت طائفة : أخرى : إن ذلك خاص ببعض الأمراض ، ولا يقتضى العموم في كل علة

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٥٧٥.

١٩٠

وفي كل إنسان ، وليس هذا بأول لفظ خصص في القرآن فالقرآن مملوء منه ، ولغة العربي يأتى فيها العام كثيرا بمعنى الخاص ، والخاص بمعنى العام.

ومما يدل على هذا ، أن العسل نكرة في سياق الإثبات فلا يكون عاما باتفاق أهل اللسان. ومحققي أهل الأصول. وتنكيره إن أريد به التعظيم لا يدل إلا على أن فيه شفاء عظيما لمرض ، أو أمراض ، لا لكل مرض ، فإن تنكير التعظيم لا يفيد العموم.

ثم قال : قلت : وحديث البخاري : أن أخى استطلق بطنه .. أوضح دليل على ما ذهبت إليه طائفة من تعميم الشفاء ، لأن قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «صدق الله» أى : أنه شفاء فلو كان لبعض دون بعض لم يكرر الأمر بالسقيا» (١).

والذي نراه ، أن من الواجب علينا أن نؤمن إيمانا جازما بأن العسل المذكور فيه شفاء للناس ، كما صرح بذلك القرآن الكريم ، وكما أرشد إلى ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وعلينا بعد ذلك أن نفوض أمر هذا الشفاء وعموميته وخصوصيته لعلم الله ـ تعالى ـ وقدرته وحكمته ويكفينا يقينا في هذا المجال ، إصرار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أن يقول للرجل الذي استطلق بطن أخيه أكثر من مرة ، «اذهب فاسقه عسلا».

وقد تولى كثير من الأطباء شرح هذه الآية الكريمة شرحا علميا وافيا ، وبينوا ما اشتمل عليه عسل النحل من فوائد (٢).

ثم ختم ـ سبحانه ـ : الآية الكريمة بقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).

أى : إن في ذلك الذي ذكرناه لكم من أمر النحل ؛ من إلهامها اتخاذ البيوت العجيبة ، ومن إدارتها لشئون حياتها بدقة متناهية ، ومن سلوكها الطرق التي جعلها الله مذللة في ذهابها وإيابها للحصول على قوام حياتها ، ومن خروج العسل من بطونها ... إن في ذلك وغيره ، لآية باهرة ، وعبرة ظاهرة ، ودلالة جلية ، على وحدانية الله ـ تعالى ـ وقدرته ، وحكمته ، لقوم يحسنون التفكير فيما أخبرهم الله ـ تعالى ـ عنه ، ويوقنون بأن لهذا الكون ربا واحدا لا إله الا هو (تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ).

وإلى هنا تكون الآيات الكريمة قد ساقت لنا ألوانا من عجائب صنع الله في خلقه ، كاستخراج اللبن من بين فرث ودم ، وكاتخاذ السكر والرزق الحسن من ثمرات النخيل والأعناب ، وكاستخراج العسل الذي فيه شفاء للناس من بطون النحل.

__________________

(١) تفسير فتح البيان ج ٥ ص ٢٦٧ للشيخ صديق خان.

(٢) راجع على سبيل المثال كتاب : الإسلام والطب الحديث» للدكتور عبد العزيز إسماعيل.

١٩١

فهذه الأشربة قد أخرجها الله ـ تعالى ـ من أجساد مخالفة لها في شكلها ، وقد ساقها ـ سبحانه ـ في آيات جمع بينها التناسق الباهر في عرض هذه النعم ، مما يدل على أن هذا القرآن من عند الله ، (.. وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (١).

وبعد هذا الحديث المتنوع عن عجائب خلق الله ـ تعالى ـ في الأنعام والأشجار والنحل .. ساقت السورة الكريمة ألوانا أخرى من مظاهر قدرته ـ تعالى ـ في خلق الإنسان ، وفي التفاضل في الأرزاق ، ومن نعمه على عباده في إيجاد الأزواج والبنين والحفدة .. فقال ـ تعالى ـ :

(وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٧٠) وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٧١) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ) (٧٢)

قال الإمام الرازي ـ رحمه‌الله ـ : لما ذكر ـ سبحانه ـ بعض عجائب أحوال الحيوانات ، ذكر بعده بعض عجائب أحوال الناس ، ومنها ما هو مذكور في هذه الآية : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) ـ وهو إشارة إلى مراتب عمر الإنسان. والعقلاء ضبطوها في أربع مراتب : أولها : سن النشوء والنماء ، وثانيها : سن الوقوف وهو سن الشباب ، من ثلاث وثلاثين سنة إلى أربعين سنة ـ ، وثالثها : سن الانحطاط القليل وهو سن الكهولة ـ وهو من الأربعين إلى الستين ـ ورابعها : سن الانحطاط الكبير ـ وهو سن الشيخوخة ـ وهو من الستين إلى نهاية العمر ـ» (٢).

__________________

(١) سورة النساء الآية ٨٢.

(٢) تفسير الفخر الرازي ج ٥ ص ٣٣٢.

١٩٢

والمعنى : «والله» ـ تعالى ـ هو الذي «خلقكم» بقدرته ، ولم تكونوا قبل ذلك شيئا مذكورا.

«ثم» هو وحده الذي «يتوفاكم» وينهى حياتكم من هذه الدنيا عند انقضاء آجالكم.

وقوله (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ ..) معطوف على مقدر. أى : والله ـ تعالى ـ هو الذي خلقكم ، فمنكم من يبقى محتفظا بقوة جسده وعقله حتى يموت ، ومنكم من يرد إلى أرذل العمر ..

والمراد بأرذل العمر : أضعفه وأوهاه وهو وقت الهرم والشيخوخة ، الذي تنقص فيه القوى ، وتعجز فيه الحواس عن أداء وظائفها.

يقال : رذل الشيء يرذل ـ بضم الذال فيهما ـ رذالة .. إذا ذهب جيده وبقي رديئه.

وقوله : (لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً) تعليل للرد إلى أرذل العمر.

أى : فعلنا ما فعلنا من إبقاء بعض الناس في هذه الحياة إلى سن الشيخوخة لكي يصير إلى حالة شبيهة بحالة طفولته في عدم إدراك الأمور إدراكا تاما وسليما.

ويجوز أن تكون اللام للصيرورة والعاقبة. أى : ليصير أمره بعد العلم بالأشياء ، إلى أن لا يعلم شيئا منها علما كاملا.

ولقد استعاذ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أن يصل عمره إلى هذه السن ، لأنها سن تتكاثر فيها الآلام والمتاعب. وقد يصير الإنسان فيها عالة على غيره. وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً ، يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) (١).

قال الإمام ابن كثير : روى البخاري عند تفسير هذه الآية ، عن أنس بن مالك ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يدعو فيقول : «اللهم إنى أعوذ بك من البخل ، والكسل ، والهرم ، وأرذل العمر ، وعذاب القبر ، وفتنة الدجال ، وفتنة المحيا والممات».

وقال زهير بن أبى سلمى في معلقته المشهورة :

سئمت تكاليف الحياة ومن يعش

ثمانين حولا لا أبا لك يسأم

رأيت المنايا خبط عشواء من تصب

تمته ، ومن تخطئ يعمر فيهرم (٢)

__________________

(١) سورة الروم. الآية ٥٥.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٥٧٧.

١٩٣

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بما يدل على كمال علمه ، وتمام قدرته ، فقال ـ تعالى ـ : (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) أى : إن الله ـ تعالى ـ عليم بأحوال مخلوقاته ، لا يخفى عليه شيء من تصرفاتهم «قدير» على تبديل الأمور كما تقتضي حكمته وإرادته.

ويؤخذ من هذه الآية الكريمة إمكان البعث وأنه حق ، لأن الله ـ تعالى ـ القادر على خلق الإنسان وعلى نقله من حال إلى حال .. قادر ـ أيضا ـ على إحيائه بعد موته.

ثم انتقلت السورة الكريمة من الحديث عن خلق الإنسان ، وتقلبه في أطوار عمره ، إلى الحديث عن التفاوت بين الناس في أرزاقهم ، فقال ـ تعالى ـ : (وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ ...) فجعل منكم الغنى والفقير ، والمالك والمملوك ، والقوى والضعيف ، وغير ذلك من ألوان التفاوت بين الناس ، لحكمة هو يعلمها ـ سبحانه ـ.

ثم بين ـ سبحانه ـ موقف المفضلين في الرزق من غيرهم فقال : (فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ ..).

أى : فليس الذين فضلهم الله ـ تعالى ـ في الرزق على غيرهم «برادي» أى : بمانحى وباذلى «رزقهم» الذي رزقهم الله إياه على مماليكهم أو خدمهم الذين هم إخوة لهم في الإنسانية «فهم» أى الأغنياء الذين فضلوا في الرزق ومماليكهم وخدمهم «فيه» أى : في هذا الرزق «سواء» من حيث إنى أنا الرازق للجميع.

فالجملة الكريمة يجوز أن تكون دعوة من الله ـ تعالى ـ للذين فضلوا على غيرهم في الرزق ، بأن ينفقوا على مماليكهم وخدمهم ، لأن ما ينفقونه عليهم هو رزق أجراه الله للفقراء على أيدى الأغنياء.

وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله عند تفسير الآية : أى : جعلكم متفاوتين في الرزق ، فرزقكم أفضل مما رزق مماليككم وهم بشر مثلكم ، وإخوانكم ، فكان ينبغي أن تردوا فضل ما رزقتموه عليهم ، حتى تتساووا في الملبس والمطعم. كما يحكى عن أبى ذر أنه سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إنما هم إخوانكم ، فاكسوهم مما تلبسون ، وأطعموهم مما تطعمون» فما رؤي عبده بعد ذلك إلا ورداؤه رداؤه ، وإزاره إزاره من غير تفاوت (١).

ويجوز أن تكون الآية الكريمة توبيخا للذين يشركون مع الله ـ تعالى ـ آلهة أخرى في العبادة. فيكون المعنى : لقد فضل الله ـ تعالى ـ بعضكم على بعض في الرزق ـ أيها

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٦٢٠.

١٩٤

الناس ـ ، ومع ذلك فالمشاهد الغالب بينهم ، أن الأغنياء لا يردون أموالهم على خدمهم وعبيدهم بحيث يتساوون معهم في الرزق ، وإذا ردوا عليهم شيئا ، فإنما هو شيء قليل يسير يدل على بخلهم وحرصهم .. مع أنى أنا الرازق للجميع.

وإلى هذا المعنى أشار ابن كثير بقوله عند تفسيره للآية : «يبين ـ تعالى ـ للمشركين جهلهم وكفرهم فيما زعموه لله من شركاء وهم يعترفون بأنهم عبيد له ، كما كانوا يقولون في تلبيتهم في حجهم : لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك ، فقال ـ تعالى ـ منكرا عليهم : أنتم لا ترضون أن تساووا عبيدكم فيما رزقناكم ، فكيف يرضى هو تعالى ـ بمساواة عبيد له في الإلهية والتعظيم ، كما قال ـ تعالى ـ في آية أخرى (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ ، هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ ...) (١).

وقال العوفى عن ابن عباس في هذه الآية يقول : لم يكونوا ليشركوا عبيدهم في أموالهم ونسائهم ، فكيف يشركون معى عبيدي في سلطاني .. (٢)».

وهذا المعنى الثاني هو الأقرب إلى سياق آيات السورة الكريمة ، لأن السورة الكريمة مكية ، ومن أهدافها الأساسية دعوة الناس إلى إخلاص العبادة لله ـ عزوجل ـ ، ونبذ الإشراك والمشركين ، وإقامة الأدلة المتنوعة على بطلان كل عبادة لغير الله ـ تعالى ـ.

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بقوله : (أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ).

والاستفهام هنا للتوبيخ والتقريع ، والفاء معطوفة على مقدر أى : أيشركون به ـ سبحانه ـ فيجحدون نعمه ، وينكرونها ، ويغمطونها حقها ، مع أنه ـ تعالى ـ هو الذي وهبهم هذه النعم ، وهو الذي منحهم ما منحهم من أرزاق؟!!.

ثم ذكرت السورة الكريمة بعد ذلك نعمة أخرى من نعم الله ـ تعالى ـ على الناس ، فقال ـ تعالى ـ : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً).

أى : والله ـ تعالى ـ هو وحده الذي جعل لكم (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) أى : من جنسكم ونوعكم (أَزْواجاً) لتسكنوا إليها ، وتستأنسوا بها ، فإن الجنس إلى الجنس آنس وأسكن.

قال ـ تعالى ـ : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً ، لِتَسْكُنُوا إِلَيْها ، وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ...) (٣).

__________________

(١) سورة الروم الآية ٢٨.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٥٧٧.

(٣) سورة الروم الآية ٢١.

١٩٥

قال الإمام ابن كثير : يذكر ـ تعالى ـ نعمه على عبيده ، بأن جعل لهم من أنفسهم أزواجا ، أى : من جنسهم وشكلهم ، ولو جعل الأزواج من نوع آخر ما حصل الائتلاف والمودة والرحمة ، ولكن من رحمته أنه خلق من بنى آدم ذكورا وإناثا ، وجعل الإناث أزواجا للذكور ..» (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً) بيان لنعمة أخرى من نعمه ـ تعالى ـ والحفدة ، جمع حافد يقال ، حفد فلان يحفد حفدا من باب ضرب إذا أسرع في خدمة غيره وطاعته. ومن دعاء القنوت : «وإليك نسعى ونحفد» أى : نسرع في طاعتك يا ربنا. والمراد بالحفدة : أبناء الأبناء. روى عن ابن عباس إنه قال : الحفيد ولد الابن والبنت ، ذكرا كان أو أنثى. وقيل المراد بهم : الخدم والأعوان ، وقيل المراد بهم : الأختان والأصهار أى : أزواج البنات وأقارب الزوجة ..

قال الجمل بعد أن نقل جملة من أقوال المفسرين في ذلك : وكل هذه الأقوال متقاربة ، لأن اللفظ يحتمل الكل بحسب المعنى المشترك. وبالجملة فالحفدة غير البنين ، لأن الأصل في العطف المغايرة (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) بيان لنعمة ثالثة من النعم المذكورة في هذه الآية. أى : ورزقكم ـ سبحانه ـ من الطيبات التي تستلذونها وتشتهونها ، وقد أحل لكم التمتع بها فضلا منه وكرما.

ثم ختم ـ تعالى ـ الآية الكريمة بتأنيب الذين يؤثرون الغي على الرشد فقال ـ تعالى ـ : (أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ).

والباطل يشمل كل اعتقاد أو قول أو فعل يخالف الحق والرشاد والاستفهام للتوبيخ والتقريع ، والفاء معطوفة على مقدر. والمعنى : أيجحدون نعم الله ـ تعالى ـ فيؤمنون بالباطل ، ويكفرون بكل ما سواه من الحق والهدى والرشاد.

وفي تقديم الباطل على الفعل «يؤمنون» إشارة إلى أنهم قد اختلط الباطل بدمائهم فأصبحوا لا يؤمنون إلا به ، ولا ينقادون إلا له.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٥٧٧.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٥٨٦.

١٩٦

والمراد بنعمة الله عموم النعم التي أنعم الله بها عليهم ، والتي لا تعد ولا تحصى.

وفي تقديم النعمة وتوسيط ضمير الفصل ، إشعار بأن كفرهم بالنعم مستمر وإنكارهم لها لا ينقطع ، لأنهم «استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله».

وإلى هنا تكون الآيات الكريمة قد ذكرت الناس بعجائب خلقهم وبأطوار حياتهم ، ويتفاوت أرزاقهم ، وببعض نعم الله ـ تعالى ـ عليهم لعلهم عن طريق هذا التذكير يفيئون إلى رشدهم ، ويخلصون العبادة لخالقهم ـ سبحانه ـ ، ويستعملون نعمه فيما خلقت له.

ثم ساقت السورة الكريمة بعد ذلك لونا من ألوان العقول المنحرفة عن الطريق الحق ، كما ساقت مثلين للرب الخالق العظيم ، وللمملوك العاجز الضعيف ، لعل في ذلك عبرة لمن يعتبر ، وهداية لمن يريد الصراط المستقيم ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (٧٣) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧٤) ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٧٥) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٧٦)

والمراد بقوله سبحانه : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ .....) كل معبود سوى الله ـ تعالى ـ من صنم أو وثن أو غير ذلك من المعبودات الباطلة.

والجملة الكريمة داخلة تحت مضمون الاستفهام الإنكاري ، ومعطوفة عليه : وهو قوله

١٩٧

ـ تعالى ـ : (أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ).

أى أن هؤلاء الجاحدين لنعم الله ـ تعالى ـ ، بلغ من جهالتهم وسفاهاتهم أنهم يؤمنون بالباطل ، ويكفرون بالحق ، ويعبدون من دون الله ـ تعالى ـ أصناما وأوثانا لا تملك لعابدها أى شيء من الرزق فهي لا تنزل مطرا من السماء ولا تخرج نباتا من الأرض ، ولا تستطيع أن تنفع أو تضر ..

و «ما» في قوله ـ تعالى ـ (ما لا يَمْلِكُ ..) كناية عن معبوداتهم الباطلة فهي مفردة لفظا ، مجموعة معنى.

والتنكير في قوله ـ سبحانه ـ (رِزْقاً) للاشعار بقلته وتفاهته ، وأن معبوداتهم لا تملك لهم أى شيء من الرزق ، حتى ولو كان تافها حقيرا.

وقوله : (شَيْئاً) منصوب على المصدر ، أى : ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم ملكا ، أى : شيئا من الملك.

والضمير في قوله (وَلا يَسْتَطِيعُونَ) يعود إلى (ما) وجمع بصيغة العقلاء بناء على زعمهم الفاسد ، من أن هذه الأصنام في إمكانها النفع والضر.

وجاءت جملة (وَلا يَسْتَطِيعُونَ) بعد قوله ـ تعالى ـ (ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ..) لتأكيد عجز هذه المعبودات عن فعل أى شيء فهي لا تملك شيئا ، وليس في استطاعتها أن تملك لأنها ليست أهلا لذلك.

وقوله ـ سبحانه ـ (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ ..) نهى منه ـ سبحانه ـ عن أن يشبه في ذاته أو صفاته بغيره ، وقد جاء هذا النهى في صورة الالتفات من الغائب إلى المخاطب للاهتمام بشأن هذا النهى ، والفاء لترتيب النهى على ما عدد من النعم التي وردت في هذه السورة والتي لم ينته الحديث عنها بعد.

والأمثال : جمع مثل ، وهو النظير والشبيه لغيره ، ثم أطلق على القول السائر المعروف ، لمماثلة مضربه ـ وهو الذي يضرب فيه ـ ، لمورده ـ وهو الذي ورد فيه أولا.

وتضرب الأمثال : لتوضيح الشيء الغريب ، وتقريب المعنى المعقول من المعنى المحسوس ، وعرض ما هو غائب في صورة ما هو مشاهد ، فيكون المعنى الذي ضرب له المثل أوقع في القلوب ، وأثبت في النفوس.

وقوله ـ تعالى ـ (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) تعليل لهذا النهى عن ضرب الأمثال لله ـ عزوجل ـ.

١٩٨

أى : فلا تتجاسروا ، وتتطاولوا ، وتضربوا لله ـ تعالى ـ الأمثال ، كما يضرب بعضكم لبعض ، فإن الله ـ تعالى ـ هو الذي يعلم كيف تضرب الأمثال وأنتم لا تعلمون ذلك.

قال الزجاج : ورد أن المشركين كانوا يقولون : إن إله العالم أجل من أن يعبده الواحد منا ، فكانوا يتوسلون إلى الأصنام والكواكب ، كما أن أصاغر الناس يخدمون أكابر حضرة الملك ، وأولئك الأكابر يخدمون الملك ، فنهوا عن ذلك (١).

ثم وضح لهم ـ سبحانه ـ كيف تضرب الأمثال ، فساق مثلين حكيمين يدلان على وحدانية الله ـ تعالى ـ وقدرته ..

أما المثل الأول فيتجلى في قوله ـ عزوجل ـ : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ ..). أى : ذكر الله ـ تعالى ـ وبين ووضح لكم مثلا تستدلون به على وحدانيته ـ سبحانه ـ وهو أن هناك عبدا رقيقا مملوكا لغيره ، وهذا العبد لا يقدر على شيء من التصرفات حتى ولو كانت قليلة.

وقوله ـ سبحانه ـ : (عَبْداً) بدل من (مَثَلاً) و «مملوكا» صفة للعبد. ووصف ـ سبحانه ـ العبد بأنه مملوك ، ليحصل الامتياز بينه وبين الحر ، لأن كليهما يشترك في كونه عبدا لله ـ تعالى ـ.

ووصفه أيضا ـ بأنه لا يقدر على شيء للتمييز بينه وبين المكاتب والعبد المأذون له في التصرف ، لأنهما يقدران على بعض التصرفات.

هذا هو الجانب الأول من المثل ، أما الجانب الثاني فيتجلى في قوله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً ...).

قال الآلوسى : و «من» في قوله (وَمَنْ رَزَقْناهُ) نكرة موصوفه ، ليطابق عبدا فإنه نكرة موصوفة ـ أيضا ـ ، وقيل : إنها موصولة ، والأول اختيار الأكثرين أى : حرا رزقناه بطريق الملك ، والالتفات إلى التكلم ـ في «رزقناه» ـ للإشعار باختلاف حال ضرب المثل والرزق ...» (٢).

أى : ذكر الله ـ تعالى ـ لكم لتتعظوا وتتفكروا ، حال رجلين : أحدهما عبد مملوك لا يقدر على شيء. والثاني حر مالك رزقه الله ـ تعالى ـ رزقا واسعا حلالا حسنا ، «فهو» أى هذا

__________________

(١) تفسير فتح القدير للشيخ صديق حسن خان ج ٥ ص ٢٧٣.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٤ ص ١٩٥.

١٩٩

الحر ينفق على غيره من هذا الرزق الحسن «سرا وجهرا» واختار ـ سبحانه ـ ضمير العظمة في قوله (رَزَقْناهُ) للإشعار بكثرة هذا الرزق وعظمته ، ويزيده كثرة وعظمة قوله ـ تعالى ـ بعد ذلك (مِنَّا) أى ؛ من عندنا وحدنا وليس من عند غيرنا.

ووصف ـ سبحانه ـ الرزق بالحسن ، للإشارة إلى أنه مع كثرته فهو حلال طيب مستحسن في الشرع وفي نظر الناس.

وقال ـ سبحانه ـ (فَهُوَ يُنْفِقُ) بصيغة الجملة الاسمية ، للدلالة على ثبوت هذا الإنفاق ودوامه.

وقوله (سِرًّا وَجَهْراً) منصوبان على المصدر ، أى إنفاق سر وجهر ، أو على الحالية ، أى فهو ينفق منه في حالتي السر والجهر.

والمراد أنه إنسان كريم ، لا يبخل بشيء مما رزقه الله ، بل ينفق منه في عموم الأحوال ، وعلى من تحسن معه النفقة سرا ، وعلى من تحسن معه النفقة جهرا.

هذان هما الجانبان المتقابلان في هذا المثل ، والفرق بينهما واضح وعظيم عند كل ذي قلب سليم ، ولذا جاء بعدهما بالاستفهام الإنكارى التوبيخي فقال :

(هَلْ يَسْتَوُونَ)؟ أى : هل يستوي في عرفكم أو في عرف أى عاقل ، هذا العبد المملوك العاجز الذي لا يقدر على شيء .. مع هذا الإنسان الحر. المالك الذي رزقه الله ـ سبحانه ـ رزقا واسعا حلالا ، فشكر الله عليه ، واستعمله في وجوه الخير.

إن مما لا شك فيه أنهما لا يستويان حتى في نظر من عنده أدنى شيء من عقل.

ومادام الأمر كذلك ، فكيف سويتم ـ أيها المشركون الجهلاء ـ في العبادة ، بين الخالق الرازق الذي يملك كل شيء ، وبين غيره من المعبودات الباطلة التي لا تسمع ولا تبصر ، ولا تعقل ، ولا تملك شيئا.

وقال ـ سبحانه ـ (هَلْ يَسْتَوُونَ) مع أن المتقدم اثنان ، لأن المراد جنس العبيد والأحرار ، المدلول عليهما بقوله (عَبْداً) وبقوله (وَمَنْ رَزَقْناهُ).

فالمقصود بالمثل كل من اتصف بهذه الأوصاف المذكورة من الجنسين المذكورين لا فردان معينان.

وقوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) ثناء منه ـ سبحانه ـ على ذاته ، حيث ساق ـ سبحانه ـ هذه الأمثال الواضحة للتمييز بين الحق والباطل.

أى : قل ـ أيها الإنسان المؤمن العاقل ـ «الحمد» كله «لله» ـ تعالى ـ على إرشاده

٢٠٠