التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٨

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٨

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0668-X
الصفحات: ٥٩٧

إن جهلهم هذا لدليل على انطماس بصيرتهم ، واستحواذ الشيطان عليهم.

وقوله «أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون» بيان للون آخر من ألوان تهديدهم.

أى : في قدرتنا أن نخسف بهم الأرض ، وفي قدرتنا أيضا أن نرسل عليهم العذاب فجأة فيأتيهم من جهة لا يتوقعون مجيئه منها ، ولا يترقبون الشر من ناحيتها.

وفي الجملة الكريمة إشارة إلى أن هذا العذاب الذي يأتيهم من حيث لا يشعرون. عذاب لا يمكن دفعه أو الهروب منه ، لأنه أتاهم بغتة ، ومن جهة لا يترقبون الشر منها.

وشبيه بهذا قوله ـ سبحانه ـ (فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ...) (١).

وقوله ـ سبحانه ـ ؛ (أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ) بيان لنوع ثالث من أنواع التهديدات التي هددهم الله ـ تعالى ـ بها.

والأخذ في الأصل : حوز الشيء وتحصيله ، والمراد به هنا : القهر والإهلاك والتدمير ومنه قوله ـ تعالى ـ (فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً) وقوله ـ تعالى ـ : (كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ).

والتقلب : الحركة السريعة إقبالا وإدبارا ، من أجل السعى في شئون الحياة من متاجرة ومعاملة وسفر وغير ذلك.

ومنه قوله ـ تعالى ـ : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ).

أى : في قدرتنا أن نخسف بهم الأرض ، وأن نرسل عليهم العذاب من حيث لا يشعرون ، وفي قدرتنا كذلك أن نهلكهم وهم يتحركون في مناكب الأرض خلال سفرهم أو إقامتهم ، فإنهم في جميع الأحوال لا يعجزنا أخذهم ، ولا مهرب لهم مما نريده بهم.

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ. أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ. أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ ، فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ : (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ).

قال بعض العلماء : والتخوف في اللغة يأتى مصدر تخوف القاصر ، بمعنى خاف ، ويأتى مصدر

__________________

(١) سورة الحشر آية ٢.

(٢) سورة الأعراف الآيات ٩٧ ـ ٩٩.

١٦١

تخوف المتعدى بمعنى تنقص. وهذا الثاني لغة هذيل ، وهي من اللغات الفصيحة التي جاء بها القرآن» (١).

والمعنى على الأول : أو يأخذهم وهم في حالة خوف وتوقع لنزول العذاب بهم ، كما نزل بالذين من قبلهم.

وإلى هذا المعنى أشار ابن كثير بقوله : وقوله : (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ). أى : أو يأخذهم الله ـ تعالى ـ في حال خوفهم من أخذه لهم ، فإنه يكون أبلغ وأشد حالات الأخذ ، فإن حصول ما يتوقع مع الخوف شديد ...» (٢).

والمعنى على الثاني : أو يأخذهم وهم في حالة تنقص في أنفسهم وأموالهم وأولادهم حتى يهلكوا ، فيكون هلاكهم قد سبقه الفقر والقحط والمرض ، وفي ذلك ما فيه من عذاب لهم ، وحسرة عليهم.

قال القرطبي : وقال سعيد بن المسيب : بينما عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه على المنبر قال : أيها الناس ما تقولون في قول الله ـ عزوجل ـ : (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ). فسكت الناس.

فقال شيخ من بنى هذيل : هي لغتنا يا أمير المؤمنين. التخوف : التنقص.

فقال عمر : أتعرف العرب ذلك في أشعارهم؟ قال نعم ؛ قال شاعرنا أبو كبير الهذلي يصف ناقة تنقص السير سنامها بعد اكتنازه :

تخوّف الرحل منها تامكا قردا

كما تخوّف عود النّبعة السّفن

فقال عمر : أيها الناس : عليكم بديوانكم شعر الجاهلية ، فإن فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم» (٣).

وختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بقوله : (فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) لبيان فضله ـ سبحانه ـ على عباده ، حيث لم يعاجلهم بالعقوبة ، بل أمهلهم لعلهم يتوبون إليه ويستغفرونه.

__________________

(١) تفسير التحرير والتنوير. للشيخ محمد الطاهر بن عاشور.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٤٩٤.

(٣) تفسير القرطبي ج ١٠ ص ١١٠. وتخوف في البيت بمعنى تنقص ، والرحل : السفر. والتامك : المرتفع. والقرد المتراكم لحمه بعضه فوق بعض من السمن. والنبعة : شجرة من أشجار الجبال يتخذ منها القسي. والسفن : كما يتنقص المنشار أو ما يشبهه أعواد الأشجار.

١٦٢

وبذلك ترى أن هذه الآيات الكريمة قد حذرت الكافرين من التمادي في كفرهم ، وهددتهم : بخسف الأرض بهم. أو بنزول العذاب عليهم من حيث لا يشعرون ، أو بإهلاكهم وهم في الأرض يكدحون ، أو بأخذهم وهم للأخذ متوقعون.

وبعد أن خوف ـ سبحانه ـ الماكرين بما خوف ، أتبع ذلك بما يدل على كمال قدرته وعظمته وجلاله ، حيث خضعت جميع المخلوقات لذاته ـ سبحانه ـ فقال ـ تعالى ـ :

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (٤٨) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (٥٠)

قرأ جمهور القراء «أو لم يروا ..» وقرأ حمزة والكسائي : «أو لم تروا» بالتاء ، على الخطاب ، على طريقة الالتفات.

وقوله «من شيء» بيان للإبهام الذي في «ما» الموصولة في قوله «إلى ما خلق الله».

وقوله «يتفيأ» من التفيؤ ، بمعنى الرجوع. يقال : فاء فلان يفيء إذا رجع وفاء الظل فيئا ، إذا عاد بعد إزالة ضوء الشمس له. وتفيؤ الظلال : تنقلها من جهة إلى أخرى بعد شروق الشمس ، وبعد زوالها.

والظلال : جمع ظل ، وهو صورة الجسم المنعكس إليه نور.

و «داخرون» من الدخور بمعنى الانقياد والخضوع ، يقال : دخر فلان يدخر دخورا ، ودخر ـ بزنة فرح ـ يدخر دخرا ، إذا انقاد لغيره وذل له.

والمعنى : أعمى هؤلاء المشركون الذين مكروا السيئات ، ولم يروا ما خلق الله ـ تعالى ـ من الأشياء ذوات الظلال ـ كالجبال والأشجار وغيرها ـ وهي تتنقل ظلالها. من جانب إلى جانب ، ومن جهة إلى جهة ، باختلاف الأوقات وهي في كل الأحوال والأوقات منقادة لأمر الله ـ تعالى ـ جارية على ما أراده لها من امتداد وتقلص وغير ذلك ، خاضعة كل الخضوع لما سخرت له.

١٦٣

قال ابن كثير ـ رحمه‌الله ـ : يخبر ـ تعالى ـ عن عظمته وجلاله ، الذي خضع له كل شيء ودانت له الأشياء والمخلوقات بأسرها ، جمادها وحيواناتها ومكلفوها من الإنس والجن والملائكة ، فأخبر أن كل ماله ظل يتفيأ ذات اليمين وذات الشمال ـ أى بكرة وعشيا ـ ، فإنه ساجد بظله لله ـ تعالى ـ (١).

والاستفهام في قوله ـ تعالى ـ (أَوَلَمْ يَرَوْا ..) للإنكار والتوبيخ ، والرؤية بصرية.

أى : قد رأوا كل ذلك ، ولكنهم لم ينتفعوا بما رأوا ، ولم يتعظوا بما شاهدوا.

والمراد بقوله : (عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ) جهتهما ، وليس المراد التقييد بذلك ، إذ أن الظل أحيانا يكون أمام الإنسان وأحيانا يكون خلفه. وإنما ذكر اليمين والشمائل اختصارا للكلام.

وأفرد اليمين ، لأن المراد به جنس الجهة ، كما يقال : المشرق ، أى جهة المشرق ، وجمع «الشمائل» ـ مفردة شمال ـ ، لأن المقصود تعدد هذه الجهة باعتبار تعدد أصحابها.

قال الشوكانى : قال الفراء : وحد اليمين ، لأنه أراد واحدا من ذوات الأظلال ، وجمع الشمائل ، لأنه أراد كلها.

وقال الواحدي : وحد اليمين والمراد به الجميع إيجازا في اللفظ ، كقوله : «ويولون الدبر» ، ودلت الشمائل على أن المراد به الجمع. وقيل : إن العرب إذا ذكرت صيغتي جمع عبرت عن إحداهما بلفظ الواحد ، كما في قوله ـ تعالى ـ (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ...) (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ : (سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ). حال من «ظلاله» أى : حال كون هذه الأشياء وظلالها سجدا لله ـ تعالى ـ ، وحال كون الجميع لا يمتنع عن أمر الله ـ تعالى ـ ، بل الكل خاضع له ـ سبحانه ـ كل الخضوع.

وجاء قوله ـ تعالى ـ : (وَهُمْ داخِرُونَ). بصيغة الجمع الخاصة بالعقلاء ، تغليبا لهم على غيرهم ثم أتبع ـ سبحانه ـ هذه الآية الكريمة ، بآيات أخرى مؤكدة لها ، ومبينة أن كل المخلوقات لن تمتنع عن السجود لله ـ تعالى ـ ، سواء أكانت لها ظلال أم لا ، فقال ـ سبحانه ـ : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ ، وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ..).

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٤٩٤ طبعة دار الشعب.

(٢) تفسير فتح القدير للشوكانى ج ٣ ص ١٦٦.

١٦٤

والدابة : كل ما يدب على وجه الأرض ، مشتقة من الدب بمعنى الحركة.

قال الجمل : قال العلماء ، السجود على نوعين : سجود طاعة وعبادة كسجود المسلم لله ـ عزوجل ـ وسجود انقياد وخضوع كسجود الظلال فقوله : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ). يحتمل النوعين ، لأن سجود كل شيء بحسبه ، فسجود المسلمين والملائكة سجود طاعة وعبادة ، وسجود غيرهم سجود خضوع وانقياد ..» (١).

وأوثرت «ما» الموصولة على من ، تغليبا لغير العقلاء ، لكثرتهم ولإرادة العموم.

وقوله : «من دابة» بيان لما في الأرض ، إذ الدابة ما يدب على الأرض أو ـ كما يقول الآلوسى ـ بيان لما فيهما ، بناء على أن الدبيب هو الحركة الجسمانية ، سواء أكانت في أرض أم سماء ..» (٢).

وقوله «والملائكة» معطوف على «ما» في قوله «ما في السموات وما في الأرض» من باب عطف الخاص على العام.

وخصهم ـ سبحانه ـ بالذكر تشريفا لهم. ورفعا لمنزلتهم ، وتعريضا بالمشركين الذين عبدوا الملائكة. أو قالوا هم بنات الله.

قوله «وهم لا يستكبرون» أى : والملائكة لا يستكبرون عن إخلاص العبادة له ، وعن السجود لذاته ـ سبحانه ـ بل هم «عباد مكرمون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون».

ثم وصفهم ـ سبحانه ـ بالخشية منه ، وبالخوف من عقابه فقال : «يخافون ربهم من فوقهم ، ويفعلون ما يؤمرون».

أى : أن من صفات الملائكة ، أنهم يخافون ربهم الذي هو من فوقهم بجلاله وقهره وعلوه ـ بلا تشبيه ولا تمثيل ـ ، ويفعلون ما يؤمرون به من الطاعات ، ومن كل ما يكلفهم به ـ سبحانه ـ دون أن تصدر منهم مخالفة.

وبذلك نرى الآيات الكريمة قد وصفت الله ـ تعالى ـ بما هو أهل له ـ سبحانه ـ من صفات القدرة والجلال والكبرياء ، حتى يفيء الضالون إلى رشدهم ، ويخلصوا العبادة لخالقهم ـ عزوجل ـ.

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٥٧٤.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٤ ص ١٥٧.

١٦٥

وبعد أن بين ـ سبحانه ـ أن كل شيء في هذا الكون خاضع لقدرته ، أتبع ذلك بالنهى عن الشرك ، وبوجوب إخلاص العبادة له ، فقال ـ تعالى ـ.

(وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٥١) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ (٥٢) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (٥٣) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٥٤) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) (٥٥)

قال الإمام الرازي : اعلم أنه ـ سبحانه ـ لما بين في الآيات الأولى ، أن ما سوى الله ـ تعالى ـ سواء أكان من عالم الأرواح أم من عالم الأجسام ، منقاد وخاضع لجلاله ـ تعالى ـ وكبريائه ـ أتبعه في هذه الآية بالنهى عن الشرك ، وببيان أن كل ما سواه واقع في ملكه وتحت تصرفه ، وأنه غنى عن الكل ، فقال ـ تعالى ـ : (وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ ...) (١).

أى : وقال الله ـ تعالى ـ لعباده عن طريق رسله ـ عليهم الصلاة والسلام ـ لا تتخذوا شركاء معى في العبادة والطاعة ، بل اجعلوهما لي وحدي ، فأنا الخالق لكل شيء والقادر على كل شيء.

قال الآلوسى : وقوله (وَقالَ اللهُ ..) معطوف على قوله ـ سبحانه ـ (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ..).

وإظهار الفاعل ، وتخصيص لفظ الجلالة بالذكر ، للإيذان بأنه ـ تعالى ـ متعين الألوهية.

__________________

(١) التفسير الكبير للفخر الرازي ج ٢٠ ص ٤٧.

١٦٦

والمنهي عنه هو الإشراك به ، لا أن المنهي عنه هو مطلق اتخاذ إلهين ..» (١).

«اثنين» صفة للفظ إلهين أو مؤكد له. وخص هذا العدد بالذكر ، لأنه الأقل ، فيعلم انتفاء اتخاذ ما فوقه بالطريق الأولى.

وقوله ـ سبحانه ـ (إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) بيان وتوكيد لما قبله ، وهو مقول لقوله ـ سبحانه ـ (وَقالَ اللهُ).

أى : وقال الله لا تتخذوا معى في العبادة إلها آخر ، وقال ـ أيضا ـ إنما المستحق للعبادة إله واحد ، والقصر في الجملة الكريمة من قصر الموصوف على الصفة ، أى : الله وحده هو المختص بصفة الوحدانية.

وقد نهى ـ سبحانه ـ عن الشرك في آيات كثيرة ، وأقام الأدلة على بطلانه ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ (... وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً) (٢) وقوله ـ سبحانه ـ (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا ، فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) (٣).

والفاء في قوله «فإياى فارهبون» واقعة في جواب شرط مقدر و «إياى» مفعول به لفعل محذوف يقدر مؤخرا ، يدل عليه قوله «فارهبون».

والرهبة : الخوف المصحوب بالتحرز ، وفعله رهب بزنة طرب.

والمعنى : إن رهبتم شيئا فإياى فارهبوا دون غيرى ، لأنى أنا الذي لا يعجزنى شيء.

وفي الجملة الكريمة التفات من الغيبة إلى الخطاب ، للمبالغة في التخويف ، إذ تخويف الحاضر أبلغ من تخويف الغائب ، لا سيما بعد أن وصف ـ سبحانه ـ ذاته بما وصف من صفات القهر والغلبة والكبرياء.

وقدم المفعول وهو إياى لإفادة الحصر ، وحذف متعلق الرهبة ، للعموم.

أى : ارهبونى في جميع ما تأتون وما تذرون.

والمتأمل في هذه الآية الكريمة يراها قد اشتملت على ألوان من المؤكدات للنهى عن الشرك ، والأمر بإخلاص العبادة لله ـ تعالى ـ وحده ، تارة عن طريق التقرير «وقال الله ..» وتارة عن طريق النهى الصريح ، وتارة عن طريق القصر وتارة عن طريق التخصيص.

وذلك لكي يقلع الناس عن هذه الرذيلة النكراء ، ويؤمنوا بالله الواحد القهار.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٤ ص ١٦١.

(٢) سورة الإسراء الآية ٣٩.

(٣) سورة الأنبياء الآية ٢٢.

١٦٧

ثم ساق ـ سبحانه ـ بعد ذلك ما يدل على كمال قدرته ، ونفاذ إرادته ، فقال ـ تعالى ـ : (وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَلَهُ الدِّينُ واصِباً ..).

والمراد بالدين هنا : الطاعة والخضوع بامتثال أمره واجتناب نهيه ، وقد أتى الدين بمعنى الطاعة في كثير من كلام العرب ، ومن ذلك قول عمرو بن كلثوم في معلقته :

وأياما لنا غرا كراما

عصينا الملك فيها أن ندينا

أى : عصيناه وامتنعنا عن طاعته وعن الخضوع له.

قوله «واصبا» من الوصوب بمعنى الدوام والثبات ، يقال : وصب الشيء يصب ـ بكسر الصاد ـ وصوبا ، إذا دام وثبت. ومنه قوله ـ تعالى ـ (دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ) (١) أى : دائم.

أى : ولله ـ تعالى ـ وحده ما في السموات وما في الأرض ملكا وخلقا ، لا شريك له في ذلك ، ولا منازع له في أمره أو نهيه .. وله ـ أيضا ـ الطاعة الدائمة ، والخضوع الباقي الثابت الذي لا يحول ولا يزول.

والآية الكريمة معطوفة على قوله «إنما هو إله واحد».

والاستفهام في قوله «أفغير الله تتقون» للإنكار والتعجيب ، والفاء للتعقيب ، وهي معطوفة على محذوف ، والتقدير ، أفبعد أن علمتم أن الله ـ تعالى ـ له ما في السموات والأرض ، وله الطاعة الدائمة .. تتقون غيره ، أو ترهبون سواه؟

إن من يفعل ذلك لا يكون من جملة العقلاء ، وإنما يكون من الضالين الجاهلين.

ثم بين ـ سبحانه ـ أن كل نعمة في هذا الكون ، هو ـ سبحانه ـ مصدرها وموجدها ، فقال : (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ..).

أى : وكل نعمة عندكم كعافية في أبدانكم ، ونماء في مالكم ، وكثرة في أولادكم ، وصلاح في بالكم .. فهي من الله ـ تعالى ـ وحده.

فالمراد بالنعمة هنا النعم الكثيرة التي أنعم بها ـ سبحانه ـ على الناس ، لأنه لم يقم دليل على أن المراد بها نعمة معينة ، وعلماء البيان يعدون استعمال المفرد في معنى الجمع ـ اعتمادا على القرينة ـ من أبلغ الأساليب الكلامية ، و «ما» موصولة مبتدأ ، متضمنة معنى الشرط. وقوله «فمن الله» خبرها.

__________________

(١) سورة الصافات الآية ٩.

١٦٨

وقوله «من نعمة» بيان لما اشتملت عليه «ما» من إبهام.

وقوله ـ سبحانه ـ (ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ. ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ ، إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) بيان لطبيعة الإنسان ، ولموقفه من خالقه ـ عزوجل ـ والضر : يشمل المرض والبلاء والفقر وكل ما يتضرر منه الإنسان.

وقوله «تجأرون» من الجؤار بمعنى ـ رفع الصوت بالاستغاثة وطلب العون ، يقال : جأر فلان يجأر جأرا وجؤارا ، إذا رفع صوته بالدعاء وتضرع واستغاث وأصله : صياح الوحش. ثم استعمل في رفع الصوت بالدعاء والاستغاثة.

أى : كل ما يصاحبكم من نعمة فهو من الله ـ تعالى ـ فكان من الواجب عليكم أن تشكروه على ذلك ، ولكنكم لم تفعلوا ، فإنكم إذا نزل بكم الضر ، صحتم بالدعاء ، ورفعتم أصواتكم بالتضرع ، ليكشف عنكم ما حل بكم ، فإذا ما كشف ـ سبحانه ـ عنكم الضر ، سرعان ما يقع فريق منكم في الشرك الذي نهى الله ـ تعالى ـ عنه.

و «ثم» في هاتين الآيتين للتراخي الرتبى ، لبيان الفرق الشاسع بين حالتهم الأولى وحالتهم الثانية.

والتعبير بالمس في قوله «ثم إذا مسكم الضر ..» للإيماء بأنهم بمجرد أن ينزل بهم الضر ولو نزولا يسيرا ، جأروا إلى الله ـ تعالى ـ بالدعاء لكشفه.

وقدم ـ سبحانه ـ الجار والمجرور في قوله «فإليه تجأرون» لإفادة القصر ، أى إليه وحده ترفعون أصواتكم بالدعاء ليرفع عنكم ما نزل بكم من بلاء ، لا إلى غيره ؛ لأنكم تعلمون أنه لا كاشف للضر إلا هو ـ سبحانه ـ.

و «إذا» الأولى في قوله «ثم إذا كشف ..» شرطية والثانية وهي قوله «إذا فريق منكم ..» فجائية ، وهي جواب الأولى.

وهذا التعبير يشير إلى مسارعة فريق من الناس ، إلى جحود نعم الله ـ تعالى ـ بمجرد أن يكشف عنهم الضر بدون تريث أو تمهل.

وقال ـ سبحانه ـ (فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) لتسجيل الشرك على هذا الفريق ولإنصاف غيره من المؤمنين الصادقين ، الذين يشكرون الله ـ تعالى ـ في جميع الأحوال ، ويواظبون على أداء ما كلفهم به في السراء والضراء.

وهذا المعنى الذي تضمنته هاتان الآيتان ، قد جاء ما يشبهه في آيات كثيرة منها

١٦٩

قوله ـ تعالى : (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ ، وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ ، أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ ، مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ ..) (٢).

فهذه الآيات الكريمة تصور الطبائع البشرية أكمل تصوير وأصدقه ، إذ الناس ـ إلا من عصم الله ـ يجأرون إلى الله ـ تعالى ـ بالدعاء عند الشدائد والمحن ، وينسونه عند السراء والرخاء.

واللام في قوله «ليكفروا بما آتيناهم ..» يصح أن تكون للتعليل ، وأن تكون هي التي تسمى بلام العاقبة أو الصيرورة.

قال الشوكانى : «واللام في «ليكفروا بما آتيناهم ..» لام كي. أى : لكي يكفروا بما آتيناهم من نعمة كشف الضر ، حتى لكأن هذا الكفر منهم الواقع في موقع الشكر الواجب عليهم ، غرض لهم ومقصد من مقاصدهم. وهذا غاية في العتو والعناد ليس وراءها غاية.

وقيل : اللام للعاقبة : يعنى ما كانت عاقبة تلك التضرعات إلا الكفر ..» (٣).

وقوله ـ سبحانه ـ : (فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) تهديد ووعيد لهم على جحودهم لنعم الله ـ تعالى ـ والجملة الكريمة معمولة لقول محذوف.

أى : قل لهم ـ أيها الرسول الكريم ـ اعملوا ما شئتم وانتفعوا من متاع الدنيا كما أردتم فسوف تعلمون سوء عاقبتكم يوم القيامة.

ثم حكى ـ سبحانه ـ بعد ذلك جانبا من عقائدهم الباطلة ، وأفعالهم القبيحة التي تمجها العقول السليمة ، والأفكار القويمة ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (٥٦) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (٥٧)

__________________

(١) سورة فصلت الآية ٥١.

(٢) سورة يونس الآية ١٢.

(٣) تفسير الشوكانى ج ٣ ص ١٦٩.

١٧٠

وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٥٩) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٦٠)

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ ...). معطوف على ما سبقه بحسب المعنى ، لتسجيل رذائلهم ، وتعداد جناياتهم.

وضمير الجمع في قوله «لما لا يعلمون» يصح أن يعود إلى الكفار ، كالذي قبله في «ويجعلون».

فيكون المعنى : إن هؤلاء المشركين يفعلون ما يفعلون من إشراكهم بالله ـ تعالى ـ ومن التضرع إليه عند الضر ونسيانه عند الرخاء .. ولا يكتفون بذلك ، بل ويجعلون للأصنام التي لا يعلمون منها ضرا ولا نفعا ، نصيبا مما رزقناهم من الحرث والأنعام وغيرهما.

ويصح أن يعود ضمير الجمع في قوله «لما لا يعلمون» للأصنام ، فيكون المعنى : ويجعلون للأصنام التي لا تعلم شيئا لأنها جماد لا يعقل ولا يسمع ولا يبصر .. يجعلون لها نصيبا مما رزقناهم.

قال الآلوسى : قوله : (لِما لا يَعْلَمُونَ) أى لآلهتهم التي لا يعلمون أحوالها وأنها لا تضر ولا تنفع ، على أن «ما» موصولة ، والعائد محذوف ؛ وضمير الجمع للكفار ، أو لآلهتهم التي لا علم لها بشيء لأنها جماد. على أن «ما» موصوله ـ أيضا ـ عبارة عن الآلهة ، وضمير «يعلمون» عائد عليها ومفعول «يعلمون» متروك لقصد العموم ، وصيغة جمع العقلاء لوصفهم الآلهة بصفاتهم ..» (١).

وقال ـ سبحانه ـ «نصيبا» بالتنكير ، للايماء بأنه نصيب كبير وضعوه في غير موضعه ووصفه بأنه مما رزقهم ـ سبحانه ـ لتهويل جهلهم وظلمهم ، حيث تركوا التقرب إلى الرازق

__________________

(١) تفسير الآلوسي ج ١٤ ص ١٦٧.

١٧١

الحقيقي ـ جل وعلا ـ ، وتقربوا بجانب كبير مما رزقهم به ـ سبحانه ـ إلى جمادات لا تغنى عنهم شيئا.

وما أجملته هذه الآية الكريمة عن جهالتهم ، فصلته آيات أخرى منها قوله ـ تعالى ـ في سورة الأنعام : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً ، فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ ، وَهذا لِشُرَكائِنا ، فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ ، وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ) (١).

وقوله ـ سبحانه ـ (تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ) تهديد ووعيد لهم على سوء أفعالهم. أى : أقسم بذاتى لتسألن ـ أيها المشركون ـ سؤال توبيخ وتأنيب في الآخرة ، عما كنتم تفترونه من أكاذيب في الدنيا ، ولأعاقبنكم العقاب الذي تستحقونه بسبب افترائكم وكفركم. وصدرت الجملة الكريمة بالقسم ، لتأكيد الوعيد ، ولبيان أن العقاب أمر محقق بالنسبة لهم وجاءت الجملة الكريمة بأسلوب الالتفات من الغيبة إلى الخطاب ، لأن توبيخ الحاضر أشد من توبيخ الغائب.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ) بيان لرذيلة أخرى من رذائلهم الكثيرة ، وهو معطوف على ما قبله.

وسؤالهم يوم القيامة عما اجترحوه ـ مع أنه سؤال تقريع وتأنيب ـ إلا أنه يدل على عدل الله ـ تعالى ـ مع هؤلاء الظالمين ، لأنه لم يعاقبهم إلا بعد أن سألهم ، وبعد أن ثبت إجرامهم وفي ذلك ما فيه من تعليم العباد أن يكونوا منصفين في أحكامهم.

وهذه الآية الكريمة تحكى ما كان شائعا في بعض قبائل العرب ، من أنهم كانوا يزعمون أن الملائكة بنات الله. قالوا : وكانت قبيلة خزاعة ، وقبيلة كنانة تقولان بذلك في الجاهلية.

أى : أن هؤلاء المشركين لم يكتفوا بجعل نصيب مما رزقناهم لآلهتهم ، بل أضافوا إلى ذلك رذيلة أخرى ، وهي أنهم زعموا أن الملائكة بنات الله ـ تعالى ـ ، وأشركوها معه في العبادة.

قوله «سبحانه» مصدر نائب عن الفعل ، وهو منصوب على المفعولية المطلقة ، وهو في محل جملة معترضة ، وقعت جوابا عن مقالتهم السيئة ، التي حكاها الله ـ تعالى ـ عنهم ، وهي «ويجعلون لله البنات».

__________________

(١) راجع تفسيرنا لهذه الآية في كتابنا (تفسير سورة الأنعام) من ص ١٨٥ إلى ص ١٨٨.

١٧٢

أى : تنزه وتقدس الله ـ عزوجل ـ عن أن يكون له بنات أو بنين ، فهو الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد.

والمراد بما يشتهونه في قوله ـ عزوجل ـ : (وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) الذكور من الأولاد.

أى : أن هؤلاء المشركين يجعلون لأصنامهم نصيبا مما رزقناهم ، ويجعلون لله ـ تعالى ـ البنات ، أما هم فيجعلون لأنفسهم الذكور ، ويختارونهم ليكونوا خلفاء لهم.

وشبيه بهذه الآية الكريمة قوله ـ تعالى ـ : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً ، أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ ، سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ. وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ، ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ ، إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) (١).

ثم صور ـ سبحانه ـ حالتهم عند ما يبشرون بولادة الأنثى ، وحكى عاداتهم الجاهلية المنكرة فقال ـ تعالى ـ : (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ، يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ ..).

قال الآلوسى : قوله «وإذا بشر أحدهم بالأنثى ..» أى : أخبر بولادتها. وأصل البشارة الإخبار بما يسر. لكن لما كانت ولادة الأنثى تسوؤهم حملت على مطلق الإخبار. وجوز أن يكون ذلك بشارة باعتبار الولادة ، بقطع النظر عن كونها أنثى ..» (٢).

وقوله «كظيم» من الكظم بمعنى الحبس. يقال : كظم فلان غيظه ، إذا حبسه وهو ممتلئ به وفعله من باب ضرب.

والمعنى : وإذا أخبر أحد هؤلاء الذين يجعلون لله البنات ، بولادة الأنثى دون الذكر ، صار وجهه مسودا كئيبا كأن عليه غبرة ، ترهقه قترة ـ أى تعلوه ظلمه وسواد ـ ، وصار جسده ممتلئا بالحزن المكتوم ، والغيظ المحبوس ، وأصبح يتوارى ويتخفى عن أعين الناس خجلا وحياء ، من أجل أن زوجته ولدت له أنثى ولم تلد له ذكرا.

وقوله ـ سبحانه ـ : (أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ) تصوير بليغ لموقف ذلك الشرك مما بشر به وهو ولادة الأنثى.

فالضمير المنصوب في قوله «أيمسكه ، ويدسه» يعود على المبشر به وهو الأنثى.

والهون بمعنى الهوان والذل.

__________________

(١) سورة الزخرف الآيتان ١٩ ، ٢٠.

(٢) تفسير الآلوسي ج ١٤ ص ١٦٩.

١٧٣

ويدسه من الدس بمعنى الإخفاء للشيء في غيره. والمراد به. دفن الأنثى حية في التراب حتى تموت ، وهو المشار إليه في قوله ـ تعالى ـ : (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ. بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ).

أى : أن هذا المشرك بعد أن يبشر بولادة الأنثى ، يدور بذهنه أحد أمرين : إما أن يمسكها ويبقيها على هوان وذل ، وإما أن يدسها ويخفيها في التراب ، بأن يدفنها فيه وهي حية حتى تموت.

والجار والمجرور في قوله «على هون» يصح أن يكون حالا من الفاعل وهو المشرك : أى أيمسك المبشر به مع رضاه ـ أى المشرك ـ بهوان نفسه وذلتها بسبب هذا الإمساك.

ويصح أن يكون حالا من المفعول وهو الضمير المنصوب. أى أيمسك هذه الأنثى ويبقيها بقاء ذلة وهوان لها ، بحيث لا يورثها شيئا من ماله ، ولا يعاملها معاملة حسنة.

ومن بلاغة القرآن أنه عبر بقوله «أيمسكه على هون» ليشمل حالة المشرك وحالة المبشر به وهو الأنثى.

وقوله ـ تعالى ـ : (أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ). ذم لهم على صنيعهم السيئ ، وعلى جهلهم الفاضح.

أى : بئس الحكم حكمهم ، وبئس الفعل فعلهم ، حيث نسبوا البنات إلى الله ـ تعالى ـ ، وظلموهن ظلما شنيعا ، حيث كرهوا وجودهن ، وأقدموا على قتلهن بدون ذنب أو ما يشبه الذنب.

وصدر ـ سبحانه ـ هذا الحكم العادل عليهم بحرف «ألا» الاستفتاحية : لتأكيد هذا الحكم ، ولتحقيق أن ما أقدموا عليه ، إنما هو جور عظيم ، قد تمالئوا عليه بسبب جهلهم الفاضح ، وتفكيرهم السيئ.

أسند ـ سبحانه ـ الحكم إلى جميعهم ، مع أن من فعل ذلك كان بعضا منهم ، لأن ترك هذا البعض يفعل ذلك الفعل القبيح ، هذا الترك هو في ذاته جريمة يستحق عليها الجميع العقوبة ، لأن سكوتهم على هذا الفعل مع قدرتهم على منعه يعتبر رضا به.

ثم أتبع ـ سبحانه ـ هذا الذم لهم بذم آخر على سبيل التأكيد فقال ـ تعالى ـ : (لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

والمثل : الحال والصفة العجيبة في الحسن والقبح.

والسوء : مصدر ساءه يسوءه سوءا ، إذا عمل معه ما يكره ، وإضافة المثل إلى السوء للبيان.

١٧٤

والمراد بمثل السوء : أفعال المشركين القبيحة التي سبق الحديث عنها.

والمعنى للذين لا يؤمنون بالآخرة وما فيها من حساب وثواب وعقاب .. صفة السوء ، التي هي كالمثل في القبح ، وهي وأدهم البنات ، وجعلهم لآلهتهم. نصيبا مما رزقناهم ، وقولهم : الملائكة بنات الله ، وفرحهم بولادة الذكور للاستظهار بهم.

فهذه الصفات تدل على غبائهم وجهلهم وقبح تفكيرهم.

أما الله ـ عزوجل ـ فله المثل الأعلى ؛ أى الصفة العليا ، وهي أنها الواحد الأحد ، المنزه عن الوالد والولد : والمبرأ من مشابهة الحوادث ، والمستحق لكل صفات الكمال والجلال في الوحدانية ، والقدرة والعلم .. وغير ذلك مما يليق به ـ سبحانه ـ.

وهو ـ عزوجل ـ «العزيز» في ملكه بحيث لا يغلبه غالب «الحكيم» في كل أفعاله وأقواله.

وبعد أن ساق ـ سبحانه ـ ما يدل على جهالات المشركين ، وانطماس بصائرهم ، وسوء تفكيرهم ، أتبع ذلك بالحديث عن مظاهر رحمته بخلقه وعن جانب من جرائم المشركين ، وعن وظيفة القرآن الكريم ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٦١) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (٦٢) تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٦٤)

و «لو» في قوله ـ تعالى ـ : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ..) حرف امتناع

١٧٥

لامتناع. أى : حرف شرط يدل على امتناع وقوع جوابه ، لأجل امتناع وقوع شرطه ، وقد امتنع هنا إهلاك الناس ، لامتناع إرادة الله ـ تعالى ـ ذلك.

وقوله «يؤاخذ» مفاعلة من المؤاخذة بمعنى العقوبة ، فالمفاعلة فيه بمعنى الفعل المجرد. فمعنى آخذ الله ـ تعالى ـ الناس يؤاخذهم : أخذهم وعاقبهم بسبب ذنوبهم.

والأخذ بمعنى العقاب قد جاء في القرآن الكريم في آيات كثيرة : ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (١).

والباء في «بظلمهم» للسببية ، والظلم : مجاوزة الحدود التي شرعها الله ـ تعالى ـ وأعظمه الإشراك بالله ـ تعالى ـ كما قال ـ تعالى ـ (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).

والمراد من المؤاخذة بسبب ظلمهم : تعجيل العقوبة لهم في الدنيا.

والضمير في قوله ـ سبحانه ـ «عليها» يعود على الأرض. وصح عود الضمير عليها مع أنه لم يسبق ذكر لها ، لأن قوله «من دابة» يدل على ذلك لأنه من المعلوم ، أن الدواب تدب على الأرض.

ونظيره قوله ـ تعالى ـ في آية أخرى (ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) وقوله (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) أى : الشمس. فإنه وإن كان لم يجر لها ذكر إلا أن المقام يدل عليها.

ورجوع الضمير إلى غير مذكور في الكلام إلا أن المقام يدل عليه كثير في كلام العرب ، ومنه قول حاتم الطائي :

أماوى ما يغنى الثراء عن الفتى

إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر

فقوله : حشرجت وضاق بها ، المقصود به الروح أو النفس ، ولم يجر لها ذكر ، إلا أن قوله : وضاق بها الصدر ، يعين أن المراد بها النفس.

والمراد بالساعة في «لا يستأخرون عنه ساعة» مطلق الوقت الذي هو غاية في القلة.

والمعنى : ولو عاجل الله ـ تعالى ـ الناس بالعقوبة ، بسبب ما اجترحوه من ظلم وآثام ، لأهلكهم جميعا ، وما ترك على ظهر الأرض من دابة تدب عليها ، ولكنه ـ سبحانه ـ فضلا منه وكرما ، لا يعاجلهم بالعقوبة التي تستأصلهم بل يؤخرهم «إلى أجل مسمى» أى : إلى وقت معين محدد تنتهي عنده حياتهم ، وهذا الوقت المحدد لا يعلمه إلا هو ـ سبحانه ـ «فإذا

__________________

(١) سورة هود الآية ١٠٢.

١٧٦

جاء أجلهم». أى : فإذا حان الوقت المحدد لهلاكهم ، فارقوا هذه الدنيا بدون أدنى تقديم أو تأخير عن هذا الوقت.

هذا ، ومن العلماء من ذهب إلى أن المراد بالناس هنا : الكفار خاصة ، لأنهم هم الذين أشركوا مع الله آلهة أخرى.

ويبدو لنا أن المراد بالناس هنا : العموم ، لأن قوله «من دابة» يشمل كل ما يطلق عليه اسم الدابة ، ولأن النكرة في سياق النفي إذا زيدت قبلها لفظة «من» تكون نصا صريحا في العموم.

وإلى العموم أشار ابن كثير عند تفسيره للآية بقوله : يخبر الله ـ تعالى ـ عن حلمه بخلقه مع ظلمهم ، وأنه لو يؤاخذهم بما كسبوا ما ترك على ظهر الأرض من دابة ، أى : لأهلك جميع دواب الأرض تبعا لإهلاك بنى آدم. ولكن الرب ـ جل وعلا ـ يحلم ويستر وينظر ..» (١).

وقال القرطبي : فإن قيل : فكيف يعم بالهلاك مع أن فيهم مؤمنا ليس بظالم؟

فالجواب : يجعل هلاك الظالم انتقاما وجزاء ، وهلاك المؤمن معوضا بثواب الآخرة ، وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : إذا أراد الله ـ تعالى ـ بقوم عذابا أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على نياتهم ـ وأعمالهم ـ ، (٢).

وشبيه بهذه الآية الكريمة قوله ـ تعالى ـ : (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ ، بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً) (٣).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ، إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ) (٤).

وقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٥).

ثم حكى ـ سبحانه ـ رذيلة أخرى من رذائل المشركين فقال ـ تعالى ـ (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ ...)

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٤٩٧.

(٢) تفسير القرطبي ج ١٠ ص ١٢٠.

(٣) سورة الكهف الآية ٥٨.

(٤) سورة إبراهيم الآية ٤٢.

(٥) سورة نوح الآية ٤.

١٧٧

أى : أن هؤلاء المشركين لا يكتفون بإنكارهم البعث وبجحود نعم الله ـ تعالى ـ بل أضافوا إلى ذلك أنهم يثبتون له ـ سبحانه وينسبون إليه كذبا وزورا ـ ما يكرهونه لأنفسهم ، فهم يكرهون أن يشاركهم أحد في أموالهم أو في مناصبهم ؛ ومع ذلك يشركون مع الله ـ تعالى ـ في العبادة آلهة أخرى ، ويكرهون أراذل الأموال ، ومع ذلك يجعلون لله ـ تعالى ـ أراذل أموالهم. ويجعلون لأصنامهم أكرمها ، ويكرهون البنات ، ومع ذلك ينسبونهن إليه ـ سبحانه ـ. فالجملة الكريمة تنعى عليهم أنانيتهم ، وسوء أدبهم مع خالقهم ـ عزوجل ـ وقوله ـ سبحانه ـ (وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى ...) تصوير بليغ لما جبلوا عليه من كذب صريح ، وبهتان واضح.

ومعنى : «تصف» تقول وتذكر بشرح وبيان وتفصيل ، حتى لكأنها تذكر أوصاف الشيء ، وجملة «أن لهم الحسنى» بدل من «الكذب».

والحسنى : تأنيث الأحسن ، والمراد بها زعمهم أنه إن كانت الآخرة حقا ، فسيكون لهم فيها أحسن نصيب وأعظمه ، كما كان لهم في الدنيا ذلك ، فقد روى أنهم قالوا : إن كان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم صادقا فيما يخبر عنه من أمر البعث ، فلنا الجنة ...

والمعنى : أن هؤلاء المشركين يجعلون لله ـ تعالى ـ ما يكرهونه من الأولاد والأموال والشركاء ، وتنطق ألسنتهم بالكذب نطقا واضحا صريحا إذ زعموا أنه إن كانت الآخرة حقا ، فسيكون لهم فيها أحسن نصيب ..

وهذا الزعم قد حكاه القرآن عنهم في آيات متعددة منها قوله ـ تعالى ـ (وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً ...) (٢).

قال صاحب الكشاف : فإن قلت ما معنى وصف ألسنتهم الكذب؟ قلت : هو من فصيح الكلام وبليغه. جعل قولهم كأنه عين الكذب ومحضه ، فإذا نطقت به ألسنتهم فقد حلت الكذب بحليته ، وصورته بصورته. كقولهم : وجهها يصف الجمال ، وعينها تصف السحر (٣).

__________________

(١) سورة سبأ الآية ٣٥.

(٢) سورة مريم الآية ٣٧.

(٣) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٤٣٢.

١٧٨

وقال بعض العلماء : والتعبير القرآنى في قوله (وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ) يجعل ألسنتهم ذاتها كأنها الكذب ذاته ، أو كأنها صورة له ، تحكيه وتصفه بذاتها ، كما تقول : فلان قوامه يصف الرشاقة .. لأن ذلك القوام بذاته تعبير عن الرشاقة ، مفصح عنها.

كذلك قال ـ سبحانه ـ (وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ ...) فهي بذاتها تعبير عن الكذب ، لطول ما قالت الكذب ، ولكثرة ما عبرت عنه ، حتى صارت رمزا عليه ، ودلالة له (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) تكذيب لهم فيما زعموه من أن لهم الحسنى ، ووعيد لهم بإلقائهم في النار.

وكلمة «لا جرم» وردت في القرآن الكريم في خمسة مواضع ، متلوة بأن واسمها وليس بعدها فعل. وجمهور النحاة على أنها مركبة من «لا» و «جرم» تركيب خمسة عشر. ومعناها بعد التركيب معنى حق وثبت. والجملة بعدها فاعل ، أى : حق وثبت كونهم لهم النار وأنهم مفرطون فيها.

وقوله ـ سبحانه ـ : (مُفْرَطُونَ) قرأها الجمهور ـ بسكون الفاء وفتح الراء ـ بصيغة اسم المفعول من أفرطه بمعنى قدمه. يقال : أفرطته إلى كذا. أى : قدمته إليه.

قال القرطبي : والفارط الذي يتقدم غيره الى الماء. ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنا فرطكم على الحوض» أى : متقدمكم ... (٢).

أو من أفرط إذا نسيه وتركه. تقول : أفرطت فلانا خلفي ، إذا تركته ونسيته.

والمعنى : أن هؤلاء الذين يزعمون أن لهم الحسنى في الآخرة كذبوا في زعمهم ، وفجروا في إفكهم ، فإنهم ليس لهم شيء من ذلك ، وإنما الأمر الثابت الذي لا شك فيه ، أن لهم في الآخرة النار ، وأنهم مفرطون فيها ، مقدمون إليها بدون إمهال ، ومتروكون فيها بدون اكتراث بهم ، كما يترك الشيء الذي لا قيمة له. قال ـ تعالى ـ : (فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا) (٣).

وقرأ نافع «وأنهم مفرطون» ـ بسكون الفاء وكسر الراء ـ بصيغة اسم الفاعل. من أفرط اللازم بمعنى أسرف وتجاوز الحد. يقال : أفرط فلان في كذا ، إذا تجاوز الحدود المشروعة.

__________________

(١) في ظلال القرآن ج ١٤ ص ٢١٧٩.

(٢) تفسير القرطبي ج ١٠ ص ١٢١.

(٣) سورة الأعراف الآية ٥١.

١٧٩

فيكون المعنى : لا جرم أن لهم النار ، وأنهم مفرطون ومسرفون في الأقوال والأعمال التي جعلتهم حطبا لها ، ووقودا لنيرانها كما قال ـ تعالى ـ : (وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ) (١).

ثم وجه ـ سبحانه ـ خطابا لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على سبيل التسلية والتثبيت ، حيث بين له أن ما أصابه من مشركي قومه ، قد فعل ما يشبهه المشركون السابقون مع أنبيائهم ، فقال ـ تعالى ـ : (تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ ، فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ ، فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ ، وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).

وقوله (فَزَيَّنَ) من التزيين وهو تصيير الشيء زينا ، أى : حسنا والزينة : هي ما في الشيء من محاسن ترغب الناس فيه.

والمعنى : أقسم لك ـ أيها الرسول الكريم ـ بذاتى ، لقد أرسلنا رسلا كثيرين إلى أمم كثيرة من قبلك ، فكانت النتيجة أن استحوذ الشيطان على نفوس عامة هؤلاء المرسل إليهم ، حيث زين لهم الأفعال القبيحة ، وقبح لهم الأعمال الحسنة ، وجعلهم يقفون من رسلهم موقف المكذب لأقوالهم ، المعرض عن إرشاداتهم ، المحارب لدعوتهم.

وقوله ـ سبحانه ـ : (فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) بيان لسوء عاقبة هؤلاء الذين زين لهم الشيطان سوء أعمالهم فرأوه حسنا.

قال الإمام الشوكانى ما ملخصه : والمراد باليوم في قوله ـ تعالى ـ : (فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ) يحتمل أن يكون المراد به زمان الدنيا ـ أى مدة أيام الدنيا ـ فيكون المعنى : فهو قرينهم في الدنيا. ويحتمل أن يكون اليوم عبارة عن يوم القيامة وما بعده. فيكون للحال الآتية. ويكون الولي بمعنى الناصر. والمراد نفى الناصر عنهم بأبلغ الوجوه ، لأن الشيطان لا يتصور منه النصرة أصلا في الآخرة.

ويحتمل أن يكون المراد باليوم بعض زمان الدنيا ، وهو على وجهين : الأول أن يراد البعض الذي مضى ، وهو الذي وقع فيه التزيين للأمم الماضية من الشيطان ، فيكون على طريق الحكاية للحال الماضية .. الثاني : أن يراد البعض الحاضر ، وهو وقت نزول الآية. والمراد تزيين الشيطان لكفار قريش أعمالهم ، فيكون الضمير في «وليهم» لكفار قريش. فيكون المعنى : فهو ولى هؤلاء المشركين اليوم أى : معينهم على الكفر والمعاصي ولهم ولأمثالهم عذاب أليم في الآخرة» (٢).

__________________

(١) سورة غافر الآية ٤٣.

(٢) تفسير فتح القدير للشوكانى ج ٣ ص ١٧٣.

١٨٠